|
أرض الميّت - 5
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 3063 - 2010 / 7 / 14 - 16:31
المحور:
الادب والفن
[الفصل الثاني]
تلك الحقبة بالتحديد هي التي خرج فيها الأفندي عبد الشافي خليل، أحد القلائل الذين نزحوا باكراً إلى الخرطوم ليعملوا مع الإنكليز والمصريين إبان الحكم الثنائي في السودان. عبد الشافي خليل الذي عمل في وقتٍ لاحق غفيراً في كلية غاردون التذكارية بعد الانتهاء من عمليات بناء السكة الحديدية في السودان؛ كان قد استفاد كثيراً من تواجده قرب الكلية واطلع على العديد من الكتب والمخطوطات المتوفرة هناك، الأمر الذي ساعده في تحصيل معرفة لم تتأتى للكثيرين من أهالي أرض الميّت. أحدث عبد الشافي خليل ضجة في أرض الميّت لا تقلّ عما أحدثه جلال التمتام أثناء حياته أو حتى بعد موته؛ فهو أول من قال بأصول النوبة اليهودية، وطالب بالهجرة إلى إسرائيل، واعتبرها عودة إلى الجذور. ظلّ يحكي للناس عن أصول النوبيين اليهودية المنسية (بل المخفية عمداً) في كتب التاريخ والذاكرة الشعبية، وبينما يُرجع النوبيون أرومتهم إلى أصول مسيحية قامت على أنقاض الحضارة الـمَرَوية، حكى الأفندي عن أرومة يهودية بدأت منذ عهد نبي الله موشيه الذي يعني اسمه في العبرية (لقيط الماء)، وتم تحريف اسمه إلى موسى في الثقافة الإسلامية.
وعلى عكس ما يُشاع؛ فإن النوبة لم تتعرض لغزو الثقافة الإسلامية وسطوتها فحسب، بل تعرضّت –بحسب الأفندي- إلى غزو مسيحي كذلك أدى إلى طمس معالم الثقافة اليهودية التي ينتمي إليها النوبيون في الأصل؛ إذ يُرجع عبد الشافي النوبة إلى أصول إسرائيلية سكنت حوض النيل، وخضعت لسيطرة عماليق الفراعنة الذين استولوا على المُلك بعد وفاة نبي الله ييسب (أو يوسف) وانهيار دولته. وكان رمسيس الثاني (فرعون مصر آنذاك) قد رأى مآثر النوبة المتمثلة في العبقرية المعمارية من أضرحة ومعابد؛ فأجبرهم على بناء أضرحة أعظم منها له إمعاناً في إذلالهم. كما أُعجب بما لديهم من خبرة في الزراعة؛ فاستخدمهم لاستصلاح أراضي مملكته. أحد هؤلاء النوبيين رجل يُقال له موشيه أتاه الله النبوة، وأوعز إليه إخراج المستضعفين من النوبيين وعبر بهم البحر. وبعد هلاك رمسيس وجنوده في اليم عاد ثلّة منهم إلى مصر مرّة أخرى واستقروا بها. ومن الأقوال المأثورة عن عبد الشافي أنه فسّر شتات النوبة بالشتات المضروب على بني إسرائيل والسيحان في الأرض والذي جاء ذكره في القرآن؛ ولذا فإنه رأى أن خارطة إسرائيل التي يأملون في رسمها من منابع النيل إلى الفرات ليست من قبيل المصادفة أبداً.
