أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 5















المزيد.....

الفصل السادس : مَجمر 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3062 - 2010 / 7 / 13 - 13:57
المحور: الادب والفن
    





عِمارَة قاعَةِ الاستقبال، كما كشفَ لي المُضيفُ ذاتَ مرّةٍ عن حاصِلِها، كانت مُدجّنة. إذ تناوبَ في بنيانها الطرازيْن، الغربيّ والمَشرقيّ: فكانت للأول، تلك العضائد البرّانية، الصقليّة المُحتدّ، الداخِل تحتَ رقها المرمرُ البندقانيّ للأرضيّة والمُشقف بأشكال وخيوط هندسيّة، علاوة ًعلى زخارف الجدران، المتبتلة تبتيلاً بيزنطياً.
أمّا الثاني، فإنّ صِفة مَحلّيتهِ، المُستحَبة، كانت يَتجلّى في الفسقيّة الرخاميّة، المَحفورة بعروق نباتيّة، مُذهّبة، إلى سِحْر الطزر الوحيد في القاعَة، المُتطبّع بالأثاث الشاميّ، والمَفصول عن شقيقيْه، الافرنجييْن، بقوس حجريّ تمّ تلبيسه بالخشب المُرقش بالنقوش المُلوّنة.
ولنقل أنّ مَكاني، المُتواضِع، كانَ إلى جانب القاروط ومُباشرَة ً على يَمين الزعيم، المُتصدّر جلسَتنا. وبمَحض المَشيئة، وَجدتُ المَلاكَ المُكتري يُمنَ كتفي قد رأى أنيساً في زميلِهِ ذاك، المُفترَض أن تكونَ له الصِفة نفسها لدى صديقي المَلول؛ الآغا العريان. ولكني أعترفُ، بأنه لم يكُ مُصادفة ً اختياري الجلوسَ بمقابل الآغا الآخر، آمر الدالاتيّة: فمذ اللحظة تلك، التي اُخبرتُ فيها من المُضيف عن العِقدَة النفسانيّة، المُتأصلة في داخل القاتل، المُحتمَل، فإني وَضعتُ آغا أميني في الحلقة التاليَة من حلقات سلسلة الجرائم، المَشئومَة. لقد أجزَتُ لنفسي هذا الاعتقاد، على خراقتِهِ، طالما أنّ ذلكَ المَملوك المَنحوس، الصقليّ، قد شاءَ أن يُضافِرَهُ الآنَ؛ حينما راحَ يَتبخترُ أمامي رَواحاً ومَجيئاً بصفتِهِ، الجَديدة ـ كوَصيفٍ لكبير الأعيان.
إنّ الزعيمَ، للحقّ، قد أحسَنَ صنعاً عندما أشرَكَ بقيّة الأعيان في هذا الاجتماع المَنذور لغايَةٍ في غاية الأهمّية والخطورة. فمَجلس العموميّة، في واقع الحال، كانَ قد أفِلَ نجمُهُ من زمان؛ وتحديداً بُعيدَ انقلاب الانكشاريّة وسيطرَتهم على المدينة القديمة. فمنذ ذلكَ الحين، تناقصَ عددُ أركان المَجلس، الأصليين، فلم يَتبقّ منهم اليومَ حيّاً سوى الشاملي والعريان وعبدُ الله؛ كاتبُ أسطر هذا الكناش. وعلى ذلك، فلم يكُ قرارُ الزعيم الاحتفاليّ، باعادَة تشكيل المَجلس، ليَخدَعَ أحداً. لقد كانَ القرارُ مُجرّد رفع ٍ لمَعنويات الخلق، إثرَ دَحر الانكشاريين على أسوار المدينة القديمة وتسلّم القلعة منهم: فلمَ كانَ عليّ، إذاً، أن أهجسَ بجريمَة أخرى، مُخططة من لدن القاتل ذاك، المَجهول، طالما أنّ الوَضعَ على ما وَصفتهُ آنفاً؟

" لأنّ القاتلَ، المُفترَض، ليسَ من ضِمن حَلقة الأشخاص أولئك، المُلمّين بحَقيقة الوَضع "
أجبتُ على السؤال في سرّي. ولم تهدأ وساوسي، بطبيعة الحال، حتى حينما أشارَ الزعيمُ لوَصيفه، المَنحوس، بترك المكان والانسحاب مع الخدَم الاخرين. ثمّة في مَطبخ الدار، فكرتُ، ربّما تحَضَّرُ القهوَة المُهيّلة، المُختلطة بمَدقوق السمّ القاتل. فما أنْ أنهيتُ جُملة شكّي تلك، حتى تصاعدّتْ على غرّة تلاوة ٌمن الذِكر، الحكيم، بصَوت شيخ الشام، الحَسَن اللّحْن.
