|
الأزمة الاقتصادية العالمية تنتصر ل -قانون القيمة-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3077 - 2010 / 7 / 28 - 13:00
المحور:
الادارة و الاقتصاد
إنَّها ليست "مصادفةً"؛ بل "الضرورة" بعينها، أنَّ "قانون القيمة" الاقتصادي الموضوعي هو الذي يَخْرُج دائماً منتصراً من كل أزمة كبرى تعصف بالاقتصاد الرأسمالي العالمي.
لقد تملَّكها الغرور التاريخي، فخلقت "الرأسمالية المُطْلَقة (الأوتوقراطية)" أنبياء لها على صورتها ومثالها، لهم أُفْق يسع كل شيء ولا يسعه شيء، فوقفوا على ضريح "إمبراطورية الشر" ليعلنوا، وكأنَّهم أغبى أغبياء تلامذة التاريخ، نهاية التاريخ، فإمبراطوريتهم الرومانية الجديدة هي التاريخ في مِسْك ختامه؛ وهذا البطن أصبح عاقراً ما أن ولدهم، فرحم الله ماركس إذ قال، قبل أن يتربعوا على عرش النظام الرأسمالي العالمي بزمن طويل، إنَّ "الرأسمالية المُطْلَقة"، التي لا قيد يقيِّدها، ولا رادع يردعها، ولا لجام يكبحها، هي كالنار تلتهم نفسها إنْ لم تَجِد شيئاً تلتهمه.
الولايات المتحدة هي قلب ومركز النظام الرأسمالي العالمي؛ فإنَّ قيمة الناتج القومي (في هذا البلد الأكبر من العالم) 14 تريليون دولار (التريليون 1000 بليون دولار). و"الناتج القومي" هو، بلغة اقتصادية أخرى، "القيمة الجديدة" المنتَجة في الاقتصاد القومي. و"القيمة الجديدة" المنتَجة في مصنع، مثلاً، إنَّما هي فحسب ربح رب العمل وأجور العمال، فـ "الرأسمال الثابت"، أي المال على هيئة آلات ومواد أولية ووقود وأبنية..، ليس بجزء من تلك "القيمة الجديدة".
حصَّة الزراعة من هذا الناتج 1 في المئة؛ وحصَّة الصناعة 21 في المئة.
وهذا إنَّما يعني، وعلى نحو تقريبي، أنَّ حصَّة الاقتصاد المُنْتِج للسلع (الحقيقية أو المادية) 22 في المئة.
بقي قطاع الخدمات (ومنه على وجه الخصوص المصارف) فإنَّ حصَّته 78 في المئة؛ وهذا القطاع، على عِظَم حصَّته ليس بمنتِج لثروة حقيقية.
تلك النِسَب، أو الحصص، إنَّما تُظْهِر وتؤكِّد أمراً في منتهى الأهمية هو أنَّ نحو 78 في المئة من الكتلة النقدية الورقية في الولايات المتحدة، أي معظم النقد الورقي هناك، يُسْتَثْمَر ويوظَّف في خارج الاقتصاد المُنْتِج للسلع، وللثروة الحقيقية بالتالي، أي أنَّه يُسْتَثْمَر ويوظَّف في "الاقتصاد الافتراضي"، أو في "تجارة السلع الافتراضية (غير الحقيقية، الصورية، الرمزية، الشبحية، الطيفية، الظلالية، الورقية، الزائفة)"، كالأسهم والسندات.
قُلْت إنَّه مال مسْتَثْمَر وموظَّف في خارج الاقتصاد المنتِج للسلع؛ وأضيف إلى ذلك، في ضوء النتائج والعواقب التي تمخَّض عنها انفجار "وول ستريت"، قولاً أخر هو إنَّ هذا المال الضخم مُسْتَثْمَر وموظَّف ضدَّ الاقتصاد المنتِج للسلع، أو للثروة الحقيقية.
مِنْ أين جاء؟
لقد جاء هذا المقدار الهائل من المال، أو من الرأسمال العاطل عن كل عملٍ مُنْتِج لثروة حقيقية، من مَصْدَر داخلي هو الأموال التي خرجت من الاقتصاد المنتِج للسلع، كالصناعة، إلى المصارف، من غير أن تعود إليه؛ ومن مَصْدَر خارجي كأموال الدول العربية النفطية.
"وول ستريت"، مقر وعاصمة الرأسمال المالي الطفيلي الربوي الشايلوكي، تحوَّلت، بفضل "الرأسمالية المُطْلَقة"، في حلَّتها "الريغانية ـ التاتشرية"، إلى "ثقب أسود"، يجتذب إليه "الفوائض المالية" من داخل، ومن خارج، الولايات المتحدة، ليستثمرها ويوظِّفها بما يضر، ولا ينفع، "الاقتصاد الحقيقي"، أو الاقتصاد المنتِج للسلع وللثروة الحقيقية، في داخل، وفي خارج، الولايات المتحدة، وكأنَّ العولمة هي في معنى من أهم معانيها عَوْلَمة "الطفيلية الرأسمالية".
إنَّ العالم يستثمر نحو 12 تريليون دولار في سوق السلع الافتراضية (أسهم وسندات..) في الولايات المتحدة، أي أنَّه مُقْرِضٌ القوَّة العظمى في العالم هذا المبلغ المالي الضخم، والذي لولا اشتداد الميل العالمي إلى "الطفيلية الرأسمالية" لاسْتُثْمِر هذا "الرأسمال النقدي" العظيم في الاقتصاد العالمي الحقيقي.
وإنَّ معظم هذا المال (نحو 9 تريليون دولار) هو على هيئة قروض أقرضها العالم لحكومة الولايات المتحدة، التي تُنْفِق نحو 2.9 تريليون دولار، مع أنَّها تجبي من مواطنيها ضرائب قيمتها نحو 2.5 تريليون دولار.
ومع تسجيل الموازنة الاتحادية لأكبر عجز في تاريخ الولايات المتحدة فإنَّ هذا الديناصور الرأسمالي المثخن بجراح أزمته المالية والاقتصادية يتَّجِه إلى مزيد من الاقتراض من الخارج.
