|
الثقافة والابداع من أجل التنمية!
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3072 - 2010 / 7 / 23 - 20:20
المحور:
الادب والفن
مهرجانات الثقافة العربية: من أصيلة الى الجنادرية الثقافة والابداع من أجل التنمية! قبل أيام إلتأم في بيروت وهي عاصمة الثقافة العربية، الاجتماع التحضيري للقمة الثقافية العربية المرتقبة. وكانت مؤسسة الفكر العربي التي يرأسها الأمير خالد الفيصل قد اقترحت على جامعة الدول العربية عقد قمة ثقافية عربية. وقد تبنّت جامعة الدول العربية الفكرة، وأجرت مشاورات واتصالات مع العديد من الجهات الرسمية وغير الرسمية، بما فيها بعض المؤسسات الثقافية، ناهيكم عن بعض المثقفين. وأخيراً تسنى لمؤسسة الفكر العربي ولجامعة الدول العربية وبالتعاون مع الاسكوا عقد اجتماع تحضيري بدعوة نحو 120 مثقفاً من اختصاصات متنوعة ومن اتجاهات مختلفة ومن جميع البلدان العربية. الاجتماع التحضيري كان أقرب الى مهرجان ثقافي أو مؤتمر بحثي بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، فقد ناقش قضايا الابداع والملكية الفكرية وموضوع اللغة العربية والترجمة وحرية البحث العلمي والتنوّع الثقافي وغير ذلك، وانقسم المجتمعون الى لجان ناقشت القضايا المطروحة على جدول العمل، لصياغة توصيات يمكن تقديمها الى الملوك والرؤساء العرب في القمة العربية القادمة، فضلاً عن القمة الثقافية المرتقبة. ولعل انعقاد مثل هذا الاجتماع هو بحد ذاته يعني الاعتراف بدور الثقافة كحامل للتغيير ورافعة أساسية لا غنى عنها للتنمية، بل إنها القدم الثانية التي يمكن أن تسير بواسطتها عملية التغيير، إضافة الى التنمية. كما أنه يطرح اشكاليات الثقافة في مجتمعاتنا، فضلاً عن علاقة المثقف بالسلطة، أو علاقة السياسي بالثقافي، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الثقافة العربية بشكل عام، وفي كل بلد عربي بشكل خاص تعاني من أزمة عميقة وصعوبات جوهرية، فهل سيكون عقد قمة ثقافية أو تنظيم مهرجانات ثقافية كافياً لمواجهة التحديات الكبيرة التي تعترض طريقها؟. جدير بالذكر أن الثقافة رغم أهميتها وحيويتها وكونها أحد أبرز أدوات التغيير والتنمية لم تكن طيلة السنوات الخمسة والستين الماضية ضمن أجندة جامعة الدول العربية وأياً من الحكومات العربية، ناهيكم عن أي من البرامج السياسية بما فيها لقوى معارضة، في حين يصعب الحديث عن تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية دون توفر العامل الثقافي الذي يشكّل المادة الصحفية الضرورية لوضع التغيير والتنمية في سياقات منسجمة ومتوائمة. لقد تأسست جامعة الدول العربية في 21 آذار (مارس) العام 1945 وعقدت منذ قمة أنشاص في مصر العام 1946 وحتى قمة سرت في آذار (مارس) الماضي العديد من القمم العادية والاستثنائية، إبتداءً من العام 1946 ولغاية العام 2010، لكن الثقافة لم تكن في يوم من الأيام في وارد القمم العربية، خصوصاً الانشغال بالمشاكل والهموم السياسية الكبرى، ابتداء من احتلال فلسطين ومروراً بغزو الكويت وصولاً الى غزو واحتلال العراق، إضافة الى قضايا تتعلق بالنزاعات الحدودية والمشكلات الاقليمية والعلاقات العربية_ العربية، وقد تكون قمة الكويت الاقتصادية التي انعقدت في مطلع العام 2009 الاستثناء الوحيد، رغم ما رافقها من اشكالات تتعلق بالعدوان الاسرائيلي على غزة، واستعجال أو انتظار عقد قمة طارئة في