|
نصر حامد أبو زيد وانثروبيا النص القرآني
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3077 - 2010 / 7 / 28 - 09:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من وجهة نظر الدكتور نصر حامد أبو زيد إن جوهر النص القرآني وحقيقته لا يتعدى كونه منتجاً ثقافياً؛ باعتباره لغة يحال عليها أن تكون مفارقة للثقافة والواقع، وقد تشكّلَ في ظرف يزيد على عشرين عاماً. ومع ذلك فإن هذا المفكر لا ينكر إلوهية مصدر النص القرآني، ويرى أن هذه الإلوهية لا تنفي واقعية محتواه، ومن ثم لا تنفي إنتماءه إلى ثقافة البشر. كما أن النص في هذه الحالة لا يعكس الثقافة والواقع عكساً آلياً، بل أنه يعيد بناء معطياتهما في نسق جديد. الأمر الذي يعني وجود علاقة جدلية بين النص والواقع أو الثقافة. على ذلك اعتبر أبو زيد أن اختيار منهج التحليل اللغوي في فهم النص هو الوحيد الذي يلائم موضوع البحث ومادته، فإذا كان النص حاملاً للثقافة التي ظهر فيها دون أن يكون هناك ما يفارق الواقع فلا بد حينئذ من أن يكون التحليل اللغوي هو الوحيد الذي يلبي – فعلاً - حاجة الفهم الخاصة بالنص. وهنا يصبح الأخير كاشفاً عن واقع الثقافة التي ظهر فيها، كما يكون هذا الواقع مساعداً على فهم النص. لهذا كان لا بد من البدء بدراسة ذلك الواقع، إذ لا يمكن فهم النص من غير البدء بدراسة طبيعة الواقع القائم بتشكيل النص، أي دراسة الأبنية الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية، كذلك دراسة المتلقي الأول للنص والمخاطبين به. كالذي جاء في كتابه (مفهوم النص). ومن تطبيقات هذا المنهج الإنعكاسي والانثروبي اعتبر أبو زيد أن ارتباط ظاهرتي الشعر والكهانة بالجن في العقل العربي، وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الإتصال بين البشر والجن، هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها. وعلى رأيه انه لو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمراً مستحيلاً من الوجهة الثقافية، فكيف كان يمكن للعربي أن يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور في تكوينه العقلي والفكري. وبالتالي فظاهرة الوحي أو القرآن كانت جزءاً من مفاهيم الثقافة العربية آنذاك، فالعربي كان يدرك أن الجني يخاطب الشاعر ويلهمه شعره، ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن، لذلك فإنه لا يستحيل عليه أن يصدّق بملك ينزل بكلام على بشر. وعليه نفى أبو زيد أن يكون للعرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراض على ظاهرة الوحي ذاتها، وإنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحي أو على شخص الموحى إليه. ولذلك أيضاً يمكن أن نفهم حرص أهل مكة على رد النص الجديد – القرآن – إلى آفاق النصوص المألوفة في الثقافة سواء كانت شعراً أم كهانة. ومع أن اللغة تستبطن الثقافة، وأن النص بالتالي هو تعبير عن هذه الثقافة، لكن قابلية اللغة للتعبير عن مراد التفكير يجعلها قادرة على تجاوز متبنيات الثقافة ومضامينها القائمة، وبالتالي كان لها أن تطرح ما هو بديل، وبالأحرى أن لها دوراً مزدوجاً، فهي من جانب لا يمكنها مفارقة الثقافة كلياً، لكنها من جانب آخر يسعها طرح البديل الثقافي عبر صياغتها للمعاني والمفاهيم الجديدة، وهذا ما يخولها أن تكون أداة للعقل على طرح النظريات الجديدة. فهي بهذا العمل المزدوج تحمل عقلاً مكوَّناً ومكوِّناً، حسب تعبير (لالاند) عن الفكر والثقافة عموماً. فمن حيث تضمنها للثقافة المطروحة تكون حاملة للعقل المكوَّن، لكن حيث يمكنها تجاوز هذه الثقافة بتمرير ثقافة بديلة فانها تحمل العقل المكوِّن. وطبقاً لهذا المعنى فإن التضييق الذي اتخذه أبو زيد في تعبير النص عن الثقافة ليس ضرورياً، بل يمكن القول أن النص يشهد على خلاف هذا الطرح، فليس من الصحيح القول بأن وجود الكاهن والشاعر هو ‹‹الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها››، ولولا ذلك لاستحال استيعاب ظاهرة الوحي من الوجهة الثقافية. فعلى الأقل أن هذا التقدير لا يتسق مع ما قرره أبو زيد - فيما بعد - من أن أهل مكة كانوا حريصين على رد النص الجديد – القرآن – إلى آفاق النصوص المألوفة في الثقافة سواء كانت شعراً أم كهانة، إذ على هذا الرأي كان الأولى لأهل مكة أن يتقبلوا النبوة أو النص الجديد اعتماداً على ما سبق من الشعر والكهانة، لا أنهم يرفضونه لهذا الإعتبار. وعموماً نعتقد بأنه يمكن تصور استيعاب ظاهرة النبوة حتى مع عدم وجود الكاهن والشاعر، طالما أن هناك نوعاً من الحاجة الإنسانية للإتصال بعالم الغيب، وأن