|
الانتماء القومي وإشكالية الهوية [1]
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 3057 - 2010 / 7 / 8 - 19:19
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تقديم: إن الوضع الراهن، الذي تعيشه شعوبنا العربية، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية "سايكس بيكو" وتجزئتها لوطننا العربي عام 1916، ووعد بلفور عام 1917، والنكبة الأولى لشعبنا العربي الفلسطيني عام 1948، ثم انهيار الوحدة العربية بين مصر و سوريا في أيلول 1961، و تطورت بعد هزيمة حزيران 1967، و تعمقت و امتدت بعد كامب ديفيد 1979 ووادي عربة وأوسلو والحكم الإداري الذاتي وصولا إلى هذه الحالة من الخضوع الرسمي العربي وقبوله بتفكيك وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العربية وفق المخطط الأمريكي الذي يجري تطبيقه اليوم في بلادنا، بحيث يمكن القول بأن الربع الأخير من القرن العشرين، والأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين، حملت معها صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر و النهوض الوطني و القومي، تحول هذا الوطن بدوله العديدة و سكانه إلى رقم كبير –يعج بالنزاعات الداخلية و العداء بين دوله-، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية، و تحولت معظم أنظمته و حكوماته إلى أدوات للقوى المعادية، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة و الفعل و المواجهة، في إطار عام من التبعية على تنوع درجاتها و أشكالها السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية والثقافية و السيكولوجية، في ظروف فقدت فيها القوى و الأحزاب الديمقراطية الوطنية و القومية و اليسارية قدرتها –لأسباب ذاتية و موضوعية- على الحركة و النشاط و النمو، و تراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها. وبمناسبة الحديث عن الانتماء القومي وإشكالية الهوية تحضر إلى الوعي جملة متداخلة من الأسئلة: ما هي العوامل التي صنعت إخفاق المشروع القومي النهضوي العربي الحديث؟ لماذا انتهى المشروع القومي من مشروع الدولة القومية الموحدة إلى مشروع دولة قطرية لا تحتفظ من القومية إلا بشعارات لا وظيفة لها، إلا ترسيخ موقع الدولة القطرية إياها؟ وما هي طبيعة الدور الذي لعبته الشرائح البيروقراطية والكومبرادورية المسيطرة على أنظمة الدولة القطرية منذ انهيار المشروع القومي في مصر 1970 وبداية مرحلة جديدة من التبعية والخضوع للنظام الرأسمالي العالمي؟ وكيف كرست الدولة القطرية في ظل المرحلة الجديدة ما يسمى بعملية إعادة إنتاج التخلف في بلادها بالتحالف المباشر وغير المباشر مع التيارات الدينية السلفية؟ وكيف استفادت الحركات الإسلامية من هذه التحولات، خاصة بعد أن أدت دورها في أفغانستان بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ وصولاً إلى استكمال الهيمنة الأمريكية على معظم بلداننا العربية إلى جانب تفاقم عدوانية وصلف وعنصرية دولة العدو الصهيوني و إصرارها على فرض شريعة المحتل الغاصب, ورفضها التعاطي مع قرارات الشرعية الدولية أو الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وحق العودة, الأمر الذي أوصل فكرة "حل الدولتين" إلى أفق مسدود, وبالتالي تزايد إنتشار مظاهر القلق والإحباط في أوساط الشعوب العربية عموما, والشعب الفلسطيني خصوصاً, مع تزايد حالات التفكك الاجتماعي والطائفي والفقر والبطالة التي أدت بدورها إلى استفحال الصراعات والإستقطابات الداخلية على المستوى العربي, واستفحال الصراعات الدموية في الساحة الفلسطينية التي أدت إلى تكريس الانقسام والانفصال بين الضفة وقطاع غزة الذي سيطرت عليه حركة حماس منذ منتصف العام 2007 . إن كل هذه التحولات التي أدت إلى تكريس الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في فلسطين وبلدان الوطن العربي من ناحية، وتكريس الهيمنة الأمريكية الصهيونية على مقدرات شعوبنا من ناحية ثانية, ساهمت في خلق المناخات الملائمة لإنتشار وتوسع الحركات السلفية الأصولية·, في ظل تفكك أو تراجع أو انهيار الحركات والفصائل والأحزاب اليسارية الديمقراطية ، الذي أسهم بدوره في تحفيز الحركات الدينية وتوسعها وانتشارها الكمي الهائل في مجتمعاتنا باسم "الإسلام السياسي" تحت شعار " الإسلام هو الحل ". والسؤال هنا : هل تتوفر لهذا الشعار أي إمكانية واقعية للتحقق في بلادنا باسم الخلافة الإسلامية أو غير ذلك من الأنظمة الدينية في اللحظة المعاصرة من القرن الحادي والعشرين ؟ إننا إذ نؤكد احترامنا لتراث شعوبنا الديني ، وللمشاعر الدينية، إلا أننا نرى أن هذه المنطلقات الدينية والتراثية ، خاصة في إطار الإسلام السياسي، لن تكون قادرة –وليست راغبة بالطبع - على مواجهة الأزمات السياسية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية المستعصية في بلادنا، انطلاقاً من ضرورة التمييز بين الدين والدولة ، أو من منطلق الهوية القومية العربية أو حتى الهوية الوطنية ، لأن تيار الإسلام السياسي هو تيار نقيض للقومية العربية "لصالح هوية أكثر شمولاً لا حدود جغرافية لها ، هي الهوية الإسلامية ، وقد بنى أصحاب هذا التيار موقفهم على أساس عقيدي مؤداه أن القومية مقولة علمانية تناقض العقيدة والدين ، وأن أواصر الجنس والأرض واللغة والمصالح المشتركة إنما هي عوائق حيوانية سخيفة ، وأن الحضارة لم تكن يوماً عربية وإنما كانت إسلامية ، ولم تكن قومية وإنما كانت عقيدية (سيد قطب ) ، بينما اعتبر البعض الأخر موقفهم على أساس أن النزعة القومية مصدرها الاستعمار الصليبي ، وأن نصارى الشام هم الذين روجوا لها (د.يوسف القرضاوي). وقد بلغ التطرف عند بعضهم إلى حد اتهام الدعوة إلى القومية العربية بالكفر الصريح . لكن يوجد داخل هذا التيار الديني من يدعو إلى التعامل مع المنطقة كوحدة ذات مصالح وهوية مشتركة ، ودفعها باتجاه تحقيق الوحدة العربية (راشد الغنوشي) ، كما يوجد من يدعو إلى التوفيق بين العروبة والإسلام (د.حسن الترابي) "[2]، وفي كل الاحول ، فإننا بالرغم من اختلافنا مع المنطلقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحركات الدينية ، إلا أننا نحرص على أن تكون العلاقة بين جميع القوى السياسية ، مستندة إلى الحوار الديمقراطي المرتكز إلى مفاهيم الاستنارة العقلانية والموضوعية. وفي هذا الاطار ، تنطلق اسئلتنا المثارة حول الدولة القطرية والقومية والاسلام السياسي ، من فرضية تقر بشرعية الفكرة القومية، ضد التبعية والتجزئة والتخلف، وهي شرعية تنهل شخصيتها من بابين: الحق التاريخي المشروع للجماعة العربية في التوحيد القومي، ثم تصحيح وازاحة أوضاع استعمارية شاذة عبثت بالجغرافيا السياسية العربية إبان حقبة الاحتلال وما بعدها وصولاً إلى تجزئة المجزأ من الاقطار العربية في المرحلة الراهنة . على أن هذه الأسئلة، تنطوي على اتهام صريح لتجربة التعبير عن تلك الفكرة القومية نظريا، وحزبيا، ودولتيا. فما من شك –كما يقول محمد الجابري- في أن "شعوب العالم العربي تجتاز اليوم ظروفا صعبة: تواجه تحديات تتهددها ليس فقط في هويتها كشعوب تتطلع إلى تحقيق نهضتها وتقدمها واستقرارها، بل تواجه تحديات وأخطارا تهدد كثيرا منها في كيانها كوجود. ومن هنا هذا السؤال الذي يفرض نفسه على كل شعب أو طائفة، سؤال: من أنا؟ من نحن؟ وهذا السؤال المقض للمضاجع لا يتعلق بالحاضر، بل يتعلق أكثر بالماضي والمستقبل"[3]! ذلك أن مسألة الهوية عندما تطرح نفسها على شعوب ، كالشعوب العربية التي اجتازت خلال تاريخها المديد تجارب قاسية، يجب أن ينظر إليها على أنها تعبير عن الحاجة، لا إلى تحديد الهوية، بل إلى إعادة ترتيب عناصرها وإعادة إرساء علاقتها بالمحيط. بالشكل الذي يُمَكّن من اجتياز الأزمة التي يطرحها سؤال الهوية في مثل هذه الظروف التي تشير أو توحي إلى أي راصد غير متعمق لما يجري في الساحة الثقافية والاجتماعية العربية بأنه " سيصطدم بوجود وجهات نظر متباينة كثيرة حول مسالة الهوية ، الأمر الذي يجعله يخال أنه في مواجهة هويات متعددة تشكل كل واحدة منها فضاءً قائماً بذاته ، لا رابط بينه وبين الفضاءات الآخرى ، ما يتبدى للبعض أننا نعاني فعلاً أزمة هوية في الوطن العربي"[4] مع أنها في الواقع هي ازمة مجتمعية بسبب فشل واخفاق القوى الماركسية القومية النهضوية العربية . وفي ضوء التباين الشديد بين وجهات النظر حول الهوية بين أهل اليمين والوسط واليسار ، فإن الحديث عن الهوية لا بد أن يكون محاطاًَ بالكثير من أوجه الاختلاف والتناقض الفكري والسياسي ، خاصة في وطننا العربي الممزق قطرياً وطائفياً وطبقياً واثنياً وعشائرياً من ناحية ، والممزق أيضاً بين تيارات الحاضر والماضي وضبابية المستقبل، فبلداننا العربية تعيش حالة من "الشيزوفرانيا" المعرفية والسياسية، بحكم وجودها الشكلي في القرن الحادي والعشرين وانتمائها الفعلي والجوهري للقرن الخامس عشر ، وما ينتج عن ذلك من تشتت في مفهوم الهوية ذاته ، حيث نجده مفهوم غامض في أوساط الأغلبية الساحقة من الناس في المجتمعات العربية . فلو سألنا أحد الناس العاديين - في أي بلد عربي- من أنت ؟ لما وجد مشكلة في الإجابة التي سيقول فيها: أنا فلان من العائلة أو القبيلة أو الحاموله أو الطائفة الفلانية (الهوية هنا مرادف للتخلف أو الولاءات العشائرية والطائفية والقطرية) . ولو سألت "مثقفاً" من أهل السلطة أو Ngo s السؤال ذاته، فسيدخل معك في متاهة من الفذلكات المحكومة لمفردات وتعابير لا علاقة لها بتطور شعوبنا أو الخروج من أزماتها السياسية والمجتمعية ، بقدر ما تعكس متطلبات الجهات الأجنبية المُمَولة التي تسعى إلى تكريس التبعية والسيطرة الإمبريالية على مقدراتنا . أما المثقف الموضوعي، العضوي، المنتمي ، الجبهاوي مثلاً فهو يدرك معنى السؤال ويربط الاجابة عليه انطلاقاً من وعيه لهوية حزبه الفكرية، ويعلن على الفور انتماؤه إلى الوطن العربي الكبير، دون أن يتجاوز هويته الوطنية و هموم وطنه الصغير، وهو في نفس الوقت يرتقي بالهوية من حيث التفكير إلى مستوى البحث العلمي، لمعرفة الأسباب الحقيقية لهزائمنا واستمرار السيطرة الخارجية على مقدراتنا، بما يضمن تحقيق أهدافنا في التحرر الوطني والقومي الديمقراطي. حول مفهوم الهوية: مفهوم الهوية دخل او تسرب الى الفكر العربي[5] في نهاية القرن 19 أو بداية القرن 20 ، حيث أننا لا نجده ضمن المصطلحات المترجمة في تلك الفترة مثل : الحرية والثورة/ الأمة / القومية / المساواة / الوطن. فقد حدد العربي هويته في العصر الحديث متأثرا بعلاقات الهيمنة التي فرضها عليه الغرب و بدافع التحرر من هذه الهيمنة من ناحية ومن كل مظاهر الاستغلال الطبقي والاستبداد والاضطهاد الداخلي من ناحية ثانية. من هذا المنظور التحليلي الجدلي ، نُعَرِّف الهوية على أنها "حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية[6] , والهوية أيضاً هي وعي للذات و المصير التاريخي الواحد ، من موقع الحيز المادي و الروحي الذي نشغله في البنية الاجتماعية ، و بفعل السمات و المصالح المشتركة التي تحدد توجهات الناس و أهدافهم لأنفسهم و لغيرهم ، و تدفعهم للعمل معا في تثبيت وجودهم و المحافظة على منجزاتهم و تحسين و ضعهم و موقعهم في التاريخ . كما تُعَرّف الهوية أيضاً بأنها "السمات المشتركة التي تتميز بها جماعة معينة من الناس وتعتز بها ، أو هي مجموع المفاهيم العقائدية والتراثية لجماعة إرتبطت بتاريخ وأصول إنسانية ومفاهيم فكرية أدت إلى افراز سلوك فكري وقيمي مترجم بأدب وفن وفلكلور جعل من تلك الجماعة ذو شخصية مميزة عن غيرها . فالهوية إذن هي مجموع السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعاً بعينه وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات وطرائق الإنتاج الاقتصادي والحقوق. وفي هذا السياق نشير إلى أن الهوية ، من حيث كونها أمرا موضوعيا و ذاتيا معا ، هي وعي الانسان و احساسه بانتمائه الى مجتمع أو أمة أو جماعة أو طبقة في اطار الانتماء الانساني العام, انها معرفتنا بما ، و اين ، نحن ، ومن اين أتينا، و الى اين نمضي ، و بما نريد لانفسنا و للاخرين ، و بموقعنا في خريطة العلاقات و التناقضات و الصراعات القائمة، كما عُرّفت الهوية أيضاً باعتبارها شعوراً جمعيًّا لأمةٍ أو لشعبٍ ما، يرتبط ببعضهِ ارتباطاً مصيريًّا ووجوديًّا. وفي هذا السياق نشير إلى أن تميز جماعة بهوية لا يعني تطابق أفراد الجماعة، إذ أن إلتماس الوحدة والتجانس والتماثل أبداً هو التماس لموات الوجود, والتماس لخاصية التحجر والجمود, وبالتالي تتناقض مع حركة التطور والتغيير الدائمة ، كما تتناقض مع جوهر الديمقراطية والتعددية، الهوية الحقة هي تطابق الهوية مع الاختلاف الهادف إلى الارتقاء بالجماعة والمجتمع. أما تعريف الهوية من منظور ماركسي، فإن الطبقة هي أحد المحددات أو التعبيرات الهامة للهوية، إنطلاقاً من أن صراع الطبقات هو المحدد الأساسي في التاريخ ، لكن هذه المحددات الطبقية على أهميتها ، لا يمكن أن تتجاوز السمات المكونة لهوية الشعب أو هوية الامة بالمعنى الجمعي ، الوطني أو القومي . وفي هذا السياق نشير إلى أن عناصر الهوية الإنسانية فردية كانت أو جماعة لا تنحصر في العناصر المادية وحدها بل تتعدها إلى مجموعة أخرى من العناصر[7]: 1- العناصر المادية و الفيزيائية: و تشتمل على الحيازات (مثل الاسم و السكن و الملابس) و القدرات (الاقتصادية و العقلية) و التنظيمات المادية و الانتماءات الفيزيائية و السمات المورفولوجية[8]. 2- العناصر التاريخية: و تشتمل على الأصول التاريخية, و الأحداث, و الآثار التاريخية. 3- العناصر الثقافية و النفسية: و تتضمن النظام الثقافي مثل (العقائد و الأديان و الرموز الثقافية و نظام القيم و صور التعبير الأدبي و الفني) و العناصر العقلية مثل (النظرة إلى العالم, و الاتجاهات و المعايير الجمعية) و النظام المعرفي مثل (السمات النفسية الخاصة, و اتجاهات نسق القيم). 4- العناصر النفسية الاجتماعية: و تشتمل على الأسس الاجتماعية مثل (السكن و الجنس و المهنة و السلطة و الدور الاجتماعي و الانتماءات, و القدرات الخاصة بالمستقبل مثل (القدرة و الإمكانية و التكيف و نمط السلوك). ان بلورة الهوية القومية يعتمد على الوعي العميق بان هناك اندماجاً أو هناك علاقات عضوية وثيقة بين التحرر القومي من الهيمنة الخارجية و التحرر من هيمنة الطبقات و الجماعات السائدة داخل المجتمع, وذلك انطلاقاً من إدراكنا لمفهوم القومية بأنها "شعور ووعي الشعوب العربية بوجودها المتميز سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحضارياً, وسعيها لإبراز هذا الوجود", وفي هذا السياق نؤكد على منظورنا الفكري والسياسي بالنسبة لشعور ووعي شعوبنا, وهو منظور يستند إلى الرؤيا الماركسية التي ترى في جموع الكادحين والفقراء من أبناء شعبنا، المادة الأساسية للروح القومية وتجسيداتها العملية, على النقيض من الرؤية البرجوازية التي تربط حاضر ومستقبل القومية والوحدة العربية بالطبقات البرجوازية. حول إشكالية الهوية : إن مفهوم الهوية ، هو مفهوم إشكالي ، لأن للهوية أبعاد شائكة ومتداخلة فيما بينها تتصل بالحقل الفلسفي والمعرفي والسياسي والتاريخي، علاوةً على عوامل أخرى تتفاعل مع الهوية كاللغة، والأيدلوجيا، والتراث، والدين, وهذه الإشكالية تحتمل الحل وعدمهِ، بحيث نكون أمام معادلة متحركة، تنتج نفسها بنفسها، وتعيد ترتيب أولوياتها، والسبب يعود إلى طبيعة الهوية المتغيرة في مرحلة العولمة المعاصرة التي فرضت على هذا العالم (الكوكب) ألواناً متنوعة من التحولات والمتغيرات الكمية والنوعية المتسارعة ، وبالتالي فإن فهم واستيعاب مفهوم الهوية أو تعريفها بصورة محددة يختلف من باحثٍ لآخر، ومن نموذجٍ لمجتمعٍ بشريٍّ لآخر، ومن حضارة لأخرى، ما يضعنا أمام عدة تعريفات، تختلف فيما بينها، إلا أنها تُجْمَل في الإطار العام على أن الهوية ليست شيئاً منجزاً ونهائياً منغلقاً على ذاتهِ، وإنما امتداد للتاريخ والحضارة، وهي قيم وخصائص قابلة للتحوير والتطوير والتحول من زمن لآخر– حسب المستجدات –، لذا فهي – أي الهوية – تمر في تفاعل وازدهار وتعيش حالة ركود وخمول وانكماش، كما وتتماهي مع الهويات الأخرى – العشائرية والطائفية والاثنية .. الخ. ان اشكالية الهوية الوطنية ، في فلسطين كما في البلدان العربية ، كانت وما تزال ، احدى القضايا الجوهرية القائمة أمام الوعي السياسي، كما أنها احدى القضايا التي تتمركز فيها الوسيلة والغاية بقدر واحد فيما يتعلق بآفاق المستقبل ، وذلك لما لها من دور حاسم في توحيد أو تشتيت القوى في المرحلة الحالية من صيرورة المجتمعات العربية، وهي مرحلة عاصفة ، تعتمل فيها الصراعات الطبقية والاثنية والدينية الطائفية جنباً إلى جنب مع تفاقم مظاهر التخلف والفقر المدقع في العديد من الدول العربية ، خاصة في السودان والصومال وموريتانيا ومصر وفلسطين والمغرب والعراق، وأخيراً اليمن والذي ما زال النظام العبودي سارياً فيه –في العديد من المحافظات- حتى هذه اللحظة من القرن الحادي والعشرين بعد حوالي خمسين عاماً على إعلان "الجمهورية" !!؟ وفي هذا السياق، نؤكد على وجود هذا النمط العبودي بدرجات متفاوتة في شبه الجزيرة العربية "السعودية" وسلطنة عُمان وبعض المشيخات "الامارات" الخليجية ، الأمر الذي يؤكد على ان الوعي بالهوية الوطنية أولاً - كشرط لنضوج الوعي بالهوية القومية - هو وعي مشوه ، ناقص ، أو مُغَيّب ، بسبب استمرار اختلاط الانماط القديمة العبودية والاقطاعية ، القبلية والعشائرية ، مع الانماط الرأسمالية التابعة والمشوهة في هذه البلدان التي أدت إلى توسيع الفجوات بين الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية المضطهدة والمْستَغَلة من ناحية ، وبين القلة الطبقية البيروقراطية الحاكمة وحليفها الكمبرادوري والعشائري من ناحية ثانية ، حيث جرى تكريس التخلف والافقار والجهل لا فرق بين نظام ملكي أو جمهوري في هذا الجانب من حيث تخلفهما وتبعيتهما وحرصهما على تبهيت أو تغييب الهوية الوطنية لحساب مصالحهما الطبقية في إطار الهويات القديمة ، العشائرية والقبلية المتخلفة ، من هنا تتبدى ضرورة معالجة مسألة الهوية – كما يقول محمد عبد الجابري- "ككثير غيرها من المسائل ، لكن هذه المعالجة تتوقف على الطريقة التي نتعامل بها معها ، فإذا نحن نظرنا إلى الهوية من حيث الثبات ، من حيث الهو – هو ، ( وهذا هو معنى الهوية في اصطلاح المنطق الصوري: أ=أ ) فإننا سنجد أنفسنا "نتحرك" على نقطة ميتة ، ولذلك كان من الضروري التعامل مع مسألة الهوية من زاوية تسمح بممارسة الفعالية العقلية فيها ، وذلك بالنظر إليها أولاً من الزاوية التاريخية ، الزاوية التي تفرض النظر إلى الاشياء ، لا من خلال الثبات والجمود ، بل من خلال التطور ، من خلال تموجات التاريخ ... في هذه الحالة تصبح مسألة الهوية موضوعاً للفكر ، يمارس العقل فعاليته عليها ، وليس حالة وجدانية تجعل عقل صاحبها – وجسمه كذلك – يهتز على نقطة ميتة ، لا يتقدم خطوة حتى يتراجع أخرى . علينا إذن أن ننظر إلى مسألة الهوية المطروحة علينا حالياً من منظور تاريخي، منظور موضوعه لا الهوية في صفتها الثابتة ، بل الهوية من حيث أنها وعي بالذات منطور متجدد "[9]. في ضوء ما تقدم ، فإن مسألة الانتماء، ولاسيما الانتماء القومي بوصفه الانتماء الأحدث في مسار التطور التاريخي على الصعيد العالمي ، وبوصفه ضرورة تاريخية وراهنة لشعوبنا العربية، إلا أن هذه الضرورة يستحيل تحققها عبر مسار التخلف السائد في النظام العربي اليوم ، بل على العكس لا بد من الممارسة الثورية -بالمعنى السياسي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي – للوصول إلى حالة من القطيعة مع هذه الانظمة وشرائحها الطبقية وتجاوزها، وهي مهمة صعبة ومعقدة وطويلة ، تحتاج بشكل رئيسي إلى المثقف الطليعي ، العضوي، بالمعنى الماركسي، عبر احزاب يسارية تمارس دورها الفكري والسياسي والنضالي الجماهيري الديمقراطي في اطار الصراع الطبقي الداخلي، وتؤسس لكتلة تاريخية تمهد للسيطرة الثقافية والاجتماعية وصولاً إلى السيطرة السياسية ، دون ذلك سيظل مفهوم الهوية الوطنية والقومية باهتاً وغامضاً ورومانسياً حالماً . فالهوية –بالنسبة إلى أي ماركسي- هي أولاً وأخيراً ، ظاهرة اجتماعية تاريخية ، يكمن جوهرها في الوجود الاجتماعي والصراعات الطبقية الاجتماعية التي تحدد سماتها، إذ أن هذه الصراعات وحدها القادرة على تفكيك وازاحة اشكالية الهويتين الوطنية والقومية بمثل ما هي قادرة ايضاً على وحدتهما في اطار قومي عربي نهضوي اشتراكي موحد ، انطلاقاً من ان الصراع الطبقي وحده اليوم ، الذي يمكن أن يبعث الحياة في الهوية العربية بوصفها مشروعاً نهضوياً مستقلاً ، في مجابهة الهويات الطائفية، كما يقول بحق د.