" أيها الأكابرُ، الأفاضل. أنتم مُجتمعونَ هنا، في دار أخينا عبد اللطيف أفندي، لبَحث مَسألة مُستطيرَة الشأن. وأرجو ألا أكونُ مُبالِغاً لو استطرَدتُ بالقول، بأنّ الشامَ الشريف، مَدينتنا المُقدّسة، هيَ الآنَ في هذا المَساء راقِدَة ٌعلى سرير القلق والفرَق، ولا تدري ما إذا كانَ الصبحُ سَيشرقُ عليها غداً أمْ لا "، استهلّ الزعيمُ خطبَتهُ المؤثرَة. ثمّ ما عتمَ أن استأنفَ الكلامَ، شاملاً الحضورَ بلمحَةٍ خاطِفة من عينيْه، العميقتيْ الغور: " أعلمُ، ولا غرو، أنها ليسَت المرّة الأولى، التي يَتهدّد فيها ولايتنا أطماعُ الغير، وأنها كانت تتخلّص منهم بعَون الرحمن وقدرتِهِ، الجبّارة. بيْدَ أنّ الأمرَ أكثر حَرَجاً، في هذه المرّة. فالباب العالي، كما اُبلِغتُ بذلكَ اليومَ على لسان سَعادة القبَجي، استنفرَ قوات الولايات الأخرى، الشاميّة، فضلاً عن عسكره الخاص، المَجلوب من جهات الأناضول والروملي. إنّ هذا لدليلٌ، دامِغٌ، على كون الخطر المُتأتي من لدن عزيز مصر، هوَ على جانبٍ كبير من الجدّية؛ خصوصاً، وأننا ندركُ مَدى قوّة جيشِهِ وتسليحِهِ، والمُدَعَّم بخبرَة الفرنساويّة الكفرَة ". بُعيدَ هنيهة صمت، مُبتسَرَة، أنهى الزعيمُ كلامَهُ قائلاً: " إلا أنّ بونابرته بنفسه، كما هوَ مَعروف، سبقَ أن دُحِرَ على أبواب ولايتنا؛ حينما عجزَ عن اقتحام أسوار عكا، المَنيعة. وإنّ مولانا الباديشاه، أدامَ الله عزّه، قد مَنّ على الولايَة بتوكيل سَعادة القبَجي بتصريف أمورها ولحين وصول الوالي، الجديد. على ذلك، فعلينا أولاً واجبَ إبداء الطاعَة للفرَمان العَليّ. علاوة ً على المُبادرَة، بما أمكنَ من السرعة، إلى تنظيم القوى وحَشدِها على أبواب الشام الشريف صَدّا للغازي، المارق ". نطقَ كبيرُ الأعيان تلكَ المُفردَة، المُنتهيَة بها خطبَتهُ، فيما كانَ يَرمقُ القاروط بطرْفِهِ. وهذا الأخيرُ، على كلّ حال، كانَ هوَ أوّل من بادرَ لإبداء الرأي في كلام الزعيم، طالما أنّ الآخرين من الحضور طفقوا واجمين.

