التوجهات العامة للتعليم الديني في لبنان، وفي أي مكان، مبنية، دون شك، على الفكر الديني الذي تربى المعلم عليه وتبناه. وما أعكسه في هذه المقالة عن التعليم الديني، مبني على مفهومي الشخصي للدين وقناعاتي الدينية والعلمية.
يعلم جميع المتعاطين شأن التعليم الديني في لبنان، أن هذا الموضوع يعيش، في الوقت الراهن، حالاً من التوتر الشديد بين قطبين: واحد يتحفظ حياله فيأخذ منه موقفاً سلبياً لكونه ممراً سهلا للفكر الاصولي، وآخر يتحفظ لاستبعاده خوفاً من إعطاء جواز مرور للفكر العلماني في الثقافة والاقتصاد، بل والسياسة العامة في لبنان.
لذلك، ولكي أكون مفهوماً وواضحاً ومحدداً، أبدأ بشرح مفهومي الشخصي لهذه المصطلحات المستعملة.
أصولية - علمانية - دين
.1 الأصولية:
إن المعنى الذي استعملت به هذه الكلمة في الادبيات الاعلامية طغى على نحتها اللغوي. ولئلا أقع في مغبة إلقاء اللوم على الاعلام، أظن ان الذين تلونوا بتسمية "أصوليين" اعتمدوا مفاهيم سلوكية خاصة طبقوها حيال ما ومن يختلف عنهم، الامر الذي دفع أهل الفكر والادب والاعلام الى اعتماد التفاسير السلبية لهذه التسمية.
الجذر هو "أصل"، الجمع أصول. النسبة تطبق على المفرد، فتصبح "أصلي" وجمعها أصليون بمعنى "منتمون الى الاصل". اما مصطلح "أصوليون"، فأتى كلمة عربية نحتت لتفسير المصطلح الأجنبي Fundamentalists.
وبناء على هذا التحليل اللغوي فإن كلمة "أصولية" كلمة نبيلة، إذ لها دلالة الانتماء أو العودة الى الاصول والجذور والمصادر الاولى، او استحضار الاصول الى الحاضر، وهذا عمل شريف. لكن، وفي عصر قوة الاعلام المُستقوي على القلم، سيطر المفهوم السلبي على العلم الأصيل.
لم يعطِ الاعلام مبرراً لتبنيه الدلالات السلبية. وباجتهادي الشخصي، أرى أن جملة من الاعمال السلبية، قد صدرت عن جماعة ادعت العودة بالدين الى جذوره وصفائه، بينما كانت عودة الجماعة، في الحقيقة الى السلف متبنية مفاهيمه وسلوكياته، بعد إخراجها من الزمان والمكان، ودون فحص مدى ملاءمتها الوضع الراهن. وقد ركّز الاعلام على هذه الظاهرة ووصفها بـ"الأصولية". وبهذا تصبح الاصولية، بالمعنى المسيطر وعملياً، لا عودة الى صفاء الدين من حيث هو قيم خير وفضيلة وحق، بل عودة الى السلف بعد إحيائه وجعله مٌقدساً وتنصيبه حكماً في ما يفعل الأحفاد اليوم.
بناء على ما تقدم، فالأصولية التي أعنيها هي:
.1 تقييد الحاضر بالتقليد "المقدس". وكل ما عتُق في مجتمعنا الشرقي اصبح مقدسا. ألا نجعل كل من يموت بطلا؟ انها تبني مواقف السلف او الآباء او التقليد دون سؤال العقل اذا كانت هذه المواقف تناسب حاضرنا.
.2 تحجّر الفكر بعد ان سُكب في قالب المقبول من السلف حين نُصّب هذا الأخير حكماً في أمور الدين والدنيا وأوليَ أمر السلطة الحاكمة التي تأمر وتنهي، تحل وتربط.
.3 حصر الحق في حدود المقبول من السلطة/السلف وفي باطن الأنا.
.4 ادعاء امتلاك الحقيقة، كل الحقيقة، وما هو مختلف عنها هو غير الحقيقة.
.5 استبعاد الآخر من دائرة الأنا فأنا في دائرة الحقيقة، اما هو، المختلف، ففي دائرة الباطل.