هشام غصيب [10] الذي يرى أن "الهوية العربية مشروع نهضة ومستقبل في حين أن الهوية الطائفية والاثنية مجرد عوائق أمام تحقيق ذلك"[11]. وفي ضوء ما تقدم ,يمكن التأكيد بثقة على أن الهوية* ليست اقنوما ثابتاً جاهزاً نهائياً ، وإنما هي مشروع مفتوح متطور على المستقبل أي متشابك مع الواقع والتاريخ، وفضلاً عن هذا فهي ليست أحادية البنية أي لا تتشكل من عنصر واحد لها، هو العنصر الديني وحده أو الطبقي وحده، أو الأثنى القومي وحده، او اللغوي وحده،أو الثقافي الوجداني والأخلاقي وحده ،أو ألمصلحي وحده، أو الخبرة التراثية أو العملية وحدها. وغالباً هي حصيلة تفاعل هذه العناصر جميعاً ، دون إغفال بروز أو هيمنة أحد هذه العناصر في مراحل معينة من التطور أو الهبوط والتراجع في هذا البلد أو ذاك في إطار عملية الصراع الطبقي . علينا إذن أن ننظر إلى مسألة الهوية المطروحة علينا حاليا من منظور تاريخي، منظور موضوعه لا الهوية في صفتها الثابتة، بل الهوية من حيث إنها وعي بالذات, متطور متجدد . والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو التالي : كيف تطور "الوعي بالذات" أو بالهوية القومية، عبر التاريخ، لدينا نحن العرب ؟ تشكلت الهوية القومية في العالم العربي وليدة ظروف راكمت سلسلة من الأزمات في اطار الصراع مع الدولة العثمانية بداية القرن العشرين ، "والواقع أن الحضارة العربية الإسلامية لم تشهد التغاير أو التمايز أو الانشطار داخل "الهوية العربية الإسلامية" إلا عندما تأثرت النخبة العصرية في تركيا، خلال القرن التاسع عشر، بالحركات القومية في أوروبا، وقام فيها تيار ينادي بتسويد القومية التركية الطورانية على مختلف القوميات المنضوية تحت الخلافة العثمانية، فكان رد فعل النخبة العصرية العربية في سوريا ولبنان (وخاصة المسيحية منها)، أن طرحت شعار المطالبة بالاستقلال عن الترك، الشيء الذي يعني الخروج عن الخلافة العثمانية التي كانت تمثل الإسلام السياسي الموروث. ومن هنا ظهرت فكرة العروبة والقومية العربية (في بلاد الشام خاصة) لا كطرف ينازع الإسلام أو ينافسه بل كتعبير سياسي عن الرغبة في التحرر من هيمنة القومية التركية الطورانية التي كانت تطمح إلى الاستئثار بالسلطة"[12]. كما "تزامن انتصار دول أوربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مع هزيمة الإمبراطورية العثمانية ، وبذلك تحول مجرى الأحداث، وأصبح "الآخر" لـ"العرب" ابتداء من الثلاثينيات من القرن العشرين هو الاستعمار الأوروبي الذي أدى التنافس بين أقطابه إلى تكريس نوع جديد من التقسيم والتجزئة داخل العالم العربي. ومن هنا أخذت الهوية العربية تتحدَّد، ليس فقط برفض الاستعمار الأوروبي فحسب بل أيضاً بالتنديد بالتجزئة التي فرضها أو كرسها وبعدم الاعتراف بـ"إسرائيل" التي غرسها في فلسطين، ثم بالابتعاد عن الأحلاف العسكرية التي تنشئها القوى الاستعمارية الإمبريالية وفي مقدمتها حلف بغداد CENTO الذي أنشأته بريطانيا عام 1955، ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية"[13]. من هنا أخذت الهوية العربية تتحدَّد، ليس فقط برفض الاستعمار الأوربي فحسب بل أيضا بالتنديد بالتجزئة التي فرضها أو كرسها, وكذلك رفض الاعتراف بـ "إسرائيل" التي غرسها في فلسطين، ثم بالابتعاد عن الأحلاف العسكرية التي أنشأتها القوى الاستعمارية الإمبريالية وفي مقدمتها حلف بغداد CENTO الذي أنشأته بريطانيا عام 1955، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية. وكان ذلك الحلف يضم ثلاث دول إسلامية كبرى هي باكستان وإيران وتركيا، ودولة عربية واحدة هي النظام الملكي في العراق، مع تأييد كل من النظام الأردني والسعودي وذلك في إطار إستراتيجية الحزام العسكري الذي كانت تقيمه الولايات المتحدة والدول الغربية ضد الاتحاد السوفيتي . هكذا وقع الفصل بين القومية العربية و"الإسلام السياسي" عبر الانظمة الرجعية التابعة المشار إليها آنفاً ، والتي فضلت مهادنة الدول الاستعمارية والسير في صف الإمبريالية ضد الاتحاد السوفيتي من جهة، وكرست جل جهودها ضد حركات التحرير في العالم الثالث عموماً ، وضد النظام القومي الناصري والحركات الثورية التقدمية والقومية العربية خصوصاً . وهكذا وقفت تلك الحكومات موقفا سلبياً من القضية العربية، قضية فلسطين, وقضية التحرر العربي عامة. وفي خضم هذا الصراع، ظهر منظرون وإيديولوجيون حاولوا، تحت ضغط هذه الملابسات، وبدوافع التحرر والتقدم والوحدة والاشتراكية ، التنظير للقومية العربية مع استبعاد الاسلام السياسي نظرا لارتباطه الصريح بالاستعمار والامبريالية . وفي هذه المرحلة ، تجلت مظاهر التناقضات والاختلافات العميقة – بصورة موضوعية وحوارية ديمقراطية نفتقدها اليوم- بين كل من أصحاب الفكر القومي الحداثي العقلاني التنويري وبين التيارات الدينية السياسية الأصولية ، خاصة الاخوان المسلمون، فالأخوان المسلمين دعاة أسلمة المجتمع والعودة إلى الخلافة، وكانت نشأتهم عام 1928 هي بداية التراجع عن قيم النهضة والحداثة التي انتشرت في بداية القرن العشرين، وكانت أيضاً ، بداية تجريف – كما يقول نصر أبو زيد – لمفاهيم الوطن والمواطن باسم الاصالة التي تم تجريفها باختصارها في التراث الفقهي وباسم الهوية التي تم ابتسارها في " الدين" . كان مشروع الاخوان المسلمين – وما يزال – مشروعاً دينياً ينظر لمفهوم المواطن والمواطنه ومفاهيم العقل والعقلانية والعلمانية والحرية والمساواة نظرة تشكك وريبة ونظرة رفض وتكفير، كما يصفها المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد. هكذا تم تجريف الوطن باختصاره في دين الأغلبية، وتم تجريف الدين باختصاره في الرؤية الفقهية للعالم !!! ، وصولاً إلى المرحلة الراهنة حيث صارت " الصدقات" وموائد الرحمن مجال للمنافسة بين الاثرياء، وصارت عشرات الفضائيات تعرض الفتاوي الدينية الشكلية في زواج المتعة والمسيار وإرضاع الكبير وتفسير الاحلام ... إلى آخر هذه الفتاوي ، ضمن اقتصاد السمسرة الكومبرادوي ، بحيث نلاحظ – في ظل استشراء خضوع الأنظمة وتخلف المجتمعات العربية في هذه المرحلة – ولادة ظاهرة طارئة ، فحواها أن التراث والفكر الديني السلفي المتعصب بات اليوم يسحب المجتمعات العربية إلى الوراء ، ونعتقد أن السبب في انتشار هذه الظاهرة يعود إلى " طبيعة " هذه المجتمعات التي تغلغلت في أوساطها مظاهر القلق والإحباط واليأس الناجم عن تزايد المعاناة والفقر والبطالة والفساد ، دونما أي أفق أو ضوء يؤشر على الخلاص ، وبالتالي لم يكن مستغرب عودة هذه المجتمعات إلى الخلف بالمعنى التراثي ، أو إلى الفكر الديني السلفي ثم تستسلم له ، ليقودها – كما يقول الراحل نصر أبو زيد – بحيث مظاهر وأوضاع البطالة والفقر والهبوط السياسي والفساد وكل مشكلات المجتمع العربي " تُحَوّل إلى قضايا تحلها العودة إلى قيم الدين ، وعلى رأسها عودة المرأة إلى البيت والحجاب والنقاب" [14]. ان استمرار وتأجج الصراع الوطني، والقومي بدرجات أقل، ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي، وصولاً إلى مرحلة ما بعد عام 1958 حيث بدأت السيطرة الامبريالية الامريكية على العديد من مناطق الوطن العربي، واشتعال الصراع ضد المصالح والمخططات الامبريالية الامريكية ، خاصة عبر النظام الوطني ، القومي, الذي قاده جمال عبد الناصر منذ العام 1952 حتى 1970 حيث بدأت مرحلة جديدة عنوانها : تكريس الهزيمة عبر تكريس التبعية والخضوع للنظام الامريكي وحليفة الصهيوني ، وهي مرحلة ممتدة في الزمان العربي حتى اللحظة ، لكن بالرغم من كل هذه الحالة التراجعية العربية الرسمية ، وتزايد تكريس الحالة القطرية في دول النفط خصوصاً ، إلا أن الإحساس الشعبي –العفوي- الفلسطيني والعربي، بقي وما زال مخلصاً للهوية القومية ويتطلع إلى تحقيق هذه الهوية وتجسيدها في نظام عربي وحدودي تسوده العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وإذا صح هذا الاستنتاج ، فإن "الأزمة القائمة ليست ، على هذا الأساس ، أزمة هوية ، وإنما هي أزمة مجتمعية أساسها اخفاق القوى القائدة للمجتمع العربي من التصدي لمواجهة التحديات التي يواجهها "[15]، الأمر الذي يتطلب من قوى اليسار الماركسي العربي أن تبادر إلى تحول مسئولياتها ، من حيث التفاعل والتوسع والانتشار في صفوف الجماهير الشعبية ، بما يحقق انتقال وتطوير الإحساس الشعبي العفوي لكي يتفاعل بدوره ويستجيب لمفاهيم وأهداف وشعارات هذه القوى التي يتوجب عليها الادراك الواعي للأبعاد والأسباب التاريخية ( الحديثة واالمعاصرة) التي تستدعي النضال من أجل تفعيل الهوية الوطنية تمهيداً لبلورة الهوية القومية ، وذلك عبر الاحاطة بعاملين هامين[16] في هذا الجانب : أولا: مراحل تطور الهوية العربية في التاريخ المعاصر: منذ مطلع القرن التاسع عشر انطوى المشروع المصري للنهضة بقيادة "محمد علي " على البعد العربي. ففي القرن التاسع عشر كان المشروع العربي ما زال جزءا من المسألة الشرقية _ كما يقول د.