" لقد شرّفني أخي المُبجّل، الزعيمُ، بالدَعوَة لحضور خلوَة هذا المَخطر، الكريم "
بدأ في الكلام البكُ، المصري، ذو السِحنة الخاليَة من التعبير. وما عتمَ أن أضافَ مُسدّداً نظراتِ عينيْه، الماكرتيْن، إلى مَن يَعنيه القصدُ: " وبما أني، أيضاً، مُتشرِّفٌ بالتوكيل من لدن سَعادة عزيز مصر، فعليّ واجبُ نقل ما سَمِعتهُ منهُ، شخصياً، حولَ الوَضع الحالي، المُتأزّم ". قالها القاروط، ثمّ مَدّ يَدَهُ نحوَ كأس الماء ليَنهلَ منه جَرعَة كبيرة. في الأثناء، فكّرتُ من جهتي، بأنّ الماكرَ أنهى جُملته مُختاراً مُفردة ًغريبة نوعاً، كيما يُشيع البلبلة في الحضور. وها هوَ، من جهتِهِ، يواصل القولَ بالهدوء عَيْنِهِ: " وكنتُ فيما سلفَ من الأيام، قد شدّدتُ مِراراً على سوء الفهم، الحاصل، إثرَ تلقي مَجلس العموميّة رسالة َسعادة الوزير.. العفو، أعني سَعادة العزيز "، نطقَ القاروط كلمَة اعتذارهِ، فيما كانَ يَتصَنعُ التلعثمَ.
" آه، يا لكَ من رجل داهيَة. لقد شئتَ تذكيرَ الحاضرين بصِفة " المارق "، التي تلبّسَت مَقام المَرحوم الوزير "، خاطبتُ الرجلَ في سرّي. ويبدو أنّ سهمَ المَعنى، المُلتبس، أصابَ هدَفهُ. فالتململُ بدا على الآخرين، وكما عبّرَ عنه كبيرُ العمارَة، العريان، المُتناهض لبتر كلمة المُتحدّث: " إنّ تلكَ الرسالة، المَوْسومة، كانت موجّهة لأعيان المدينة وليسَ لمجلس عموميّتها "
" هذا صحيح، يا آغا. والمَعذرة، مرّة أخرى، لتشتتْ عِبارتي ـ أو ذاكرتي، بالأحرى "، أجابَ القاروط ثمّ أضاف من فوره " والمهمّ أنّ سوء الفهم، المَوصوف، قد أجازَ للبعض سوءَ تأويل مَضمون الرسالة؛ والتي لم تكن في حقيقتها سوى كلمات عامّة، عن ضرورة تقديم العَون للعزيز في صراعِهِ مع خصمِهِ، العنيد؛ والي عكا. وحاشى جناب الزعيم، المُبجّل، أن يكونَ من ذلك " البعض". فإنّ أصوات الدَهماء، خصوصاً في داخل المدينة القديمة، هيَ التي ارتفعتْ مؤخراً بصخب وجلبَة كيما تشوّش على صَوت العَقل والحِكمة. إنّ أتباعَ أبن وهّاب، الأشرار، كما لا يَخفى على اللبيب، همُ من كانوا وراء تلك الضجّة؛ طالما أنّ حِقدَهم على عزيز مصر، المُتأصّل، يَعود لكون سَعادته من دَحرَ زعيمهم في عقر داره وخلّصَ الخلق من شروره، ولو إلى حين. وإذاً، فلا غروَ أن يَستغربَ المرءُ من دَعوَة بعضنا لِطِغام تلك الجماعة، علاوة على حُماتهم الانكشاريين، للإنضمام إلى الجُهد المُشترك، المُفترَض أن يُوجّهَ ضدّ محمد علي باشا. وأقولها دونما مواربَة، أنّ من الخطل الوثوق بمَبعوثي جلالة مولانا الباديشاه. فقد سبقَ لنا أن جرّبنا سلفَ القبجي الحالي، ورأينا سوءَ تصرّفِهِ طوال وجوده هنا في ربوعنا والمُنتهي، مع الأسف، بمَصرَعه على أيدي أولئك الدَهماء أنفسهم ".

