أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)















المزيد.....



إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 3076 - 2010 / 7 / 27 - 09:34
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 19-25 يوليو 2010
(1)
رغم انتمائه المعروف لقسم من الحركة الإسلاميَّة السودانيَّة، لم يُعرف عن د. الطيِّب زين العابدين، الكاتب وأستاذ العلوم السِّياسيَّة بجامعة الخرطوم، سواء اتفقت أو اختلفت معه، أنه يصدر، في ما يكتب، عن دوافع شخصيَّة، أو غير موضوعيَّة، أو تشوبها شائبة ميل أو هوى، في ما يتصل برصده للأحداث التاريخيَّة، أو شهادته عليها. ولعلَّ هذا هو ما أكسبه احترام الكثير من المثقفين والناشطين السياسيين والمدنيين في بلادنا. لذا فقد دهشت، أيَّما دهشة، عندما نسبت إليه بعض الصُّحف قولاً عجباً مفاده أن انقلاب الجَّبهة الإسلاميَّة في الثلاثين من يونيو عام 1989م وقع استباقاً لمحاولات انقلابيَّة أخرى، من بينها محاولة للشِّيوعيين أوشكت أن تبلغ ساعة الصِّفر، "فإذا لم تتغدَّ بهم الجَّبهة، ربَّما كانوا تعشُّوا بها" (التيَّار، 20/7/10).
محاولة التبرير لانقلاب الجبهة، بمثل هذا الكلام الخائب الذي لا يشبه الطيِّب، لا تحتاج إلى فانوس ديوجينس لإضاءتها! لكن، ولأن (التيَّار) تعلم جيِّداً صعوبة إقناع أيٍّ مِمَّن عايشوا وقائع الفترة ما بين 1985 ـ 1989م بأن الشيوعيين كانوا يخططون لانقلاب، فإنها لا بُدَّ قد قصدت التوجُّه بحكايتها البائرة هذه إلى الأجيال الجديدة، ومعظمهم لم يكونوا قد وُلدوا وقتها، فلربَّما استطاعت أن تصطنع للجبهة، بالفعل، حقَّ الحديث عن (اضطرارها) لاستباق خصومها التقليديين بانقلابها هي، في ما لو استطاعت أن تثبت، أو أن تزرع، على الأقل، بذرة الشَّكِّ في الأذهان، حول أن أولئك الخصوم كانوا يخططون، أيضاً، لانقلاب!
مهما يكن من شئ، وبما أن هذه هي المرَّة الأولى التي يتهم فيها أحدهم الشِّيوعيين بالتخطيط للانقلاب خلال تلك الفترة، دَعْ أن يكون هذا (الأحدهم) هو د. الطيِّب بالذات، فقد اتصلت به أستفسره حول الأمر، فوجدته، كما توقعت، خالي الذهن، تماماً، عمَّا نشر على لسانه، لكنه أفادني بأنه أدلى إلى صحفيَّة من (التيَّار) بحديث فحواه أن أصحاب فكرة انقلاب الجبهة طرحوا على هيئة شوراها، وكان الطيِّب عضواً فيها، عدداً من المبرِّرات، بغرض حملهم على قبول المشروع، ومن بين تلك المبرِّرات أن الشيوعيين كانوا، وقتها، يسابقون للاستيلاء على السُّلطة بالانقلاب، ويُخشى أن يسبقوا (من محادثة هاتفيَّة معه صباح 25/7/10). وهكذا، شتان ما بين ادِّعاء (علم) الطيِّب (المباشر)، حسب زعم (التيَّار)، وبين حقيقة (علمه السَّماعي)، حسب ما أوضح بنفسه، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار غيوم الشَّكِّ التي تحتوش مصدر ذلك (العلم السَّماعي)، وهم أهل مشروع انقلاب الجَّبهة أنفسهم، الذين كانت غاية مرادهم تسويغ الفكرة وتسويقها لهيئة الشُّورى، فلا يهمُّهم إن جرى ذلك بالحق، أم بالباطل!
(الإعلام) غير (البروباغاندا). فعلى حين يُفترض أن يهدف الأوَّل إلى تمليك الناس (الحقائق) كي يؤسِّسوا عليها آراءهم، ويصوغوا مواقفهم، تسعى الثانية إلى بثِّ (الدِّعاية) في أوساطهم، حتى لو كانت (زائفة)، كي يتمكن مَن يقف وراءها مِن السَّيطرة على هذه الآراء والمواقف، ومن ثمَّ توجيهها حسب مشيئته! وفي هذا الإطار لا نخال (التيَّار) قد اختارت، بمحض المصادفة، أن تنشر (بروباغانداها) هذه بتاريخ 20 يوليو، وهو اليوم الثاني من الأيَّام الثلاثة للحركة التصحيحيَّة التي قادها البطل الشهيد هاشم العطا عام 1971م. كما وأن ثمَّة مغزى خاص، أيضاً، ولا بُد، لتلازم نشر هذه المادَّة مع نشر عمود الأستاذ عثمان ميرغني الذي خصَّصه لذكرى تلك الأيَّام الثلاثة، واصفاً إياها، أجمعها، بـ (الدَّمويَّة)، في حين يعلم حتى راعي الضأن في الخلاء أن الدَّم لم يُرق إلا في اليوم الثالث منها، وهو دم شهداء (بيت الضِّيافة) الذين لم تتكشَّف، بعدُ، طلاسم الملابسات التي اغتيلوا من خلالها، ولو كان النميري رغِبَ، لتكشَّفت، لولا أنه فضَّل أن يدَعْها على حال طلسميَّتها الغامضة، بعد أن تأكد له، من مختلف التقارير، كتقرير لجنة القاضي علوب، مثلاً، أن من شأن (الحقائق) أن تفضح زيف (البروباغاندا) التي ولغ نظامه في ترويجها، تحقيقاً لغاية واحدة، فحسب، وبأيِّ ثمن .. إدانة الشِّيوعيين!
