أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 4















المزيد.....

الفصل السادس : مَجمر 4


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3059 - 2010 / 7 / 10 - 10:05
المحور: الادب والفن
    


خلالَ سانحَة السويعَة تلك، المُنشغلُ فيها المُضيفُ وصِهرُهُ مع مَبعوث القبَجي، كنتُ بدَوري مُنفرداً بشَمس؛ ثمّة، في غرفة مُحترَفِها. إنّ هذا المُحترف، الكائن في مكان ناءٍ على طرَف حديقة الدار، الخلفيّة، كانَ يبدو مثلَ عين حَسناءٍ يَحفّ بها الأهدابُ الطويلة، الظليلة. وعلى ذلك، فإنّ عبَق الورود والأزهار، المُنتشر في الأجواء، كانَ عليه أن يَتسللَ إلى داخل المَرسَم هازماً الرائحَة المُزعجة، المُنبعثة من الأصبغة والألوان والزيوت.
إنها شمسُ، على كلّ حال، من اختارَتْ مكانَ خلوتنا هنا، في غرفة مَرْسَمِها. الحقّ، فإنه كانَ اختياراً صائباً، ما دامَ قِسم الخدَم موطوءٌ على مَدار الوقت من لدن مُريديه، المَعروفين بلجاجة الفضول والتقوّل. فعلى الرغم من مَظهر الحريّة، المُتسِم به مَسلكُ صاحب المنزل، إلا أنّ وجودَ صهره العتيّ، الزعيم، كانَ عليه أن يُبلبلَ، دوماً، أيّ فكرةٍ خرقاء تطرأ في خاطِر فتاتنا، الجَسورة. وإذاً لم تكن هيئتها حَسْب مُحتشمَة، بل وحرَكتها داخل المنزل كانت كذلك مَحدودة ومُقيّدة.
" أشعرُ كأني انتقلتُ من سجن إلى آخر "، هَمَست شمس بشيء من الحنق. هوّنتُ عليها الأمرَ مُشيراً بيدي إلى عديد اللوحات ، المُتناثرَة هنا وهناك: " ما دمتِ تبتدعينَ أشياء جديدة، يوميّاً، فهذا دليلٌ على أنّ سجّانكِ انسانٌ على جانب كبير من رهافة الحسّ والذوق "، قلتها بنبرَة مَرحة فيما بَصَري يتنقل باعجاب بين التصاوير والنقوش والمُنمنمات. معظمُ المُشخصات تلك، المَصبوغة بألوان حارّة ووَحشيّة في آن، كانت تمثلُ نسوة ً مُجرّدات تماماً من أيّ مَلبس. إنّ احداها، المُخططة بالفحم، كانت مُلوّنة جزئياً، مما يوحي بأنها في طور التشكّل: وكانت اللوحة تصوّر بنتاً عارية تمتطي حصاناً أبيضَ وهيَ في وضعيّة ركوب، مُتدابرَة، تتطلعُ نحوَ السماء عاقدة ً يَديها وراء رأسها، في حركةٍ تبرزُ نهدَيْها الناهضيْن،الثرّيْن، كما وفخِذيْها المُرَبْرَبيْن، الصقيليْن. في خلفيّة الرَسم ظهَرَ ما يُشبه الملائكة، المُتهاويَة أرضاً، سانِدَة ً بأجنحتها طفلاً صغيراً، مُروّعاً . وقد لفتتني هذه اللوحة، الكبيرة نوعاً، لأنّ وَجه صاحِبتها يتأثلُ ملامِحَ نرجس.