فؤاد مرسي_, "وعندما اتخذ لنفسه بعض القوام في النصف الثاني من القرن 19, كان سعيا للخلاص من السيطرة العثمانية الغاشمة, لكن المشروع العربي _في تلك المرحلة_ ظل دعوة غامضة للنهضة العربية في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي "[17]. ومع الحرب العالمية الأولى ، تم تقسيم الوطن العربي بين القوى الامبريالية في الوقت الذي بدأ فيه طرح المشروع القومي، سواء من خلال تبلور الأقطار العربية وسعيها لنيل الاستقلال السياسي, أو من خلال مواجهة الخطر الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحرب العالمية الثانية وتزايد نشاط الحركات التحررية العربية الذي مهد لاعادة طرح المشروع القومي العربي من ناحية، و في المواجهة مع الغزوة الصهيونية والاستعمار من ناحية ثانية ، حيث بدأت تتخلق معالم البعد القومي في العديد من حركات التحرر العربية .وطوال أكثر من سبعين عاما مضت ، ظل المشروع القومي العربي مطروحا على الشعوب العربية بقوة ، سواء كان ذلك في فترات المد السابقة أو في فترات الجزر الحالية. ولذلك قلنا أن الحرب العالمية الثانية قد أسفرت عن إعادة طرح المشروع القومي العربي بقوة وبخاصة بعد الفشل في صد الغزوة الصهيونية ومن ثم اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها وقيام "دولة إسرائيل" . وفي هذه المرة أعيد طرح المشروع القومي العربي على مستويين، _كما يضيف د. فؤاد مرسي_ مستوى النظم ومستوى الشعوب، أما على مستوى النظم، فقد تبلورت قضية الاستقلال السياسي للأقطار العربية بالتفاهم مع الاستعمار في صورة قيام جامعة الدول العربية. وأما على مستوى الشعوب فقد انطلقت حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة العدو الواحد أو المشترك ، وتجسدت نواة التوحيد القومي في مواجهة العدو الصهيوني الامبريالي المشترك على أرض فلسطين, وأصبح المشروع القومي العربي مشروعا للتوحيد القومي وليس مجرد مشروع للنهوض العربي, واستند هذه المرة إلى الثورة المصرية وقائدها "جمال عبد الناصر" وتحددت في النهاية معالمه المعاصرة بوصفه حركة للتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي . وهكذا بينما شهدت الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ازدهار هذا المشروع القومي العربي، فإنه قد انتكس منذ انهيار النظام الناصري في السبعينيات والى الآن. وفي هذا السياق, نشير إلى أن المشروع القومي العربي, أصيب بهزيمتين فادحتين ، أما الأولى فهي هزيمة عسكرية أمام إسرائيل في عام 1967, أما الثانية فهي هزيمة سياسية تمثلت في إقرار مشروعية الوجود الصهيوني في فلسطين ووضع مبدأ الصلح المنفرد مع إسرائيل, بما يعني تصفية القضية الفلسطينية ولقد تم ذلك في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 وبعدها وصولاً إلى أوسلو ووادي عربه. ففي ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات والأقطار العربية, غدت الأقطار العربية مجتمعات رأسمالية تابعة, حيث سيطرت عليها الفئات المالية والتجارية الكومبرادورية ذات الروابط الوثيقة برأس المال والتجارة العالميين, واتسعت هوة الفروق الاجتماعية الفاحشة واتخذت الأغلبية الساحقة من النظم العربية مكانها في صفوف الثورة المضادة ، التي جثمت بثقلها الأمني الاستبدادي الرهيب على أنفاس الشعوب العربية حتى الآن, وراكمت مزيداً من عوامل التبعية والتخلف والافقار والقهر. ان هذا الواقع العربي, المهزوم والمأزوم, أثار _وما زال_ كثيراً من المرارة والرفض لدى الجماهير الشعبية الفقيرة عموماً, ولدى الأجيال الشابة التي فقدت - إلى درجة عالية- الثقة في قدرة ومصداقية القيادات القومية واليسارية وأحزابها على تحقيق الأهداف التحررية والمطلبية الديمقراطية ليس على الصعيد الوطني فحسب ، بل أيضاً على تحقيق المشروع القومي العربي ، بعد أن فقدت كلياً ثقتها في الأنظمة القائمة ، إلى درجة أن هذه الأجيال تتساءل اليوم عن هويتها، فمن نحن ؟ لكن يبدو أن استتباع وهزيمة النظام العربي ، والانتهازية المنتشرة –بهذه الدرجة أو تلك – في صفوف القوى اليسارية والقومية التي هبط وارتد بعضها عبر التصالح مع السلطة والأنظمة ، الأمر الذي دفع قسماً كبيراً من الأجيال الشابة إلى أن تتوجه بنظراتها إلى ملكوت السماوات، من خلال التحاقها بالحركات الدينية الأصولية التراثية –بدوافع واسباب اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى- , دون ادراك منها أن العودة إلى التراث عموماً والجوانب السلبية المغرقة في سلفيتها خصوصاً قد تعني عندئذ استسلاما لهزيمة المشروع الوطني والمشروع القومي العربي معاً , لأن عملية تأكيد الذات هذه –عبر العودة إلى النصوص الجامدة في التراث السلفي - تُشكل نكوصاً إلى مواقع خلفية للاحتماء بها و الدفاع انطلاقاً منها, خاصة في ظل تزايد مظاهر التخلف والانحطاط والافقار في المجتمعات العربية، وخضوع النظام العربي للشروط الأمريكية/ الإسرائيلية ، الى جانب استمرار عجز وضعف وتراجع القوى الديمقراطية الوطنية واليسارية القومية عن التأثير في هذه الأجيال أو استقطابهم عبر ممارسات سياسية وجماهيرية نضالية تقوم بتعرية وفضح المصالح الطبقية باعتبارها السبب الرئيسي لما وصلت إليه أحوال مجتمعاتنا وشعوبنا، وكذلك عبر الاهتمام بقضايا الشباب ومستقبلهم ، وتوضيح طبيعة تطور العلاقة التاريخية في العصر الحديث, بين الإسلام السياسي و المدنية الحديثة كما طرحها في منتصف القرن التاسع عشر رفاعه الطهطاوي ، ثم محمد عبده و علي عبد الرازق وأحمد أمين ولطفي السيد وطه حسين في ثلاثينيات القرن العشرين في سياق المناخ الليبرالي العقلاني السائد آنذاك، ثم استعراض وتناول أسباب وأهداف نشوء حركة الاخوان المسلمين وظاهرة المد الأصولي الراهنة ، بما يوضح الفارق الخطير في العلاقة التاريخية بين الدين والمدنية الحديثة أو مفاهيم عصر النهضة كما تجلت في العقود الأولى من القرن العشرين, فبينما طرحت في الماضي بوصفها علاقة جدلية بين العقلانية والتنوير من ناحية وبين النزعات والتيارات الدينية من ناحية ثانية, فإنها طرحت من قبل حركة الاخوان المسلمين، وما زالت إلى الآن – في القرن الحادي والعشرين !!! - كعلاقة ميتافيزيقية من جانب واحد, و بينما طرحت في الماضي بوصفها تناقضاً غير عدائي يقوم على الحوار العقلاني والاستنارة الدينية , تطرح الآن بوصفها تناقضاً عدائياً لا يحل إلا بإلغاء أحد طرفيه, حيث تبدو العودة إلى السلفية أو الاصولية أو التراث اليوم -في أحد أوجهها- بمثابة صرخة احتجاج في وجه الغرب الأقوى منا حالياً و في هذه الحدود تصبح تلك الدعوة مجرد رد فعل أكثر منها فعلاً أصلياً, و تبدو كاحتجاج سلبي ضد الغرب يركز على بعث ما مضى و ليس على خلق جديد يواجه تحديات الحاضر و احتياجات المستقبل على قاعدة رفض ومقاومة الرأسمالية ونظامها الإمبريالي ، والانحياز الصريح للفقراء والكادحين من جهة والتحام النضال الوطني التحرري والديمقراطي في كل قطر عربي في إطار المشروع الاستنهاضي القومي الوحدوي التقدمي الكفيل وحده باجتثاث الوجود الصهيوني في بلادنا واستعادة فلسطين كلها كدولة ديمقراطية ، إلى جانب حل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد من جهة ثانية . على أي حال ، ولكي نغلق الباب في وجه أي تفسير تشكيكي أو تكفيري أو انتهازي مغرض أو منافق ، ضد موقنا الموضوعي من مسألة التراث ، فإننا نقول بصراحة ووضوح ، إن موقفنا ينطلق من النظر والتعامل مع التراث باعتباره جزءاً من الثقافة العربية، و باعتبار الثقافة تطوراً من خلال تطور البشر أنفسهم, ما يعني أننا نستطيع التمييز بين نوعين من التراث ، النوع الأول هو التراث المحفوظ أو المخزون و ذلك هو التراث المتحفي[18], أما النوع الثاني فهو التراث الحي الذي يتواجد بشكل أو بآخر في الممارسات الحية للشعوب ، و ذلك هو التراث فعلاً . و في هذه الحدود فلا مشكلة هناك ، لكن المشكلة تبدأ حينما تبدأ المحاولة للتسوية أو الدمج الاحادي بين الهوية و التراث بحيث يصبح هو المكون الوحيد لها, وعندئذ فإن التراث يعمل "وكأنه كان في خزانة حديدية محكمة الإغلاق "و تصبح هذه القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية لا تفيد سوى التكرار, تكرار التراث نفسه, بل تتم عندئذ "قراءة المستقبل بواسطة الماضي و تصبح العملية هي رفض للواقع وهجرة إلى الماضي المتخيل و تخل عن المستقبل، وبالتالي افتقاد الاستقلال التاريخي أو العجز عن تحقيق هذا الاستقلال"[19] ، ما سيؤدي إلى تكريس أهداف ومصالح الشرائح الاجتماعية الطبقية في كل من النظام العربي الحاكم والمجتمعات العربية ، ومن ثم تكريس التبعية الإمبريالية ، وتجديد التخلف ، وتزايد مظاهر الفقر والمعاناة والاضطهاد للطبقات والشرائح الفقيرة في ظل انقسام طبقي حاد غير مسبوق في بشاعته بين أغنياء أو أثرياء مستغلين (بكسر الغين) وطفيليين لصوص وسفهاء وبين فقراء كادحين معدمين لا يجدون -في معظمهم- قوت يومهم وأولادهم ، كما لا يجد بعضهم مأوى له وعائلته سوى في المقابر !!!؟ . ثانياً: البحث عن الهوية العربية في سياق العملية القومية ونشأتها في أوروبا: لقد بدأ الاتجاه نحو الدولة القومية في أوروبا في القرن السادس عشر, و سادت الظاهرة القومية فيها ابتداءً من القرن التاسع عشر ، وكان عهد انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترناً بانتصار الحركات القومية, "و أساس هذه الحركات من الناحية الاقتصادية موجود في الإنتاج لا في التبادل, فعندما يتفوق الإنتاج السلعي أي الإنتاج من أجل السوق على غيره من أشكال الإنتاج, و عندما تصبح له الغلبة بالنسبة إلى هذه الأشكال الأخرى, فإنه يستدعي قيام البرجوازية بالاستيلاء أو بالسيطرة على السوق الداخلية, و من ثم العمل على توحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة في دولة واحدة و إزالة كل حاجز من شأنه أن يحد من تحقيق ذلك الهدف القومي أو الوحدة في دولة سياسية قومية واحدة"[20]. والسؤال هنا ؟ لماذا إذن لم تتطور الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية العربية في القرون الماضية إلى نظام رأسمالي على الرغم مما عرفته تلك الأوضاع من اقتصاد سلعي ؟ من الواضح ان أحد الأسباب الرئيسية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق ، يعود إلى "عدم تفوق الإنتاج السلعي في البلدان العربية, بحيث يقوم بتصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب سوق موحدة واسعة تكون بدورها أساساً لتطوير أكبر لفنون الإنتاج و تنظيماته, فإنه بتكوين هذه السوق الداخلية الموحدة الواسعة تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية" [21]. على أن هذه الاجابة ، تستدعي سؤالاً آخر : لماذا لم يتفوق الإنتاج السلعي حتى الآن في العالم العربي؟ الواقع أن العالم العربي قد سقط في غيبوبة حضارية كاملة في ظل الفتح العثماني الذي أحكم قبضته على العرب, منذ بداية القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين, حيث أدت الحرب العالمية الأولى إلى هزيمة وتصفية الامبراطورية العثمانية ، ومع نهاية الحكم العثماني كانت الدعوة العربية هي دعوة للاستقلال الذاتي الثقافي لم تلبث أن تحددت في بداية القرن العشرين بالوقوف في وجه كل من الاستبداد الشرقي و الاستعمار الغربي, وعندئذ اختلطت الدعوة العربية بالدعوة لاستقلال كل قطر عربي على حدة ، حيث تحقق هذا الاستقلال بصورة شكلية في ظل الهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، حتى أن نشأت جامعة الدول العربية كانت انعكاساً في تأسيسها لتلك الهيمنة إن لم يكن بقرار منها. و إذا كانت الأقطار العربية الآن قد حافظت على استقلالها السياسي الشكلي في معظمه ، و إذا كانت قد طورت اقتصادها وفق أسس رأسمالية واضحة ، فإنها ما زالت مجتمعات رأسمالية مشوهة, بل إن تطورها الرأسمالي لم يصب في مجرى تطوير أسواقها الداخلية المفتتة بقدر ما ربطها أكثر من ذي قبل بالسوق الرأسمالية العالمية ، و لذلك تخلفت عملية تكوين السوق القومية العربية حتى الآن ، و تخلفت القضية القومية العربية بأسرها، ولم تعد قضية الهوية العربية (الوطنية والقومية) مطروحة بقوة على جدول هموم وتطلعات الشعوب العربية أو في مشاعرها العفوية وأحاسيسها ، بل أصبحت مطروحة وموزعة بين قيم الاستسلام واليأس واللامبالاة ، وبين الهوية الدينية العفوية التي تأثرت بظاهرة " الاسلام السياسي" وهنا لابد أن نشير إلى أن بقاء الأوضاع العربية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية) على هذه الحالة من التبعية والخضوع للشروط الامبريالية الصهيونية ، فلا مناص من احتمال تزايد انتشار هوية " الاسلام السياسي" في أوساط الجماهير الشعبية تمهيداً للمشهد السياسي القادم ، فهل تبادر قوى اليسار القومي إلى حالة من اليقظة والاستنهاض – السياسي والمعرفي والمجتمعي والتنظيمي – لكي تتحمل مسئولياتها وصنع مستقبل شعوبها قبل فوات الأوان ؟ . أما المسألة الأخرى في هذا الجانب، فهي تتعلق بالبحث عن الهوية في الظاهرة القومية بما يفتح السبيل إلى الكشف عن العلاقة المباشرة و غير المباشرة فيما بين الهوية و معها التراث من جانب و بين التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية العربية من جانب آخر . ونقصد هنا بالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية, النظام الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع المعين, الذي يتشكل من بنيانين أو هيكلين، أحدهما تحتي هو أسلوب الإنتاج بما ينطوي عليه من قوى منتجة و علاقات إنتاج ، و البنيان الآخر فوقي أو علوي وهو مجموعة العلاقات الاجتماعية الأخرى غير علاقات الإنتاج بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي . وفي هذا السياق, فإن "أسلوب الإنتاج هو الذي يكون الأساس المادي للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وهو أيضاً البنيان التحتي الذي يشكل الهيكل العظمي لها. أما البنيان الفوقي, فإنه يرسم للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية, صورتها الخارجية القانونية و السياسية و الفكرية"[22]. و بالإضافة إلى هيكلي التشكيلة الأساسيين (البنيان الفوقي والتحتي) فإنها تحوي كثيراً من الظواهر الاجتماعية الأخرى مثل صلات الناس الجماعية التاريخية كالعشيرة و القبيلة و الأسرة و الشعب و حتى الأمة ، و مثل العلوم الاجتماعية و بعض التنظيمات الاجتماعية و العلمية و الرياضية و اللغة . فالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية إذن, "هي تعبير عن فترة كبيرة في تاريخ المجتمع تتميز بمجموعة محددة نوعياً من العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية, وكذلك من الحياة الروحية ، أي أنها المجتمع ككل في مرحلة معينة من التطور التاريخي, و هي مجموع العلاقات الإنتاجية المطابقة للقوى المنتجة ، ومجموع الأبنية الفوقية التي تطابق تلك العلاقات الإنتاجية و تكسو الهيكل العظمي باللحم و الدم و الأعصاب"[23]. وهنا, نشير إلى أن التفاعل بين علاقات الإنتاج و القوى المنتجة "يتخذ في البداية صورة التطابق, إلى أن تصبح علاقات الإنتاج قيوداً على نمو القوى المنتجة، إذ أنهما ينموان بشكل غير متساو, و مع ذلك ففي أسلوب الإنتاج توجد الوحدة الجدلية بين العلاقات الفنية و التنظيمية للإنتاج كما تنعكس في صورة القوى المنتجة و بين العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع كما تنعكس في صورة علاقات الإنتاج"[24] . و إذا كانت القوى المنتجة هي الجانب الأكثر ثورية في أسلوب الإنتاج فإن الثورة تكمن في قوى الإنتاج نعني في وسائل الإنتاج ، كما هو الانقلاب الصناعي الذي قد يكون بطيئاً و قد يكون متسارع الخطى ، وكذلك الاكتشافات العلمية و الاختراعات التكنولوجية كلها تبعث إلى الوجود بقوى اجتماعية جديدة تأخذ على عاتقها مهمة إعادة تشكيل الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ، فالثورة إذ تحرر المجتمع من الأبنية و الهياكل القديمة التي كانت تكبله, فإنها تخلق في نفس الوقت الأشكال الاجتماعية الجديدة التي تناسبها. الأهمية الخاصة للبنيان الفوقي : يرى د.فؤاد مرسي أن البنيان الفوقي "لا يقوم بشكل تحكمي ، بل يتمشى مع الأساس الاقتصادي للمجتمع, نعني أسلوب الإنتاج ، مع القوى المنتجة و مع علاقات الإنتاج, و يتشكل البنيان الفوقي من مجموع العلاقات الاجتماعية غير علاقات الإنتاج, بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي و لذلك يتشكل البنيان الفوقي من مجموعة النظم و المؤسسات و المبادئ التي تعمل في كل من مجالات القانون و السياسة و الفكر" [25]. ومع أن البنيان الفوقي –كما يضيف د.فؤاد مرسي- يظل محكوماً بالأساس الاقتصادي للمجتمع ، إلا أن دور البشر في هذا المجال هو الدور الأكبر والرئيسي, إذ يتوقف الأمر هنا على النشاط الواعي للناس ، لا سيما أولئك الذين يتصدون لقيادة الطبقات و الفئات الاجتماعية .وهكذا نتبين العلاقة الجدلية بين كل من العامل الذاتي و العامل الموضوعي ، فالعامل الموضوعي هو قبل كل شيء إنتاج مادي و علاقات إنتاجية يحددها مستوى تطور القوى المنتجة الذي تم التوصل إليه من قبل ، أما العامل الذاتي فهو الناس أنفسهم و إرادتهم في التقدم و تنظيم هذه الإرادة في صورة النشاط التحويلي العملي للجماهير في الطبيعة و داخل المجتمع "[26]. و بينما يتخذ دور البشر في تغيير البنيان الفوقي القديم أهمية كبرى, فإن هذا البنيان الفوقي يتميز بطابع محافظ ينطلق من مهمة حماية علاقات ملكية وسائل الإنتاج ، أي المحافظة على النظام الاجتماعي الاقتصادي. و هنا ينبغي التمييز داخل كل تشكيلة جديدة بين العناصر التي انتقلت إلى البنيان الفوقي من التشكيلة القديمة و بين العناصر التي أوجدتها التشكيلة الجديدة أو المجتمع الجديد . فهذه الأخيرة وحدها هي نتيجة تطور أوضاعه الاقتصادية, أما العناصر الأولى فهي الجذور التاريخية التي يتشكل البنيان العلوي على أساسها, وفي هذا السياق, نشير إلى أن مجتمعاتنا العربية, بسبب تطورها المشوه, التابع والمتخلف, ما زالت محكومة _بدرجات متفاوتة للبنيان الفوقي الموروث علاوة على القيم الاستهلاكية الهابطة التي تشكل اليوم جزءاً أساسياً من البنيان الفوقي المعاصر المحكوم بعناصر وأدوات التخلف رغم أشكال الحداثة الرثة السائدة في ذلك البنيان, حيث نلاحظ أن البنيان الفوقي في فلسطين والبلدان العربية, اتخذ من الماضي علاقات و أفكار اجتماعية لم تعد صالحة منذ بداية القرن العشرين, لكنها تسترد صلاحيتها اليوم _كما هو الحال في معظم المجتمعات العربية و في قطاع غزة خصوصاً_ في ظل التكوين الاجتماعي "الجديد"، فهناك عناصر كثيرة موروثة من أبنية علوية لمفاهيم وشعارات دينية وثقافية لا تنتمي للاستنارة الدينية أو التفسير العقلاني للظواهر الطبيعية والعلمية والسياسية, وتلك هي الإشكالية الكبرى مع التيارات السلفية الرجعية, وبالتالي فإن رفضنا لهذه السلفية, لا يعني أبداً إنكارنا لدور الدين واستمراريته في مجتمعاتنا, بصورة موضوعية, لكننا بالمقابل نؤكد على أهمية التعاطي مع القضايا الدينية في إطار مفاهيم التنوير والعقل والديمقراطية, وفي هذا الجانب نقول بوضوح, أن نضالنا من أجل الخلاص من النظام الرأسمالي وكل أشكال الاستغلال ومن أجل النهوض القومي الوحدوي الاشتراكي, لا يعني بأي حال تجاوز واقع أن الدين الإسلامي سيظل موضوعياً جزءاً هاماً من البنيان الفوقي حتى في ظل النظام الاشتراكي الديمقراطي, ولكن مع أهمية الأخذ بعين الاعتبار التطورات والتحولات المجتمعية الحديثة التي تستهدف الارتقاء بالجماهير الشعبية دون أي تأثير مباشر في انتماءها الديني وتراثها الموروث. و من هنا استطاع مؤسسوا الماركسية أن يقولوا أن الماركسية قد استوعبت و أعادت صياغة كل ما له قيمة في تطور الفكر البشري من فلسفة و علم و سياسة كما أكدوا لنا أن الاشتراكية لن تبنى من غير العديد من العناصر التراثية الإيجابية, وما