الدوحة، أو استخدام قرارات القمة الاقتصادية لدعم صمود غزة في مواجهة العدوان والحصار الاسرائيليين. ومع أن القمة الثقافية تأخّرت ستة عقود ونصف من الزمان، الاّ أن مجرد قبول فكرة عقد قمة للثقافة العربية من جانب الملوك والرؤساء العرب يعني قبول جديد لدور المثقف شريكاً في صنع القرار الثقافي على أقل تقدير إنْ لم يكن شريكاً ومساهماً في صنع القرار السياسي، ولعل في جزء من ذلك يعود على المثقف أيضاً، رغم سنوات العزل والتهميش وشحّ الحريات، إذْ لا بدّ من تجاوز بعض دعوات الاعتزال بحجة اللاجدوى، الأمر الذي سيطرح على بساط البحث أيضاً أوضاع المثقفين المادية والمعنوية وحقوق الابداع والضمانات الاجتماعية، خصوصاً في ظل تجارب مريرة شهدت تغوّل السلطات على الثقافة واحتكارها القرار السياسي، بما فيه ما يتعلق بشؤون الثقافة، الأمر الذي جعل المثقفين بين حيص وبيص، فإما أن يحرقوا البخور للحاكم ويؤدلجون سياساته ويبررون تصرفاته، أو يتخذون مواقف معارضة، تنتهي بقسم منهم الى الاقصاء والالغاء، وأحياناً الملاحقة والسجن، إن لم يكن التحريم والتجريم أو حتى كاتم الصوت. ولحد الآن لم يجد المثقف فرصة حقيقية للمصالحة بينه وبين الحاكم أو السياسي، الا باستثناءات محدودة، فالحاكم أو السياسي يريد توظيفه ويطالبه بالخضوع والإذعان والتنازل، وقد يغدق عليه، في حين هو يريد التشبث بوسيلته الابداعية، حتى وإن تحمّل ما لا طاقة له أحياناً، وفي كلا الحالين نكون قد خسرنا المثقف وخسر هو نفسه، كما خسر المجتمع والإبداع معاً. إن سلطة المثقف هي معرفته، والمعرفة حسب تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون هي سلطة أو قوة، المعرفة تنتج ثقافة وهذه لا ينبغي تطويعها لخدمة أحد، لأنه سيخسر نفسه وستخسره الثقافة. ولعل الثقافة بدون استراتيجيات واضحة وسياسات محدودة ستكون مثقلة بالكثير من الاملاءات السياسية، لاسيما وأن السياسي ينظر الى الثقافة باعتبارها حاجة كمالية أو ترفاً فكرياً أو وسيلة للترفيه، فهي حسب الصديق محمد بن عيسى أمين عام منتدى أصيلة وزير الثقافة المغربي السابق، مثل الاقتصاد والتعليم والتربية وغيرها من المرافق الحيوية، ويقتبس فقرة مهمة يستدّل فيها على دور الثقافة من التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية العربية، الذي صدر عن مؤسسة الفكر العربي الثاني للتنمية الثقافية العربية، الذي صدر عن مؤسسة الفكر العربي في العام 2009، وذلك في محاضرة له في عمان- مؤسسة عبد الحميد شومان (نيسان /ابريل- 2010) فيقول : إن تجربة الاتحاد الاوروبي الذي سعى لتشكيل تكتل اقتصادي وسياسي، وفيما بعد أمني(عسكري) الاّ أنه تمحور لاحقاً حول الثقافة، لأنه أدرك أنه بدون الحاصل الثقافي لا يمكن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة بمعناها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. يقول جان موتيه الذي يلقّب بأنه " أبو أوربا" لكونه المنظّر لفكرة الاتحاد الاوروبي بأنه: لو قدّر لي أن أطلق مسيرة التكامل الاوروبي من جديد، لتعيّن عليّ البدء بالتعليم والثقافة. وأظنه محقاً بذلك لأنه دون الرافعة الثقافية التي هي همود أساس لا يمكن إنجاز التحول التنوي. وإذا كانت الثقافة تكتسب هذه المكانة الرفيعة وتحظى باحترام المجتمعات المتقدمة التي تدرك أنه لا يمكن تحقيق تنمية شاملة دونها، فإنها في الوقت نفسه تغتني بالديمقراطية