(التيَّار)، إذن، ليست بريئة في (بثها) لـ (بروباغاندا) عكوف الشِّيوعيين على تدبير انقلاب على الديموقراطيَّة أواسط 1989م، كمبرِّر ضِمني لانقلاب الجَّبهة في الثلاثين من يونيو من ذلك العام! وليست بريئة وهي تنسب هذه المعلومة (المفبركة) إلى مصدر محترم، هو د. الطيِّب زين العابدين، بعد (تحوير) إفادته من (سماعيَّة) إلى (مباشرة) عن طريق (دغمسة) الصِّياغة! وليست بريئة وهي تنشر (دعايتها) المكثفة هذه وسط أجواء من الإشارات المستندة إلى ذاكرة قبْليَّة زائفة، اشتغلت أجهزة (البروباغاندا) المايويَّة، ثم المايويَّة/الإسلامويَّة، على شحذها وشحنها، ردحاً طويلاً من الزَّمن، في قوالب ترميزيَّة جاهزة، من سنخ واقعة (بيت الضيافة)، كي توحي، سلباً، وخصوصاً للأجيال الجديدة، بأن (دمويَّة) الشيوعيين أمر مفروغ منه! فالأستاذ عثمان يتحدَّث، مثلاً، عن فجيعة الشَّعب الذي يقول إنه رأى، بأمِّ عينيه، اغتيال الضباط العُزَّل في وضح النَّهار يوم الثاني والعشرين من يوليو 1971م، لكنه تغافل، بالمقابل، عن فجيعة الشَّعب الذي رأى، أيضاً، بأمِّ عينيه، يوم الثاني من يوليو 1976م، اغتيال الضباط العُزَّل، كالشهيد الشَّلالي، والمدنيين الأبرياء، كوليم أندريه، وقصف الجنود، وهم نيام، في عنابرهم بالدَّانات. العنف الدَّموي متطابق في كلٍّ من يوليو 1971 ويوليو 1976م، وقد وقع من خلال ظروف وملابسات متشابهة، لكن الأستاذ عثمان يركز على إبراز أحد حدثي ذلك العنف، ويتعمَّد التغافل عن الآخر! وما ذلك إلا لسبب بسيط، هو أن ذراعي حزبه (الحركة الإسلاميَّة) كانتا مغموستين، حتى الإبطين، في الحدث الآخر! وتلك بعض أساليب (البروباغاندا) المخاتلة، والتي لا يمكن مجابهتها بغير الإصرار والدأب على إبراز الحقائق المجرَّدة، على غرار ما ننوي فعله هنا بشأن الموقف الحقيقي للحزب من قضيَّة (الديموقراطيَّة)، لأجل إضاءة موقفه الحقيقي من قضيَّة (الشموليَّة) التي يمثل (الانقلاب) أحد تمظهراتها التقليديَّة.

(2)
تصوُّر هذا الأمر كما لو كان في بساطة (الكلمة وغطائها) لعملٌ أخرقٌ بحق! فمقاربة الطابع التركيبي المعقد، في فكر الحزب الشِّيوعي السوداني، لمسار الصِّراع بين مفهومي (الديموقراطيَّة) و(الشُّموليَّة)، إنما تقتضي الفحص الدقيق لخطابه، ومنظومة مفاهيمه، وشبكة مصطلحاته ومفرداته، عبر مختلف مراحل بروزها وتطورها في نسيج علاقاته الفكريَّة والسِّياسيَّة، المتقاطعة والمتساوقة، جدليَّاً، وعلى كلِّ المستويات الدَّاخلية والخارجيَّة، أي عبر تطوُّر خبرته التاريخيَّة نفسها، سواء في التنظير أو العمل. وهو مطلب صعب، بلا شك، وقد لا تستنفده المساحة المتاحة هنا. ولكننا سنحاول إضاءة أهمِّ جوانبه بقدر الإمكان، محيلين من يرغب في استزادة إلى كتابنا (الشِّيوعيُّون السودانيُّون والدِّيموقراطيَّة، دار عزَّة للنشر، الخرطوم 2003م).
