|
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 5 ) - الرضاعة الحسية والشعورية .
سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3062 - 2010 / 7 / 13 - 17:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون ؟ كيف نجد إنسان عالما ً أكاديميا ً يتعاطى مع العلوم والظواهر المادية وقادرا ً فى الوقت ذاته على ترديد مجموعة من الغيبيات والخرافات دون أن يمتلك أى دليل يثبتها ...وكيف له أن يتخلى عن منهجه العلمى فى البحث ليستقبل الخرافات ويؤمن بأن هناك دابة طارت فى رحاب الفضاء الكونى اللانهائى ..وكيف يمكنه أن يتصور قيام الإنسان بعد موته ..وكيف صدق أن هناك جن يتبول فى أذنه حينا ً ويشاركه النكاح حينا ً أخرى ليستقر به المطاف تحت أنفه .
الإيمان بالغيبيات والخرافات تفتقد لأى دليل يثبتها بالرغم من عظم الإدعاء وحجم الميديا الهائلة المصاحبة لها ..وهى تنم عن شخصية مزدوجة فى التعاطى الفكرى تتأرجح بين معطيات العقل والعاطفة ..فهناك ميراث من الأحاسيس والمشاعر كونت وبلورت التكوين النفسى للإنسان لتكون الأفكار التى هى نتاج تجارب حسية تشكلت من مجموعة مشاعر وأحاسيس صغيرة وكبيرة خلقت لها البيئة الحاضنة لتبنى الفكرة وتتشبث بها .
هناك عشرات التجارب التى تمر بحياة كل منا ولو أمعنا التفكير فيها سنجد أن تعصبنا لفكرة أو رأى هو نتاج تراكم كم من الأحاسيس تولدت مع ظهور الفكرة ورسمت ملامحها .
دعونى أذكر ثلاث مشاهد صغيرة من ضمن عشرات المشاهد التى مرت بى تؤكد رؤيتى تلك .
* مشهد أول إندهشت زوجتى فى مستهل زواجنا برفضى الشديد لتناول الأرانب كوجبة فى الغذاء ..لم يكن صعبا ً على ّ أن أفتش فى مكنونات نفسى عن سبب كراهيتى وتقززى من تناول لحوم الأرانب ..ففى المرحلة الطفولية المبكرة تعايشت مع الأرانب فى حديقة منزلنا حيث كان أبى يهوى تربيتها , وتعلقت عيونى بها لتتولد مشاعر جميلة مع هذا الكائن الجميل والهادئ ..كنت أراقبهم فأجدهم كائنات فى غاية الوداعة والجمال لتتشكل علاقة عاطفية مع هذا الكائن . وفى ذات يوم سحبت أمى أرنبا ً من أذنيه وهمت بذبحه أمامى ثم مارست عملية سلخ بشعة بعد ذلك ليتحول الأرنب إلى أشلاء .!!
هذا المشهد أصابنى بالذهول والنفور والبشاعة , لأرفض أن أضع لحم الأرانب فى فمى من يومها وحتى الآن !!..الطريف أننى صدرت لإبنى وإبنتى هذا الإشمئزاز والنفور بالرغم أنهما لم يشاهدا مشهد الذبح والسلخ ليعرضا هما أيضا ًعن تناول لحم الأرانب إحتذاءا ً بى .!! وهكذا تكون الفكرة هى نتاج إحساس يتم إختزانه فى داخلنا ويمكن تصديره للآخرين تحت تأثير وشائج عاطفية .
مشهد ثانى .