تكلّم عبد الشافي عن خطط عالمية مدروسة تُحاك ضد الشعب اليهودي وثقافته التي أُعلنت عليه الحرب منذ حقب سحيقة: بدأت منذ الفترة المسيحية الجديدة بالسطو على الموروثات اليهودية المتمثلة في الثورة على الشريعة اليهودية على يد يسوع (اليهودي المتنصّل من يهوديته)، بما في ذلك الكتاب المقدّس الذي تم ضمّه إلى كتابات المسيحيين ونسبته إليهم فيما يُسمى بالعهد القديم، وإكماله بما سُمّي بالعهد الجديد الذي كتبه الحواريون في زمن لاحق من وفاة يسوع. إضافة إلى السطو على القصص والأساطير التي تمثل مجمل التراث اليهودي العالمي، وعملت هذه الحركات على تشويه صورة اليهودية واليهود سواء في المخيّلة الدينية للديانات التي ظهرت بعد ذلك، أو حتى في المخيلة الشعبية على السواء؛ فحاولت إظهارهم بأنهم شعب دموي لئيم وناكر للجميل وخائن للعهود والمواثيق.
ولم تتوقف عمليات السطو تلك حتى عندما تقلّص المد المسيحي في أوان الفتح الإسلامي، بل امتدت السرقات الأدبية؛ حتى انكب العرب على معين الأدب اليهودي وسطوا عليه أيضاً. ووصل إلينا مما ذكره عبد الشافي من سرقات العرب للموروث اليهودي: قصة علي بابا والأربعين حرامي التي سرقت حرفياً من كتب اليهود القديمة؛ إذ تميل الشعوب النوبية إلى إطلاق اسم (بابا) على أي امرأة تحمل اسم (فاطمة)، وحيث تنحدر الشعوب النوبية من بقايا مجتمعات أمومية قديمة، فإنها احتفظت بالكثير من خصائص تلك المجتمعات التي دأبت على نسبة الأبناء إلى أمهاتهم؛ وعليه فإنه زعم بأن (علي فاطمة) أو (علي بابا) شخصية نوبية يهودية الأصل سطا العرب على قصتها ضمن عشرات؛ بل مئات القصص اليهودية الأخرى التي سطوا عليها.
ومن عمليات السطو التي أخبر عنها عبد الشافي على الموروث اليهودي القديم تلك الحملات الدموية التي قامت بها الديانات السماوية اللاحقة ضد الأنثوية المقدّرة في اليهودية. وكيف أنها سعت في تعاليمها إلى نسف دور المرأة المقدّس الذي ظلّ طوال حقب سحيقة طويلة معتداً به في الديانات البشرية الأرضية من قبل. لم ير عبد الشافي اليهودية إلا كنسق عقدي متسق تماماً مع اتجاه فطري يُمجّد المرأة ويُعلي شأنها تماماً كما تعاهد النوبيون في الوقت الذي تمّ فيه امتهان المرأة في بقية الديانات اللاحقة عليها. وفي الوقت الذي تفخر فيه الشعوب النوبية بانتمائها الأمومي، فإن كثيراً من القبائل السودانية ذات الأصول العربية تعتبر البوح باسم الأم ضمن جرائم الشرف؛ إذ يخجلون من ذكر أسماء أمهاتهم وزوجاتهم، ويعتبرونها عورات لا يجوز الكشف عنها.
رأى عبد الشافي -الذي اعتبره أهالي القرية مجنوناً- أنّ الديانات اللاحقة على اليهودية سعت إلى تشويه التعاليم اليهودية، ونسبت إليها أوهامها المريضة؛ لاسيما تجاه المرأة. كما رأى أن هذه الديانات لم تأت بجديد يُذكر، إلاّ فيما اعتبره إعادة صياغة لما شملته موروثاتهم العقدية: بدء الخليقة، أنباء آدم وزوجه في الجنة، أنباء قابين وهابيل، أنباء الرسل من بعد، الطوفان، نهاية الخليقة. وتحدث عن سطو المسيحية والإسلام على العديد من المعتقدات الدينية لليهود، ونسبتها إليهم بعد إعادة صياغتها في قوالب جديدة؛ ومن ذلك: العقيدة الهرمجدونية التي تقضي بقيام حرب في آخر الزمان بين قوى الخير والشر، وكيف أن المسيحية اقتبست هذه العقيدة ونسبتها إليها، وكذلك فعل الإسلام، وعملتا على اتساق هذا المعتقد اليهودي مع التيار الفكري لكل من الديانتين. وأصبح الماشيح يُمثله يسوع في الثقافة المسيحية، والمهدي المنتظر في الثقافة الإسلامية.