في "الريغانية (وفي امتدادها "البوشيَّة")"، وبها، وبدءاً منها، تحوَّلت الرأسمالية في الولايات المتحدة من أكبر رب عمل صناعي في العالم، يُنْتِج للعالم السلع، إلى أكبر مرابٍ في التاريخ، فالفوائض المالية الهائلة، المتراكمة في مصارفها، أغْرَت عاصمة الرأسمال العالمي بالتحوُّل إلى "رأسمالية ربوية يهودية شايلوكية"، تفضِّل الأرباح السهلة السريعة المضمونة المتأتية من إقراض العالم على الأرباح المتأتية من الصناعة، ومن بيعها سلعاً للعالم، وكأنَّ التاريخ، في "نهايته"، يعيد نفسه، فقبل الرأسمالية، وقبيل ولادتها، لم يكن من "رأسمال" إلاَّ الرأسمال الربوي والتجاري؛ ومع انبثاق فجرها، ونموِّها، جاءت الرأسمالية بالرأسمال الصناعي؛ أمَّا في "نهاية التاريخ"، أي في نهاية تاريخها وعالمها، فنفخت الرأسمالية من روحها في الرأسمال الربوي الطفيلي حتى أصبح في حجم الديناصور، وفي منتهى الشراسة الحيوانية.
من أين جاء هذا الوحش الرأسمالي الذي صوَّروه لنا على أنَّه خير نظام اجتماعي أخْرِج للناس؟
في البدء، عرف العالم والتاريخ الرأسمالية الصناعية العصامية الصغيرة التي تعيش وتعمل في مهب الريح، أي في مناخ المنافسة الحرة. لقد كان "الرأسمال الاجتماعي" مشتَّتاً، مبعثراً، متفرِّقاً، وكأنه حروف الأبجدية قبل أن تتألَّف منها الكلمات والجُمَل.
وفي هذا البحر الواسع من المنشآت الصناعية الصغيرة وُجِدَت أيضاً المصارف التي كانت على هيئة تلك المنشآت لجهة صِغَرِها وتشتتها وتبعثرها، والتي ارتضت، لأسباب اقتصادية موضوعية، أن تكون "دائناً سلبياً"، يُقْرِض، منتظِراً استرداد قروضه وفوائدها.
في تلك المصارف كانت تتجمَّع الفوائض المالية الصناعية الصغيرة والمؤقتة، فتُقْرَض إلى المحتاج إليها من أرباب العمل في الصناعة.
وكنَّا نرى "العصامية الاقتصادية" في الرأسمال الصناعي، فقليلاً، وقليلاً جداً، منه كان يأتي من القروض المصرفية.
ثمَّ انتهت المنافسة إلى عاقبتها الاقتصادية الحتمية وهي "الاحتكار"، فمع استمرار السَمَك الكبير في التهام السَمَك الصغير، في بحر الصناعة، تحوَّل "الرأسمال الاجتماعي" من التشتُّت إلى التركُّز، فرأيْنا قلَّة قليلة من المنشآت الصناعية تستحوذ على القسم الأعظم من الرأسمال المسْتَثْمَر في الصناعة؛ ورأيْنا أيضاً المصارف تقلُّ عدداً، وتنمو أكثر في رؤوس أموالها وودائعها بفضل الفوائض المالية الصناعية الضخمة.
لقد أصبح "الاحتكار" جوهر الصناعة والنشاط المصرفي، واقترن الرأسمال الصناعي بالرأسمال المصرفي فنشأ ما يسمَّى "الرأسمال المالي"، الذي هو ، تعريفاً، الرأسمال المصرفي إذا دخل الصناعة، وإذا امتلك حصة الأسد من رأسمالها.
القسم الأعظم من الكتلة النقدية الورقية أصبح مقيماً في قلة قليلة من المصارف، التي غزت الصناعة، واستحوذت على حصة الأسد من الرأسمال الموظَّف في كثير من المنشآت الصناعية، التي فقدت عصاميتها، واستخذت لمشيئة مقرضيها من المصارف، فقلَّما نجد الآن منشأة صناعية لا تنهبها القروض المصرفية.
في الطور الأول من سيادته الاقتصادية، كان الرأسمال المصرفي يميل إلى اللعب في ملعب الصناعة، وفي ملعب "الاقتصاد الحقيقي" على وجه العموم، فرأيْنا المستحوذين على حصة الأسد من الكتلة النقدية الورقية (أي المصارف الكبرى) يميلون إلى استثمار وتوظيف أموالهم، على شكل قروض، في الاقتصاد المنتِج للسلع، وفي التجارة.
أمَّا في الطور الثاني والأخير، فمالوا عن هذا الميل، وشرعوا يلعبون في ملاعب "الاقتصاد الافتراضي (الورقي)"، حيث المضاربة تأتيهم بالربح السهل السريع الجزيل.
وكانت العاقبة النهائية أنْ وقعت الصناعة، وسائر "الاقتصاد الحقيقي"، بين مطرقة القروض المصرفية التي لها حصة الأسد في الرأسمال الصناعي والتجاري، وبين سندان حَبْس الأموال المصرفية الهائلة عن الصناعة، وسائر "الاقتصاد الحقيقي"، وضخها، والإمعان في ضخها، في "الاقتصاد الافتراضي".
الاقتصاد الرأسمالي إنَّما نراه دائماً في وجهيه: السلعة والنقد (الذي كان من ذهب فأصبح من ورق).
في وجهه النقدي الورقي نرى الآن أنَّ الجزء الأعظم من الكتلة النقدية الورقية قد انفصل واستقل تماماً عن الاقتصاد المُنْتِج للسلع كالصناعة، وابتنى له اقتصاداً على صورته، هو "الاقتصاد الافتراضي (الورقي)"، فالاتِّجار بالأسهم أصبح قاعدة الاقتصاد العالمي.
ومع أنَّ الجزء الأعظم من الكتلة النقدية الورقية يُسْتَثْمَر ويوظَّف في "الاقتصاد الافتراضي"، أو في ما يسمُّونه "قطاع الخدمات"، فإنَّه مهما اسْتُثْمِر ووُظِّف هنا لا يضيف إلى الثروة الحقيقية المادية للمجتمع سنتاً واحداً.
"الثروة الحقيقية" إنَّما تنمو عبر إنتاج "القيمة الجديدة"، التي هي "كمية من العمل" مجَّسدة في "سلع".