موضوعة (الديموقراطيَّة)، في جذرها القائم في (الحُرِّيَّات والحقوق)، ظلت تمثل، دائماً، أحد أهم المطلوبات الاستراتيجية المطروحة في أفق المشروع الاشتراكي للحزب، منذ تأسيس حلقاته الأولى في منتصف أربعينات القرن المنصرم. على أنه يلزمنا، أيضاً، الإقرار بأن هذه الموضوعة ليس نادراً ما كانت تلتبس، بدرجات متفاوتة، خلال الفترة حتى أواخر سبعينات القرن المنصرم، بمفاهيم ومصطلحات (الديموقراطيَّة الاشتراكيَّة، الشَّعبية، الثوريَّة، الجديدة) .. الخ، وذلك تحت الأثر الضاغط للنموذج الاشتراكي الذي كان ماثلاً، بل سائداً، آنذاك، وبالأخص التجربتين السُّوفيتيَّة والصِّينيَّة، على حركة اليسار خصوصاً، وحركة التحرُّر الوطني العالميَّة عموماً؛ وهي المفاهيم والمصطلحات التي تصعَّدت من أنماط الهيكلة الستالينيَّة للحزب والدَّولة والمجتمع، تحت عنوان (المركزيَّة الدِّيموقراطيَّة)، في الاتحاد السُّوفيتي، أوَّلاً، ثمَّ في أنظمة (الدِّيموقراطيَّات الشَّعبيَّة) في بلدان شرق أوربا، وأنحاء متفرقة من العالم، في عقابيل الحرب الثانية، مستهدية بأدبيَّات القدح المقذع الذي لطالما أفردته الماركسيَّة اللينينيَّة، خصوصاً في نسختها الروسيَّة، لـ (الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة).
مع ذلك فإن من فساد النظر عدم ملاحظة أن مؤشر الأصالة الفكريَّة لدى الحزب ظلَّ يسجِّل، منذ ذلك الوقت الباكر، وتائر عالية من النزوع إلى (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) بمضمونها القائم في توفير أوسع الحقوق والحُرِّيَّات الجماهيريَّة، قانوناً وممارسة، إلى درجة تصويب النقد الجَّرئ، صراحة، للتجربة السُّوفيتيَّة في هذه الناحية، قبل انهيارها المدوِّي بنحو من نيف وأربعين سنة. وإنه لمن الصعب فضُّ هذا التناقض المظهري، في فكر الحزب ، بين قوة أثر (الدِّيموقراطيَّة الشَّعبيَّة)، وبين أصالة النزوع إلى (الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة)، بدون وضع اليد على مسألتين في غاية الأهمية: تتمثل أولاهما في مركزي (الجَّذب) و(الطرد) الأساسيَّين، الكامنين في كلٍّ من مفهوم (الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة) التي تستصحب موضوعة الحُرِّيَّات والحقوق السِّياسيَّة، وتهدر موضوعة العدالة الاقتصاديَّة، من ناحية، ومفهوم (الدِّيموقراطيَّة الشَّعبيَّة) التي تفعل العكس تماماً من ناحية أخرى. أما ثانيتهما فتتمثل فى الشَّكوى المستمرَّة من ضعف الأساس الاجتماعي الذي تستند إليه الديموقراطيَّة النيابيَّة في الممارسة السودانيَّة، ".. حيث الوزن الكبير للقطاع التقليدي في الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ومن ثمَّ وجود قوى اجتماعيَّة داخل الديموقراطيَّة البرلمانيَّة ذات مصلحة مضادَّة لتوسيع قاعدة الديموقراطيَّة، وتجديد الحياة في القطاع التقليدي" (الماركسية وقضايا الثورة السودانية "تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعى السودانى 1967م" ، دار الوسيلة ـ بدون تاريخ ، ص 134 ـ ومحمد أ. نقد؛ ورقة مبادئ موجِّهة لتجديد البرنامج، ديسمبر 1997م، صحيفة "الرأى العام"، 9/12/2000م).
ولا غرو، فالطبقات والنخب المتميِّزة تعيد إنتاج شكوكها وعداواتها التاريخيَّة بإزاء الحقوق الدِّيموقراطيَّة للجَّماهير، والتي ما تنفكُّ تقترن لديها بتهديد امتيازاتها، أو بتغيير الأساس الاقتصادي السِّياسي للمجتمع الذي يوفر لها تلك الامتيازات. ولعلَّ هذا وحده يكفى للكشف عن فداحة الضلالات الأيديولوجيَّة الكامنة في تصوُّر هذه الحقوق والحُرِّيَّات كمنح سُلطانيَّة توهب للجَّماهير من جانب الطبقات والنخب الحاكمة، أياً كانت!

(3)
بدا التنازع واضحاً، في فكر الحزب، منذ مطالع الاستقلال، بين هذين المفهومين المتعارضين، في ما بينهما، من جهة، وداخل كل منهما، من جهة أخرى، سواء من خلال المؤتمرين الثالث والرابع (فبراير 1956م وأكتوبر 1967م)، أو من خلال دورات انعقاد اللجنة المركزيَّة، وما يصدر عنها من وثائق ذات طابع برامجي (دورة مارس 1953م مثلاً). فعيون الحزب لم تكن كليلة، يوماً، عن النقد الماركسي التقليدي للدِّيموقراطيَّة البرجوازيَّة، حيث تمارس (الثروة) سلطتها تحت ستار الجُّمهوريَّة الدِّيموقراطيَّة، بصورة غير مباشرة، ولكن أكثر ضماناً، بحيث تتمظهر، فى السَّطح، كسلطة كلِّ الشَّعب، أو غالبيته، بينما هي، في حقيقتها، سلطة الأقليَّة البرجوازيَّة التي تمارس استبدادها المطلق على بقيَّة الطبقات (ف. إنجلز؛ أصل العائلة، الملكية الخاصة، والدولة، ص 127). مع ذلك بقيت عيون الحزب مفتوحة، أيضاً، على الاتجاه النظري العام في تقييم هذه الدِّيموقراطيَّة البرجوازيَّة من زاوية الماركسيَّة اللينينيَّة، كأداة لا تلغى الاضطهاد الطبقي، لكنها تساعد على كشفه؛ لا تخلص الكادحين من الاستغلال، لكنها تعينهم على منازلته. وقد كتب ماركس عن تأسيس الجُّمهوريَّة في فرنسا، عام 1848م، أنها تساعد على بسط سيادة الطبقة البرجوازيَّة، غير أنها تهيئ، في الوقت ذاته، مناخاً سياسيَّاً ملائماً يمكن المستغلين "بالفتح" من منازلة مستغليهم (ضمن: أ. إ. دينيسوف؛ نظريَّة الدَّولة والقانون "محرر"، ط 1، بالرُّوسيَّة، دار جامعة موسكو 1967م، ص 129).