ولم يزل عبد الشافي يُذكر أهالي القرية بتلك المآثر التي دخل عن طريقها الإسلام إلى النوبة، وكيف قاوم الأسلاف النوبيون (رماة الحدق) زحف الجيوش الإسلامية، وأنزلوا بهم الخسائر حتى وقّعوا على اتفاقية البقط التي أتاحت لهذه الجيوش المُعادية التسلل بمهل إلى البلاد كسم الأفاعي الرقطاء. ورغم أن دعواه تلك لم تلق رواجاً كبيراً بين أوساط النوبيين الذين عزوا خطرفاته إلى لوثة الثقافة الوسطية سيئة السمعة آنذاك، إلاّ أن مقولاته وجدت طريقها إلى قلّة من المتعلمين الذين لم تسعفهم الحيلة لفعل شيء أكثر من مجرّد التصديق السرّي بما جاء به الأفندي الخرطومي على ظهر ناقة عشراء منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وفسّروا عليها سرّ الأحمسية التي أرجعوها إلى: الذلة والمسكنة التي ضُربت عليهم من الله وجاء ذكرها في القرآن كذلك؛ وإذ لا تُوجد دلائل قطعية على ما ذهبوا إليه فقد وجد الكثيرون في الإسلام الذي انتشر في السودان مع قيام مملكة الفونج أفضل الخيارات المتاحة، فسلّموا له زمامهم.
توافق الناس على مناداة عبد الشافي خليل بالأفندي، لأنه ترك لبس الجلباب والعمامة واستبدلهما بلبس البنطال (لبس الأفندية)؛ حتى إنه حلق نصف شاربه لأجل ذلك. وأمام دعواه التي اعتبرها أهالي القرية هرطقة موجبة للقتل؛ فإن عبد الشافي هرب ولم يعد إلى القرية مرة أخرى، وترك ورائه زوجته (فتحية بُشارة) بعد أن أغدق عليها بالحُلي والمجوهرات المزيّفة التي ابتاعها لها من الخرطوم، ولم يعلم أحد بزيف تلك المجوهرات إلاّ في وقت لاحق؛ وقيل إنها لحقت به بعد ذلك بوقت ليس بالقصير. ومما تركه عبد الشافي واحتفظت به فتحية بشارة: صندوق مليء بالكتب؛ من بينها كتاب عتيق منزوع الغلاف ممزق الحواشي جاء فيه: "حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب قال: ليس بيننا وبين الأساود عهد ولا ميثاق، إنما هي هدنة بيننا وبينهم على أن نعطيهم شيئاً من قمح وعدس ويعطونا رقيقاً، فلا بأس بشراء رقيقهم منهم أو من غيرهم. وحدثنا أبو عبيد عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد قال إنما الصلح بيننا وبين النوبة على أن لا نقاتلهم ولا يقاتلونا، وأن يعطونا رقيقاً ونعطيهم بقدر ذلك طعاماً، فإن باعوا نساءهم لم أر بذلك بأساً أن يشترى." وعندما وقع ذلك الكتاب في يدي وقرأته -في وقت لاحق- حزّ في نفسي كثيراً أن أكون من سلالة نخاسة يتاجرون في الناس مقابل أن يتحصّلوا على طعام يقيم صلبهم!