أين تُنْتَج "القيمة الجديدة"؟
إنَّها تُنْتَج حيث تُنْتَج السلع فحسب.
كيف يبدأ إنتاجها؟
يبدأ بـ "الشراء"، أي بتحويل كمية من النقود" إلى آلات ومواد أولية ووقود وأبنية..
وفي آخر المطاف، يصبح لدينا كمية من السلع. جزء منها يَعْدِل "قيمةً" القيمة المنقولة (إلى تلك السلع) من تلك الأشياء (الآلات والمواد الأولية والوقود والأبنية..).
الجزء المتبقي يَعْدِل "القيمة الجديدة"، التي تَعْدِل "كمية من العمل (الضروري اجتماعياً)".
جزء من "القيمة الجديدة" يأخذه العمال؛ والجزء الآخر (أي "القيمة الزائدة") يذهب، في بعضٍ منه، إلى ربِّ العمل الصناعي.
وكل مالٍ يُسْتَثْمَر، أو يوظَّف، في غير هذه الطريقة، لن يُنْتِج مزيداً من الثروة الحقيقية، أو مزيداً من "القيمة الجديدة".
إنَّ "العمل الحي"، أي عمل العمال، هو مَصْدَر كل ثروة حقيقية، وهو وحده مقياس وخالِق "القيم (الاقتصادية)"، فالشيئان اللذان استلزم إنتاجهما الكمية ذاتها من العمل (الضروري اجتماعياً) والمقاسة بالزمن، لا بدَّ لهما من أن يمتلكا القيمة ذاتها.
قبل، ومن أجل، أن يغدو المال أداةً لخلق الثروة الحقيقية لا بدَّ له أوَّلاً من التحوُّل إلى آلات ومواد أولية ووقود وأبنية..، ثمَّ لا بدَّ لـ "الآلة" من أن تُدار وتُشغَّل بقوى "العمل الحي"، الذي من خلاله فحسب يأتي المال الموظَّف بمزيدٍ من المال، أي يصبح "رأسمالٍ".
إذا ما كان الرأسمال مليون دولار، وإذا ما أُنْفِق في شراء سلع كالآلات والمواد الأولية والوقود والأبنية، فإنَّ هذا الرأسمال، والمسمى "الرأسمال الثابت"، يتحوَّل في آخر المطاف، وبفضل "العمل الحي"، أي عمل العمال، إلى كمية معينة من السلع، تنطوي على قيمتين: "قيمة قديمة" هي ذاتها قيمة المُسْتَهْلَك من "الرأسمال الثابت"، و"قيمة جديدة"، يذهب جزء منها إلى العمال على شكل أجور، ويبقى الجزء الآخر على شكل ربح.
وفي التعبير النقدي عن قيم هذه السلع المْنْتَجَة نقول إنَّ سعرها مليون ونصف المليون دولار مثلاً.
من خلال هذا النشاط الاقتصادي، ومن خلاله فحسب، تحوَّل المليون دولار إلى مليون ونصف المليون دولار؛ ونصف المليون دولار هذا (الأجور والربح) إنَّما هو التعبير النقدي عن "القيمة الجديدة".
هنا، ومن حيث المبدأ والأساس، لا يربح رب العمل بالغش والخداع والاحتيال، ولا بالاحتكار أو ببيع بضاعته بسعر يفوق قيمتها، ولا بفضل قانون العرض والطلب؛ وإنَّما ببيعه بضاعته وفق قيمتها، فهذه البضاعة تشتمل، في قيمتها، على الربح.
إذا أنتَ امتلكت مليون دولار وأنفقتها في شراء سلع استهلاكية، أي في شراء سلع تستهلكها أنت وأسرتك، فإنَّ هذا المبلغ المالي ينفد ويفنى. وإذا ما وضعته "تحت البلاطة" في منزلك فإنَّه لا يزيد ولا ينقص.
أمَّا إذا وظَّفته في الصناعة مثلاً فإنَّه، وبفضل "العمل الحي"، يزيد وينمو ويربو، فهو تحوَّل إلى "رأسمال"، جاءكَ بربح، وجاء إلى المجتمع بمزيد من الثروة الحقيقية المادية.
إذا كان لدينا 10 مستثمرين، يملكون جميعاً 10 ملايين دولار؛ وإذا هُمْ استثمروا أموالهم في تجارة "السلع الافتراضية"، فإنَّ 5 منهم قد يربحون؛ ولكنَّ ربح هؤلاء يعدل خسارة الباقين. ومع تعادل "الربح" و"الخسارة" يظل لدينا، في تلك التجارة، المبلغ المالي نفسه، فهذا الرأسمال (10 ملايين دولار) لم يَنْمُ.
أمَّا لو اسْتُثْمِر المبلغ المالي ذاته في الاقتصاد المُنْتِج للسلع فإنَّه يزداد، فيصبح، مثلاً، 15 مليون دولار.
إنَّ جزءاً عظيماً متعاظماً من المال، أو الكتلة النقدية، قد خرج من الاقتصاد المنتِج للسلع، ولم يَعُدْ إليه؛ وهذا المال المنفصل عن الإنتاج السلعي أسَّس لـ "الاقتصاد النقدي"، الذي فيه يشترون ويبيعون "سلعاً غير حقيقية".. "سلعاً من ورق".
أسعار هذه السلع تخضع لقانون العرض والطلب؛ والمال "المُسْتَثْمَر" هنا لا ينمو؛ ومع ذلك يعرف، في استمرار، "الربح" و"الخسارة"، فهذا يربح ربحاً يعدل خسارة ذاك، فـ "المستثمرون"، هنا، إنَّما يقتسمون، ويعيدون اقتسام، المقدار ذاته من المال "المُسْتَثْمَر" في "الاقتصاد النقدي".
والعاقبة هي اختناق الاقتصاد المنتِج للسلع، فهذا الاقتصاد لا يجد ما يكفي من المال لتوظيفه فيه.
