|
الآلة
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3075 - 2010 / 7 / 26 - 15:05
المحور:
الادارة و الاقتصاد
"الآلة"، وعلى أهميتها التي يدركها جيِّداً المشتغلون بالصناعة على وجه الخصوص، أي العمَّال وأرباب العمل، لم تحظَ بما تستحق من اهتمام المشتغلين بالعلوم الإنسانية، وفي مقدَّمهم المشتغلون بعلم الاجتماع الذي ما زال نَهْباً لكثير من المفاهيم والأفكار والتصوُّرات المجافية والمنافية للعلم.
"الآلة"، ولجهة العمل الذي تؤدِّي، إنَّما هي التطوير الاصطناعي لكل عمل، أو نشاط، يؤدِّيه، أو يمكن أن يؤدِّيه، الإنسان من تلقاء نفسه؛ ولكن ليس بالفاعلية نفسها.
إنَّها الامتداد الاصطناعي لكل ما هو طبيعي من القوى والأعضاء والحواس التي يملكها الإنسان، فليس من "أداة" صنعها الإنسان إلاَّ وتُشْبِه، لجهة عملها ووظيفتها، قوَّة ما من قواه الطبيعية، أو عضواً ما من أعضائه الطبيعية، أو حاسَّةً ما من حواسِّه الطبيعية.
بأدوات أو آلات كالمِقص أو السكِّين نَقُصُّ أو نَقْطَع أشياء يُمْكِننا قصها أو قطعها ببعضٍ من أعضائنا وقوانا الطبيعية (الأسنان واليدين والأصابع..) ولكن بفاعلية وجودة أقل.
وبـ "العين الاصطناعية"، أي الميكروسكوب أو التلسكوب، نُوسِّع حدود رؤيتنا بالعين الطبيعية، فنرى أكثر وأوضح؛ ونرى ما لا يُمْكِننا رؤيته بالعين الطبيعية لضآلة حجمه أو لِعِظَم بُعْدِه.
وبـ "الذاكرة الاصطناعية" في جهاز الكمبيوتر، نتغلَّب على كثيرٍ من نقاط الضعف الطبيعية في ذاكرتنا الطبيعية.
و"الآلة" هي "أداة عمل" تَعْمَل بقوى غير القوى البدنية للإنسان، فهي "آلة بخارية" إذا عَمِلَت بقوَّة البخار، و"كهربائية" إذا عَمِلَت بالكهرباء؛ إنَّها "أداة عمل"؛ ولكن ليس كل "أداة عمل" يجب أن تكون "آلة"، فالمحراث، مثلاً، "أداة عمل"، وليس بـ "آلة"؛ لأنَّه يَعْمَل بالقوى البدنية (للإنسان) فحسب؛ وإنَّ أقْدَم وأبسط أدوات العمل التي استعملها البشر كانت من الشجر والحجر وأعضاء الحيوان.
و"أداة العمل" تتوسَّط دائماً بين الإنسان والطبيعة، فَعَبْرِها ومن خلالها يؤثِّر الإنسان بالأشياء في بيئته الطبيعية، أو محيطه الطبيعي، أي يُغيِّر الطبيعة بما يسمح له بأن يُنْتِج منها ما يلبِّي حاجاته، وفي مقدَّمها حاجته إلى الغذاء.
وكلَّما تضاعف تأثير الإنسان بالطبيعة، عبر أدوات العمل والآلات، اتَّسَع وتنوَّع واغتنى مخزون مداركه الحسِّية، ومخزونه المعرفي والعلمي بالتالي، فرأى أكثر، وعرف أكثر؛ وكلَّما تضاعف هذا التأثير توسَّع المجتمع البشري في سيطرته على الطبيعة وقواها المختلفة؛ فإنَّ في "الآلة"، لجهة تطوُّرها، خير مقياس نقيس به درجة سيطرة الإنسان على الطبيعة.
وبفضل "أدوات العمل" و"الآلات"، اسْتَحْدَث الإنسان، وطوَّر، "بيئته الاصطناعية"، كالمدينة بكل ما تشتمل عليه من أشياء صنعها البشر من مواد "البيئة الطبيعية".
وإلى "البيئة الاصطناعية"، لجهة نشوئها وتطوُّرها، يعود الفضل في التقليل كثيراً من تأثير "قانون الانتخاب الطبيعي" بالبشر، فالإنسان لا يكافِح البرد بتطوير غطاء لجسده من الشعر الطبيعي، كالحيوان، وإنَّما بصُنْع وارتداء ثياب.
وأنتَ يكفي أن تقارِن، كمَّاً ونوعاً، بين "البيئة الاصطناعية" في أوروبا الغربية و"البيئة الاصطناعية" في إفريقيا حتى تَسْتَنْتِج أنَّ الإنسان الأوروبي يسيطر على الطبيعة أكثر كثيراً من الإنسان الإفريقي.
وإنَّ مزيداً من سيطرة الإنسان على الطبيعة، بفضل "الآلة" وتطوُّرها، لا بدَّ له من أنْ يُتَرْجَم بمزيد من سيطرته على ما يُضاد تطوُّره من الزمان والمكان، فـ "السرعة" في تأدية العمل، بأوجهه المختلفة، إنَّما تعني سيطرة أكثر للإنسان على الزمان والمكان.
والإنسان الذي، بفضل "الآلة"، سيطر على الطبيعة أكثر، وسيطر على الزمان والمكان أكثر، لا بدَّ له من أن يملك من القوى والوسائل ما يسمح له بجعل مجتمعه (ونفسه بالتالي) حُرَّاً أكثر.