يُعلي التاريخ شأن عباقرة العلوم، ولكنه في الوقت ذاته يتجاوز عن أخطائهم وخزعبلاتهم التي يعتبرها مجرّد هفوات. فمازلنا نسمع عن الإنجازات العبقرية لطاليس، وقوانينه المدهشة التي تعتبر مرجعاً في المنهج الرياضي الاستنباطي، ولكن لا أحد يذكر مقولاته الخرقاء عن تناسخ الأرواح، وكيف أن روح رجل ما قد تكون آتية من زمن ماض من حياة عاشتها كقنديل بحر! ومازال تاريخ النوبة الشفهي يتناقل بفخر بعض الأسماء التي عاشت ملوكاً في الأخيلة الشعبية متغاضياً عن هفواتهم التي لا تغتفر، فلا أسوأ من أن تكون من نسل نخاسة. هذا الاكتشاف المفاجئ والمخزي كشف لي -إضافة إلى العديد من المشاهد العيانية- سبب التعالي النوبي واحتقارهم للعبيد المنحدرين من أصول زنجية. عاشت أرض الميّت -في تطورها السلحفائي- على هامش التاريخ الإنساني المتسارع، تقف تحت ظل الحضارات، تأكل من الفتات الذي يتساقط من فوهات صنّاعها الخالدين. لم تحاول أن تتصادم مع أيّ منها لأنها تحس بتعال نرجسي مردّه مجد استمر لألف وخمسمائة سنة؛ ثم ضاع تحت سنابك جيوش المسلمين ودهاء العرب؛ الأمر الذي جعلني في كثير من الأحيان أميل إلى تصديق مقولات عبد الشافي فيما ذهب إليه؛ فمنذ فجر التاريخ لم تشهد البشرية جنساً عرقياً يحتقر غيره ويُعلي شأن نفسه كما يفعل النوبيون وبني إسرائيل على السواء!
شاءت المصادفة المحضة أن يُنتج دلال العمدة المفرط لابنته الصغرى صابرين، صبيّة بمواصفات ذكورية حتى أن اسمها الأنثوي اندثر في سيرة القرية، وباتت تعرف باسم (صابر). صابر -التي نالت نصيبها من حقن داء الكلب الاثنتي عشرة عندما كانت في الثامنة أو التاسعة من عمرها- أصبحت -بعد ذلك بأقل من سنتين- فتاة تنافس الذكور في كل شيء؛ حتى أنّ أطفال القرية كانوا يخشونها، وربما فعلوا ذلك لأنهم لا يجرؤون على مقارعتها؛ لاسيما بعد الحادثة التي بترت فيها ذيل كلب التمتام بفأس والدها العمدة. وبمرور السنوات أثبتت صابر ذكوريتها، وأن تلك الذكورة مستحقة بجدارة؛ فقد كانت تصرع الفتيان، وتسابقهم، وتسبح معهم في مياه النيل، وتتقدمهم عندما يعزمون تسلّق التلال الصخرية المنتشرة في القرية؛ وفيما فسّرت الجدة ملكة ذلك بدلال العمدة المفرط لابنته، خمنّتُ أنّ لعاب كلب التمتام الأسود تسلل عبر أوردتها وعبث بجيناتها وهرموناتها الأنثوية. لم تخبرنا الجدة مِسكة الكثير عن صابر وحياتها، رغم أنّ سيرتها لا تقل حظوة من بقية سير الشخصيات الهامة والمثيرة للجدل في أرض الميّت. بعض الذين عاصروا صابر في طفولتها قالوا إنها الوحيدة من بين أطفال القرية التي كانت تذهب برفقة بالغين إلى الغرب الأسود حيث مدافن القرية وقطاطي الزنوج العبيد، ولم يُعهد عليها أنها قامت بفعل أنثوي طوال حياتها؛ فيما خلا اختفائها قسراً لبضعة أيام في الشهر، وامتناعها في تلك الأيام عن اللعب مع الفتيان.