والحريات، الأمر الذي جعل هذا التلازم عصب الحياة في المجتمعات الحديثة المتطورة، ومسألة لا غنى عنها لتقدم تلك المجتمعات، لاسيما بوجود مجتمع مدني حر ومستقل وواعي يستطيع أن يسهم في عملية التنمية، وقد اتسع دوره خصوصاً في ظل العولمة بكل أوجهها المتوحشة منها، ناهيكم عن وجهها الثقافي والحقوقي والمعرفي الذي يمكن الاستفادة منه كواقع موضوعي. ما زال الاتصال بين المثقفين العرب ضعيفاً ومحدوداً وما زال الكتاب العربي يعبر الكثير من الألغام للوصول الى القارئ وما تزال الحدود عائقاً أمام التواصل والانتقال، فضلاً عن شح حرية التعبير بشكل خاص والحريات بشكل عام، وحتى الاتحادات النقابية للكتاب والأدباء وعموم المثقفين جرى تسييس الكثير من إداراتها، بل أن بعضها أعطي أدواراً آيديولوجية مهمتها نشر عقائد بعض الأحزاب أو الترويج لبعض السلطات، الأمر الذي أضعفها الى حدود كبيرة، فضلاً عن الأوضاع المعيشية السيئة التي يعيشها معظم المثقفين في ظل غياب رعاية لازمة لهم ولإبداعهم. وانكفأ الكثير من المثقفين، ولاذ بعضهم بالصمت أو اضطر للرضوخ أو اختار المنفى. بقيت هناك بعض المهرجانات الثقافية العربية" المعمّرة" كجزء من التواصل الثقافي، لاسيما مهرجان أصيلة في المغرب الذي تأسس العام 1978 وكهرجان الجنادرية الذي احتفل في دورته الأخيرة بالذكرى الخامسة والعشرين على انطلاقته في المملكة العربية السعودية. ورغم أن المهرجان بحد ذاته لا يصنع ثقافة وليس بإمكانه أن يكون بديلاً عن الفعل الثقافي، الاّ المهرجانات وسيلة للتواصل بين المثقفين، خصوصاً بشأن القيم المشتركة، لاسيما للإبداع، كما إنه وسيلة للتعريف من خلال الحوار وتبادل الرأي والمنتج الثقافي، سواءً في إطار الاختلاف أو الائتلاف. ولعل موضوع مهرجانات الثقافة العربية ذو شجون، خصوصاً وأنه يثير اشكالات وأسئلة عديدة بعضها قديم وبعضها تراكم مع الخبرة وأخذ يطرح تحدّيات جديدة، متوالدة إذا جاز التعبير، لاسيما وأن بعض صورها تتكرر أو تتشابه أو تتقارب، ناهيكم عن تداخلها وتفاعلها في العديد من البلدان العربية، ولدى العديد من المثقفين العرب. والسؤال دائماً يواجه الباحث ما الذي قدّمته وتقدّمه المهرجانات الثقافية العربية للابداع والثقافة، لاسيما لجهة المتعاطين معها وهم أولاً – الجهات المنظمة، سواءً كانت حكومة أو جهة ثقافية رسمية أو حتى شبه رسمية، أي ما الذي تريده هذه الجهات من تنظيم مهرجانات ثقافية؟ وإضافة الى الجهات المنظمة هناك المثقفون، المنتجون فما الذي يريدونه من المشاركة، إضافة الى التعريف والحوار، نشر نتاجاتهم وإتاحة الفرص أمامهم للقاء مع الجمهور والتفاعل معه، أما المستهلكون وأعني بهم الفئة المتلقية، سواءً من الوسط الثقافي ذاته أو من أوساط أخرى، لكنها تتذوق الثقافة وتحرص على الاستفادة من المهرجانات الثقافية للتعرّف على المثقفين والمبدعين وجهاً لوجه والاستماع اليهم والاطلاع على أعمالهم ونتاجاتهم. وإذا كانت هذه إشكالية أولى تواجه المهرجانات الثقافية العربية، بما فيها مهرجان المربد الذي كان ريادياً، لكنه بسبب تدهور الوضع السياسي في العراق والدخول في حروب ومغامرات، ناهيكم عن بعض أساليب الدعاية غير المقبولة، تراجع كثيراً وانقطع في أواخر سنوات الحصار الدولي الجائر، وبقي إسماً بلا عنوان وشكلاً بلا روح ( وإن جرت محاولات أخيرة لاحيائه)، وكذلك تراجع مهرجان جرش لأسباب أخرى إدارية وفنية، كما