لم يكن من الصَّعب ملاحظة أن النظريَّة الأساسية للحزب بدأت تسجل ميلها، باكراً، نحو التمحور حول قيام حكومة وطنيَّة ديموقراطيَّة تنجح في إنجاز مهامها، فتفتح الطريق لتحويل مجتمعنا بالتدريج نحو الاشتراكيَّة (برنامج المؤتمر الثالث "سبيل السودان .. 1956م ـ ونقد؛ مبادئ موجهة ..). ومن ثمَّ أبدى الحزب حماساً خاصَّاً لجعل قيام هذه الحكومة ممكناً، بالنضال وفق الأشراط العامَّة للدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة، برغم كلاسيكيَّات الهجاء الماركسي لها، وبالذات في طبعته اللينينيَّة، القائمة على تعميم خبرة الثورة الروسيَّة، حيث ".. الأمر الرئيس قد سبق وتحقق فى جذب طليعة الطبقة العاملة، وكسبها إلى جانب السُّلطة السُّوفيتيَّة ضد البرلمانيَّة، وإلى جانب دكتاتوريَّة البروليتاريا ضدَّ الديموقراطيَّة البرجوازيَّة" (ف. إ. لينين؛ مرض اليساريَّة الطفولي في الشِّيوعيَّة، المؤلفات الكاملة بالرُّوسيَّة، المجلد 41، ص 77)؛ وحيث ".. أن دكتاتوريَّة البروليتاريا هى وحدها القادرة على تحرير الإنسان من اضطهاد رأس المال، وكذب وزيف ونفاق الدِّيموقراطيَّة البرجوازيَّة .. المقتصرة على الأغنياء" (ف. إ. لينين؛ حول الدِّيموقراطيَّة والدكتاتوريَّة، المؤلفات الكاملة بالرُّوسيَّة، المجلد 37، ص 390)؛ وحيث أن مِن "الحماقة" و"السَّخف"، بحسب لينين أيضاً، الاعتقاد بإمكانية ".. الانتقال للاشتراكيَّة عن طريق الدِّيموقراطيَّة بوجه عام" (ف. إ. لينين؛ الاقتصاد والسِّياسة في عصر دكتاتوريَّة البروليتاريا، المؤلفات الكاملة بالروسيَّة ، المجلد 29، ص 281).
ولعلَّ مفارقة ذات مغزى عميق تتجلى هنا فى عودة تلك "الحماقة" وذلك "السَّخف"، بعد عقود قلائل من وفاة لينين، ليشكلا أحد أهمِّ عناصر التطوُّر التاريخي في الفكر الماركسي! فلقد دافع الشَّهيد عبد الخالق محجوب، في أواخر الخمسينات، دفاعاً مجيداً عن الديموقراطيَّة البرلمانيَّة في مواجهة انقلاب أرستقراطيَّة الجَّيش، بقيادة الفريق إبراهيم عبود، قائلاً: "إننى أؤمن بكلِّ حقوق الشَّعب الدِّيموقراطيَّة، وأرى أن نظام حكم الفرد، في بلد كالسودان، متعدد القوميات، ولمَّا تتلاحم أجزاؤه بعد، يهدِّد وحدة البلاد بخطر ماحق، وخاصة في مشكلة الجنوب التى تتطلب الدِّيموقراطيَّة حلاً، لا القوَّة والتعسُّف والقرارات الإدارية الفرديَّة، تتطلب التراضي، والتطوُّر الحُرَّ للقوميَّات .. فى ظلِّ وطن واحد مشترك بين الكل، اشتراكاً على قدم المساواة" (عبد الخالق محجوب؛ دفاع أمام المحاكم العسكريَّة، ط 1، دار عزة للنشر، الخرطوم 2001م، ص 67). ودحض الشَّهيد كلَّ الحُجج التي سيقت في ذمِّ الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة، بالأخص تلك التي تقرنها بـ "الفساد"، حيث شدَّد على أن الدِّيموقراطيَّة "هي الضمان لمكافحة الفساد، فما من قوَّة تستطيع مراقبة الفساد واجتثاثه غير رقابة الشَّعب، ولا رقابة للشَّعب إلا إذا تمتع بحرِّيَّاته كاملة، وأصبحت له سلطة تغيير الحاكمين" (نفسه ، ص 68 ـ 70).