.6 تحديد العلاقات في حدود من هم في دائرة حقيقتي، ومقاطعة من هم في دائرة حقيقتهم، وقد تكون هذه المقاطعة الغاء معنوياً ومادياً وربما وجودياً.
وهذه الاصولية قد تكون مسيحية، او اسلامية، او ثقافية، او اجتماعية.
.2 العلمانية:
كما في حال الاصولية، فقد شُوهت هذه الكلمة في الاستعمال وأعطيت مفاهيم متناقضة، لكنها متفقة على معاداة الدين. لذلك اصبحت تثير حساسية رجال الدين والمؤمنين وكل الذين يتعاطون الشأن الديني.
وُضعت كلمة "علمانية" بادىء ذي بدء اواسط القرن التاسع عشر ترجمة لكلمة Laisme بالفرنسية Secularism، وشاع استعمالها، حتى في اهم القواميس بكسر العين وذلك بسبب نسبتها الى علم، وهذا خطأ فاحش لأن الاصل اللاتيني، المبني على الكلمة اليونانية (Laos)، نسبها الى شعب او عالم بمعنى الدنيوي. وتصبح القراءة الصحيحة هي بفتح العين. كان استعمالها في الغرب ردة فعل شعبية حيال ظلم المؤسسة الدينية، فاتصف بها جميع الحاقدين على الديني والمطالبين بإبعاده عن الدنيوي بعد ان كان الديني، لعصور خلت، هو المسيطر الرئيس على الدنيوي والمتحكم بأمور العباد، حتى ولو لم تكن دينية، دون ان يأخذ إذنهم او يسألهم رأيهم في الموضوع.
أعرف العلمانية سلباً كالآتي:
.1 ليست العلمانية مرادفا للإلحاد، ولا تهدف الى التقليل من شأن الدين في حياة الانسان، ولا تعني تصغير الفكر الديني او تحقيره.
.2 ليست العلمانية فصل الحياة الدينية عن الحياة المدنية، في تكوين الانسان الواحد، او حتى في ادائه الحياتي.
.3 ليست العلمانية بالضرورة هي الدنيوي المعادي للدين، او النقيض الدائم له، أو المنافس له أو الساعي الى تحرير المؤمنين منه.
.4 ليست العلمانية تأليه العقل باتباع العلم والبرهان الحسي، وبنبذ الدين والبينة الغيبية.
.5 ليست العلمانية فكراً او فلسفة متحركة في دائرة العلوم البحتة التي تحكم العقل في الشؤون اللاهوتية، كالايمان والوحي والنبوة.
ونعرف العلمانية إيجاباً كالآتي:
.1 العلمانية دينامية متحركة في دائرة العالم، وهي تحكم بشؤونه الانسانية والادارية لجهة التدبير والتشريع.
.2 العلمانية "علم العالمية"، هي الولوج الى عالم العالم، من اجل تدبير شؤون عناصره، وعلى رأسها الانسان.
.3 العلمانية بالمطلق نظرة شمولية الى العالم وشؤونه، ولهذا العالم كيان ومقومات وابعاد وقيم، مقارنة بالدين الذي له أيضاً كيان ومقومات وابعاد وقيم. ولهذا الكيان بجميع مقوماته الحق بأن يوجد في حال استقلال عن الكيان الديني مع جميع مقوماته، كما ان لهذا الأخير الحق بأن يوجد في حال استقلال عن الكيان الاول. ان اهم ما في هذا المفهوم كلمة "استقلال". فاستقلال العالم عن الدين ليس انفصالاً للعالم عن الدين، بل وجوده مع جميع مقوماته جنبا الى جنب مع الدين انما لكل من الوجودين نظام مستقل: نظام للديني وآخر للدنيوي.
.4 للعالم قيمته الذاتية ونظامه الذاتي، وللدين قيمته الذاتية ونظامه الذاتي. وكما ان الدين لا يخضع للعالم وقيمته الذاتية وقوانينه، كذلك فإن العالم لا يخضع للدين وقيمته الذاتية وقوانينه.ويكون للدين والعالم، الحائزين على الاستقلال، مساحات مشتركة و/أو متكاملة للاهتمام بالانسان، رأس خليقة الله، وأعلى قيمة وجودية في العالم المادي.