تعرّضت صابر في صغرها –كبقية الإناث- إلى عمليات التشليخ التجميلية؛ إذ يُحمى على آلة حادة ويُحفر بها ثلاثة خطوط طولية في كل خد على حدا، ويُترك الدم مسفوحاً حتى يجف، ويتم تنشيفه وتطهير مكان الجرح بقطعة قماشية مبلولة بمادة الكولونيا أو بعض العطور محلية الصنع، واعتبر النوبة الشلوخ واحدة من علامات الجمال التي خضع لها النساء والرجال على حد سواء. كما أنهم قاموا بصنع ثقوب في أرنبة أذنيها، وعلّقوهما بخيط حريري مشحّم؛ للحيلولة دون التئام الجرح تمهيداً لوضع الأقراط مكانهما فيما بعد؛ ولذا أسدلت عليها عمامتها لتخفي آثار ثقوب الأقراط حتى لا يظهر منهما شيء. لم تكن صابر تذهب إلى النهر لغسل الثياب أو جلب الماء في جرار صفيحية كبقية فتيات القرية، وإنما للاستحمام أو صيد أسماك الزيبرا دانيو، والروزي بارب التي تقتات على اللافقاريات والديدان في المياه الضحلة، وكانت من أوائل من تعلّم السباحة مقارنة بمن هم في سنها ذلك الوقت.
ولمّا بلغت صابر العاشرة، قام والدها العمدة بإلحاقها في كُتّاب البنين دون أن يجد ذلك اعتراضاً من أحد، فأكملت دراستها الأولية في الكُتّاب كواحدة منهم. ومع مرور السنوات نسي الجميع أمر أصولها الأنثوية إلى الأبد. وحتى عندما بلغت مبلغ الإناث وبدأت أعضاؤها الأنثوية بالنفور من جسدها، اضطرت إلى ربط ثدييها الصغيرين إلى أضلاعها بقطعة قماشية. آمنت عواضة بصيلي بأن صابر هي إحدى نبوءات التمتام المُتحققة؛ وعندها فقط وجدت تفسيراً لكلماته الطلسمية التي تشبه الهذيانات: "ويمكن حيجي من البنات"!
أحد أغرب القصص التي سمعتها عن صابر عواضة أنها كانت تتحرّش بالفتيات وتتغزّل بهن؛ تماماً كما يفعل الفتيان. ويبدو أن واحدة منهن لم تجرؤ على أن تشتكي لأحد مما تلاقيه منها سراً أو علانية، ورغم ذلك فإن سرّ مضاجعتها للفتيات قد ذاع بين أهالي القرية؛ حتى أنّ بُشرى الحلاق ثار وغضب عندما اكتشف وجودها بمفردها مع ابنته في بيته أثناء غيابه، وسارع إلى فحص أجزاء ابنته التناسلية للتحقق من أن ابنته ما تزال محتفظة بعذريتها. وحسبما تقول الروايات فإن صابر عاشت حتى الواحد والعشرين من عمرها في ثوب صبي نزق، مفرط الهياج يستعين به فتيان أرض الميّت في مشاجراتهم مع فتيان القرى المجاورة؛ لاسيما في المواسم التي تجمعهم: كالأعياد والأفراح وحصاد البلح وجزّ البرسيم والحشائش أو احتفالات الختان الجماعية. وعندما تزوّجت أختها التي تكبرها بثلاثة أعوام، هي من حفرت لنصب سرادق الاحتفال في إحدى ميادين القرية، وليس ذلك وحسب؛ بل وتضرب الأولّي أفضل من كثير من الرجال؛ إذ يصطفون في مجموعات ويدوزنون صفقاتهم مع وقع أرجلهم على الأرض على أنغام الكِسِر، وليس كل من حرّك قدميه وصفّق بيديه أجاد الأولّي، فهو أشبه بحالات التجّلي الصوفية؛ تتلبّس فيها الموسيقى أجساد الرجال، وتحرّكهم بها كيفما اتفق، فيتمايلون ويتقدّمون ويتأخرون في مشهد لا يخلو من الإثارة والحماسة.