(4)
بصرف النظر عن صحَّة أو خطأ التعويل على خطة كهذه، فليس ثمَّة مسوِّغ عقلي واحد لاتهام (نوايا) الحزب فى شأنها بأنها محكومة بتكتيكات (العصا النائمة والعصا القائمة)، حسب البروباغاندا التسطيحيَّة البائسة لخصوم الحزب الأيديولوجيين والسِّياسيين الذين لا يرضون بأقلِّ من أن يعلن، على رءوس الأشهاد، أن قبوله بالطريق الدِّيموقراطي يعني التخلى، ضربة لازب، عن المشروع الاشتراكى! هذه البروباغاندا سرعان ما تتهاوى، مثل كاتدرائيَّة تتقوَّض، بمجرد تعريضها لحُجج التاريخ، وحيثيَّاته، وحقائقه الباردة؛ ونماذج ذلك عصيَّة على الحصر، خصوصاً خلال الفترة 1946م ـ 1964م. فقد وضح، تماماً، خلال تلك السَّنوات التأسيسيَّة من عمر الحزب، أن قبوله بممارسة العمل السِّياسي، وفق المبادئ العامَّة للدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة، يعنى، بالأساس، اعتزامه الانخراط فى النشاط السِّياسى كجزء لا يتجزأ من الحركة الديموقراطيَّة العامَّة في البلاد ، وذلك بالإقرار التام، قبل أيِّ شئ آخر، بقيم التعدُّديَّة، وباستخدام أسلحة الإقناع فى خوض المعركة السِّلميَّة على وعي الجماهير، وبالاحتكام إلى آليات الدِّيموقراطيَّة، وحدها، كالتعبئة، والاضراب، والتظاهر السِّلمي، والانتخابات العامَّة، وتداول السُّلطة، فضلاً عن إشاعة الدِّيموقراطيَّة داخل بنيته التنظيميَّة، من ناحية، وفي علاقته بسائر أقسام الحركة الجَّماهيريَّة من ناحية أخرى.
لقد شكل ذلك (الاعتزام) نقطة الانطلاق الباكرة فى النشاط السِّياسي للشيوعيين، بصرف النظر عما أصابوا أو لم يصيبوا فى هذا الشأن. وتأسس منطلقهم هذا، منذ البداية، على منطق القناعات الفكريَّة والسِّياسيَّة التى كانت قد تبلورت، أصلاً، قبل ذلك بوقت طويل، بين الحلقات الأولى لطلائعهم، حتى قبل التكوين الرَّسمى لحزبهم عام 1946م، حيث نظروا للدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة، لا كمحض قضيَّة شكليَّة، وإنما باعتبار كافٍ لمضمونها الحقيقى القائم فى قضيَّة الحُرِّيَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة، والتى تمثل، فى ظروف ضعف وضمور بنية الطبقة العاملة الصناعيَّة، فى بلد كالسودان، بتعدُّد تكويناته الإثنيَّة، والسِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، وعدم التناسق فى تطور قطاعاته الاقتصاديَّة، الشرط المركزى لتحقق هذه الديموقراطيَّة الليبراليَّة كمصدٍّ أساسي فى وجه مشروع العنف البرجوازي، المدعوم بآليات التدخل الاستعماري، وذلك بما توفره من مناخات النموِّ المتسارع للقوى الشَّعبيَّة الرافضة لهذا المشروع، وإمكانات مقاومتها السِّلميَّة الفعَّالة له، باعتبارها البيئة السِّياسيَّة الأصلح لحضانة وتطوير المشروع الاشتراكى، من خلال أوسع حراك لجماهير الكادحين فى المدن والأرياف (العمال ـ صغار المزارعين ـ العمال الزراعيين ـ البرجوازيَّة الصغيرة التقليديَّة المكوَّنة من صغار المنتجين والحرفيين وأصحاب المحلات الصغيرة ـ المثقفين الديموقراطيين) .. الخ.
ومن ثمَّ اتخذ الشِّيوعيون، فى ذلك الوقت الباكر، موقفاً نقديَّاً مستقيماً ونادراً من التجربة الاشتراكيَّة، آنذاك، في طبعتها السُّوفيتيَّة الستالينيَّة، معتبرين الموقف من (الحُرِّيَّات)، إلى جانب الموقف من (الدِّين)، بمثابة (كعب آخيل) الحقيقى في تلك التجربة، مما احتاج إلى قرابة نصف قرن لتأكيده! لقد أشار إلى ذلك، على سبيل المثال، حسن الطاهر زروق، عام 1944م، فى تصريحه لجريدة (السودان الجديد)، ردَّاً على سؤالها له، بمناسبة انتهاء الحرب الثانية، حول مدى التأثير المتوقع للتجربة السُّوفيتيَّة على تجربة الشيوعيين السودانيين، حيث استبعد، وقتها، أيَّ احتمال لتطابق التجربتين، قائلاً بوضوح: ".. قد نستفيد من التجربة، ونتفادى سلبياتها، مثل غياب ضمانات حُرِّيَّة وسلامة الفرد، وعدم تقدير دور الدِّين فى حياة الشعوب" (جريدة السودان الجديد، 1/9/1944م ـ ضمن: محمد نورى الأمين؛ رسالة دكتوراه).