"السلعة غير الحقيقية (الافتراضية، الشبحية، الصورية، الطيفية، الظلالية، الرمزية، الورقية، الزائفة)" تدور، فتستقر، أو تتوقَّف، في يدي؛ وعندئذٍ، ينبغي لي أن أبيعها، أي أن أحوِّلها إلى نقود. قد أنجح في بيعها. قد أبيعها فأربح، وقد أبيعها فأخسر. مقياس الربح والخسارة إنَّما هو الثمن الذي اشتريتها به. ولكن قد أعجز تماماً عن بيعها؛ لأنْ ليس من مشترٍ لها. إذا حدث ذلك فلن يبقى لديَّ من خيار سوى التخلَّي عن "الصورة"، والحصول، بالتالي، أو محاولة الحصول، على "الأصل". إذا ما نجحت في ذلك، أي إذا ما حصلتُ على "الأصل"، فقد تكون قيمة هذا "الأصل" أقل بكثير من الثمن الذي به اشتريتُ "الصورة".
الربح في تجارة الأسهم، مثلاً، متأتٍ من "فروق الأسعار".. من شراء السهم بسعر، فبيعه بسعر أعلى؛ و"الأسعار"، هنا، إنَّما هي أسعار "سلع افتراضية".
أمَّا الربح في الصناعة فمتأتٍ من "القيمة الزائدة"، وليس من "فروق الأسعار"، و"العرض والطلب"؛ إنَّه ليس متأتٍ (من حيث الجوهر والأساس) من شراء البضائع بسعر، فبيعها بسعر أعلى.
كل المال، في "الاقتصاد النقدي"، إنَّما هو مال "عاطل عن العمل".. أي لا يعمل بما يؤدِّي إلى تنمية الثروة الحقيقية للمجتمع؛ وكلَّما نما هذا "الرأسمال العاطل عن العمل (المُنْتِج للثروة الحقيقية)" نما جيش العاطلين عن العمل في "الاقتصاد المُنْتِج للسلع"، أي "الاقتصاد الحقيقي".
إنَّ جزءاً عظيماً متعاظماً من مالكي الأموال يعزف عن استثمارها في إنتاج السلع، مفضِّلاً البورصات؛ والمال في المصارف لا يمكنه أن يكون أداة لخلق ثروة حقيقية إلا إذا دخل الإنتاج الصناعي.
في الاقتصاد الرأسمالي السليم، لا بدَّ للأسعار جميعاً، ومهما صعدت أو هبطت، من أن تظل خاضعة لسلطان قانون اقتصادي موضوعي هو "قانون القيمة"، فالتمادي في خرقه وانتهاكه، وفي التحليق بعيداً عنه، وفي خارج "حقل جاذبيته"، لا يمكن أن يؤدي إلاَّ إلى تحويل "اقتصاد السوق" إلى مَصْدَر للكوارث والنكبات.
و"قانون القيمة"، الذي أكَّد وجوده وقوته وحيويته عبر الأزمة المالية والاقتصادية العامة للرأسمالية، إنَّما يُذَكِّرنا الآن، إنْ نفعت الذكرى، بأنْ لا ثروة حقيقية يمكن أن ينتجها المجتمع، وينميها، إلاَّ المتأتية من "العمل الحي"، ومنه فحسب، فـ "قوَّة العمل"، أي عمل العامل في الصناعة، وفي سائر الاقتصاد المنتِج للسلع، هي مَصْدَر كل ثروة حقيقية، وهي خالِق "القيم (الاقتصادية)"، ومقياسها؛ وبأنَّ "الرأسمال الثابت"، أي النقود في شكل آلات ومواد أولية..، وعلى أهميته لجهة زيادة إنتاجية "العمل الحي"، لا يضيف شيئاً إلى الثروة الحقيقية للمجتمع عند استهلاكه في الصناعة؛ وبأنَّ "القيمة الجديدة" التي يضيفها "العمل الحي" إلى "القيمة القديمة" المنقولة إلى السلعة هي وحدها مَصْدَر كل دخل، فجزء منها يذهب، على شكل أجرة، للعامل، وجزء إلى رب العمل، على شكل ربح صناعي، وجزء إلى الدولة، على شكل ضرائب، وجزء إلى التاجر، على شكل ربح تجاري، وجزء إلى المصرف، على شكل فائدة، إذا ما كان رب العمل الصناعي مقترِضاً من المصرف؛ فـ "القيمة الجديدة" هي الصحن الذي منه تغرف كل فئات المجتمع.
في معرض تحليله العلمي والعميق للنظام الاقتصادي الرأسمالي، والذي اشتمل عليه، في المقام الأوَّل، كتابه "رأس المال"، تحدَّث ماركس، وإنْ في إيجاز واختصار، عن ظاهرة "الصنمية السلعية"، مُظْهِراً ومبيِّناً منطقها (الاقتصادي) المتهافِت؛ ثمَّ جاءت الأزمة المالية (والاقتصادية) العالمية، التي انطلقت من "وول ستريت"، لتُظْهِر وتؤكِّد ما تنطوي عليه تلك "الصنمية"، أو "الوثنية"، من مخاطِر على النظام الرأسمالي، وفي زمن "العولمة" على وجه الخصوص.
ومن غير مغالاة أو مبالغة أقول إنَّ المستثمِرين العرب، من أفراد وشركات ودول، هم الأكثر استمساكاً بعقيدة، أو ثقافة، استثمارية، تقوم على "الصنمية السلعية"، مع أنَّ الإسلام كان حرباً على الأصنام والأوثان، أكانت معبودة لذاتها أم تُتَّخذ وسيلة للتقرُّب إلى الخالق.
أمَّا ما حَمَل ماركس على التحدُّث بشيء من الاهتمام عن ظاهرة "الوثنية السلعية"، في زمانه، فهو سوء فهم كثير من الناس للذهب، أو للنقود في أصلها أو محتواها الذهبي، فهذا المعدن الأصفر الغالي الثمين، والذي بنزرٍ منه تشتري بضائع كثيرة، كان يُنْظَر إليه على أنَّه شيء يستمدُّ أهميته أو قيمته الاقتصادية (أو التبادلية) تلك من "خواصِّه الطبيعية"، فالذهب غالٍ؛ لأنَّه ذهب!
