أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود كرم - شجن الذاكرة















المزيد.....


شجن الذاكرة


محمود كرم

الحوار المتمدن-العدد: 3075 - 2010 / 7 / 26 - 03:10
المحور: الادب والفن
    


خذلتكَ الأمنيات يا شقيقي ، فكم تمنّيتَ أن تعودَ بعد رحلة علاجكَ الأخيرة إلى وطنك وابنك وزوجتك وأخوتك وأصدقائك وأحبابك ، تبادلهم دفء العناق ولهفة اللقاء ، وفرحة السلامة وبهجة الابتسامات ، وبوح الحكايات الطويلة ، ولكنها الأمنيات التي انساقت خائبةً إلى هاوية الخذلان ..

كم خذلكَ الصبرُ يا شقيقي ، فكم كنتَ وفياً معه وله ، جاملتهُ وتجمّلتَ به ، أرضيته مراراً ، وارتضيت به رفيقاً عظيماً ، وأخفيتَ عنه آلامك وأوجاعك وتأوهاتك ، ولكنه خذلك ، لم يستطعْ أن يدفع عنكَ لهاثات الموت ..

وكم خذلكَ الأمل يا شقيقي ، كنتَ ودوداً معه ، ووفياً له ، وكنتَ مفعماً به إلى حد المستحيل ، وكنتَ تستدرجهُ إليك دائماً ، صديقاً ملهماً ومؤنساً من براثن اليأس والمرض والضجر والقلق ، وتُطعمهُ من قلبكَ روح الحياة ، كان الأملُ دائماً في حساب يومكَ يطفحُ بالغد الأجمل ، بالغد الذي يجب أن يأتي كما كنتَ تشتهيه ، حنوناً وأنيقاً وزاهياً ومتفتحاً بالضوء والبهجة ، هكذا كنتَ ترى الأمل ، تراه غداً أجملَ يأتيك بالأمنيات المشرقة ، ولكنه خذلك ، لم يستطعْ إلا أن يكون متفرجاً على رحيلك ، لم يستطع أن يدفع عنكَ عتمة الموت وبطشه ، وهو يراه زاحفاً عليك ، سالباً منكَ أنفاسك ، وخانقاً نبض الحياة في أوردتك ..

سبعٌ من السنين المؤلمات ، كنتَ فيها يا شقيقي تحملُ إعاقتك ، ترتحل بها من ألم إلى ألم ، ومن وجع إلى وجع ، ومن سفر إلى سفر ، إلى أن انتهى بكَ مشوار الآلام أخيراً في لندن ، لندن كانت محطتكَ الأخيرة ، وفيها أودعتَ ضحكتكَ الأخيرة وحكايتكَ الأخيرة ودمعتكَ الأخيرة ، هذه المرة من ترحالك البعيد هنا وهناك خذلتكَ لندنُ يا شقيقي ، لم تستطع أن تمنحكَ أمل العودة إلى وطنك ، وسلبتكَ منِّي ومن أحبابك ، وأوجعتني طويلاً في مركز القلب ..

يا شقيقي كم كنتَ مفعماً بالحياة والأمل والصخب والحكايات والذكريات ، لم أركَ يوماً تستسلم للضعف والمرض والإعاقة ، كنتَ تتحاملُ على كل ذلك ، وتمضي مسرفاً في ابتهاجات يومك ، وفوق كل ذلك كنتَ تواجه ذلك بالضحكة والابتسامة والتعليقات الساخرة ، حتى أن طبيبك الانجليزي الذي عاينك في بداية علاجك ، قال لك بشيء من المرارة : ما حصدته من انكسارات جسدك المتتالية خلال سنين اعاقتك كثير ومؤلم ، فقلتَ له وابتسامة مظفرة تضيء وجهك : لا بأس ، فلا زلتُ على قيد الحياة ، أتفجّرُ بالأمل والتفاؤل والحلم ، وأمضي جامحاً في عثراتها ..

كنتَ دائماً تتجاوز تعنتات المرض بأمل جديد وعزيمة نافذة وجسارة واقدة ، كنتُ أرى ذلك في عينيك ، وفي حديثك ، وفي تصميمك ، فكم كنتَ تكره التجميد والاقتعاد في سرير المستشفى ، دائماً كنتَ تقول لي : أن السرير لا يجلبُ سوى الضجر والكآبة والملل ، فكنتَ تخرجُ منه سريعاً إلى كرسيكَ المدوّلب الذي تصالحتَ معه طوال سنين اعاقتك ، والذي أحببته لأنه لم يخذلك يوماً ، وفي كل مرة حينما كنتَ توصي بواحد جديد من السويد ، كنتَ تهتم بتفاصيلَ صناعة أجزائه ، وتُخبرني متحمساً عن مميزاته الجديدة ، وكأنه قطعةً من جسدك وقلبك ، وكأنه نبضكَ الذي يشتعلُ بالتوثب في أعماقك ..

في أيام العطل الأسبوعية كنتَ حين تهبط في كرسيك المدوّلب ، تنفض عنكَ من فورك تعب السرير ، وأوجاع الذاكرة ، ومرارة الإعاقة ، ترتدي قفازك العملي ، وتتلحفُ شالك الصوفي ، وتعتمرُ قبعتكَ الصوفية ، تطلبُ منِّي أن نسرع إلى الخارج ، إلى حيث الهواء والمطر والجمال والناس والصخب ، فكنا نجوب معاً شوراع لندن وأسواقها وطرقاتها ومعالمها ومقاهيها الضاجّة بالرشاقة والموسيقى والفتنة والحلم ، تطلق تعليقاً هنا وسؤالاً هناك ، وتتقلّد ضحكةً هنا وترسلُ بهجةً هناك ، وحينما لا نجدُ مفراً من مطاردة البرد لنا ، كنا نلوذ بأي مقهى يصادفنا ، نمتشقُ دردشةً قصيّة تفيض بها حكاياتنا المترعة بنزق الذاكرة ..