شاهدت فيلماً تسجيلياً على قناة ناشيونال جيوجرافيك يُعرض فيه ملامح لعادات شعوب مختلفة فى تناول طعامها وإعداده ..هالنى ما رأيت من مشاهد لشعوب من الهند الصينية وجماعات من أمريكا اللاتينية ..إنهم يتناولون القطط والكلاب والصراصير والضفادع وأنواع أخرى من الديدان . تشاهدهم وهم يقطعون لحم الكلاب ويعدونه ..تراهم وهم يحمرون الصراصير ويضيفون لها بعض المايونيز ..وتندهش وهم يأكلون أنواع من الديدان وهى تتحرك وتتدلى من أفواههم . من يرى هذه المشاهد لاشك أنه سيصاب بالتقزز والإشمئزاز والرغبة فى التقيؤ ..ولن يخلو الأمر من الدهشة فى وجود بشر يتحمل تناول مثل هكذا طعام ُمقرف. نحن نراه مقرفا ً ولكن أصدقاءنا الصينيون لا يروه هكذا بل يقبلون عليه ويتناولونه بمتعة غريبة .!! فما الذى يجعل هناك بشر يتناولون هذا الطعام بشهية مفتوحة وبمتعة فى التعاطى وهناك بشر آخرون ما يلبثوا أن يشاهدوا هذا المشهد حتى يصيبهم الإشمئزاز والغثيان والرغبة فى التقيؤ . إنه الموروث الثقافى الذى يشكل أذواق البشر ومزاجهم الخاص ..إنها الأحاسيس الأولى البكرية التى رافقت تناول الوجبة الأولى ..فالجد الأول الذى تناول لحم الكلاب والقطط ومد يده إلى الصراصير ليتناولها لاشك انه كان واقعاً تحت تأثير جوعه وقلة المصادر الغذائية ليأكل مثل هذه الكائنات . المشهد المهم هو كيفية إستقبال أطفاله لتناول هذه المأكولات ..هنا تبدأ تسطير الحروف الأولى فى صفحة المعرفة والوعى حيث يتم إمدادها بالمعطيات التى تشكل مزاجها وتكون الأهمية هى المشاعر المصاحبة لعملية الإمداد ..فالأب صدر لأولاده أنه شئ عادى أن يأكل حفنة من الصراصير ..أو أنه أبدى مشاعر من التلذذ والإبتهاج مصاحبة لعملية الإعداد والأكل لتخلق روح قبول وتحمس للأطفال فى الإقبال على تناول الصراصير والديدان . القصة هى كيفية تصدير المشاعر لنا فكما رفضت أكل الارانب وصدرته لأولادى ..قام صديقنا الصينى بتصدير أحاسيس إيجابية لأطفاله فأبدى تلذذه وفرحه بذبح القطة وتناول لحمها . الطربف أنه لا يوجد فرق شاسع بين الأرنب والقطة إلا فى ذوقنا الخاص فها هم المصريين يحبون تناول الأرانب مع الملوخية وهناك الصينيون يتناولون القطط مشوية على الفحم . هى مشاعر وأحاسيس جعلتنا نقبل هذا ونتنأنف ونشمئز من ذاك ...لتشكل أفكارنا وأذواقنا ..لتجعلنا نحب ديننا ونكره المعتقدات الأخرى .
المشهد الثالث
أتذكر الزيارات الأولى للكنيسة ..كانت محاطة بعادات معينة ومشاعر تم تصديرها لى ّ لتجعل المكان مميزا ً وله وقع خاص . فالذهاب للكنيسة يتم وأنا أضع يدى فى يد أبى المحتضنة وأرتدى ملابسى الجميلة ويسبق الزيارة وعد بكم من الحلوى مع نزهة رائعة بعد إنتهاء الصلاة شريطة أن أحترم المكان . أدخل الكنيسة فتتدافع كم من الأحاسيس ..فهاهى الجدران عالية تخلق جو من الهيبة والفخامة وأعتقد أن مهندسى أماكن العبادة حريصون على علو الأسقف والقباب لخلق هذا الإحساس بالمهابة ..ثم أنظر فأجد نقوش رائعة وصور فنية جميلة للمسيح والعذراء مريم ..ألمح أمى وأبى وهما فى حالة من الخشوع ..كما تلمح عيونى إمرأة عجوز توقد شمعة وتتضرع للرب بعيون دامعة أن يشفى زوجها ...كما يتم إهدائى بعد إنهاء الصلاة صور صغيرة جميلة للعائلة المقدسة أحتفظ وأفتخر بها كمقتنيات. هذه التوليفة الخاصة من المشاعر والأحاسيس المتولدة والمترافقة تجد لها مكانا ً فى الذهن لتخلق حب وإحترام للمكان ..ومن هنا ينشأ المقدس ليتم قبوله بكل حمولته بعد أن وجد له مكانا ً فى القلب ولتصبح كل المنظومة المرافقة لها قادرة على التسلل .
بماذا نفسر تباين فى المشاعر لدى أصحاب المعتقدات والأديان فى التعاطى مع أماكنهم وأماكن الآخرين المقدسة ..فهناك من يحمل خشوعاً وحباً للمسجد والكنيسة والحسينية والمقام ..لماذا تجده يكون علاقة عاطفية مع المكان الذى لا يعدو كونه مجموعة من الحجارة ؟!!..ولماذا يحمل مشاعر جميلة لمكانه المقدس ولا يحمل فى المقابل نفس المشاعر الودية للمكان المقدس لدى الآخر فإما أنه لايحس بأى قيمة ودية تجاهه أو قد تجده يحمل مشاعر مُنفرة ومتوجسة بل حتى كارهه لمكان الآخر المقدس .؟! هذا التباين فى الأحاسيس بالرغم أنها أبنية من طوب وحجارة هى نتاج الرضاعة الحسية التى نالها الإنسان من نعومة أظافره ..فهو رضع حب مسجده أو كنيسته من نظرات وعيون الأب ..ووجد النفور والتوجس تعلو ملامح أبيه فى حديثه عن أماكن الآخر المقدسة ..ومن حجم وشكل المشاعر التى تم تصديرها لعيوننا والحروف الأولى الصغيرة المنمنمة التى تسطرت على صفحة وعينا البيضاء تكونت أفكارنا النحبة واللاعنة .