.5 يجب ان يسود هذه العلاقة، احترام متبادل وتقدير وتعاون وتفاعل واغناء وتنسيق كل ما يريانه مفيدا لهما وللانسان الذي يخدمانه. فالانسان هو الغرض، وهو نقطة التلاقي، وهو الخادم والمخدوم.
ان للعلاقة الناشئة بين الديني والدنيوي ثماراً متنوعة لجهة تفاعل الاثنين في الفرد، لذلك يتولد في هذه العلاقة ثلاثة أنواع من البشر:
.1 العلمانيون المحايدون ايجابيا، الذين هم على علاقة مع ما يهتمون به من المقومات والابعاد والقيم الدينية. ولطالما شكلت هذه قاسماً مشتركاً مع مفاهيمهم العلمانية، دون ان ينتموا الى الدين او ذاك، او يتلوّنوا به.
.2 العلمانيون المحايدون سلبيا، لا يوجد أي رابط يجمعهم مع الدين، قد يكونون ملحدين او لا أدريين، يلزمون حدودهم حيال الدين ويكنّون له الاحترام والتقدير اذا لزم الدين حدوده محترماً فكرهم واختيارهم، وينتقدون الدين اذا هوجموا منه.
.3 العلمانيون المؤمنون، الذين يعيشون، في الوقت ذاته، الدين وقيَمَهُ، والعالم الزمني وقيمه، مميزين بين الجانبين وغير خائفين من تفاعلهما، ومن دون مزج بينهما او سيطرة احدهما على الآخر.
استبق الخلاصة لأقول، إنني اتوق الى تعليم ديني يأخذ في الاعتبار واقع الانسان العلماني، المتعاطي شؤون هذا العالم، مهما يكن موقفه من الدين ضمن الأطر الثلاثة المذكورة.
.3 الدين:
الدين ظاهرة، ككل الظواهر، قابلة للتحليل بإخضاعه لمنهجية العلوم الانسانية والاجتماعية بما فيها الفلسفة وعلم الإلهيات. ومناهج التحليل الدينية عديدة، أهمها:
.1 المنهج السيكولوجي، وهو يتناول تحليل البنى النفسية والدوافع والتصرفات والمواقف والتصورات من حيث انها جميعا يحكمها الايمان بالله والانتماء الى الجماعة الدينية.
.2 المنهج السوسيولوجي ويتناول تحليل التصورات الجماعية والانماط السلوكية ومجموعة الفرائض والمؤسسات الدينية وعلاقتها بعضها بالبعض الآخر.
.3 المنهج التاريخي وموضوعه نشأة الدين وتطوره في التاريخ، مراحل بلوغه، انتعاشه وانحطاطه، وذلك في اطار الحياة الدينية وبالمقارنة بين الاديان.
.4 المنهج الظواهري، وهو يقوم بتحليل للممارسة الدينية واشكال التعبير عن الغائية الدينية.
.5 المنهج الفلسفي، الذي يسأل عما هو حقيقي وجوهري في الدين، بعد ان تُزال عنه كل القشور والتراكمات العالقة به في مسيرته الاجتماعية والحضارية عبر الزمن.
ان عناصر كل دين هي: الاله والايمان والعقيدة والطقس.
الإله هو المحور الذي تدور حوله العملية الدينية بشموليتها.
والايمان هو التوجه نحو المطلق بالوجدان والممارسة، والمطلق هو الإله، الذي هو الله في الديانات السماوية.
اما العقيدة فهي النظريات المتعلقة بأمور الاله: قِيمه والسلوكيات التي ترضيه، وما "يعقُد" الانسان الى هذا الاله.
اما الطقس فهو الممارسة والفرائض التي بها تتحول العقيدة الى مسلك لكي تتجسد في الانسان العابد قِيَمُ الاله المعبود.
تتعلق عناصر الدين جميعها، من جهة، بغير المنظور وغير المحسوس، اي بالغيب، (مساحة الديني) ومن جهة اخرى، بالمادة والعالم المحسوس (مساحة الدنيوي). وكل ما يُعبِّر عن عناصر الدين هذه لشرحها، وما يخرج عنها لعيشها، متعلق بالعلوم الانسانية اي بالثقافة. فالدين هو الكيان الروحي والمعنوي، والثقافة هي التعبير عن هذا الكيان اللامادي في علم المادة. نستنتج من هنا ان الدين والثقافة توأمان.