تراجعت محاولات إقامة مهرجانات في بعض البلدان العربية، لكن مهرجان أصيلة ومهرجان الجنادرية ظلاّ قائمين ويستقطبان سنوياً نخباً متميزة من المثقفين في أجواء تتسم بالاحترام والحرية والتنوع والحوار البناء. إن الاشكالية الاساسية تتعلق بتشابك وتعقّد موضوع الثقافة أساساً لاسيما إداراتها، فإذا كانت الحكومات في المجتمعات المتقدمة تخلّت طوعياً عن إدارة الشؤون الثقافية وأوكلتها الى السلطات المحلية في المدينة والحي، الأمر الذي أتاح مقاربات متنوعة ومتعددة، وخلق شراكات بين الفاعل الثقافي الخاص، والفاعل العمومي العام، وهو الأمر الذي ما تزال أوضاعنا الثقافية العربية تفتقر اليه، حيث ما تزال الثقافة تابعة للسلطات ويدير شؤونها أحياناً من لا علاقة له بالثقافة. إن من يمسك بميزان الثقافة ومن بيده السلطة لكي يقرر الفعل الثقافي، قبولاً أو رفضاً، يتداخل في أوضاعنا العربية مع عناصر عديدة وأطراف مختلفة، حيث تتحكم به أحياناً املاءات سياسية وآيديولوجية وتوجهات دينية وغير ذلك. لقد شهدت حقبة الحرب الباردة حساسية شديدة للاصطفاف السياسي، لاسيما من خلال الصراع الآيديولوجي واستقطابات وأنشطة وأحكام جاهزة وتصنيفات مسبقة بحيث جعلت المهرجانات الثقافية وسيلة من وسائل الصراع، للتعريف بما لدى هذا المعسكر من مزايا وإيجابيات، وتسفيه وتحقير ما لدى المعسكر الآخر، خصوصاً وأن جهات رسمية كانت تقف خلف تلك المهرجانات، التي وجدت انعكاساتها لدى بعض البلدان العربية،حيث وصلت الى السلطة فيها بعض النخب عبر الانقلابات العسكرية، كما تمترست أنظمة تقليدية بخطاب محافظ. ورغم احتراز المثقف إزاء الانخراط في بعض المشاريع والفعاليات الرسمية، خوفاً من احتسابه سياسياً على ملاك هذا النظام أو ذاك أو هذه المجموعة أو تلك، فإن مثل هذه الحدود تلاشت الى درجة كبيرة، بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، وسيادة قيم الحرية والتعددية والتنوع الثقافي واحترام حقوق الانسان، الأمر الذي وجدت فيه المهرجانات الثقافية العربية القائمة، لا مندوحة الاّ بالأخذ بنظر الاعتبار هذه التطورات، والانفتاح على المثقفين من جميع الاتجاهات الفكرية والسياسية. وأظن أن النخب التي شاركت في مهرجان أصيلة وفي مهرجان الجنادرية في السنوات العشرين الأخيرة، عكست التنوع والاختلاف والمدارس المتعددة فكرياً وسياسياً، ناهيكم عن أصولها ومنطلقاتها. لقد شكلت فترة العقدين الماضيين مخاضات جديدة وتجاذبات مختلفة بالنسبة للجهات المنظمة ولجهات المثقفين والمبدعين، فلم يعد الاصطفاف الآيديولوجي المسبق هو العامل الحاسم، وارتفع وزن العامل الابداعي وقيم الحرية والحوار وحق الاختلاف واحترام حقوق الانسان، بحيث طغى على الانحيازات المسبقة. وقد يكون ذلك في جزء منه عقّد مهمة المثقف، إذ كا الاصطفاف أمراً سهلاً، لكنه كان صعباً في فحص المعايير الابداعية، خصوصاً في ظل غلبة السياسي وتحكّمه، لاسيما البيروقراطيات الحزبية أو الحكومية، التي شكّلت كابحاً بوجه المثقف وتطلعاته، وأحلامه وخيالاته ورؤيته للجمال والحياة، ناهيكم عن نظرتها القاصرة للثقافة والمثقفين. أعتقد أن غياب بيئة تشريعية مناسبة، فضلاً عن أن البيئة التعليمية والتربوية، بما فيها المؤسسات الجامعية، ما تزال قاصرة، خصوصاً في ظل تفشي الأمية، التي تنتشر في العالم العربي لتصل الى أعلى النسب العالمية، حيث ما يزال يوجد فيه أكثر من 71 مليون