أكثرها في تاريخنا. و مع أن للسياسة في نهاية الأمر منطقها الموضوعي المستقل عن مخططات الأفراد, فإن من الضروري تحويل الناس, خاصة في الحقل السياسي والاجتماعي الطبقي, من أناس سذج يخدعهم الآخرون و يستغلونهم إلى أناس فاعلين ساعين لتحديد آفاق تطور المجتمع في إطار مفاهيم العدالة والمساواة. بما يضمن تحويل النشاط الواعي للناس الذين يصنعون التاريخ إلى نشاط يصب في تحقيق تلك المفاهيم. من هنا تتعدد أشكال الوعي الاجتماعي، تتعدد أشكال الإنتاج غير المادي للمجتمع، كما تتعدد أشكال المعرفة و منها الثقافة التنويرية العقلانية الديمقراطية كشرط للتحرر الوطني والقومي النهضوي الديمقراطي. و كما أوضح "ماركس" و "انجلز" في كتابهما (الأيديولوجية الألمانية ) فإن أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار السائدة ، و الطبقة التي تشكل القوة المادية في المجتمع هي في الوقت نفسه القوى الفكرية السائدة في هذا المجتمع ، و الطبقة التي تتحكم في وسائل الإنتاج المادي تسيطر في الوقت ذاته على وسائل الإنتاج الفكري بحيث أن أفكار الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تكون خاضعة لها, وهنا تصبح الثقافة في المجتمع محكومة لازدواجية متناقضة, فإلى جانب ثقافة الحكام توجد أيضاً ثقافة المحكومين, و في كل مجتمع فإن الصراع بين الطبقة السائدة و بين الطبقة المرشحة للسيادة يتحول إلى صراع في مجال الثقافة ، و عندئذ فإن الطبقة المرشحة للسيادة مستقبلاً _نقصد بذلك العمال و الفلاحين وكل الفقراء والكادحين_ تُدْخل في المجتمع أفكارها ووجهات نظرها و تقييمها للنظام السياسي الذي تزمع أن تدمره ، كما تقوم – في نفس الوقت- بتطوير الثقافة الروحية السائدة في المجتمع ، انطلاقاً من أن الثقافة لا تخلق بواسطة الناس فقط ، و إنما هي تخلق من أجلهم أيضاً و هذه الثقافة هي عندئذ معيار إنسانية المجتمع . فالثقافة توجد و تعمل و تتطور إذن في ظل ظروف اقتصادية و اجتماعية معينة ، و في مناخ سياسي و فكري نوعي معين بحيث أن العلاقة بين الثقافة من جانب و الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و المناخ السياسي و الفكري من جانب آخر ليست بالعلاقة البسيطة و بين الجانبين تناقضات حافلة فتطور الثقافة يتحدد بالظروف المادية للحياة الاجتماعية . و كان لينين و هو يطرح ضرورة الثورة الثقافية قد عالج القديم و الحديث في مجال الثقافة و ذلك بأن طرح مهمة الجمع بين الثورة الاشتراكية من جانب و بين الثقافة البرجوازية و العلم البرجوازي و التكنولوجيا البرجوازية من جانب آخر. لكن المشكلة تطرح في بلادنا العربية مثلما تطرح في البلدان النامية على نحو آخر، فهذه البلدان تناضل من أجل تحرير أنفسها من الثقافة الغربية ذات الطابع الاستهلاكي الرث, المفروضة عليها بحكم التبعية الخارجية و في نفس الوقت فإن تحديث تلك البلدان ينطوي على استيعاب أفكار الحداثة الغربية, و من هنا فإنها تسعى لدخول القرن الواحد و العشرين بزاد أساسي اجتماعي ثقافي من صنعها هي نفسها ، بوصفها قوى مستقلة مشاركة في صنع التاريخ و ليس بوصفها موضوعاً للنفوذ الأجنبي . و من هنا يأتي البحث في التراث الثقافي العربي في محاولة لإبراز هذا التراث ذي النزعة الإنسانية و التأكيد على هذه النزعة في مواجهة لا إنسانية الغرب الاستعماري، لكن هذه الدعوة المشروعة تماماً تتحول عادة في التطبيق و نتيجة لعموميتها و عدم تحديدها إلى دعوة ينقصها التمييز – التمييز بين ثقافة و ثقافة . إن انجاز الثورة العربية "لا يمكن بحال أن يتناقض مع الحفاظ على التراث بل إن الثورة الاشتراكية, و هي مهمة من مهام الأجيال المقبلة لا يمكن أن تقوم في فراغ, بل هي لا تنفي أبداً التمسك بالتراث و القيم الروحية, فالثورة إنما ترمي فقط إلى تحطيم علاقات الإنتاج و عناصر البنيان الفوقي القائمة التي تكبح التطور الاجتماعي و تعيقه مع الحفاظ على كل ما يلاءم العملية الثورية و كل ما هو ايجابي مما ورثناه عن السلف للأجيال القائمة"[27] . المبدأ إذن هو الحفاظ على التراث و عدم رفض الانجازات القيمة للعصور السالفة بل تمثلها و إعادة صياغة كل ما له قيمة مما أنجبته الثقافة طوال آلاف السنين, فثقافة اليوم هي محصلة للخلق الجديد و للتراث المتجدد, و من ثم فإن التراث يعتبر استمراراً للتطور الحضاري و بهذه الصفة فهو ضروري . إن التراث بهذا المعنى هو ظاهرة استمرار التطور الحضاري, بعبارة أخرى فإن علينا أن نميز بين نوعين من التراث : الأول هو النوع الذي يعبر عن سلطان العجز و الركود و الروتين عن سطوة القديم على عقول و سلوك الناس و عن قوة العادات و التقاليد, و هو إن لم يتفق مع مسيرة تطور المجتمع نفسه فلا حاجة إليه و النوع الثاني و يمثل استمرار التطور الحضاري للمجتمع, أي صلاحية المعرفة المتراكمة لخدمة الحاضر و المستقبل, فهذا هو التراث حقاً الذي يقوم ليس فقط على قوة العادات و التقاليد، بل يستند إلى استمرار الحاجة إليه، و يجوس في المجتمع مثلما تجوس المياه الباطنية فتغذي جذور النبات فيزداد نماء, هو بالدقة تراث متصل أو ثقافة ممتدة أو حضارة مستمرة – و من ثم يتكفل مثل هذا التراث بنقل خبرة الماضي إلى المستقبل و تتمثل مهمتنا بالدقة في هضم و تمثل النتائج الايجابية المتراكمة بفضل استمرار الحضارة الروحية للبشرية. المراحل التاريخية لتكون الهوية الوطنية : مرت الهوية الوطنية – في بلادنا بأربع محطات هي: · الأولى : هي الكولونيالية حين أسست الإدارة الاستعمارية شكلاً من أشكال الكيانات السياسية ، التي أخضعت وعي شعوبها لمتطلبات تلك الكيانات القطرية التي ساهم الاستعمار في تأسيس منظميها. · الثانية : هي مقاومة الاستعمار التي تستمر حتى تحقيق الاستقلال السياسي · الثالثة : فهي محطة توسع وانكماش الأمة/الشعب. فعن طريق ضم أراض جديدة أو مجموعات سكانية إضافية، أو عن طريق انفصال أجزاء من الأمة -أرضاً وسكاناً- عن الوطن الأم، فإن هذه العملية من التوسع والانكماش أثرت سلباً في صميم تشكل وتبدل الهوية . · الرابعة : تكمن في الصراعات والتناقضات الداخلية التي قد تأخذ شكل الحرب الأهلية، أو الثورة أو النزاعات الطائفية أو العرقية التي تريد أن تعيد تعريف الهوية الوطنية حسب منظور كل طرف من أطرافها. وفيما يتعلق بالهوية الفلسطينية، فإن النماذج السابقة، لا تتطابق – بعموم ما ورد فيها – مع الحالة الفلسطينية، لأسباب كثيرة؛ ففي النموذج الأول، يسعى الآخر (العدو الصهيوني) إلى تفتيت هوية الفلسطينيين إلى أقليات عرقية وطائفية، من مسلمين ومسيحيين ودروز وبدو وشركس، إلا أن هذا المخطط تفتت أمام الوعي الوطني لأبناء شعبنا في الأرض المحتلة 48 ، الذين تمكنوا من الحفاظ على هويتهِم العربية الفلسطينية. لكن الهوية الوطنية الفلسطينية، تتقاطع فيما يتعلق بالمحطة الأولى [الكولونيالية]، والمحطة الثانية [المقاومة]، دون الوصول إلى [الاستقلال] . أما المحطة الرابعة [الانفجار الداخلي = الحرب الأهلية] فهي لم تتحقق بشكلها اللبناني أو العراقي والسوداني واليمني والصومالي فحسب ، وإنما ايضا بين هويتين (الهوية الوطنية ، وهوية الاسلام السياسي) تمثلت في صدامات واحتراب بين أكبر فريقيين في فلسطين (فتح وحماس) سياسياً وعسكرياً في قطاع غزة تحديداً . فالمشروع الوطني الفلسطيني كان حائراً بين فلسطينيتهِ وعروبتهِ ، خاصة بعد تعديل الميثاق القومي الفلسطيني عام1969 ليصبح ميثاقاً وطنياً –بعد أن تولت حركة فتح / ياسر عرفات قيادة م.ت.ف -، وبالتالي لم يستطع تحقيق التوازن المطلوب في مسيرته الوطنية نظراً لانفصامه عن البعد القومي ، ومن ثم كان من الطبيعي ان تتعرض تلك المسيرة لكثير من مظاهر الخلل والهبوط والتراجعات الحادة التي اوصلتها إلى أوسلو وسلطة الحكم الذاتي، ثم المزيد من الهبوط والتراجع والفساد الداخلي وصولاً إلى احتدام الصراع مع حركة حماس وما نتج عن ذلك من انقسام ليس في النظام السياسي الفلسطيني الهش فحسب، بل أيضاً انقساماً في الهوية ، بين هوية وطنية رثة وبين هوية "الإسلام السياسي" . ذلك إن الوعي بهذه الهوية أو الخصوصية الفلسطينية، تنامى في ظل مواجهة شاملة ومعقدة، وعلى جانب ملحوظ من المفارقات مع العدو الاسرائيلي الذي يسعى الى محو معالمها وتبديد خصائصها من ناحية، ومع الوضع الداخلي المنقسم ، القسم الاول منه ، ونقصد بذلك القوى اليسارية والديمقراطية، يسعى الى إبراز هذه الهوية وتعميق ملامحها الوطنية والقومية ، وهو الاضعف حالياً ، وقسم آخر يسعى الى تعميم الهوية الإسلامية، في حين يسعى فريق أوسلو الى تكريس هوية باهتة لا مستقبل لها باسم الواقعية الرثة او القبول بالشروط الامريكية-الاسرائيلية تحت شعار "دولة قابلة للحياة" أو حكم ذاتي موسع أو روابط قرى أو مدن، أو أي شعار آخر لن يرتقي أبداً إلى تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ذات سيادة كاملة ، حيث بات هذا الهدف – في ظل موازين القوى المختلة مع العدو الصهيوني والنظام العربي – نوعاً من الوهم لا بد من مراجعته انطلاقاً من استعادة عملية التحرر الوطني في اطار الصراع العربي – الصهيوني وصولاً إلى دولة فلسطين الديمقراطية كجزء من المجتمع العربي الاشتراكي الموحد . إن هذه الحالة التي وصل إليها المشروع الوطني الفلسطيني كانت في احد أهم أسبابها نتاجاً لفقدان التوازن والعلاقة العضوية بين الوطني والقومي فيما يتعلق بالصراع مع العدو الصهيوني ، ولذلك فإن استعادة التوازن وتحقيقه مشروط باستعادة النضال الوطني لعلاقته التاريخية والمستقبلية بالنضال القومي ، ضمن هذه الرؤية، يمكن ترتيب الأولويات، على أن لا يكون في ذلك انغلاق على الخاص، بل على العكس، اعتبار هذه المقدمة طريق نحو تشابك أكبر، والتحام، وتفاعل مع العام القومي ، فالهوية الوطنية الفلسطينية لا وجود لها – من حيث الفعالية والتأثير راهناً ومستقبلاً- بدون التحاقها في مكونات الهوية القومية العربية التي تتجلى – كما يقول حليم بركات – في [28]: 