(5)
كان من الممكن أن يصبح التشكك في مؤسَّسيَّة هذا الموقف النقدي، واعتباره خاصَّاً فقط بحسن الطاهر وحده، أمراً معقولاً إلى حدٍّ بعيد، لولا أن الأداء العام للحزب والاتجاه الغالب فيه، عبر مختلف محطات تطوره، والصراعات الفكريَّة التى شهدها على مدى أكثر من خمسين عاماً من عمره، لتدلُّ، بكلِّ المعايير، على خلاف ذلك، أي على الاحتفاء الحزبي المؤسَّسي بالمنجزات التاريخيَّة للشُّعوب فى جبهة الحُرِّيَّات والحقوق الليبراليَّة السِّياسيَّة، كرصيد قابل للاستصحاب فى سياق المشروع الاشتراكي، علاوة على عدم الاقتناع الواضح بأن التجربة الاشتراكيَّة نجحت فى تقديم أىِّ نموذج ملهم للدِّيموقراطيَّة السِّياسيَّة. فبالإضافة إلى تعبيرات الشَّهيد عبد الخالق السَّاطعة، بهذا الاتجاه، ثمَّة نماذج قويَّة، بلا عدٍّ ولا حدٍّ، على ذلك، منها، على سبيل المثال، ما نصَّ عليه برنامج الحزب المجاز فى مؤتمره الرابع عام 1967م، من أن ".. الدِّيموقراطيَّة الاشتراكيَّة، مرتكزة على ما حققته الشعوب من حُرِّيَّة للفرد والجَّماعة فى التعبير وحُرِّيَّة الفكر، ستكمل هذا البناء، بتحرير الإنسان من سيطرة رأس المال، واقترابه من مراكز النفوذ" (ص 8). وسوف يعود عبد الخالق، عام 1971م، ليؤكد على رسوخ هذا النظر الناقد، ضمناً، لنموذجي الديموقراطيَّة الاشتراكيَّة في الاتحاد السُّوفيتي، والشَّعبيَّة في الصين وبلدان شرق أوروبا، قائلاً، في آخر إسهاماته الفكريَّة قبل إعدامه بوقت قصير، مسترشداً بقانون (نفي النفي) الدياليكتيكي: إن "تغيير المجتمع إلى مرحلة أعلى لا يعني نفياً كاملاً لما أحرزته الشعوب من حقوق قانونيَّة إبان الثورة الديموقراطيَّة البرجوازيَّة .. (بل يعنى) تحويلها من إعلان إلى ممارسة فعليَّة .. إنجاز مهام الثورة الوطنيَّة الديموقراطيَّة للانتقال للاشتراكيَّة لا يتمُّ إلا عبر الدِّيموقراطيَّة في الحقوق السِّياسيَّة للجَّماهير، (أى) الدِّيموقراطيَّة في النظام السِّياسي، (أي) تغيير المجتمع بالدِّيموقراطيَّة الشَّاملة" (ع. الخالق، وثيقة حول البرنامج، 1971م).
وعلى سبيل الاستطراد الحميد، نضيف، هنا، أن الشَّهيد عبد الخالق كتب (وصيته) الفكريَّة التاريخيَّة هذه ورأسه، شخصيَّاً، تحت ظلِّ السَّيف، في معمعة الصِّراع ضد سلطة مايو التى لا يزال ثمة من يصر على أنها كانت سلطة الشيوعيين (!)
أما السكرتير العام الحالى للحزب، محمد ابراهيم نقد، فقد عاد، بدوره، ليقدم تلخيصاً بليغاً لمآلات التنازع بين (مركز جذب) الحقوق والحُرِّيَّات السِّياسيَّة في الديموقراطية الليبراليَّة من جهة، و(مركز جذب) المحتوى الاجتماعى للدِّيموقراطيَّة الاشتراكيَّة، الشعبية، الثوريَّة، الجديدة .. الخ ، من جهة أخرى، وذلك من بين وقائع المخض الشديد في فكر الحزب، ما بين أصالته واستقلاليَّته التى وفرت لديه دائماً عناصر التهيُّؤ للانحياز إلى الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة، وبين الأثر الضاغط لتجاوزات (اليمين) السِّياسى، وخرقه المتكرِّر لهذه الدِّيموقراطيَّة، إلى جانب الحضور القوي، في الواقع التاريخي المحدَّد، لنجاحات النموذج الاشتراكي (السُّوفيتي والصِّيني بالأساس)، وانعكاسات ذلك في المنطقتين العربيَّة والأفريقيَّة، مِمَّا رتب لظاهرة الالتباس والتناقض المظهري، في هذا الفكر، وعرَّضه، في بعض فترات تاريخه، للتورُّط فى مواقف التبرير لمصادرة الحقوق والحُرِّيَّات ضمن ذلك النموذج. ولئن كان الحزب قد خلص، في نهاية المطاف، برغم كل هذا الالتباس والتناقض، إلى موقف راسخ فى الانحياز للحُرِّيَّات والحقوق السِّياسيَّة، فقد وصف نقد هذا الانحياز، بأنه ".. متميز، ومفارق للتصوُّر الذى كان سائداً فى الأدبيَّات الماركسيَّة، ومن بينها أدبيَّات حزبنا، والذى يبرِّر مصادرة الدِّيموقراطيَّة في النموذج السُّوفيتي للاشتراكيَّة، ونمط الحزب الواحد، وبعض نماذج الأنظمة الوطنيَّة العربيَّة والأفريقيَّة" (م. أ. نقد، ورقة "مبادئ موجهة ..").