قديماً، تفتَّق ذهن أحد المشتغلين بالكيمياء البدائية عن فكرة تحويل الرصاص (في طريقة ما) إلى ذهب، متوهِّماً أنَّ النجاح في ذلك سيأتي لأصحابه بثراءٍ قارونيٍّ؛ ولكنَّه سرعان ما ظهرت له الحماقة في "فكرته الذكية"، فأحد الحكماء تساءل ضدَّ وهمه قائلاً "وهل يظلُّ الذهب ذهباً، أي محتفظاً بما يتمتَّع به الآن من قيمة اقتصادية تبادلية، إذا ما نجحنا في تحويل كل أو معظم ما لدينا من معدن الرصاص إلى ذهب؟!".
لقد جعلوا الذهب صنماً إذ تصوَّروه على أنَّه شيء يستمدُّ أهميته أو قيمته الاقتصادية من ذاته، أي من خواصِّه الطبيعية، ضاربين صفحاً عن حقيقة أنَّه لا يختلف عن سائر البضائع إلاَّ في اشتماله على مقدار أكبر من العمل، فلو لم يسْتَلْزِم إنتاجه عملاً أكثر لتضاءلت قيمته الاقتصادية (التبادلية).
ومع خروج الذهب من السوق، وحلول "نوَّابه وممثِّليه" محله، وفي مقدَّمهم "النقد الورقي"، استفحلت "الصنمية الاقتصادية"، وهبطت بـ "عقيدة الاستثمار" إلى الدرك الأسفل من الخرافة والوهم، فالأصنام المصنوعة من ورق (ليس إلاَّ) حلَّت محل الأصنام المصنوعة من ذهب؛ وصار "المستثمِرون" ضيِّقو الآفاق يحسبون ثرواتهم بالأوراق النقدية، وبغيرها من الأوراق؛ ولقد استبدَّت بـ "عقولهم الاستثمارية" فكرة بلهاء هي أنَّ المال، الذي لا يميِّزوه من "الثروة الحقيقية"، يَلِد (من ذاته، أو من تلقائه) مالاً.
ولو سألْتَ مستثمِراً عربياً "ذكياً" عن "الاستثمار" لأجابكَ على البديهة قائلاً: إنَّه كومة من الأوراق تملكها، فتشتري بهذه "الثروة الورقية" أوراقاً مالية أخرى تسبَّب قانون العرض والطلب برخصها، فتبيعها عندما يتسبب القانون نفسه بغلائها، فتَرْبَح من الفرق بين سعري الشراء والبيع، فتنمو، بالتالي، ثروتكَ الورقية، فينمو بنموِّها إيمانكَ بأنَّ "الثروة" هي المال إذ جاء بمزيدٍ من المال (من خلال لعبة الاستثمار في أسواق المال)!
لقد ارتدَّ المستثمرون من مواطني "وول ستريت"، وأمثالها وأشباهها، عن ديانتهم (الاقتصادية) الأولى، والتي تقوم على مبدأ "العمل، والعمل فحسب، هو مَصْدَر كل ثروة (حقيقية)"، متَّخِذين ممَّا يشبه السحر والشعوذة ديانة (اقتصادية) جديدة لهم، فظهرت "الليبرالية الجديدة" على أنَّها دعوة إلى الإيمان بأنَّ "الأوراق (المالية) لا العمل هي مَصْدَر الثروة"، فهي، أي تلك الأوراق، وفي طريقة سحرية، تتكاثر، فَتَكْثُر ثروات الأمم والشعوب والمجتمعات!
ولكن، ما الذي حَمَلَهم على هذا الإيمان، الذي يَخُطُّه الوهم من ألفه إلى يائه؟
لقد رأوا مستثمراً (في الأسواق المالية) يملك مليون دولار، مثلاً، أو يملك من "الأوراق" ما قيمته مليون دولار، فيشتري، ويبيع، ثمَّ يشتري ويبيع، فيصبح لديه، بعد انتهاء لعبته الاستثمارية هذه، مليون ونصف المليون دولار. لقد رَبِحَ، ونمت ثروته (المالية).
هذا في النصف الأوَّل من المشهد؛ أمَّا في نصفه الآخر فنرى، وينبغي لنا أن نرى، "المستثمِر الآخر"، الذي كان يملك مليون دولار، فأصبح يملك (إذ خسر حتماً في تلك اللعبة) نصف مليون دولار.
"الرابح" هو الذي كان يملك مليون دولار فأصبح يملك مليونا ونصف المليون دولار؛ و"الخاسر" هو الذي كان يملك مليون دولار فأصبح يملك نصف مليون دولار. لقد خسر أحدهما فربح الآخر؛ وهذا الذي ربح لم يربح إلاَّ ما يَعْدِل، مقداراً، ما خسره الآخر.
بهذا المعنى فحسب، يمكننا الحديث عن "الأرباح" و"نمو الثروات" في الأسواق المالية؛ ولكن، هل ربحت (أو خسرت) تلك السوق المالية، والتي قيمتها، في مثالنا الافتراضي هذا، 2 مليون دولار؟
كلاَّ، فهي لم تربح ولم تخسر، فثروتها (أو قيمتها) ظلَّت في الحجم نفسه (2 مليون دولار).
أمَّا لو جئتَ بهذه "الثروة النقدية (2 مليون دولار)"، واشتريتَ بها آلات ومواد أوَّلية.. و"قوى عمل (بشري)"، واستهلكت كل ذلك (افتراضاً) توصُّلاً إلى إنتاج كمية من البضائع، فإنَّ الـ "2 مليون دولار" ستغدو، عندئذٍ، 3 ملايين دولار.
في هذه الطريقة فحسب، يصبح ممكناً جَعْل المال وسيلةً لتنمية الثروة الحقيقية للمجتمع، فـ "الاقتصاد الحقيقي"، أي الاقتصاد المنتِج للسلع في المقام الأوَّل، هو وحده الحيِّز الاقتصادي الذي فيه، وبه، تتحوَّل "الثروة الورقية" إلى "ثروة حقيقية" تنمو في استمرار.
هنا، وهنا فحسب، يُنْتَج "الربح الحقيقي"، فتنمو "الثروة الحقيقية" للمجتمع؛ أمَّا السبب، الذي لا يشكِّك في وجاهته إلاَّ أعمى البصر والبصيرة، فيكمن في "العمل الحي"، الذي هو وحده مَصْدَر الثروة الحقيقية للمجتمع.