سمعت أشياء وقصص كثيرة عن صابر لم أستوعب بعضها بسهولة، غير أنّ كل ذلك بقي سهل التصديق أمام ما سمعته من الجد مسكة عن تلك الحادثة الشهيرة؛ إذ تحكي جدتي أن رجلاً يُدعى سليم زبيدة جاء إلى سرايا العمدة مدعياً أن صابر قد اغتصبت ابنته، وحملت منها سفاحاً، وأكدّت الفتاة -التي غطّت وجهها بالكامل أمام العمدة- قول أبيها. وأمام إلحاح سليم زبيدة وابنته اضطر العمدة إلى اللجوء إلى أحد رجالات آل كلس ليقضي بينهما. كانت تلك القضية الأغرب من نوعها التي يحكم فيها شيخ القرية، وبعد أن استمع الشيخ ميرغني كلس إلى دعوى سليم زبيدة وابنته التي أكدّت أن صابر استغلت خلو الدار من أهلها، وأرغمتها على المضاجعة الجسدية المباشرة، وأنها ليست المرّة الأولى التي تتعرّض فيها لهذا النوع من التحرش الجنسي، وأضافت إنها لم تخبر أحداً بما يدور بينهما خشية الفضيحة، ثمّ إنها بعد ذلك بأربعة أشهر بدأت تُحس بأعراض الحمل، وفيما أصرّ سليم وابنته على أقوالهما؛ أكّد الشيخ ميرغني استحالة حدوث ذلك، إذ أنّ صابر وإن ارتدت ملابس الفتيان وتصرّفت مثلهم؛ إلاّ أنها تظل أنثى لا يُمكنها تلقيح أنثى أخرى، واتهم الأب وابنته بأنهما يُريدان إلقاء خطيئتهما على صابر زوراً وبهتاناً، فحكم بإسقاط الجنين، وأمر بطردهما من القرية. واختفى سليم زبيدة وأسرته من القرية ولم يعودا إليها مرّة أخرى.
أثارت تلك الحادثة جدلاً واسعاً وكبيراً بين أهالي القرية؛ لاسيما بين شبانها؛ إذ ساعدت تلك الحادثة على تعزيز ذكورية صابر؛ وإن حكم شيخ القرية بتبرئته؛ إلاّ أنهم ظلوا ينظرون إليها كذكر فحل. ومما يُحكى عن صابر أنها كانت ترفع أذيال البقر وتأمر الفتيان بمضاجعتها أمامها، ولم يجرؤ أحد على أن يرفض ما تأمره به. مضاجعة البهائم في أرض الميّت أمر منتشر، وربما هي الطريقة الأكثر أماناً بالنسبة إلى المراهقين لتجريب الفحولة قبل البدء بها فعلياً مع الفتيات، ولكنهم يمارسونها في الخفاء رغم كل ذلك. ذاع صيت صابر كفتاة فريدة بين أقرانها، وكأول ظاهرة غريبة من نوعها بين المجتمعات النوبية، وتناقل البعض أخبارها وقصصها، وأضاف إليها البعض اختلاقات من عنده، ويُذكر عنها أنها لم تشهد جلسات النساء السرّية والخاصة، وكانت النساء يتستّرن أمامها، كما أنّ النساء أنفسهن كنّ يمنعنها من حضور عمليات التوليد التي تتم بمشاركة واسعة من نساء وفتيات القرية.