" إنّ المُستغربَ حقا، يا بك، أن يُطلِقَ جزافَ القول من هوَ بمقامكَ "
هتفَ العريانُ بقوّة، مُحدّقا بعينيّ مُخاطبهِ. ثمّ استطردَ بالنبرة ذاتها " وإذا أهملنا، جانباً، تقوّلكَ غير المُناسب بحقّ سَعادة قبجي مولانا السلطان، فكانَ الحريّ بجنابكَ أن تدركَ بأنكَ تخاطب أكابرَ البلد لا فتيَة من الأغرار. فعن أيّ سوء فهم، تتكلّم أنتَ؛ ورسالة حاكم مصر ما فتأت لدينا، بمفرداتها التي تبوحُ بنيّة مُرسِلِها المُبيّتة، العدوانيّة؟ ". هزّ البكُ رأسَهُ بخفة، ثمّ أجابَ المُتحدّثَ: " أمّا عما دَعَوتهُ، حضرتكَ، بالكلام غير المُناسِب، فعليّ التذكير بخلق موظفي الباب العالي؛ المُتسِم بالأثرَة والنميمَة والطموح. وإنّ القبجي، السابق، كانَ من هذه النوعيّة من الرجال؛ وكانَ لا يَخفي طموحَهُ باستخلاف الوزير على رأس الولاية الشاميّة. وها أني أقدّمُ اعتذاري، سلفاً، فيما لو عمّمتُ الوَصفَ، مُتمنياً أن أكون على خطأ بخصوص سَعادة القبجي، الجديد. بيْدَ أنّ الوقائعَ، مع الأسف، تبرّر شكوك المَرء: وإلا، فما مَعنى استنكاف مبعوث السلطان هذا، المُبجّل، عن الاجتماع مع مَجلس العمومية؛ أو بالقليل، معَ أعيان المدينة الآخرين؟ وأينَ هوَ فرَمان الأمان، العَليّ، المُفترض أن يُطمأن أهلَ الشام، في الوقت الذي يُطلبُ منهم أن يَقذفوا بأنفسهم إلى مَهلكة المُواجهة مع عسكر عزيز مصر، العتاة؟ وأيضاً، مَن يَضمُنَ أنّ الجيشَ الجرّار، القادِم بمَعيّة الوالي، المُكلّف، لن يَعمُدَ إلى الانتقام من أهالي المدينة، بَريئين ومُذنبين على السواء، عقاباً لحرَكة العصيان، العموميّة، المُنتهيَة بمَصرع الوزير والقبجي؟ ". وكما السِّحْر، المَلعون في الكتاب الكريم، فإنّ كلمَة البك، الماكر، فعلتْ أثرها في مُعظم الحضور. فها همُ أولاءُ، مُحتارين مُبلبلين، يتناهضونَ على غرّةٍ ـ كما جوقة من دندنة تقاسيم، مُوَشَّحَة. عند هذا الحدّ، شاءَ كبيرُ الأعيان التدخلَ بعدما تريّثَ كثيراً في إجابَة الحُجج تلك؛ التي قدّمَها الرجلُ الداهيَة: " على رُسلِكم، يا سادَة. لنَرْكنَ لحِكمَة الرأي، ونحنُ في هذا الوقت، العَصيب، بأمسّ الحاجَة للآراء السَديدة. لقد قدّمَ جنابُ وكيل العزيز، المُحترم، ما تيسّرَ له من مُبرارات سَعياً لتبرئة سيّدِهِ من شُبْهَة المُروق والعِصيان والطمَع. وبحَسَب ما فهِمتهُ، فإنه يَدعونا إلى التزام جانب والي مصر في صراعِهِ مع والي عكا. وإذاً، فنحنُ بحاجةٍ، قبل كلّ شيء، لهنيهةٍ من التفكير والتأمّل، تتيحُ للأفكار رخاءَ البال ولحين إكمالنا مُناقشة الوَضع "، قالها الزعيمُ ثمّ أومأ بعينيه للمُضيف في حرَكةٍ مُعيّنة. لحظات على الأثر، وأطلّ الوَصيفُ، الجديد، مُضمّخاً بعُرْف القهوَة، المُهيّلة، كما وبانحناءات الخصوع سواءً بسواء.