بالمال، أي بالنقود الورقية، "تتحقَّق" قيم السلع التي ينتجها المجتمع، فـ "التداول النقدي" هو الذي بفضله "تتحقَّق" تلك القيم. والمال، بتوظيفه في "الاقتصاد الحقيقي"، وعبر "العمل الحي"، تُنْتَج وتنمو الثروة الحقيقية للمجتمع.
والكارثة تَعْظُم مع اتِّساع وتعمُّق انفصال "الاقتصاد الورقي" عن "الاقتصاد الحقيقي"، فكلَّما حُجِبَت "الثروة النقدية" للمجتمع عن "الاقتصاد الحقيقي"، وضُخَّت في أسواق المال والأسهم والسندات..، وكلَّما استبدَّت بالمستثمرين في هذه الأسواق فكرة "المضاربة"، استجمع المجتمع مع اقتصاده الحقيقي مزيداً من أسباب الهلاك، فلا ينجو من أزمة (مالية واقتصادية) إلاَّ ليقع في أزمة أشد وأعنف.. حتى ترجح كفَّة خيار "إعادة البناء من خلال الهدم" على كفَّة خيار "الإصلاح"، الذي يَخُطُّ في وصيته الأخيرة "لا يصلح العطَّار ما أفسده الدهر"!
المنافحون الآن عن الرأسمالية يقولون إنَّ ما أصابها، انطلاقاً من "وول ستريت"، لا يعدو كونه جزءاً من "دورتها الاقتصادية الطبيعية".
ويقولون، أيضاً، إنَّ الأزمة في الرأسمالية ليست بالأزمة التاريخية التي لا حلَّ لها، أو التي تصيب اليد الخفية للسوق الحرة بالعجز عن معالجتها وتخطيها، فالرأسمالية هي أوَّلاً ليست بالنظام الاقتصادي والاجتماعي العابر تاريخياً؛ لأنَّها، على ما أتاهم به الوحي، النظام الاقتصادي والاجتماعي الطبيعي، والعابر، بالتالي، للتاريخ؛ ولأنَّها "التاريخ في مِسْك ختامه"، فهي إذا انتهت فلن تنتهي إلاَّ إلى ولادة جديدة؛ ولأنَّ الرأسمالية هي ذاتها البديل من الرأسمالية، وخير دليل على ذلك هو موت ذلك الذي صوَّر نفسه على أنَّه البديل التاريخي من الرأسمالية.
تخيَّل أنكَ في طائرة تطير فوق النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، فماذا يمكنك أن ترى؟
سترى أوَّلاً "البيئة الطبيعية والجغرافية" التي فيها يقيم النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي؛ وسترى، أيضاً، "البيئة الاصطناعية"، أي كل شيء أنتجه وصنعه البشر من خلال العمل، كالمصانع والموانئ والطرقات والمباني..
ولو بسَّطْنا "المشهد".. مشهد "البيئة الاصطناعية"، والتي عبرها يتفاعل البشر مع الطبيعة، أو "البيئة الطبيعية"، لرأيْنا الاقتصاد برمته على هيئة أشياء هي البضائع أو السلع.. لرأينا، مثلاً، الأجهزة الكهربائية، والمواد الغذائية، والسيارات، والأثاث.
ومع كل هذه الأشياء، التي تتكوَّن منها "البيئة الاصطناعية"، والتي يمكن تسميتها "الاقتصاد الحقيقي"، أو "الثروة الحقيقية"، نرى أيضاً أكواماً من الورق تسمى "النقود".
لو سألْت ليبرالياً ذكياً "ما هي الخادمة (في المنازل)؟"، لأجابك على البديهة قائلاً "إنها امرأة من سريلانكا أو الفلبين..". ولو سألْته "ما هو رأس المال؟"، لأجابك على البديهة قائلاً "إنَّه عصا ولو كانت في يد قرد". ولو سألْته "ما هو النقد؟"، لأجابك على البديهة قائلاً "إنَّه الذهب".
إنَّ المرأة السريلانكية هي امرأة، ولكنَّها "تصبح" خادمة في ظروف معيَّنة؛ وإنَّ العصا هي عصا، ولكنَّها "تصبح" رأسمالاً في ظروف معيَّنة؛ وإنَّ الذهب هو الذهب، ولكنَّه "يصبح" نقداً في ظروف معيَّنة.
قد يعرِّفون "الرأسمال" على أنَّه "مال ينمو"، أي "مال يأتي بمزيد من المال"؛ ولكنَّ المال الذي نعرف الآن هو "ورق"، وهو في حدِّ ذاته عديم القيمة الاقتصادية؛ ومن تلقاء نفسه لن يتكاثر أبداً.
هذا المال قد "يصبح" رأس مال إذا ما استوفى شروطاً معيَّنة.. إذا ما انتقل إلى "الإنتاج"، وإلى "الاقتصاد الحقيقي".
حتى يتحوَّل المال الورقي إلى رأسمال، وإلى مولِّد لثروة حقيقية، لا بدَّ له أوَّلاً من أن يتحوَّل إلى بضائع (حقيقية) أي إلى آلات ومواد أولية ووقود وأبنية..
ولا بدَّ له، تالياً، من أن يأتي بـ "بضاعة أخرى" هي اليد العاملة، أو قوة العمل، إلى المصنع، لتتولى تشغيل الآلات، وإنتاج شيء ما، أو بضاعة ما.
هنا، وهنا فحسب، يتحوَّل "المال" إلى "رأس مال"، ويصبح ممكناً أن يولِّد ثروة حقيقية.
ولو جئتَ بمال العالم كله، أي بكل ما يملك من نقود ورقية، كالدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني، و"استثمرته" في غير هذا المكان والموضع فلن يُنْتِج أبداً "ثروة حقيقية" للمجتمع.. لن يضيف أبداً، ولو أقل مقدار، إلى "ثروته الحقيقية"؛ مع أنَّ "اللعبة" هنا تفضي دائما إلى رابحين وخاسرين، فالرابح هنا إنَّما يربح بما يعدل خسارة الخاسر، الذي يخسر بما يعدل ربح الرابح.
ثمة مبدآن قام عليهما الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، ولا ريب في صوابهما. المبدأ الأول هو أنَّ تبادل البضائع لا يعدو كونه تبادلاً لـ "قيم (اقتصادية) متساوية"؛ والمبدأ الثاني هو أن اليد العاملة سلعة كسائر السلع.