تتكون رؤانا الفكرية من خلال تراكم كم هائل من الأحاسيس المرافقة لحدث ما ..وبحجم الإستحسان أو النفور النفسى المصدر لنا نخلق الفكرة ونمررها أو نرفضها ونلعنها فالشعور بالراحة والمتعة من خلال مشاهد معينة يجعلنا نقبل الفكرة ونتشبث بها كمجلبة للأمل والراحة أو كفعل شرطى لإستحضار الراحة والسلام .
تتبلور هويتنا الإنسانية من خلال تراكم مشاعر وأحاسيس تم تصديرها لنا من خلال الأب أو الجد أو زعيم القبيلة ليتم الإنتماء للجماعة من خلال تجاربها وميراث تجارب وأحاسيس الجد الأول لتكون سياج لنا نحو التجمع والوحدة فى مواجهة الطبيعة والآخر . فلا عجب أن نجد مواطنا ً عربيا ً يعيش فى باريس ويحن إلى قريته الصغيرة بإمكانياتها الفقيرة البائسة ..هنا يكون المكان مرتبط بحجم المشاعر والذكريات المختزنة في داخله وليست فى كينونة المكان .
من تحت تأثير المشاعر والأحاسيس المكونه لهويتنا الإنسانية جعلتنا نقبل خرافاتنا وغيبياتنا عندما نجد الأب يقص المعجزة بعيون مُعجبة ومندهشة وممنونة ..بينما نرى ملامح وجهه تتغير وتتبدل عندما يسخر من غيبيات الآخرين وخرافاتهم .
نحن نعتقد بتاثير شريط طويل من الذكريات والأحاسيس كونت هوية عاطفية قادرة على تمرير حمولات هائلة من الخرافة .
لا يكون الأستاذ الجامعى الذى يتعاطى مع العلم صباحا ً ويردد قصص الجن والعفاريت مساءا ً سوى انه نال حظا ً وافرا ً من الرضاعة الحسية جعلته يجد ذاته وأمانه فى الإرتباط بها لإنها تحقق هويته العاطفية وتمنحه سلاما ً وأمانا ً يريد أن يستحضره .
دمتم بخير.
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 11 ) - نحن نزرع الشوك والمُر و
...
-
نحن نخلق آلهتنا ( 9 ) - الله يكون حافظا ً وعليما ً وعادلا ً
...
-
تأملات فى الإنسان والإله والتراث ( 1 ) - الصلاة كثقافة للبرم
...
-
لماذا يؤمنون .. وكيف يعتقدون ( 4 ) - كيف تربح المليون دولار
...
-
أنا والله ويدى اليسرى .
-
نحن نخلق ألهتنا ( 8 ) - الله خالقا ً للوجود فى ستة أيام .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 10 ) _ همجيتهم وهمجيتنا .. ياق
...
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 10 ) _ همجيتهم وهمجيتنا .. ياق
...
-
نحن نخلق آلهتنا ( 7 ) - الله مُجيبا ً للدعاء .
-
تديين السياسة أم تسييس الدين ( 4 )- حد الردة رغبة سياسى أم ر
...
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 9 ) - الخلوة الغيرالشرعية بين
...
-
لماذا يؤمنون .. وكيف يعتقدون ( 3 ) _ الدنيا ريشة فى هوا .
-
من داخل دهاليز الموت إشتقت لحضن أمى .
-
إشكاليات التراث ومتطلبات العصر وأين يكون حرثنا فى الأرض أم ف
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 2 ) - لا تسأل ولا تعرف .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 8 ) _ أشياء مطلوب الإعتذار عنه
...
-
تديين السياسة أم تسييس الدين ( 3 ) - الجنه تحت أقدام المقاتل
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 5 ) .
-
تديين السياسة أم تسييس الدين (2) - الناسخ والمنسوخ تردد إلهى
...
-
إلى هذا الحد وصلنا لحالة من الشلل والتسطيح والتهميش .
المزيد.....
-
“صار عنا بيبي بحكي بو” ثبت الآن التردد الجديد 2025 لقناة طيو
...
-
هل تتخوف تل أبيب من تكوّن دولة إسلامية متطرفة في دمشق؟
-
الجهاد الاسلامي: الشعب اليمني حر ويواصل اسناده لغزة رغم حجم
...
-
الجهاد الاسلامي: اليمن سند حقيقي وجزء اساس من هذه المعركة
-
مصادر سورية: الاشتباكات تدور في مناطق تسكنها الطائفة العلوية
...
-
إدانات عربية لعملية اقتحام وزير إسرائيلي باحة المسجد الأقصى
...
-
افتتاح الباب المقدس في كاتردائية القديس بطرس بالفاتيكان إيذا
...
-
زيلينسكي يحتفل بعيد حانوكا اليهودي بحضور مجموعة من الحاخامات
...
-
حماس:ندعو الدول العربية والاسلامية لردع الاحتلال والتضامن لم
...
-
الأردن يدين اقتحام وزير إسرائيلي المسجد الأقصى
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|