" لِمَ جَعلتِ الفتاة َ بهذه الوَضعيّة الغريبَة، الشاذة، شكلاً وحرَكة على السواء ؟ "
سألتُ باهتمام الرسّامَة الجَميلة، الجَريئة. عندئذٍ، وكانت عيناها أيضاً مُثبتتيْن بالرسم عَيْنِهِ، فتحَتْ شمسُ فمَها المُنمنم على بَسمةٍ مُقتضبَة لتجيبني من ثمّ: " كلّ عُرْي ٍ، نسَويّ، يَنبَجسُ خارجَ حائط الحريم، المُصَمَّت، هوَ غريبٌ وشاذ في عُرْفِكم، أنتم مَخطرُ الذكور. وكانَ الحريّ بكَ، أيضاً، أن تبدي الاستنكار نفسه، إزاءَ رَسم هذا الطفل، العاري، والذي من المُمكن أن تكونَ حرَكته مُستمدّة من تجديف الإفرنج؛ طالما أنّ تجسيدَ ملائكة الرَحمن، وأبالِسَته، هوَ شيَمة عَريقة في فنونِهم "
" سبقَ وحدّثتكِ، على ما أذكر، عن اعتيادي على مُعايَنة رسوم النصارى، المُشخِصَة أشكالَ الكائنات الحيّة، حينما كنتُ أزورُ منازل وكلاء القناصل الإفرنج، الذاخرة بتلك التصاوير. علاوة ً على أنّ بعضَ أولئك الوكلاء، أو زوجاتهم، كانوا بأنفسهم من مُحترفي الرَسم أو من هواة مُمارستِهِ. وبما أني كنتُ عطّاراً، أصلاً، فلا غروَ أن يلجأ إليّ هؤلاء الناسُ سَعياً لتأمين خامات مواد الصباغة، المُتوفرة في الأعشاب التي نستعمِلها في مهنتنا "، قلتُ لها ذلك فيما كانَ نظري يَغشى خللَ ما توافرَ من تلك المواد، المَوسومة، المُتناسِقة فوق طاولة عملها. ولكي أدللُ على ما يَربط بين حِرفتيْنا، المَعلومتيْن، فإني استطردتُ مومئاً إلى كلّ لون على حِدَة : " على الأرجح ، فإنّ أوّل الألوان التي استخدَمها الإنسانُ، كانَ الأحمر والبنيّ؛ بالنظر لبدائيّة مصدرَيهما، الترابيَيْن. ثمّ تطوّر الأمرُ إلى استعمال الألوان الأخرى: فكانَ الأسوَد من فحم الكروم أو من ثقالة النبيذ. أمّا الأحمر القاني ، فمن الزنجبيل ". إذاك قاطعتني مُحدّثتي، مُردّدة ً بشكل آليّ: " والأصفرُ من زيت البليْحاء؛ البرتقالي، من قشارَة الخشب الحَرجيّ؛ الأخضر ، من صلصال الزبَرْجد ؛ الأزرقُ الغامق، من صلصال اللازوَرد؛ والأزرقُ السماويّ، من خام النحاس. أما اللون الأبيض، الأكثر أهميّة للرسّام في المزج بين الألوان، فإنه أيضاً يُستخرج من احدى أعشاب عطارتكم؛ وهيَ المَنعوتة بالاسفيداج "
" حتى الهاونُ والمِدَقة، المُعتبَران من أدوات العطّار، الأساسيّة، أراهما عندكِ ثمّة "، قلتُ لشمس مُتضاحِكاً. وبالشعور ذاته من التفكّه، أجابتني هيَ: " وكيفَ إذاً سنسحَقُ موادَ الأصبغة، لولا أداتكم تلك، العتيدَة. وللمَزج بين هذه المواد، المَعلومة، فإننا بعيدَ سَحقِها نعمدُ إلى خلطها بالماء ومحّ البيض، فتصير مُتماسِكة وسَهلة الاستعمال حينما تصبغ قماشَ اللوحة، الكتانيّ أو الكرتوني ".

" على ذلك فإنّ العشّابَ، رَحِمَهُ الله، هوَ من كانَ يَمُدّكِ بتلكَ الخامات ولا غرو ؟ "
قلتُ لشمسَ بنبرَة عاديّة، مُتكلّفاً عدَم الاكتراث. وبالرغم من أنّ تساؤلي بدا بريئاً، ظاهِرياً على الأقل، إلا أنه كانَ صادِماً لرسّامتنا وباعثاً لكدَرها. إذ رَمَقتني بنظرَةٍ غير طيّبَة، قبل أن تجيبني باقتضاب: " هوَ ما قلتَ ". ثمّ أضافتْ فوراً، مُفاجئة ً إيايَ بدَورها: " ولقد اعتادَ المرحومُ أن يَمدّني، أيضاً، بشيء آخر لا يَقلّ مُتعة ًوفائدة ". وبما أنّ مُفردَة " شيء "، في اللغة العربيّة، تعني فيما تعنيه ذكرَ الرجل؛ فإني لبثتُ صامِتاً، عاجزاً حتى عن النظر في عينيّ الحسناء، المُظللتيْن بخِصَل شعرَها ـ كما جوهرَتيْن من لازوَرد في حقّ من العقيق. ولكن، من ناحيَة أخرى، رأيتُ أنّ ذلك الجواب، الجريء، قد مَهّدَ طريقي إلى خبيئة الفتاة. وكنتُ أتفكّرُ، مُحتاراً قليلاً، بطريقةٍ ما، مُناسبة، لحثّ محدّثتي على الاعتراف بخفايا علاقتها مع ذلك العشّاب العجوز، عندما بادرَتْ هيَ تلقائياً وببساطة إلى استئناف كلامها.
" كنتُ على توْق ٍ، دوماً، للإفضاء لكَ، أنتَ بالذات، عَما كانَ يَجعلني مَريضة ًمن فينة إلى أخرى. وربما أنتَ تتذكر جُملة البَوح، التي قلتها لكَ خلال لقائنا، الأول، حينما كنتُ أنا طريحَة الفراش وأتوا بكَ لكي تحَكّمَني: لقد أشرتُ عندئذٍ إلى قلبي، قائلة ً أنه ثمّة عقارب مُعششة فيه ولا تدَعني أهدأ، أبداً "، نطقت كلمتها فيما كانت تضعُ يَدَها على صَدرها، مُعيدَة ً حرَكتها تلك، المَوصوفة آنفاً من لدنها. وسكتتْ مُحدّثتي عند هذا الحدّ، مُرسِلة ً بَصَرَها نحوَ الفضاء الخارجيّ، الكليّ الضوء، وعبرَ نافذة المُحترَف، العريضة للغايَة، والمُتبدّيَة كأنها شمسيّة هائلة الأبعاد في قاعَة كبرى.
" ها أنا ذا، ويا لعبَث المَقدور، أمثلُ دورَ راهبٍ، نصرانيّ، يُمارس طقسَ الإعتراف مع أفراد رعيّته الواحد بأثر الآخر "، خاطبتُ نفسي مُتهكّماً. نعم. لقد كرّتْ سُبْحَة الإعترافات؛ من المَملوكيْن الصقليّ والروميّ، إلى الأختيْن ياسمينة ونرجس، وحتى المُدرِّسَة هذه، السابقة.