ولكن، ما معنى "تساوي القيم"؟
معناه الذي لا ينكره حتى الاقتصاديين الليبراليين هو "تساوي كمية العمل"، فمبادلة سلعة بسلعة إنَّما يعني أنَّ كلتيهما تساوي الأخرى لجهة كمية العمل التي تشتمل عليها.
إذا كانت عبقرية نيوتن تكمن في كونه تساءل عن السبب الذي يجعل التفاحة تسقط إلى الأرض ولا تصعد إلى أعلى عند انفصالها عن شجرتها، فإنَّ عبقرية ماركس تكمن في كونه تساءل عن مَصْدَر "الربح" في النظام الرأسمالي إذا ما كان تبادل البضائع تبادلاً لقيم متساوية.
بحسب هذا المبدأ يجب ألاَّ يكون من وجود لـ "الربح" في النظام الرأسمالي؛ ذلك لأنَّ قيمة البضائع التي ينتجها المصنع يجب أن تعدل قيمة البضائع التي اشتراها رب العمل، أي القيمة المنقولة من الآلات والمواد الأولية والوقود والبناء.. إلى السلعة، مضافاً إليها قيمة "قوَّة العمل" التي يعبَّر عنها بالأجر الذي يتقاضاه العامل.
وهنا جاء اكتشاف ماركس، فـ "قوَّة العمل" هي وحدها البضاعة التي في مقدورها إنتاج قيمة تفوق قيمتها هي؛ وقد سمَّى ماركس تلك القيمة "القيمة الزائدة".
ولقد باءت بفشل ذريع كل مساعي الاقتصاديين الليبراليين إلى اكتشاف مَصْدَر لـ "الربح" غير "القيمة الزائدة".
إنَّ ثروة المجتمع الحقيقية السنوية هي "القيمة الجديدة"، أي القيمة التي ينتجها عمل العمال، وتُضاف، من ثمَّ، إلى "القيمة القديمة"، أي القيمة المنقولة من الآلات والمواد الأولية والوقود والبناء.. إلى السلعة.
وإنَّ كل أموال العالم الورقية لن تضيف أقل إضافة إلى "القيمة الجديدة" إذا ما "اسْتُثْمِرت" في خارج المكان الذي تُنْتَج فيه "القيمة الجديدة".
في علم الفيزياء الكونية، أو الكوزمولوجيا، ثمَّة شيء يسمَّى "الجسيم الافتراضي" Virtual Particle. وهذا الجسيم إنَّما هو جسيم غير حقيقي، شبحي، طيفي، ينشأ، في الفضاء الخالي، مع توأمه، وهو جسيم مضاد له، ثمَّ يزول، من غير أن "يحس" قانون "حفظ المادة" بنشوئهما وزوالهما؛ لأنَّ وجودهما يستغرق زمناً متناهياً في الضآلة. أمَّا إذا سقط أحدهما في فم "ثقب أسود" فإنَّ مقداراً من الطاقة يُشعُّ من هذا "الثقب"، فيمتصه الجسيم الآخر، فيتحول، بسبب ذلك، إلى جسيم حقيقي.
وهناك في الاقتصاد الرأسمالي ما يشبه هذه الظاهرة، فحَوْل "الاقتصاد الحقيقي" يدور اقتصاد آخر، غير حقيقي، شبحي، طيفي، ورقي، يمكن تسميته "الاقتصاد الافتراضي" Virtual Economy.
وفي هذا "الاقتصاد الافتراضي" يتَّجرون بـ "سلع افتراضية، غير حقيقية"، هي كل صنوف الأوراق المالية، كالنقود الورقية والأسهم والسندات.
إنَّ كل سلعة، لها قيمة، يُعبَّر عنها بـ "سعر"؛ ولكن ليس كل شيء له سعر يجب أن تكون له قيمة.
هذا "الاقتصاد الافتراضي" لا يعرف من الاتِّجار إلاَّ الاتِّجار بـ "سلع افتراضية، غير حقيقية، ورقية"، فيعرف من "الربح" و"الخسارة" ما يؤكِّد أنَّ المتَّجرين لا يفعلون شيئاً سوى اقتسام، وإعادة اقتسام، "الثروة الورقية"، التي مهما تضخَّمت لا يمكنها أبداً أن تضيف أقل مقدار إلى الثروة الحقيقية للمجتمع إلاَّ إذا قام "الثقب الاقتصادي الأسود"، أي "الاقتصاد الحقيقي"، بشدِّها إليه، أي بتوظيفها فيه، حيث تلك السلعة (قوَّة العمل) التي باستهلاكها تُنْتِج "القيمة الجديدة".
"النزف" بدأ، أوَّل ما بدأ، من الصناعة، ومن سائر الاقتصاد المنتِج للسلع، فالفوائض المالية الصناعية شرعت تخرج من الصناعة إلى المصارف، ولا تعود إلى موطنها الأصلي، أي الصناعة؛ ولقد رأيْنا "النزف" في الجهاز المصرفي، فأموال المودعين والمقرضين للمصارف خرجت من الجهاز المصرفي، ولم تَعُدْ إليه؛ ذلك لأنَّها اسْتُثْمِرت بما ألحق كوارث بالمقترضين، فعجزوا عن السداد.
ولم يكن لدى الحكومات من خيار سوى السعي إلى إنقاذ الرأسمالية من الرأسمالية المالية الطفيلية التي خنقت ودمَّرت "الاقتصاد الحقيقي"، منتِجة ومنمية اقتصاداً من الأوراق المالية، التي مهما نمت وتكاثرت، ومهما كان "الاستثمار" فيها مربحاً لبعض المستثمرين، وللحيتان منهم، فإنَّها لا تزيد ثروة المجتمع الحقيقية سنتاً واحداً ما ظلَّ مالكو النقد الورقي محجمين عن زرعه وغرسه في الاقتصاد المنتِج للسلع.