بـ "أداة العمل"، أو "الآلة"، يُغيِّر الإنسان بيئته الطبيعية؛ ثمَّ يتغيَّر هو نفسه بتغيُّرها، فإنَّ التطوٌّر الاجتماعي والتاريخي للإنسان لا يمكن فهمه إلاَّ على أنَّه ثمرة هذا التفاعل، أو العلاقة الجدلية بين "الذات" و"الموضوع"؛ وإنَّ لكل "بيئة اصطناعية" إنسانها الذي يشبهها، فابن القرية يشبه "بيئته الاصطناعية"، وابن المدينة يشبه "بيئته الاصطناعية"؛ وكلاهما يختلف عن الآخر في خواصِّه وسماته الاجتماعية لكونه يختلف عنه في "بيئته الاصطناعية".
ونَقِفُ على بعضٍ آخر من أوجه الأهمية الاجتماعية والتاريخية لـ "الآلة" إذا ما سعينا في معرفة سبب الاختلاف والتباين بين العصور التاريخية؛ فهل تختلف هذه العصور، وتتباين، بسبب اختلافها وتباينها في ما تُنْتِج من أشياء أم في كيفية إنتاجها للأشياء نفسها؟
البشر في كل عصورهم التاريخية توفَّروا على إنتاج القمح، مثلاً؛ ولكنَّهم اختلفوا، واختلفت عصورهم التاريخية بالتالي، في كيفية إنتاجهم له؛ وهذا الاختلاف في الكيفية إنَّما هو (في المقام الأوَّل) اختلاف في الأداة أو الآلة التي بها يُنْتِجون القمح.
ولعلَّ خير دليل على ما لـ "الآلة" من أهمية اجتماعية وتاريخية هو أنَّ فرانكلين وبرودون وماركس وبرجسون قد توافقوا على تعريف "الإنسان" على أنَّه "حيوان صانع للأدوات".
ولكنَّ ماركس هو وحده الذي يعود إليه الفضل في اكتشاف أنَّ "أداة العمل"، أو "الآلة"، هي التي لجهة درجة تطورها "السبب النهائي (والأخير)" للتطوُّر التاريخي، وللانتقال من عصر تاريخي إلى آخر؛ وفي تمييز "رأس المال" من "أداة العمل"، فكل "رأسمال" يشتمل على "أدوات عمل"؛ ولكن ليس كل "أداة عمل" يجب أن تكون "رأسمال"؛ وفي إقامة الدليل العلمي على أنَّ "الآلة" لا تُنْتِج "ربحاً"، فهي بتشغيلها تَنْقُل (بلا زيادة ولا نقصان) إلى المُنْتَج من السلع ما تختزنه من "عمل"، وما تشتمل عليه من "قيمة"، فقاده هذا إلى استنتاج في منتهى الأهمية ومؤدَّاه أنَّ التطوُّر الآلي للمنشأة الصناعية (الرأسمالية) يفضي، حتماً، إلى مزيدٍ من التراجع في المعدَّل العام للربح.
بـ "العبودية" بدأت "الحضارة"، وتطوَّرت؛ فلولا "الآلات الناطقة"، أي العبيد من البشر، وعملهم، في روما، مثلاً، وعلى وجه الخصوص، لَمَا نشأت "الحضارة"؛ وبـ "العبودية الجديدة المقبلة"، والتي يحلُّ فيها "البشر الآليون" محلَّ "الآلات الناطقة"، ستبلغ "الحضارة" الدرجة العليا من تطوُّرها.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معنى -التقريب-.. في مهمة ميتشل!
-
أمراض ثقافية يعانيها -الطلب- في اقتصادنا!
-
حكوماتنا هي الجديرة بلبس -النقاب-!
-
صورة -المفاوِض الفلسطيني- في مرآة -الأمير-!
-
معادلة ليبرمان!
-
الفقر والفقراء.. في دراسة مُغْرِضة!
-
ما تيسَّر من سيرة -القطاع العام-!
-
مهزلة يُضْرَب بها المثل!
-
الرأسمالية الأوروبية تتسلَّح ب -العنصرية-!
-
-العبودية-.. غيض يمني من فيض عربي!
-
-المعارَضة- إذ غدت -وظيفة حكومية-!
-
إسرائيل -تقصف- الطموح النووي الأردني!
-
تعليق -لاهوتي- على حدث رياضي!
-
اخترعها الفقراء وسطا عليها الأغنياء!
-
حرب إسرائيلية على -النموذج التركي-!
-
إلاَّ أسطوانة الغاز!
-
ما هو -الزمن-؟
-
إنقاذاً لإسرائيل المحاصَرة بحصارها!
-
تصحيحاً ل -الخطأ- الذي ارتكبه العرب..!
-
إنَّها أسوأ صيغ الاعتراف بإسرائيل!
المزيد.....
-
اختلاف مسارات البنوك المركزية: الولايات المتحدة ثابتة وأوروب
...
-
الجزائر وموريتانيا توقعان على مذكرة تفاهم لاستكشاف وإنتاج ال
...
-
أسهم أوروبا عند ذروة قياسية بعد خفض الفائدة
-
رابطة الكُتاب الأردنيين في -يوبيلها- الذهبي.. ذاكرة موشومة ب
...
-
الليرة السورية تسجل 9900 أمام الدولار في السوق الموازية للمر
...
-
20 مليار دولار صادرات تركيا إلى أفريقيا العام الماضي
-
سعر جرام الذهب عيار 21 سعر الذهب اليوم في محلات الصاغة
-
تقارير أمريكية: الولايات المتحدة تتقهقر اقتصاديا أمام -بريكس
...
-
رئيس البرازيل: سنرد بالمثل إذا فرض ترامب رسوما جمركية
-
المغرب يطلق 20 مشروعا استثماريا بقيمة 1.7 مليار دولار
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|