حينما ودّعَتْ روشين أمّها واخوتها، مُتوجّهة ً مع والدها إلى الشام، فإنها لم تكُ تدري بأنها لن تراهم ثانيَة ً، أبداً. آنذاك، كانت البنت البَهيّة، ذات الشعر العقيق، قد خلّفتْ ورائها خمس عشرة عاماً من العمر ؛ من ذكريات طفولتها وشِقوَتها في بلدَة الزبداني. ولم يكن عليها ثمّة، في مدرسة الحديث البرانيّة، أن تنسى أسرتها وذكرياتها حَسب؛ بل واسمها، أيضاً: فإنّ كبيرَة الحافظات، المَرأة البَدينة والصارمَة، كانت على ما يبدو قد ازدردَت بصعوبة اللفظ الكرديّ " روشين " ( أيْ: الشمس الحزينة )؛ فما كانَ منها إلا أن أعطتْ صاحِبَتهُ اسمَ " شمس "، المُوافق للترجمَة العربيّة، حاذِفة ً منه الصِفة الحزينة. بيْدَ أنّ الصفة هذه، عليها كانَ ألا تفارقَ طالبة العلوم الدينيّة، المُبتدئة، وهيَ ثمّة وراء الأسوار الحجريّة، الكامِدَة: فإذ لطالما حَلمتْ البنتُ بمَرأى الشامَ، فإنها لم تحظ سوى بالمرور عبرَ أرباضها ودروبها؛ هيَ المَدينة المُقدّسَة، التي كانَ أهلها وأقاربها قد سبقَ لهم وهاجروا إليها من اقليم الجبل بُغيَة نيل نعيم الدنيا والآخرة.
" ألم تبعَث المُشرفة بطلبكِ، بعدُ ؟ "، سألتها إحدى البنات الثلاث، اللواتي كنّ يُقاسِمْنها السكنى في الحجرة. وبما أنّ شمسَ لم تفهمَ سَبباً، موجباً، لتضاحك أولئك البنات من سؤال زميلتهنّ، فإنها لزمَتْ الصمتَ بعدما أجابَتْ بالنفي. في اليوم التالي مُباشرة ً، حقّ لطالبتنا الجديدة أن تدركَ باعثَ مَرح زميلاتها، المُتخابثات: فما أنْ وَقعَ عليها عينُ تلك المرأة، المُشرفة على شؤون الردهة،حتى بدا جلياً أنها بُهرَتْ بفِتنة قسَماتِها كما وبرشاقة قوامِها. يَومان آخران على الأثر، وحانُ موعدُ الحمّام، الأسبوعيّ، المَنذور للمُقيمات في دار الحديث؛ من حافظات ومُشرفات ومُدرّسات ودارسات. كانَ ذلكَ في ظهيرة يوم جمعة، مُبارك، ربيعيّ الطقس، عندما شهِدَ مَبنى الحمّام، الكائن في الدور الأرضيّ، تجَمُّعَ الطالباتِ المُبتدئات، المُتمتعاتِ بعطالةٍ رَخيّةٍ سبقَ وأسلمَتْ أجسادهنّ لهناءة نوم أكثر طولاً في ساعاتِهِ. وإذا بالمُشرفة تلك، المَوسومة، تتجه فجأة ً نحوَ شمس طالبَة ً منها أن تتبَعَها إلى حُجرَتها. في هذه الحجرة نفسها، المَركونة عند طرَف السلّم في الدور العلويّ والتي سُيقدّر للدارسَة أن ترثها من مُدرّستها بعدَ هذا اليوم بحوالي الستة أعوام، كانَ على الأولى أن تتلقى من الثانيَة الدروسَ التمهيديّة، البكر، في امتحان البَدَن.