الفوحُ الأليفُ للقهوَة، المُنبَعثُ من بُخار الدِلّة الضخمَة، المُظهّرَة بالنحاس، عليه كانَ أن يَتماهى مع أبخرَة الريَب، المُتصاعدَة من داخلي: " هيَ ذي سانِحَتكَ، التي انتظرتها عُمْراً، لكي تقبضَ على القاتل ذاك، المَجهول "، خاطبتُ سرّي فيما أنا أرقبُ الصقليّ بانتباهٍ شديد. نعم. كانَ ذلكَ المَملوك، المَنحوس، المُترقي حديثاً إلى مَصاف الحجّاب، قد وقفَ جنباً لجنب مع عصمان أفندي كيما يُشرفَ مَعَهُ على شؤون الخِدمَة والضيافة. فما أن انسحبَ الخدَمُ، بعدما تناوبوا دَفعة ًوراء دفعة على حمل الحلوى والفاكهة والنقل، حتى أقبلَ عبدٌ حبشيّ، فارعُ الطول ومَرحُ السِحنة، مُحمّلاً بدَورهِ بعدّة القهوة. كعارفٍ بمَقامات الضيوف وترتيبها، باشرَ العبدُ شأنهُ مُستهلاً بوَسَطِهِ المُحزّم بزنار مَعدنيّ، عريض، مُستلاً منه أحدَ الفناجين المُذهّبَة: " تفضلوا، يا مَولانا "، خاطبَ باحترام وتبجيل فضيلة َ الشيخ سراجَ العابدين. وليغفر الربّ لي، إذا ما كنتُ عندئذٍ قد تركتُ النقشبنديّ يَرشفُ قهوته بتلذذ، فيما بصَري يتأمّلُ القمقمَ النحاسيّ، الموضوع على الطاولة في مُنتصف القاعة: إذ كانَ على شكل امرأةٍ حسناءٍ، برونزيّة الجلد، مُتناسقة القوام؛ بخصر أهيفَ وردْفٍ عريض؛ على شكل المرأة ذاتها ربما ـ وليغفر الله لي هذه أيضاًـ التي كانت فيما مَضى تأمُر بدسّ اسمّ لهذه أو تلك من غريماتها وأبنائهنّ.
" أرجوكَ، يا سيّدي، أن تأمروا في الحال برَفع دِلّة القهوة تلك، والتحفظ عليها "، هَمَستُ في أذن الزعيم مُمومئاً بعينيّ نحو الغرَض المَطلوب. بدَوره، أرسلَ الرجلُ نظرَة إلى تلك الجهة من عينيْن عميقتيْن، مُلتمعتين ببوارق الفِراسَة. وكانَ على مُثلثُ العِلم أن يَكتملَ، باشراك المُضيف في المَوضوع الطارئ، المُستطير. على ذلك، نهَضتُ بسرعَة إلى المكان ذاك، في أقصى القاعة، المَشغول من لدن عبد اللطيف أفندي، لكي أسرّ أيضاً في سَمَعِهِ: " من بعد اذنكَ، يا أفندي. سِرْ بنا إلى المَطبخ في الحال ". دونما نأمَة، قامَ المُضيف مُتعجّلاً، مُتأثراً خطوي المُتجه نحوَ مَدخل القاعة. ودبّ شيءٌ من الهرَج بين الحضور، بملاحظتهم غرابَة ما يَجري هنا وهناك: إذ كانَ بعضُ الخدَم قد بدأوا فعلاً بنقل الدِلّة النحاسيّة من القاعة، مُستبدلينها بمَنقل كبير، من المَعدن نفسه، يتصاعدُ منه دخانُ الجمَرات المُعدّة للنراجيل. فما أن أتمّوا رَكنَ المَجمر في مَحلّه، حتى التفتوا هذه المرّة نحوَ الصقليّ، الغارق في مُستنقع الحيرَة، ليحيطوا به في حَلقة مُحكمَة.