سؤال الأزمة الأكبر هو: إذا كانت الأزمة قد بدأت من عجز أصحاب القروض العقارية عن السداد، ومن انهيار أسعار العقارات، فلماذا حدث ذاك "العجز" وهذا "الانهيار"؟
"الأزمة" في جوهرها إنَّما تكمن في تضخُّم "الاقتصاد النقدي الورقي (أو تجارة السلع الافتراضية)"؛ فهذا التضخُّم، الذي يؤكِّد تعاظُم "الطفيلية الرأسمالية"، و"الرأسمالية الطفيلية"، شرع يدمِّر "الاقتصاد الحقيقي (أو العيني، أو المنتِج للسلع)"، فشرع النظام الاقتصادي الرأسمالي برمته يُظْهِر ميلاً قوياً ومتزايداً للانهيار على نفسه، بدءاً من "الاقتصاد الافتراضي".
"بالون" الاقتصاد الرأسمالي العالمي تضخَّم كثيراً إذ امتلأ بكثير من الهواء، أي بالكتلة النقدية الورقية "المستثمَرة" في تجارة السلع الافتراضية كالأسهم والسندات؛ ودرءاً لخطر انفجاره لا بدَّ من إفراغه من هذا الهواء.
وهذا "الإفراغ" إنَّما يعني أن تعود السلع، ومنها الذهب، إلى التربُّع على عرش الاقتصاد العالمي؛ وتوصُّلاً إلى بعضٍ من هذه الغاية، لا بدَّ من قانون جديد، يُحْظَر بموجبه على المصارف أن تَسْتَثْمِر هي مباشرَةً "الودائع" في تجارة السلع الافتراضية، أي الورقية، وأن تُلْزَم باستثمارها في "الاقتصاد الحقيقي".
إذا سُنَّ هذا القانون، وعُمِل به، فإنَّ القضاء على تلك الإمبراطورية الورقية للرأسمال المالي الطفيلي سيعيد الفوائض النقدية الورقية الهائلة إلى الاقتصاد المنتِج للسلع، وللثروة الحقيقية للمجتمع، فتتهيأ الأسباب لثورة اقتصادية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً من قبل، فيزدهر المجتمع اقتصادياً بما يكفي لجعل تخطِّي النظام الرأسمالي أمراً ممكناً ومفيداً وضرورياً.
في بريطانيا مثلاً، "تملَّك" دافعوا الضرائب، أي الشعب، وبنسبة معيَّنة (60 في المئة) وعبر الدولة بعض المصارف؛ وينبغي لهم الآن، أو من الآن وصاعداً، أن يوسِّعوا هذا "التملُّك"، وأن يجعلوه دائماً، وأن يمنعوا الحكومة من بيع الحصص التي تملكتها مستقبلاً إلى أباطرة المال عندما يقفون على أقدامهم.
ليس من العبقرية في شيء أن ندرك نحن أبناء القرن الحادي والعشرين أننا نُنْتِج القمح والحديد والذهب..، فنحن مدعوون إلى أن ندرك الأهم من ذلك بكثير، وهو أننا يمكن ويجب أن نُنْتِج علاقة اجتماعية جديدة (في أثناء الإنتاج) نُنْتِج في ظلِّها القمح والحديد والذهب..
وهذه العلاقة الاجتماعية الجديدة لن تكون جديدة، ولن تكون جيدة، إلاَّ إذا كانت مستوفية الشرط الاقتصادي الموضوعي لنشوئها وتطوِّرها، فإذا كان الهدف الكامن فيها هو زيادة وتحسين الإنتاج، وزيادته وتحسينه بما يعود على المجتمع بالربح الإنساني والحضاري، فلا بدَّ من التأسيس لـ "نظام حوافز جديد"، يجعل للمُنْتِج مصلحة في نتاج عمله، ويجعل الذين يملكون القدرة على تحقيق هذه الهدف يحقَّقونه.
وأحسب أنَّ الإبقاء على بعضٍ من عناصر اقتصاد السوق من شأنه أن يشحن المجتمع الجديد بطاقة اقتصادية واجتماعية، يكفي أن يُشْحَن بها حتى يقدِّم أوراق اعتماده إلى التاريخ، قائلاً: ها أنذا ضاعفتُ الإنتاج، وحسَّنته أكثر، وأحْلَلتُ العقل محل الغريزة في قيادته، ولبَّيتُ حاجات الناس أكثر، فحقَّ لي، بعد ذلك، وبفضل ذلك، أنْ أُحوِّل "نهاية التاريخ" إلى "بداية للتاريخ"!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هرطقة تُدْعى -الملكية الفكرية-!
-
الآلة
-
معنى -التقريب-.. في مهمة ميتشل!
-
أمراض ثقافية يعانيها -الطلب- في اقتصادنا!
-
حكوماتنا هي الجديرة بلبس -النقاب-!
-
صورة -المفاوِض الفلسطيني- في مرآة -الأمير-!
-
معادلة ليبرمان!
-
الفقر والفقراء.. في دراسة مُغْرِضة!
-
ما تيسَّر من سيرة -القطاع العام-!
-
مهزلة يُضْرَب بها المثل!
-
الرأسمالية الأوروبية تتسلَّح ب -العنصرية-!
-
-العبودية-.. غيض يمني من فيض عربي!
-
-المعارَضة- إذ غدت -وظيفة حكومية-!
-
إسرائيل -تقصف- الطموح النووي الأردني!
-
تعليق -لاهوتي- على حدث رياضي!
-
اخترعها الفقراء وسطا عليها الأغنياء!
-
حرب إسرائيلية على -النموذج التركي-!
-
إلاَّ أسطوانة الغاز!
-
ما هو -الزمن-؟
-
إنقاذاً لإسرائيل المحاصَرة بحصارها!
المزيد.....
-
نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات
...
-
اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ
...
-
تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري
-
للمرة الثانية في يوم واحد.. -البيتكوين- تواصل صعودها وتسجل م
...
-
مصر تخسر 70% من إيرادات قناة السويس بسبب توترات البحر الأحمر
...
-
البنك الأوروبي: التوترات التجارية تهدد الاستقرار المالي لمنط
...
-
مصر.. الكشف عن خطط لمشروع ضخم لإنتاج الطاقة الهجينة
-
مصر.. الدولار يقترب من مستوى تاريخي و-النقد الدولي- يكشف أسب
...
-
روسيا والجزائر تتصدران قائمة مورّدي الغاز إلى الاتحاد الأورو
...
-
تركيا تخطط لبناء مصنع ضخم في مصر
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|