" أمّا العشّاب ذاك، فقد كانَ آنذاك خليلَ المُشرفة، الخفيّ "
قالت لي شمس بنبرَة أخرى، أكثر شفافيّة، ثمّ استأنفتْ روايَة اعترافاتها " وعندَ عشيقته تلك، كانَ على الرجل، المُقارب ختام الخمسين من عمره، أن يَتعرّفَ عليّ وأن يتسلّمَني منها، فيما يُشبه الصفقة. ومن المؤكد، أنني لم أكن البنت الأولى، في دار الحديث، التي تطوى في تصاريف العلاقة تلك، المَشبوهة، بين المُشرفة والعشّاب. بيْدَ أني، بالمقابل، كنتُ آخرَ بنتٍ يُقدّر للرجل أن يَستمتع بها "، قالتها بتشفّ و غِلّ.
وبدا لي مما عَرى مَلامِحُ الراويَة، من عوارض المِحَن والشدائد، أنّ علاقتها مع العشّاب ذاك، كانت هيَ الأمضّ مَرارة في مُخلّفاتِ نفسِها. وعليّ كانَ، من ناحيَة أخرى، أن أتذكّر توصيف عبد اللطيف أفندي للعِقد النفسانيّة؛ حينما ميّز بخبرَتِهِ وفطنتِهِ حالة َ المَملوك، الروميّ: الحقّ، فإنّ اشارَة شمس للجرح البليغ، المُنغص سيْرَ حياتها، الطبيعيّ؛ هذه الاشارة، أجَزتُ لنفسي أن أحيلها إلى حالة مَملوكنا ذاك، المَعلومة. إذ كانَ العشّابُ، ومذ خلوَته الأولى بالبنت، قد جَعل جَسَدَها مَطيّة لرغباتِهِ ونزواتِهِ الأكثر شذوذاً وفحشاً ـ كما لو أنه جَسَدُ جاريَةٍ قد تملّكه بدراهمِهِ.
" سنجرّبُ الآنَ طريقة ً جديدة، مُمتعة، مِنْ طرُق النيك. مع أنها طريقة قديمَة، وكانت مَعروفة للأولين من أسلافنا "، هَمَسَ العشّابُ في مَسمَع البنت، فيما كانَ يَقلبها على ظهرها. فإذ اعتادَ الأخرَقُ، قبلاً، على اختراق عشيقته الصغيرَة من وراء، مثلما يُفعَلُ بالغلام، إلا أنه أرادَ يومئذٍ أن يَجعلها في مُنقلبٍ آخر، حينما كانَ دِبْرُها يُدَبَّرُ كيما يَبدو مَكشوفاً من أمام لعينيْه النهمَتيْن. فما أن تمّ له ذلك، حتى وَجّهَ ذكرَهُ الغليظ، القائم كالساريَة، نحوَ موضع اللذة ذاك، المُحرّم، الذي كانَ مُنمنماً مثل حلقة الأذن وضيّقاً مثل خاتم البنصر. ومع صرخة البنت، المُنبَعثة على غرّة في سكون الليل، ما كانَ من العشّاب سوى التلبّث بلا حرَكة وقد شلَّ الوَجلُ كيانهُ. في الهنيهة التاليَة، ومع تصاعد رائحَة الغائط، الغريبَة، لم يكن من البنت، بدَورها، إلا أن دَفعَتْ عنها الرجلَ بركلةٍ شديدة من قدَمِها، حانقة. مذاكَ الحين، حاولَ العشّابُ بكلّ السُبُل اعادة علاقته مع شمس، دونما أيّ جدوى. ثمّ مَضتْ فترة أخرى، قبلَ أن يتسنى لها مُصادَفة العشّاب لديها في الردهة ، القائمَة هيَ على إدارتها؛ وكانَ قد تمّ استدعاؤهُ لتطبيب احدى الطالبات: لِوَهلةٍ، لم تتعرّف المُشرفة، الجديدة، على العشّاب العجوز، الواقف على بُعد خطواتٍ منها. وحينما مَيّزتْ شخصَهُ، أخيراً، حقّ لها أن تعجبَ من فعل الزمان بهذا الرجل المُتهالك، المُتهدّم البنيان؛ الذي كانت تعلمُ ولا غرو أنه أصغر من سن الشيخوخة، المُتلبّس جَسَده و روحه على السواء.