الإنسان يمكنه تقدير هذا الأمر حتى ولو لم يكن هناك كاهن وشاعر. فالعقل البشري، سيما في الأزمان القديمة، يستقرب مثل هذا الإتصال للحاجة في تفسير الأشياء ورفع الغموض، أو للخوف والطمع، ولا علاقة لذلك بوجود أشكال من الإلهام، سيما إلهام الشعراء، فهو بعيد عن الإعتبار. وبالتالي فإن لظاهرة النبوة حاجة انسانية وليست ثقافية. ويؤيد هذا المعنى أن القرآن الكريم قد طرح تصورات العرب آنذاك على النقيض مما قاله أبو زيد، فالأخير يعتبر أن العربي كان يتقبل الوحي النبوي باعتباره قد ألِف الشعر والكهانة، في حين أن القرآن يؤكد على أن اعتراض العرب كان من هذه الناحية بالذات، فهم يعدون ما جاء به محمد لا يختلف عن المجالات المألوفة، لذلك رفضوا ادعاء النبوة، كالذي يشير اليه قوله تعالى: ((فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)) ، وقوله: ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)) ، وقوله: ((بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ))، وقوله: ((وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)). كما رفضوا النبوة أيضاً لكونهم تصوروها بأنها ينبغي أن تكون خارج المألوف من المعجزات الكونية، على شاكلة ما كان للأنبياء من هذه المعاجز، إذ كان إشكالهم ينصب على كون محمد هو شخص مألوف لديهم لا يختلف عن أي رجل منهم، ولا يوجد طرح يفيد قبول دعوة النبي استناداً الى قبول فكرة الشعر والكهانة، وفي ذلك جاء قوله تعالى: ((وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)). فالاعتراض هنا قد جاء ليس على ظاهرة الوحي ذاتها ولا على المضمون الموحى به، ولا على شخص محمد، بل على الطبيعة النوعية للموحى إليه، بدلالة ما نقله القرآن من أن القوم كانوا يطلبون معجزة كونية تؤيد مدعي النبوة، أو يأتي معه ملك يؤكد المدعى، وكل ذلك بعيد عن مسألة الشعر والكهانة، فهم يطلبون شيئاً جديداً غير مألوف له طابع غيبي كالمعجزة الكونية او الملك، وكما ينقل القرآن: ((وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)) ، وينقل أيضاً: ((وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ))، كما ينقل: ((وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً))، ويقول: ((فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)). لذلك فالتلازم الثقافي بين الكهانة والشعر من جهة، وبين النبوة من جهة ثانية معدومة، إنما الأمر قد أخذ شكلاً مخالفاً ومعاكساً، اذ لا نجد شخصاً آمن بالنبي وهو يعول على ما كان مألوفاً من الشعر والكهانة، في حين أن من اعترض على النبي نجده يتمسك بدعوى الشعر والكهانة. وبعبارة أخرى، أن العلاقة التي صورها أبو زيد بين الشعر والكهانة من جهة، والنبوة من جهة ثانية، هي علاقة التزامية، لكننا نراها عكسية، فوجودهما كان داعياً للتكذيب لا التصديق، بشهادة ما نقله القرآن عن مزاعم العرب المعاصرين. وبالتالي فلولا وجود الشعر والكهانة لكان قبول النبوة أقرب إلى نفس العربي، لا العكس.
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القبليات المعرفية وعلاقتها بالفهم الديني
-
القطيعة بين الفكر المغربي والمشرقي (قراءة في مشروع المفكر مح
...
-
بين الفهم المقصدي والتعبدي للدين
-
النظام الوجودي وتحليل العلاقة الوجودية
-
حضارة بين حضارتين(مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارتين ال
...
-
الحركة العقلية الاسلامية وتطوراتها
-
الصراع والتكامل بين الفلسفة التقليدية والعرفان
-
الجابري والخلط بين مفكري اللحظة المغربية
-
آليات قراءة النص الديني
-
صدور كتاب جديد ليحيى محمد بعنوان منطق فهم النص
-
علم الطريقة وفهم الخطاب الديني
-
مقارنة بين العقل المثقف الديني والعقل الفقيه
-
منطق السنخية والتنظير الفلسفي داخل الحضارة الإسلامية
-
مع مشروع نقد (نقد العقل العربي)
-
الفهم الديني: سننه وقوانينه وقواعده ومستنبطاته
-
القطيعة بين إبن سينا وأرسطو (قراءة في مشروع المفكر محمد عابد
...
-
ابن رشد وعلاقة الفلسفة بالدين
المزيد.....
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر تتسلم الاسير الاسرائيلي كيث سيغا
...
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الثاني
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الاسرائي
...
-
إطلاق نار على قوات إسرائيلية في سوريا وجبهة المقاومة الإسلام
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد بجودة HD على جميع الأقمار الصناع
...
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|