(6)
ولأن التركيبة الذهنيَّة والوجدانيَّة لذلك الجيل المؤسِّس تشكلت، أصلاً، من بين وقائع الصراع الذى خاضته الحركة الوطنيَّة فى سبيل الاستقلال والحريَّة، فقد قرَّ فى فكر الحزب، منذ بواكير نشأته، أن الكفاح من أجل التحرُّر من الاستعمار هو بمثابة المحور الأساسي للحركة السِّياسيَّة الاستقلاليَّة، فى تلك المرحلة، وهى قضيَّة لا تنفصل، بأيَّة حال، عن النضال لنشر الوعي بقيم الحُرِّيَّات والحقوق الدِّيموقراطيَّة. وقد لاحظ الشَّهيد عبد الخالق، فى تحليله لأحداث تلك الحقبة، أن المشكلة الأساسيَّة التي واجهت السودان، عند خروجه من الحرب الثانية، تركزت ".. حول إبعاده عن توجيه حياته وفق نظام ديموقراطي" (عبد الخالق محجوب؛ لمحات من تاريخ الحزب الشِّيوعي السوداني، ط 3، دار الوسيلة للنشر، الخرطوم 1987م، ص 35). ذلك أن الاستعماريين لجأوا إلى البطش عندما أحسُّوا بخطورة تطوُّر الحركة الجَّماهيريَّة. وعلى سبيل المثال فقد ".. سنوا القوانين الرَّجعيَّة، وحلوا منظمة أنصار السَّلام، وجعلوا من مصادرة حرِّيَّة الأفراد والجَّماعات والصُّحف قاعدة لهم، وبدأوا، خلال عام 1951م، يعدُّون العُدَّة لحلِّ اتحاد نقابات العمال" (نفسه ، ص 70). وفي وثيقة دفاعه السِّياسي المار ذكرها أشار الشَّهيد إلى ".. أن حُرِّيَّة المواطن في الدَّعوة لما يرى لاقت تعنتاً كثيراً من جانب المستعمرين .. ولهذا اندمجتُ في الحركة الشَّعبيَّة المطالِبة بتوفير الحُرِّيَّات الدِّيموقراطيَّة" (ع. الخالق؛ دفاع ..، ص 45). ولعلنا نجد فى ذلك تفسيراً واضحاً لتحالف الشيوعيين الباكر، آنذاك، مع حزب الأمة، في ما عرف وقتها بـ (الجَّبهة الاستقلاليَّة)، حيث كان الحزبان قد اتفقا على المطالبة بكفالة الحُرِّيَّات العامَّة ضمن أهمِّ الركائز التى نهض عليها تحالفهما.
وبتاريخ 31/12/1955م عاد حسن الطاهر زروق، نائب دوائر الخريجين عن الجَّبهة المعادية للاستعمار، وقتها، لتفصيل تلك المطالب الدِّيموقراطيَّة، من خلال مساهمته فى مناقشة مشروع الدُّستور المؤقت، مقترحاً النصَّ على قيام الجَّمعيَّة التأسيسيَّة لتمكين ممثلي الشَّعب من المشاركة في وضع الدُّستور الدائم للبلاد، وأن يحترم ذلك الدُّستور إرادة الشَّعب ومصالحه، وأن يجعل جهاز الدَّولة ديموقراطيَّاً، وخاضعاً للرَّقابة والمحاسبة الشَّعبيتين، وأن يضمن المشاركة الشَّعبيَّة الواسعة في الحكم، وأن يوفر الحُرِّيَّات العامَّة، كحُرِّيَّة العقيدة، وحُرِّيَّة اعتناق الآراء السِّياسيَّة، والعمل من أجلها، بالإضافة إلى المطالبة بإزالة التعارض القائم بين ذلك المشروع وبين بعض القوانين والسِّياسات السَّائدة وقتها، وذلك بتعديلها حتى تتسق معه، خصوصاً ما تعلق منها بالحُرِّيَّات العامَّة كقضايا الأجر المتساوي للعمل المتساوي في الشمال والجنوب، والأجر المتساوي للعمل المتساوي للرجل وللمرأة، وقانون الصَّحافة، وبعض مواد قانون العقوبات (محمد سليمان؛ اليسار السوداني في عشر سنوات، الخرطوم 1969م، ص 173 ـ 176).
وإذن ، فإن المنطق الذى شكل وعي ذلك الجيل الأوَّل من الشيوعيين السودانيين باتجاه تأسيس الحزب، تمحور، أصلاً، حول ضرورة "بروز قوَّة اجتماعيَّة .. تضع منهجاً يلبِّى رغبات الشَّعب .. فى الدِّيموقراطيَّة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة" (ع. الخالق؛ لمحات ..، ص 38).