وفي الأيام العادية كنا نخرجُ في كل مساء تقريباً إلى مقهانا المعتاد القريب جداً من المستشفى ، بعد أن تفرغ من برنامجك التدريبي ، هناك كانت النادلات تستقبلنكَ دائماً بابتساماتهن بمجرد أن تطلُّ عليهن ، وأنتَ تشقُّ بكرسيك عباب المقهى ، وبدورك كنتَ تبادلهن بياض الابتسامة ورهافة الود الشفيف ، وكم كانت النادلة الشابة فكتوريا سعيدة حينما أفصحتَ لها عن اعجابك بتسريحة شعرها الجديدة ، فأسرعتْ مسرورة تخبرُ زميلاتها في المقهى عن اعجابك بتسريحتها ، وما أن نكون هناك حتى تشرعُ من فورك بممارسة لعبة البلياردو ، التي كنتَ شغوفاً بها ، وأنتَ تمخرُ منتشياً أطراف طاولتها بكرسيك المدوّلب ، وفي كل مرةٍ كنتَ تعرفُ كيف تلحق بي هزيمة ثقيلة ، لأني لا أستطيع مجاراتك في هذه اللعبة ..

أما في الأيام التي كانت تقام فيها مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز لكرة القدم ، أو مباريات دوري أبطال أوروبا ، نكون أول الواصلين للمقهى لمشاهدة المباريات ، نقتعد إلى طاولتنا المعتادة في مواجهة الشاشة الكبيرة ، يجرفنا الحماس الكروي للاستمتاع بفنون الكرة العالمية ، وكنا نحرص على متابعة فريقنا الانجليزي العريق ( ليفربول ) حين يكون طرفاً في أي مباراة ، فكنتَ تخبرني أولاً بأول عن مواعيد المباريات ومعرفة أوقاتها عن طريق حاسوبك الذي كان بمثابة صديقك المتفاني في التواصل معك ..

أينما كنتَ تحطُّ بأوجاعكَ يا شقيقي ، كنتَ تباغت المكان بفسحةٍ من الألفة والمرح والبهجة والشغب الجميل ، كنتَ تُشغل فراغ المكان بحركتك وحكاياتك ومشاغباتك وصداقاتك ، وتنفر من المكان الذي لا يستجيب لك ، كنتَ تراه مملاً وكئيباً وقاسياً أيضاً ، لأنكَ تعودت أن تحيا في المكان الذي تمده بالحميمية والود والعفويّة ويمدكَ هو الآخر بالدفء والتواصل والمحبة والصداقة ، كنتَ هكذا في كل مكان ارتحلت إليه ومكثت فيه ، فسرعان ما تصبح صديقاً ودوداً لطاقم التمريض ، تجالسهم وتبادلهم الضحك والأحاديث الشيّقة ، تحفظ أسماءهم ، وتسأل عنهم ، وتتفقد مَن يتغيّب منهم ، وتحزن عندما تودعهم ، وهذه المرة في لندن ، ما أن نزلتَ في المستشفى ، حتى كنتَ ذاك الرجل الذي أصبح يعرفه جميع طاقم التمريض في الجناح من تحركاته وتعليقاته وأحاديثه ومزاحاته ومشاغباته الجميلة ، أحببتهم وأحبوك ، وحزنوا كثيراً حينما غادرتهم في صمت مفاجيء ..

كم كنتَ تشعرُ بغربةٍ فادحة يا شقيقي وأنتَ تقضي أيام علاجك في لندن ، بعيداً عن كل الذين تحبهم ويحبونك ، كانت الغربة تأكل أجزاءً من قلبكَ ، كنتُ أراها في عينيك تنضحُ بالشجن الرهيف ، لأني أعرفُ أن أسعد لحظاتك في الحياة ، هي تلك التي تريد دوماً أن تبقى فيها بين عائلتك وأحبابك وأصدقائك ، ممتلئاً بالدفء والمحبة والأمنيات ، فكنتَ تُمعنُ في أن تبقى على تواصل دائم هاتفياً مع أحبابك في الكويت كل يوم ، لأنكَ كنتَ تريد لهذه الغربة الموحشة في أعماقك أن تتضاءل وتتلاشى ، ولكنها أبتْ إلا أن ترحلَ بكَ بعيداً ، وبعيداً ..



#محمود_كرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأصل في فلسفة الوعي الإنساني
- التافهون
- الإنسان المعرفي .. إنسان التنوير
- الأفكار بين التأمل وموهبة الخلق
- ما معنى أن يتمنّى الإنسان
- وقاحة مفضوحة
- الإنسانيون ( 4 من 4 )
- الإنسانيون ( 3 من 4 )
- الإنسانيون ( 2 من 4 )
- الإنسانيون ( 1 4 )
- القناعات وَهْم البدايات
- تلك اللذة العليا
- ثقافات بلا منطق
- زرقة الغياب
- بحث في بنية العقل الديني
- الحوار الحر ينتصر للإنسان
- الإنسان .. من الغيبية إلى العقلانية
- الجمال والحرية .. فلسفتان في البياض الشفيف
- حينما يأتي الربيع في أوبسالا
- الأساس الفلسفي للأفكار الحرة


المزيد.....




- مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
- اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار ...
- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود كرم - شجن الذاكرة