وبما ان الايمان هو وسيلة التوجه نحو المطلق، وبما ان الانسان، تحت ضغط اناسته (طبيعته كإنسان)، متوجه طبيعيا نحو المطلق، لذلك لا يوجد انسان بلا ايمان، حتى ولو كان انسانا علمانيا حيادياً سلبياً، يعيش في عالمه حال استقلال عن الدين. اذ الحصيلة الاولى التي اريد ان اشدد عليها هي ان لا يوجد انسان دون ايمان.
يجب ان نفرّق بين الدين كإله وإيمان وعقيدة وطقس، كما حددناه، والدين كمؤسسة دينية، وهذه هي الكيان الدنيوي الذي يحتوي هذا الدين. ولهذا الكيان مصالح دنيوية، آنية ومستقبلية، يحاول ان يحظى بها، فيدخل في علاقة تنافسية، او في صدام مع الكيانات الاخرى. وهنا تضيع القيم الجوهرية للدين وراء ستار حديدي، الا وهو اطار المؤسسة الدينية، ويدخل الدين، دون ان يدري ودون ان يشاء، في دائرة المؤسسة الدينية.
نعود الى الدين المتجسد بالايمان في القلوب، والمعبر عن نفسه بواسطة العلوم الانسانية. قلنا ان الدين والثقافة توأمان، ويمكننا القول ان الدين امر روحي ثقافي، والتثقف بهذا المعنى هو شيء من التدين. وبما ان الثقافة تتبع الدنيوي، فيصبح الدنيوي وسيلة تعبيرية عن الديني وتضحي الثقافة القاسم المشترك بين الاثنين.
كل دارس لتاريخ الحضارات يعرف ان الثقافة الانسانية نشأت وترعرعت في الدين، وانتقلت منه الى المؤسسة الدينية التي احتوتها واستوعبتها بل ووجهتها، بحجة خدمة الدين. لكن ظهر في ما بعد ان تكييف المؤسسة الدينية للثقافة هو من اجل خدمة نفسها. وهكذا يخبرنا تاريخ الاديان عن استبعاد بعض العلوم او وضعها في حدود ضيقة من جانب بعض المؤسسات الدينية.
لقد مرت علاقة الدين والثقافة باطوار مختلفة:
المرحلة الاولى، وكانت مرحلة الانسجام، حين ترعرعت الثقافة في احضان الدين ثم خرجت منه الى العالم. وكان الدين في هذه المرحلة هو الموجه للثقافة.
المرحلة الثانية، مرحلة التباعد، بعد ان اكتشفت العلوم البحتة وبرز المقياس العلمي لكل النظريات، فتبين ان ثقافة المؤسسة الدينية، المبنية على تفسير ضيق للنص المقدس، مغلوطة.
المرحلة الثالثة، مرحلة الخصومة، بدل ان تصحح المؤسسة الدينية موقفها حيال النظريات الحديثة، تمسكت بموقفها، رافضة كل ما لم يمر في مصفاة النص المقدس كما تفسره هي، فألقت حرما على العلماء وولدت حال العداء.
المرحلة الرابعة، مرحلة المصالحة، وهي التسليم باستقلال الديني عن الدنيوي، وترك كل كيان ينمو على حدة بانسجام لجهة الامور المشتركة، وبحرية لجهة خصوصية كل كيان، عندما حصر تأويل النص المقدس بالأمور الروحية وأعطي العلماء والمفكرون هامشاً كبيراً من الحرية لاكتشاف العلوم.
للبعض، نحن نعيش مرحلة صدام بين الدين والثقافة. وفي هذه المرحلة، يتهم الدين الثقافة بتثقيلها العقل وتحريضه على الدين، وتتهم الثقافة الدين بانه تحول الى اساطير وممارسات سحرية. ولأن الثقافة الحديثة تميل الى للانتماء الى العالم او الدنيوي، لذلك صارت العلمانية، في نظر الدين امرا مخيفا.