1. الانتماء العربي 2. الثقافة المشتركة 3. التكامل الاقتصادي 4. التواصل والاتصال بين البلدان العربية في زمن المعلوماتية 5. التوحد السياسي 6. التحديات الخارجية المعادية من هنا نستطيع أن نقول بان الهوية العربية – كما نفهمها –مجموعة القيم والعناصر والسمات التي تجمعت عبر العيش في مكان وزمان واحد، ورسخت، إلى حد ما، بعد أن تفاعلت فيما بينها، وتفتق عنها شكل أخير وليس نهائي، وهو ما يميز الشعوب العربية التي مازالت – رغم كل الازمات والهزائم الراهنة- تشعر بهذا الانتماء القومي ، وان بدرجات متفاوتة ، وتنتظر لحظة تبلوره من جديد. نقول هذا لأننا نعتبر أن الوعي ومن ثم الالتزام بالهوية القومية، هو أولاً وعي والتزام بهويتنا الوطنية، وهو أيضاً موقف معاصر يرتبط بوجودنا وخياراتنا، ومصالحنا الآنية والمستقبلية، يرتبط برغبتنا في تجاوز التخلف صوب التحرر والاستقلال وبلوغ النهضة والتقدم في مجتمع ديمقراطي ، ذلك إن الهوية القومية – في اللحظة الراهنة والمستقبل - لا تتأكد ولا تتعمق إلا في مناخ ديمقراطي، فالديمقراطية هي الأساس لتفتح الهوية ، رغم ادراكنا بموقف الجماهير الشعبية الفقيرة التي ظلت قادرة دوما وفي كل ظروف القهر على التمسك العفوي، بعناصر ثابتة لهويتها ، دون التأثر بالازمة او الازمات التي تعرضت لها طوال التاريخ الحديث والمعاصر ، ذلك هو صمام الامان لهويتنا الوطنية الراسخة والمتحركة في خزان الوعي العفوي لشعوبنا ، لكن ذلك لا يعني على الاطلاق تجاوز الديمقراطية كضرورة لضمان صيرورة وتوحد الهويتين الوطنية والقومية ، كما لا يعني تجاوز دور الوعي الطليعي الذي تجسده الثقافة الوطنية كرافد أساس في تغذية الوعي الشعبي من ناحية وكرافد رئيسي في تعميق الهوية واثبات مقدرتها على صد التحدي الخارجي من ناحية ثانية، ففي هذه العملية يكون الصراع التحرري هو المهد النموذجي الذي تتكون فيه الثقافة الوطنية او ثقافة الوحدة والهوية الوطنيتين –كما يقول فيصل دراج- عبر القصة والراوية والشعر والفنون والاجناس الكتابية الاخرى، الى جانب جملة الوقائع العملية والنظرية التي تغذي الصراع التحرري وتؤمن عوامل النصر والتقدم والانتشار والتمدد في عمقه العربي المحيط ، فبالنسبة للهوية الثقافية الفلسطينية ، لا يمكن الحديث عنها –كما يضيف فيصل دراج- إلا كوجه متميز من وجوه الهوية الثقافية العربية، كما لا يمكن الحديث عن الهوية الثقافية العربية إلا كجملة وجوه مختلفة ومتكاملة تحتضن في داخلها الهوية الثقافية الفلسطينية، أو أي هوية ثقافية وطنية أخرى. الصراع كمحفز لتبلور الهوية الوطنية إن تبلور الهوية الوطنية إنما تم عبر خوض الشعب الفلسطيني فوق وطنه لصراع دامي مع المشروع الصهيوني والامبريالية البريطانية، التي قامت بانشاء المجلس الاسلامي 1922 –برئاسة أمين الحسيني- لتفسيخ وتفكيك الهوية الوطنية، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير في العشر سنوات الأولى على الانتداب، لكن تفجر الصراع مع الحركة الصهيونية والاستعمار أدى إلى بروز الهوية الوطنية الفلسطينية في الذهنية الشعبية الفلسطينية بالرغم من غياب المؤسسات الوطنية أو الدولانية . ففي رحم الصراع مع المشروع الصهيوني، وعلى الضد منه، تبلورت الهوية الوطنية الفلسطينية كشعور جمعي في اوساط الجماهير الشعبية في مقابل نكوص النخبة القيادية وفشلها في انشاء مؤسسات كيانية على غرار المؤسسات الصهيونية ، فقد انحصر نشاط هذه النخبة من خلال تعبيرات سياسية كيانية تمثيلية كان أبرزها اللجنة القومية العليا ناهيك عن الأحزاب السياسية للطبقة المهيمنة إلى جانب بعض الاتحادات النقابية والمؤسسات الشعبية والاجتماعية والتعبيرات الثقافية كالمجلات والمطبوعات والصحف ، لكن القيادة شبه الاقطاعية ، استمرت في سياساتها التوفيقية أو المهادنة للاستعمار البريطاني والانظمة العربية العميلة، من ناحية ورفضت الارتقاء بالثورة عموماً والنضال المسلح المنظم خصوصاً إلى المدى الذي رسمته القيادات الثورية من أبناء الفلاحين والعمال بقيادة الشهيد عز الدين القسام ، حفاظاً على مصالحها الطبقية الأنانية الضيقة، الامر الذي ادى – إلى جانب عوامل رئيسية أخرى، عربية واستعمارية- إلى وقوع وتحقق الهزيمة أو النكبة التي كانت بمثابة الكارثة على تعبيرات الهوية الوطنية باعتبارها بددت وفككت تلك التعبيرات او حتى دثرتها خلال السنوات العشر الاولى بعد النكبة . ولذلك نلاحظ – توجه الفلسطينيين ، بعد النكبة ولأسباب تعود إلى النظام العربي الرجعي، نحو العمل ضمن الأطر السياسية الشيوعية ، أو الإسلامية أو القومية، في إطار البنية التنظيمية القومية العربية مثل حركة القوميين العرب والبعث، لكن ذلك لم يكن تأكيداً فلسطينياً على شطب الهوية الفلسطينية (على النقيض مع الاخوان المسلمين الذين رفعوا الهوية الاسلامية) . ثم بعد حوالي خمسة عشر عاماً من النكبة ، تشكلت حركة التحرير الوطني الفلسطيني كتنظيم فلسطيني، إلى جانب أبطال العودة وشباب الثأر الذين شكلتهما حركة القوميين العرب في تلك المرحلة . وجاء تأسيس منظمة التحرير عام 1964 لتصبح بمثابة إعلان عن تأسيس التعبير الكياني رغماً عن النظام العربي الذي قام بتأسيسها، ومن ثم استعادة شعبنا الفلسطيني لشعوره العارم بهويته الوطنية من جديد. ربما كان النتاج الأهم في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني المعاصر، هو بناء مقومات الهوية الوطنية: التعبير السياسي الكياني وسلسلة من المؤسسات الشعبية والرسمية والاجتماعية والنقابية ، والبرنامج الوطني الشامل، الميثاق الوطني ووثيقة الاستقلال ، ثم الانتفاضة الشعبية الأولى 1987 / 1988 ، ثم استخدام هذه الانتفاضة لمصلحة القيادة المتنفذة في م.ت.ف وصولاً إلى مؤتمر مدريد 1990 ثم مفاوضات واشنطن ثم أوسلو 1993 واعتراف م.ت.ف باسرائيل ، وقيام السلطة الفلسطينية 1994 ، وتفاقم الفساد الاقتصادي والهبوط السياسي والصراعات الداخلية والفلتان الأمني حتى الانقسام بين فتح وحماس أو قطاع غزة والضفة في حزيران 2007، ، مع استمرار المفاوضات العبثية لدى فريق السلطة، والحديث عن السلام الاقتصادي كمدخل للدولة الفلسطينية ، ما يعني وصول العملية السياسية الفلسطينية بما في ذلك الدولة المستقلة كاملة السيادة إلى طريق مسدود، ليس فقط بسبب العوامل الداخلية الفلسطينية، بل والأهم بسبب موقف الحركة الصهيونية ضد اقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة ، وقد نجحت في ذلك ارتباطاً بارتهان قيادة م.ت.ف بعد اعترافها بدولة اسرائيل وارتهان النظام العربي وخصوعه للتحالف الامبريالي الصهيوني. وفي مثل هذه الظروف أصبحت السلطة في رام الله عنواناً للتطبيع السياسي مع الدولة الصهيونية، ساعد في ذلك بروز العديد من المنظمات غير الحكومية NGO S التي تجددت وظيفتها في الحديث عن السلام الموهوم وعبر خطابات تبريرية انتهازية مدفوعة الاجر من بلدان النظام الرأسمالي التي شجعت هذه المنظمات ومولتها ، لكي تستخدمها وسيلة لتخفيف بشاعة ممارسات التحالف الامبريالي الصهيوني ضد شعبنا الفلسطيني وكل شعوبنا العربية ، وأخيراً جاء الانقسام بحركة حماس والأخوان المسلمين ، لاضفاء الطابع الديني على الصراع مع الصهاينة عبر هوية دينية تفتيتية لن تستطيع الاسهام في استعادة وحدة الشعب الفلسطيني ، إذ أن هذه الوحدة مرهونة باستعادة الهوية الوطنية في ارتباطها بالهوية القومية، أي أن يتم إعادة بناء م.ت.ف وفق اسس ميثاقها القومي الأول 1964 ، خاصة وأن هذه المنظمة باتت اليوم عاجزة عن إحياء الهوية الوطنية ، بعد ان أصبحت العنوان الابرز لتفكيكها وفصمها عن بعدها القومي ، إلى جانب تفكيك أواصر العلاقة بين الداخل والخارج بعد ان كانت هي العنوان الجامع. إن إعادة التمسك بالأهداف الوطنية التاريخية بديلاً لتنازلات أوسلو ، والنضال من اجل إعادة بناء م.ت.ف وفق رؤية استراتيجية للتحرر الوطني والقومي، هي مهمة عاجلة ورئيسية تقع على عاتق كافة القوى الوطنية الديمقراطية عموماً واليسارية خصوصاً ، انطلاقاَ من اعتبارنا للوحدة العربية ضرورة تاريخية ، لكننا ندرك أن من المستحيل إنجازها دون تغيير أنظمة التبعية ومن ثم الخروج الشامل من الرأسمالية ، أي بمعنى الخروج من المنظومة الرأسمالية المعولمة من جانب، واستبدال العلاقات الاجتماعية الرأسمالية المشوهة السائدة في بلادنا بعلاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة المجتمع برؤية قومية وحدوية تحررية ديمقراطية تستند إلى التناقض والصراع التناحري مع دولة العدو الصهيوني واقتلاعه من بلادنا، وذلك لأن البورجوازيات العربية ذات الطابع الكومبرادوري بالضرورة لن تفلح في تطوير رأسمالية كاملة، وبالتالي لن تنجز مهام المرحلة القومية. ولذلك على الطبقات الشعبية إنجاز هذه الأهداف التي لا يمكن الفصل بينها، وهي الخروج من الرأسمالية وتحقيق الوحدة العربية عبر الحركة الشعبية المعادية للرأسمالية وربيبتها الحركة الصهيونية . ولذلك لا بد أن نكرس – في الجبهة – كما في كافة قوى اليسار العربي، كل الجهود النظرية وأشكال النضال السياسي والديمقراطي من أجل تحقيق هذا الهدف الذي بدون تحقيقه لا يمكن أن تحقق شعوب أمتنا العربية أي تطور سياسي أو اقتصادي أو تنموي أو تكنولوجي أو عسكري من ناحية ، ولا يمكن لها أيضاً أن تحقق أي مكانة أو دور في مواجهة تحديات الرأسمالية المعولمة وحليفها الصهيوني . الانتماء القومي وإشكالية الهوية: طرح سؤال الهوية، في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، ولا يزال يطرح بصيغتين متباينتين ، إحدى هاتين الصيغتين كانت محور الخطاب النهضوي العقلاني المتجه إلى المستقبل، والثانية كانت ولا تزال محور الأيديولوجيا المهزومة ومنطقها التقليدي، وهي أيديولوجيا التسويغ والتبرير واللوذ بالماضي والدفاع الوهمي عن الذات. فالوظيفة الحضارية للهوية، هي التوحيد المعنوي والروحي والعقلي، ودورنا هو العمل على تقوية وتنمية هذه الوظيفة