أمي، إضافة الى استشراء الفقر والمرض والتخلف، وهذه كلّها معوّقات أمام الثقافة والتنمية، وأمام بيئة ثقافية تحييها مهرجانات ثقافية للعمل والابداع. ان كل ذلك يجعل العالم العربي أقل من غيره بكثير في استقبال الثقافة، وحسب تقديرات مؤسسة الفكر العربي، فإن المواطن العربي لا يقرأ سنوياً أكثر من ربع صفحة، في حين أنه في الولايات المتحدة يقرأ ما لا يقل عن عشرة كتب وفي اسرائيل عدونا نحو 6 كتب. وقد كشفت تقارير التنمية البشرية عن الهوّة السحيقة بين عالمنا العربي وبين العالم المتحضر، الأمر الذي يعيق التنمية ويضع عراقيل كونكريتية أمامها، فاستمرار شح المعرفة والنقص الفادح في الحريات، لاسيما حرية التعبير، واستمرار عدم الاعتراف بحقوق المرأة وتهميشها، وعدم الاعتراف بالتنوع الثقافي في مجتمعات متعددة، كل ذلك يعود سلباً على مستوى الثقافة ومنتوجها، فضلاً على مهرجاناتها، التي تظل محدودة التأثير ومحصورة بالنخب أو بقليل منها. إذا كان مهرجانا أصيلة والجنادرية قد نجحا، فلأنهما امتلكا إدارة وتخطيط وتنظيم وتنفيذ وتقويم (لمراجعة أدائهما) خصوصاً بتحديد الأهداف والوسائل وتوصيف مناهج العمل وتوّقع النتائج، والأكثر من ذلك أنهما رغم ما تطمح اليه القوى المنظمة من ترويج لبعض النجاحات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لكنهما لم يكونا مؤدلجان، وقد كبر فيهما منسوب الحوار والجدل، لاسيما في السنوات العشر الأخيرة، التي شهدت نقاشات لعدد من كبار المثقفين العرب، بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والسياسية. أعتقد أنه آن الأوان لإعادة النظر بالفعل الثقافي والابداعي، بما يعطيه حقه وبما يوفر له الفرص المناسبة لانتشار الثقافة وتعميق الوعي الثقافي، وعندما تصبح الثقافة حاجة ضرورية وماسّة، عندها تكون التنمية قد دخلت مرحلة عليا من مراحل تطورها بالارتباط مع الحلقات الأخرى. لا يكفي اليوم أن تكون وزارات الثقافة العربية، حارسة للثقافة وولية أمر المثقفين، وإذا ما أخذنا حساسية المثقف، فإن الرسالة الآيديولوجية في الكثير من الأحيان ستكون عكسية وتبرز هناك ممانعات علنية ومستترة، إذ لا يمكنلجهاز غير مستقل أن يتولى إدارة شؤون الثقافة والمثقفين. وفي بعض الأحيان اعتبرت بعض المهرجانات تابعة لوزارات الاعلام وألحقت الثقافة لها في ظل عقلية متحكمة، تنظر هي قبل غيرها الى مرفق الثقافة، باعتباره جزء بسيط ومحدود من سياسة الحكومة، التي غالباً ما تجعل تخصيصات الثقافة ضئيلة قياساً الى الكثير من المرافق. إن تراجع مشاريع التحديث الثقافي وتنامي ظاهرة التبشير الآيديولوجي، لاسيما الديني ، أدى الى انتشار التطرف والتعصب والغلو واستخدام العنف والارهاب وسيلة لحل الخلافات السياسية وغير سياسية. وإذا كانت المهرجانات الثقافية العربية غير قادرة على حل أزمة الثقافة وإعادة النظر بدور المثقفين، فلعلها تسهم في فتح الحوار حولها، وهو حوار مفتوح ومطروح منذ أكثر من عقدين من الزمان، الأمر الذي يحتاج الى الى معالجات جادة واستثنائية، فمظاهر الأزمة تتجلى في تهميس المثقف ومحاولة إلحاقه بالسلطة أو اعتباره عدواً وخصماً لها، فضلاً عن ذلك فإن تراجع الاتجاهات العقلانية، أدى الى ارتفاع موجة التطرف الديني والتخندق المذهبي، وبالمقابل سادت الروح الديماغوجية والتضليلية الدعائية وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتحريم وتجريم