السؤال المطروح هو: هل نستطيع ان نؤسس لتعليم ديني ينتمي الى الدين والثقافة في آن واحد؟ عندئذ سيساعد هذا التعليم الديني على توقيع "معاهدة صلح" بين الدين والثقافة، بين الديني والدنيوي، بين الاصالة الدينية والعلمانية المتأنسنة.
تعليم ديني يُغذي الاصولية
علمنا الاختبار البشري ان كل قديم مقدس. وبما ان القديم تيبس وتحجر ووقف حيث هو حين اصبح قديما، فانه لا يُحاوره اما ان تقبله كما هو او ترفضه، وبما انه مقدس فرفضه مخيف. انه الردة، لا بل انه الالحاد.
كل تعليم ديني يتمحور حول القديم او السلف او الاصل، دون ان يحاكم السلف على ضوء العلوم المتراكمة والظروف المستجدة ، هو تعليم ديني ينمي الذهن الاصولي، يحاول فيه المعلم ان يجعل من المتعلم بطلا مدافعا عن التاريخ، وعلة الكيان والقاعدة التي قام عليها هذا الكيان.
كل تعليم ديني يتحدد بالممارسات الدينية (الطقوس) والتدرب عليها دون سؤالها عن معناها وماهيتها وجدواها هو تعليم ديني ينمي الاصولية، لأن الطقوس والفرائض هي التي تشكل الخصوصية في كل دين، وتصبح مع الوقت الشعار الذي يختبىء وراءه كل متعصب وخائف ومهاجم. واذا صوّر استاذ التعليم الديني بأن هذا الجزء من الدين هو كل الدين، بل الدين بالمطلق، يكون المتعلم في طور الانغلاق في الخصوصية والانعزال عن العمومية، والمختبىء وراء شعارات لا يعرف معناها ولا يستفيد منها. علما بان الطقوس ليست ضروباً من السحر كما يصفها بعض المتطفلين على العلوم الدينية. هي، من جهة، رموز لها معان سامية وعميقة، ومن جهة اخرى، وسيلة لاستنزال نعمة الاله (وسائل نعمة) او لتأصيل اخلاقية الاله في حياة العابد.
ان كل تعليم ديني يتمحور حول المؤسسة الدينية في تاريخها، وإنجازاتها وأهمية دورها، هو رحلة نحو الاصولية. ذلك ان المعلم يهيئ للمتعلم مناخا صالحا لكي يفهم لأن الظاهرة الدينية المطلقة بدأت مع بداية المؤسسة، وتجسمت بشكل المؤسسة وتنعدم اذا ما انتهت المؤسسة.
نحو تعليم ديني مدرسي معتدل
التعليم الديني المعتدل الذي نعنيه ونعتبره معتدلا ونافعاً وضرورياً، هو تعليم الدين بأصالته وليس بأصوليته، بقيَمه الالهية لخدمة القيم الانسانية، باحترام الخير والحق والجمال لما فيه سعادة الانسان واستقرار مجتمعه.
في رأينا، ان التعليم الديني المعتدل يجب ان يأخذ في الاعتبار، بالاضافة الى ما سبق، الامور الآتية:
.1 فصل موضوع السلطة في ذهن الطالب، والتمييز بين سلطتيين: للقوانين المدنية سلطة عليه في ما يتعلق "بعالم الوطن" اي الدولة، وللدين سلطة اخرى متميزة، هو يضع نفسه تحتها طائعاً مختاراً. وهذه السلطة الدينية التي ينضوي تحت لوائها تحكم في ما يتعلق بالامور الدينية. من المهم جداً عدم تغليب اي من السلطتين على الاخرى، فهما ليستا متنافستين بل هما متكاملتان من اجل تأمين شخصية معتدلة داخل الطالب.
.2 التثقف بالدين، استعمال وسائل العلوم الانسانية لشرح الظاهرة الدينية، ودرس الثيولوجيا بالمقارنة بينها وبين العلوم الاخرى. مع الاعتراف بأن العقل لا يستطيع ان يكون حكما في امور الغيب التي تحتاج الى الايمان.
.3 عدم التركيز على المؤسسة الدينية. لان هذا سيؤول حتماً الى زرع روح المنافسة والخوف على المؤسسة، وحماية حقوقها في ذهن الطالب.