" أعتقدُ أنّ الوقتَ، الآنَ، غير صالح للتدقيق في جليّة الأمر "
خاطبني الزعيمُ بنبْرَةٍ مُعاتبَة، فيما كانَ يَهمّ بالعودَة إلى صالون الضيافة. وكنا قد اختبرنا، عَبثاً، مُحتوى عدّة القهوة؛ من دِلاء وفناجين. وعندما شرَعَ الرجلُ بالتحرّك، فإني استللتُ لمْحَة ً أخرى، مُتأنيَة، من مَلامِح مَملوكه، المَنحوس. عندئذٍ، وعلى حين فجأة انتبهتُ إلى حَرَكة هذا الأخير، الغريبَة: إذ كانَ ما يَفتأ في وَضعيّة الوقوف عَيْنها، مذ لحظة احضارهِ إلى المَطبخ؛ بيَديْه المَعقودتيْن إلى أسفل ظهرهِ ـ كما لو كانَ يُصرّ على اخفاءِ غرَض ٍما.
" ابْسُط يَديْكَ إلى الأمام، أيها الوَصيف "، اتجَهتُ إليه بأمري وبلهجَةٍ صارمَة. ثمّة، عند عتبَة المَطبخ، تجمّدَتْ خطى سيّدِهِ، وكأنّما الأمرُ يَعنيها، أيضاً. ومن ذلك المَكان، النائي نوعاً، كانَ على عينيّ الزعيم، المُتفرِّسَتيْن، أنْ تعينا ذِهنهُ، المُتوقِد. كذلك من جهته، أدركَ الأفندي مَرمى أمري لذاك للمَملوك، المَشبوه؛ فما كانَ منه إلا أن تقدّم منه كيما يَتفحّص راحَتيْ يَديه.
في بنصر الوَصيف، المُستدَق الحَجم، كانَ ثمة خاتم فضيّ نحيل. ولكنّ فصّ الخاتم، اللازوَرديّ، كانَ بالمقابل على جانبٍ من الضخامَة. وحينما اُمِرَ الوَصيفُ ثانيَة ًبخلع الخاتم، فإنّ سِحنتهُ أضحَتْ لشخص ٍآخر، مَحكوم بالمَوت. وعلى أيّ حال، فإنّ قاعدَة الفصّ، العريضة،عولِجَتْ من قبل أصابع الأفندي الصَبورة، الماهِرَة، إلى أن اُمْكنَ تحريكها: إذاك، وما أن تبَدّى لأبصارنا ما يُشبه الحفنة من المِلح، اليَسيرة للغايَة، حتى انتفضَ صاحِبُها بعنفٍ مُباغتٍ، وكما لو أنه أصيبَ بمَسّ. حَرَكة الوَصيف تلك، المًوْصوفة، عليها كانَ أن تفضحَهُ لا أنْ تنقِذهُ. إذ وبالرغم من انتثار الحفنة أرضاً، إلا أنه سُرعانَ ما جُمِّعَتْ ذرّاتها بعنايَة من لدن الخدَم، المُتواجدين.
" إنه مَدقوقُ السمّ، ولا رَيْب "، قلتها بيقين فيما كنتُ أتفحّصُ من بُعدٍ، مُناسبٍ، تلك المادّة، المشبوهة. قبلاً، كنتُ قد طلبتُ من الخدَم، حينما همّوا بحَصر الحفنة من أرضيّة المطبخ، ألا يَلمسوا ذرّاتها. وحينما سألني المُضيف عن نوعيّة هذا المَدقوق ، فإني أجبته بالقول: " إنه مُستخرَجٌ من أحد الأزهار، النادرة؛ التي كانَ المرحومُ، العشّابُ العجوز، يَستنبتها في مَسكبة حديقة دار الحديث ". ثمّ أضفتُ مُحدّقا في عينيْ المَملوك : " قد تكونُ زهرَة اكليل الجبل، أو ربما زنبق الوادي. بيْدَ أني أرجّحُ، والله أعلم، أن تكونَ زهرة الاقونيطن، الزاهيَة بلونيْها الأزرق أو البنفسجي، والتي دأبَ الأقدمونَ على جلبها من الجبال، كيما يُزينوا بها حدائقهم، المَنزليّة، ومنهم من كانَ يَعمُد إلى تجفيفها سَعياً لتحضير مَدقوق السمّ، القاتل ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السادس : مَجمر 4
- الفصل السادس : مَجمر 3
- الفصل السادس : مَجمر 2
- الفصل السادس : مَجمر
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 5