(7)
إلى ذلك جاء الشَّرط التاريخي نفسه الذى أفضى، فى صيف 1946م، لولادة التنظيم في بداياته الأولى (الحركة السودانيَّة للتحرُّر الوطنى ـ حستو)، مقترناً مع ذات الشَّرط التاريخي الذى أنتج، فى ذات الآن، حركة شعبيَّة واسعة، متنوِّعة، ومنفعلة، بحكم طبيعتها، ومنطق تكوينها، وقانونها الباطني الخاص، بطموحات الحُرِّيَّات العامَّة، والحقوق الأساسيَّة، كنقابات العمَّال، واتحادات المزارعين، والنقابات المهنيَّة، وتنظيمات الشَّباب، والنساء، والطلاب، وحركة أنصار السلم وغيرها. لقد ".. كان ميلاد هذا الحزب نتيجة للحركة الواسعة التى انبثقت من صفوف الشَّعب يهدف لحُرِّيَّة التنظيم، وحقِّ كلِّ مواطن في إبداء رأيه .. (وقد) امتاز حزب الجَّبهة المعادية للاستعمار، منذ إعلانه، بوقوفه بثبات من أجل استقلال البلاد، ومن أجل الدِّيموقراطيَّة، وتحسين حياة الكادحين" (ع. الخالق؛ دفاع .. ، ص 51 ـ 52). وأسهم الشِّيوعيون السودانيون، بصورة نشطة، ومباشرة، ومتشابكة مع وقائع تأسيس حزبهم، في استنهاض وتطوير تلك الحركة ".. التى انبثقت من صفوف الشَّعب"، وتبوَّأوا هم مراكز القيادة والتوجيه فيها، بل صار بعضهم رموزاً تاريخيَّة لها، فشكلت، بأساليبها، وأدواتها الدِّيموقراطيَّة، كالإضراب، والمظاهرة، والموكب، والمنشور، والمذكرة، والملصق، والجريدة، والندوة، والليلة السِّياسيَّة، والكتابة على الجدران، وغيرها من صور الرمز المقروء والمسموع والمرئى، إلى جانب الأشكال المختلفة لتنظيم التضامن الجَّماهيرى، حقول تدريبهم النضالى الأساسيَّة، وطبعت، بالتالى، وبصرف النظر عن أيِّ مصادر تأثير أخرى، فكرهم، ووجدانهم، ومزاجهم العام، بطابعها الدِّيموقراطي الشَّامل، من خلال مظاهرات الطلبة عام 1946م، ومعارك الجَّمعيَّة التشريعيَّة بأم درمان وعطبرة، صيف 1948م، ومعركة تأسيس نقابة عمَّال السكة حديد وغيرها، حتى أن مخابرات الإدارة البريطانيَّة فى السودان وصفت، على سبيل المثال، في بعض تقاريرها السِّريَّة عام 1949م، أوَّل تنظيم ديموقراطي للشَّباب السوداني، بأنه حركة شيوعيَّة ذات (أخطار!)، من أهدافها الكفاح لإحباط المشاريع الاستعماريَّة، وتحرير السودان، وتأسيس نظام ديموقراطي (ضمن: محمد سعيد القدال؛ معالم فى تاريخ الحزب الشِّيوعي السوداني، ص 65).
ولقد أصاب هذا التقرير المخابراتي الاستعماري، تماماً، فى تحديد أهداف التنظيم الوليد، وإن كان قد أخطأ، أو قل تعمَّد أن يخطئ، فى توصيف هويِّته!
(نواصل)

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأَمَازُونِيَّات!
- إِنْزِلاقَاتُ الصُّدُوع!
- عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
- سَنَةُ مَوْتِ سَارَامَاغُو!
- رَطْلُ لَحْمٍ آخَر لِشَيْلُوك!
- الدَّوْحَة: أَبْوَجَةُ الذَّاكِرة!
- مَنْ تُرَى يُقنِعُ الدِّيك!
- مَوَاسيرُ الطُّفَيْليَّة!
- حكاية الجَّماعة ديل! (4 4) أَحْلافُ النَّظَائِرِ والنَّقَائ ...
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (3) هَمُّ الشَّعْبي وهَمُّ الشَّعْب ...
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (2) إرتِبَاكاتُ حَلْبِ التُّيوسْ!
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل (1 2) الاِسْتِكْرَاد!
- مَنْ يَرقُصُ لا يُخفي لحْيَتَه!
- بَرَاقشُ .. الأَفريقيَّة!
- السَّيْطَرَةُ الهجْريَّة!
- رَدُّ التَحيَّة بأَحْسَن منْهَا!
- لَيْلَةُ البَلاَلاَيْكَا!
- الهُبُوطُوميتَر!
- عَودَةُ العَامل والفَلاَّحَة!
- آخرُ مَولُود لشُرطيّ سَابق!


المزيد.....




- -سقوط مباشر واحتراق آلية-.. -حزب الله- يعرض مشاهد لاستهدافه ...
- صنعاء.. تظاهرات ضد الحرب على غزة ولبنان
- فصائل العراق المسلحة تستهدف إسرائيل
- الديمقراطيون.. هزيمة وتبادل للاتهامات
- القنيطرة.. نقاط مراقبة روسية جديدة
- عرب شيكاغو.. آراء متباينة حول فوز ترامب
- مسؤول أميركي: واشنطن طلبت من قطر طرد حركة حماس
- إعلام سوري: غارات إسرائيلية على ريف حلب
- بعد اشتباكات عنيفة بين إسرائيليين وداعمين لغزة.. هولندا تقرر ...
- هجوم بطائرة مسيرة يوقع قتيلًا و9 مصابين في أوديسا


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)