.4 عدم التركيز على المسيرة التاريخية للدين، وخصوصا على الحقبات التي دخل فيها هذا الدين في صدام مع الديانات الاخرى او الكيانات الاخرى المدنية.
.5 تأوين الفكر الديني، وهذا نقل الجوهر الديني من قالبه القديم الذي ولد وترعرع فيه، ووضعه في القالب الزمني الحديث الذي عليه ان يواجهه، مع الاخذ بالحسبان المتغيرات الطارئة.
.6 التثقف بالديانات الاخرى، بطريقة موضوعية، وليس باستعمال ادبيات او توجهات هجومية او دفاعية.
.7 التوقف عند الامور المشتركة بين كل الديانات، وخصوصا تلك المتجاورة، والمطلوب منها ان تتعايش.
.8 التركيز على الجوهر الديني الكامن وراء العقائد والممارسات. فما هذه الا وسائل نصل بها الى الغاية: التعبير عن إيماننا او تأصيل القيم الالهية والاخلاق في العابد، والغاية اهم من الوسيلة.
.9 اعداد مدرس دين مثقف، ومعرفته الدينية ترتكز على كم وفير من العلوم الانسانية العقلانية، اي الفلسفة، التاريخ والآثار، الحضارات، علم الاجتماع، تاريخ الاديان وغيرها.
.10 الابقاء على مكان للآخر في ذهن الطالب والتشديد على أن "الأنا" ناقصة بدون "الأنت" و"الهو"، وجميعنا نشكل كلا له الحق بمقدرات الخليقة.
.11 تعليم الحرية الفردية وحقوق الانسان مع التنبيه الى حدود الحرية.
.12 تعليم العقد الاجتماعي لجان جاك روسو: كلما ازداد الشركاء، قلت الحرية الفردية.
.13 تدريس منهج التعددية الطائفية، والتعددية العرقية، والتعددية الثقافية لأنها كلها من سمات العصر الحديث. فالعالم متجه الى اختلاط وتفاعل حضاري.
.14 الانطلاق، في كل ما تقدم، على أساس ان اخلاق الانسان، لا تكمن في "النص المقدس" فقط، انما في انسانية الانسان. فالكائن البشري كائن اخلاقي بتركيبته الانسانية. والعكس في بعض الاحيان صحيح، يُخضع النص المقدس لتأويلات ضيقة فتزول معه السلوكية الخلقية. لذلك يجب ان تتدخل العلوم الانسانية لتضع الحدود اللازمة لهذه التأويلات "اللاأخلاقية" حتى تعيد للمجتمع أخلاقيته.
الخلاصة:
المطلوب هو العمل على اعداد منهاج للتعليم الديني يتحاشى الاصولية كما حددناها، ويقترب من الاصالة "الاصيلية" في الدين، ويتحاشى العلمانية المصورة كمنافس للدين والمحذر منه، ويقترب من العلمانية الدينية التي تسلم بوجود الدين في العالم وان للعالم قيما وكيانا وان على الدين، اي دين، ان يحترم قيم العالم. ان تعليماً دينياً كهذا الذي وصفناه قادر على اعداد جيل متحرر من الخرافات، يختار انتماءه وممارسته بعقلانية وقناعة، منفتح على الآخر بل ومثقف بثقافة الآخر. وفي مجتمع متعدد الانتماءات الدينية والاتجاهات الفكرية، اذا اعطيت الفرصة لابناء المجتمع ان يتعرفوا على بعضهم البعض، وعلى ديانات بعضهم البعض وتراثات بعضهم البعض، فسيجدون في كل تراث أصالة، وسيزيد احترام الافراد لبعضهم البعض، واحترام مقدساتهم المتنوعة.
نحن لا ننادي بمجتمع علماني بمفهوم بعض المدارس الغربية التي تنادي بتحرير كل النصوص القانونية والاعلانات والادبيات الانسانية من أي توجه او اقتباس او منحى ديني فكما ان الانسان كائن اخلاقي، كذلك فهو كائن متدين بالفطرة.
* محاضرة القيت في معهد الدراسات الاسلامية المسيحية في جامعة القديس يوسف - حلقة التعليم الديني.
** امين عام رابطة الكنائس الانجيلية |