على الرغم من صِلتي بشمس، الحَميمة، فإني لم أجرؤ وقتئذٍ على الاستفهام منها، عن سرّ استسلامِها للرجل ذاك؛ مع أنها لم تكُ تشعر بأيّ لذةٍ خلال مَرات مُضاجَعَاتِهِ لها، العديدةـ كما شدّدَتْ هيَ أمامي مِراراً وبمَرارة. على أيّ حال، فإنّ مُختتمَ تلك العلاقة السرّية، المُحرّمة، قد شاءَ أن يَحلّ عندما أضحَتْ الفتاة امرأة ناضجَة، كاملة الأنوثة، مُشارفة على العشرين من سنيّ عمرها. وإنها تلك السنّ المُتأخِرَة، المَشئومة، التي كانت فيها البنتُ، المُسلِمَة، تدرك العنوسَة ولا رَيْب: أكتبُ ذلكَ، أنا من يحيا اليومَ مَنفياً في صقع جزيرَة الأروام هذه؛ أينَ العادات والأعراف مُختلفة، بطبيعة الحال. فإنّ المرأة النصرانيّة هنا، ما تفتأ تعدّ بنتاً ما دامَت بكراً، ولا يُمكن الحديث عن عنوستها قبلَ أن تبلغَ منتصف الحلقة الثالثة من عمرها. هذا ناهيكَ عن أنّ الفتيات، في هذه البلاد البعيدة، يَتحصّلنَ العِلمَ دونما خشيَة ً من أن يَفوتهنّ رَكبُ الزواج؛ بل إنّ ذلكَ ليزيد من حظهنّ في الحظوَة بعَريس، مُناسِبٍ، ذي وَجاهَةٍ وغِنى. ولله في خلقِهِ شؤونُ.
" لقد اُخبرتُ من ذاكَ المَملوك، الصقليّ، أنكَ اصبتِ بالانهيار لدى عِلمِكِ بنبأ موت العشّاب؟ "، سألتُ شمس باهتمام. فما كانَ منها، على دَهشتي، سوى اطلاق هأهأة مُتهكّمَة. ثمّ ما عَتمَتْ أن كفتْ عن شعور المَرَح، لتجيبني بسُخط: " يا لهُ من خِصْي ٍ مأفون ومُزعج؛ الصقليّ هذا. ولقد سبقَ أن عَبّرتُ صباحاً عن استغرابي ، لمّا أخبرَتني نرجس بعَزم والدِها على اصطفاءِ مَملوكِهِ ذاكَ وَصيفاً ". فما أن أنهَتْ الفتاة ُ جُملتها بذكر الزعيم، حتى أتى إليّ مرسالاً من لدنه. فالمَملوك الآخر، الروميّ، المُتكفل أمرَ خلوتي بشمس، ما لبثَ أن ظهرَ فجأة ً على عتبَة باب المُحترَف، ليقول لي بصوتٍ مُنخفض أنّ سيّدَهُ يَطلبني في الحال.
" حَسَنٌ أنكَ ما زلتَ بَعْدُ في كنفِنا ، يا آغا "، خاطبَني الزعيمُ بترحاب. ثمّ أردَفَ بنبرَة أخرى، فيها ما فيها من قلق وتوَجّس: " لقد بَعثتُ أيضاً في طلب أركان مجلس العموميّة، علاوة ً على أعيان البلد الآخرين، وبضمنهم طبعاً صاحبنا الماكر؛ القاروط. إنّ المسألة في غايَة الأهميّة والخطورة، على ما فهمته بنفسي من كلام مَبعوث سعادة القبَجي؛ الذي شرَفني بزيارته قبل قليل: فإنّ مولانا السلطان، حفظه الله، قد قرّرَ أخيراً تسييرَ وال ٍ جديد للشام الشريف. ويبدو أنّ هذا الباشا المُكلّفَ، على أغلب الاحتمالات، هوَ في طريقِهِ فعلاً لمدينتنا، وربما يَصلها براً مع جيش جرار، لرَدْع أطماع عزيز مصر، المَعلومة ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السادس : مَجمر 3
- الفصل السادس : مَجمر 2
- الفصل السادس : مَجمر
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9


المزيد.....




- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 4