الآخر، والتشبث بالماضي هروباً من استحقاقات الحاضر. لقد كان للثقافة الاستهلاكية وتدني مستوى التعليم وسيادة أشكال من الفن الهابط، إضافة الى استفحال الصراعات الاثنية والطائفية والمذهبية وتهميش المرؤأة نصف المجتمع وعدم الاعتراف بحقوق وثقافات الجماعات الثاقفية والقومية والدينية والسلالية، الأمر الذي أدى الى نكوص ثقافات التنوير والعقلانية، ودفع الامور باتجاهات ضيقة وتصادمية. لقد غاب المثقف العضوي حسب تعبير انطونيو غرامشي، وهو المثقف الذي عرفناه في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، باعتباره ملتحماً بقضايا شعبه، الأمر الذي كان نتاجاً للهيمنة والاقصاء والتهميش التي تعرّض لها، وهو ما دفعه الى العزلة، خصوصاً في ظل ضيق الحريات وتفتيش الضمائر والملاحقة، حيث اضطر في الكثير من الأحيان الى اختيار المنفى طريقاً للخلاص من جهة، ولمعاودة ورفد ابداعه ونتاجه في أجواء من الحرية غير متوفرة موضوعياً في العديد من البلدان العربية. أن المهرجانات يمكن أن توفر مكاناً للحوار الجاد بين النخب الفكرية والسياسية والدينية، وبينها وبين السلطات، خصوصاً إذا ما اكتسبت قيمة نقدية وجمالية بعيداً عن الارهاب الفكري والتحريم والتجريم. وأظن من واجب ومسؤولية القائمين على المهرجانات وشؤون الثقافة العمل على تجسير الفجوة بين النخب بعضها البعض، ومعها ومع الحكومات، وفتح حوارات ثقافية وفكرية معرفية وجادة حول مستقبل الثقافة العربية والسبل للخروج من أزمتها، ولن يتم ذلك الاّ باحترام الانتاج الفكري والفلسفي والابداعي وتوسيع دائرة الحريات، لاسيما حرية التعبير، وتعزيز روح الثقة والأمل والحضور بوجه ثقافات اليأس والقنوط والعولة، ولن يتم ذلك الاّ بالانفتاح على الثقافات الاخرى، سواءً التنوع الثقافي واللغوي والسلالي والديني في عالمنا العربي أو على ثقافات الغير، لتعزيز الحوار والتبادل والتفاعل الثقافي، ودون ذلك لا يمكن الحديث عن خصوصية ثقافية أو أمن ثقافي، فالانغلاق والتقوقع لا علاقة لهما بالهوية، التي تتعمق وتعتني بالانفتاح والتواصل مع الثقافات الاخرى، تأثراً وتأثيراً. وإذا كانت المهرجانات الثقافية العربية بحاجة الى المزيد من الموارد لتوسيع دائرتها وخلق أجواء مناسبة لتهيئة كل مستلزمات نجاحها بجميع جوانبه، فإن المال وحده لا ينتج ثقافة، مثلما المهرجان وحده لن ينتج مثقفاً، لكن هذه العوامل جميعها تنتج ثقافة، التي هي أساس التنمية والحاضن لها، والثقافة بلا أدنى شك قيمة عليا وثروة كبرى.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن النقد والمراجعة الفكرية
-
هل لا تزال الماركسية ضرورية؟
-
حين يرحل المفكر مطمئناً
-
أسئلة التنوع الثقافي
-
استحقاقات برسم تسليم الحكومة العراقية الجديدة
-
الاغتيال السياسي : مقاربة سسيو ثقافية حقوقية
-
سلطة العقل.. السيد فضل الله حضور عند الرحيل!
-
الثقافة والتغيير
-
ظلال غورباتشوف في صورة أوباما الأفغانية
-
النيل والأمن المائي
-
الانتخابات ومستقبل العراق!
-
الأزمة الكونية وحلم التنمية
-
5 رافعات للتسامح
-
هل تستقيم المواطنة مع الفقر؟!
-
الثقافة والتربية.. لا حقوق دون رقابة
-
قرصنة وقانون: أليست كوميديا سوداء؟
-
مسيحيو العراق: الجزية أو المجهول!
-
الطائفة والطائفية: المواطنة والهوية!!
-
العروبة والهوية والثقافية
-
حكاية تعذيب!
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|