لم تكن صابر مجرّد فتاة تحمل هاجس فحولة وتنساق وراء رغباتها الشهوانية، بل كانت تقوم بما لا يستطيع الكثير من الفتيان القيام به بمفردها؛ إذ تذبح الخراف في مواسم أعياد الأضحى، وعند عودة الحجيج من أراضي الحجاز، كما أنها كانت قادرة على ذبح بقرة دون مساعد من أحد. كثيراً ما أعجبت بشخصية صابر التي لم يرد أنها تكررت في أرض الميّت بعد ذلك قط، ومن حصيلة ما سمعت من الجدة مسكة وغيرها من العجائز عرفت أنها رغم كل ما قيل عنها كانت تحمل ملامح الفتاة الجميلة، ولكن في غير ما تكلّف أو صنعة؛ حتى أن فتيات القرية ينظرن إليها كفتى بالغ الوسامة؛ بل ولا أشك أنهن كنّ يتغزّلن بها علانية أمام الجميع. ماتت صابر غرقاً في مياه النيل وهي تسبح مع الفتيان كعادتها، عندما انزلقت إحدى قدميها عن صخور النهر الملساء. وروت إحدى النساء أن أحداً من الفتية الذين رافقوها لم يجرؤ على إسعاف جسدها الرطب قبل أن تفارق العالم وتُسلم روحها إلى باريها. وقيل أن أحدهم دفعه الفضول فكشف عن عورتها ليتحقق مما إذا كانت أنثى فعلاً أم لا؛ وعاب عليه الجميع ذلك؛ ولكنه كان قد اطمأن!
لم تجد صابر من يحزن عليها -بعد موتها- إلاّ أخواتها الأربع اللائي بكين فيها كل الأسلاف الراحلين، وبكين أمهنّ عواضة بصيلي التي أُصيبت بهستيريا حادة بعد رحيل زوجها حسن فنتي، وتحققت مخاوفها بعد ذلك فأصبح علي فانا السوشكي عمدة القرية، وانتقل إلى سرايا العمدة. كانت عواضة بُصيلي ما تزال تبكي زوجها على قبره متمنية اللحاق به، ورفضت العودة إلى المنزل رغم مناشدات بناتها وأهالي القرية، إلاّ أنها فضّلت البقاء جوار قبر زوجها على البقاء تحت رحمة علي فانا ابن أخت زوجها الذي انتقلت إليه العمودية بطريقة تلقائية. وبموت صابر توقفت استفهامات الذين شككوا في قدرتها على الزواج والإنجاب وكل التساؤلات المتعلقة بشأن مستقبلها التناسلي.
أرغى الناس كثيراً وأزبدوا في سرّ بُغض عواضة بصيلي لعلي فانا، وأرجأ بعضهم ذلك إلى عداء أسري قديم نشأ بين عواضة وفانا سالي؛ إذ يذكر البعض أنّ فانا وضعت تعويذة في فراش عواضة يُعتقد أنها السبب في ألا تنجب إلاّ إناثاً؛ بحيث لا تضع مولوداً قد يرث أملاك أخيها الزراعية. وقال البعض الآخر إنّ فانا سالي عارضت زواج أخيها من عواضة متهمة إياها بالعهر، وبأنها كانت على علاقة بأحد المصريين الذين عملوا في تجارة الموالح قبل زواجها بالعمدة. وقيل كذلك أن عواضة بصيلي حاولت قتل فانا سالي لسبب مجهول بأن وضعت لها سماً زعافاً في إناء حليب الماعز الذي اعتادت فانا شرابه كل صباح، ومشيئة الله وحدها هي من حالت دون أن تتناولها ذلك اليوم. ولا توجد قصة واحدة يتفق عليها الجميع أو حتى الأغلبية وظل السرّ الحقيقي لهذا العداء مجهولاً بينهما إلى الأبد.
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أرض الميّت - 4
-
أرض الميّت - 3
-
أرض الميّت - 2
-
أرض الميّت
-
بتروفوبيا - 7
-
بتروفوبيا - 6
-
بتروفوبيا - 5
-
بتروفوبيا - 4
-
بتروفوبيا - 3
-
بتروفوبيا - 2
-
بتروفوبيا - 1
-
رواية أرتكاتا
-
شركاء التوليب
-
الحزب الأسود
-
الموت ليلة البدرنار
-
رحيق البابايا
-
رؤية حول إضراب أطباء السودان
-
محاولة لتبسيط العالمانية
-
الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
-
فن الثورة
المزيد.....
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|