الحضارية، حتى تتحول هذه الثروة إلى قدرات فعلية ومؤسسية في سبيل التطوير والتقدم. فالهوية ليست واقعاً مجتمعياً ناجزاً، وإنما هي قيم الأمة الجوهرية التي يتجدد فهمها بفعل الإنسان وفهمه وإدراكه وديناميته، وقدرته على تحدي مشكلات عصره. فالإنسان هو الذي يحدد دور الهوية في واقعه المعاصر، فتقاعسه وترهله وكسله لا يحوّل الهوية إلى بديل عنه، وإنما تجعله يفسر قيم الهوية تفسيراً تبريرياً. من جهة أخرى فإن الهوية لا تتأكد ولا تتعمق إلا في مناخ ديمقراطي فالديمقراطية هي الأساس لتفتح الهوية ، وبناء المؤسسات والمواطن الحر والمدرك لمسؤولياته . ومن الواضح أننا لا نتحدث عن القومية بمعناها العرقي بل بوصفها حقيقة اجتماعية - سياسية تاريخية، ولا بد هنا من الإشارة بوضوح إلى ان الانتماء الديني والمذهبي ليسا من باب الانتماء السياسي، بل من باب الانتماء الفكري و الثقافي، الانتماء الروحي ولا يقلل ذلك من شأن الدين أو المذهب الديني . ومن المسائل الهامة المتعلقة بإشكالية الهوية أيضاً المسألة الاجتماعية مسألة الملكية أو توزع عوامل الإنتاج بين الفئات والطبقات الاجتماعية وبين الأفراد، وحصة كل منها من الناتج المحلي والدخل القومي وطابع العلاقات الاجتماعية وعلاقة الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة وصراع الطبقات... ومسـألة السلطة السياسية ومفهوم المعارضة، ذلك لأن وعي الذات هو الذي يحدد موقف الجماعة أمة أو طبقة أو حزباً .. من المجتمع ومن السلطة ويحدد موقفها من الآخر ورؤيتها للمعارضة. وإذا كان سؤال الهوية لا يزال مطروحاَ بهذه القوة ومحملاَ بمرارة الهزائم المتلاحقة ، فلأن الإنسان لم يمتلك ذاته بطريقة عملية ملموسة تتجسد سياسياَ في نظام إخلاقي معاش على أرض الواقع وفي نظام اقتصادي يتوفر على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، فالقهر والاستلاب ينموان طرداَ مع تركز الثروة والسلطة ولاسيما في البلدان التابعة والمتأخرة حيث لا تعاني فحسب من الاستغلال الرأسمالي ، بل من الامبريالية واستطالاتها العنصرية والصهيونية والرجعية بصورة أساسية ، وهنا تتجلى أهمية الوعي والالتزام في الممارسة بقضايا ومفاهيم الحرية والديمقراطية وتكافئ الفرص وسيادة القانون العادل . إن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية إلى جانب دولة الحق والقانون وقهر التأخر وكسر حلقة التبعية وتحقيق الاندماج القومي والاجتماعي ووحدة الأمة... من أهم مفردات الإشكالية النهضوية الحديثة التي ينبغي أن تتموضع فيها مسألة الهوية بوجه عام والهوية القومية بوجه خاص . ان مفهوم الحرية يكشف بجلاء عن جدلية التماثل والاختلاف والوحدة والتعدد، فنحن مثلا متماثلون في الكون البشري والماهية الإنسانية ، ومتماثلون في انتمائنا إلى الأمة العربية وإلى وطننا الصغيرفلسطين ، لكن الانتماء القومي هو الانتماء السياسي الأعلى والأرقى والأحدث والأقرب إلى مفهوم السياسة والدولة الحديثتين. وإذا كانت الأمة تتجسد واقعياً وعيانياً في المجتمع المدني، -وهو مفهوم غير متبلور في بلادنا العربية - فإن القومية تتجسد واقعياً وعيانياً في المجال السياسي الذي ينشئه هذا المجتمع المدني، ( ومعلوم أنه ليس ثمة مجتمع مدني بدون مقولة الأمة، ومقولة الشعب، وحرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن ومقولة الوطن وصراع الطبقات واستقلال النقابات والاتحادات والجمعيات والمؤسسات الأيديولوجية من خلال ممارسة حق المعارضة المساوي لحق السلطة) . لذلك كانت المسألة القومية، مسألة الهوية ووعي الذات، واحدة من أهم مسائل هذه المرحلة ، ففي هذه البؤرة تحديداً تتولد إشكالية الهوية وعقدة الهوية في آن واحد فعندما تنغلق الأمة على ذاتها وتفتقر إلى رؤية ووعي تاريخي لحاضرها ومستقبلها ، وتضمر في ثقافتها وممارستها العناصر الإنسانية والعقلانية، فإنها لا تنتج إلا مزيدا من الخضوع والاستبداد في مجتمع متأخر، تابع ومستباح توقف تاريخه الداخلي وتعطلت فيه آليات الانتظام تنتعش فيه البنى والعلاقات ما قبل القومية بما يؤدي الى ذبول المجتمع وضمور روح الأمة، و يكون الاستبداد لحمة الحياة السياسية . وعندما نتكيف مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية ومع الصهيونية والعنصرية والرجعية ومع واقع التأخر والاستبداد، ونتغنى مع ذلك بالخصوصية والأصالة تكون الهوية ارتكاساً قبيحاً وتعويضاً لا معنى لـه عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف، ونكون إزاء عقدة الهوية فهويتنا ليست ما كنا عليه ذات يوم فقط بل ما نحن عليه اليوم وما نريد إن نكونه في المستقبل. حول الأزمة الراهنة للمشروع النهضوي القومي العربي : بين الخطاب القومي والخطاب النهضوي صلة قرابة مؤكدة: ينتمي الأول إلى الثاني؛ إنه منه "الجوهر" الذي يمنح النهضة قابلية الصيرورة مشروعا ممكنا، ذلك إن كل تفكير في مشروع نهضوي بمنأى عن مطلب التوحيد القومي هو – كما يقول عبد الاله بلقزيز - ضرب من الطوبى[29]، إذ الدولة القطرية الصغرى (= دولة التجزئة) أعجز من أن تحمل في جوفها -الجغرافي والبشري- الصغير إمكانية حقيقية للتطور الديمقراطي، وللتنمية، والأمن "القومي"، والتحول الاشتراكي، وسواها من الأهداف النهضوية. إن النهضة ممتنعة -عربيا- في بلد ( = قطر) واحد. ان المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن، يوحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الامبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية و”إسرائيل”، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية. لكننا ندرك بأن المشهد الراهن - على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية لهذه الأمة، في مسارها وتطور حركة جماهيرها الشعبية وتطلعها نحو التحرر والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية، لأن هذه الحقائق في تكاملها وترابطها تمثل المشهد الآخر - النقيض- الذي يقول ان المطلوب أمريكياً و”إسرائيلياً” لم ولن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار، لأنه لن يستطيع - مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض وإخضاع شعوب هذه الأمة التي صنعت ماضي وحاضر هذه المنطقة، وليست جسماً غريباً طارئاً فيها. وبالتالي فإن الخطوات الاولى المطلوبة على صعيد مواجهة مظاهر الخلل وتجاوزها تكمن في بلورة الرؤية الواضحة الحاملة للبرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي النقيض للرؤية الامريكية/الصهيونية من جهة وللتجزئة والتخلف والتبعية والخضوع وادواتها وشرائحها الداخلية المهيمنة من جهة ثانية، وفي ضوء ذلك، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل وتجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث وضرورات تطوره المستقبلي من جهة، وبوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى أما المسألة الثانية، التي لا تنفصم عن الأولى، بل ترتبط بها ارتباطاً جدلياً فهي تتلخص في إعادة تفعيل مشروع النهضة القومية الوحدوية العربية بأفقها التقدمي الديمقراطي، كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي، ونقلها من حالة السكون أو الجمود الراهنة الى حالة الحركة والحياة والتجدد. إن إشكالية الأزمة الراهنة تتجلى في أن الأوضاع والضغوط الداخلية العربية تشكل العامل الرئيسي الأول في نجاح أو فشل الضغوط الخارجية، فمن غير الممكن تحليل الأوضاع السياسية العربية، ومسارها، بمعزل عن مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي الداخلي باعتباره الركيزة الأولى والمدخل الفسيح لخضوع النظام العربي وتبعيته للمراكز الرأسمالية وضغوطاتها الخارجية، إذ ان التراكمات البطيئة والمتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي العربي، وتحولاتها خلال العقود الأخيرة عبر سيطرة القوى الرأسمالية، الطفيلية والتجارية، والعقارية، على مجمل البنية الاجتماعية والسياسية العربية، أدت إلى تراكم واتساع التناقضات الداخلية مع الجماهير الشعبية من جهة، وإلى تطابق مصالح البنية الطبقية العليا الداخلية الحاكمة، مع مصالح وشروط المراكز الرأسمالية الخارجية أو العولمة من جهة أخرى. هذا هو جوهر الإشكالية أو الأزمة السياسية في النظام العربي الراهن، ببعديهما التحرري على الصعيد الوطني والقومي، والديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي المطلبي على الصعيد الداخلي، اللذين لا يمكن تحققهما بدون توفر النظام السياسي المعبر عن ارادات وتطلعات ومصالح الجماهير الشعبية ويقوم على خدمتها. وبالتالي لن يكون في وسع أية قراءة لأسباب نكسة الفكرة القومية، والمشروع القومي، أن تستقيم وتستكمل نصاب الموضوعية فيها إلا إذا هي أخذت بفرضية الدور المؤثر للعامل الخارجي (الاستعماري، والإمبريالي، والصهيوني) في وأد اندفاعاتهما وإلحاق الهزيمة بهما. ولا ينتمي مثل هذا التفسير إلى فكرة المؤامرة وما يفرضه التوسل بها -عادة- من تعليق إخفاقاتنا على شماعة العدو الخارجي، بل هو يستند إلى سوابق من التاريخ قام عليها دليل القول بدور العامل الخارجي ذاك في إلحاق التدمير بعملية النهضة. يكفي المرء أن يتذكر أن مشروع محمد علي وإبراهيم باشا لم يسقط من الداخل، وأن المشروع النهضوي الناصري انتكس بضربة حزيران 67 الموجعة لا بتناقضاته الداخلية، وأن العراق الذي حاول السير على خطى مصر الناصرية انفجر بعدوان خارجي مدمر ، وكذلك الأمر بالنسبة للحروب الاهلية ، والصراعات الدموية في لبنان وفلسطين والسودان واليمن والصومال والعراق ، لم تكن -دائما وفقط- بتأثير تناقضات البنى الداخلية، بل ساهم في اشتعالها المقرر الخارجي الأمريكي والصهيوني . ومع ذلك، وبالرغم من اقرارنا بما لهذا العامل الخارجي من عظيم الأثر في إدامة مشروع النهضة معلقا ومعاقا، تهمنا مطالعة الأسباب والعوامل الذاتية الداخلية في المقام الأول، لاعتقادنا النظري بأن فاعلية ما للعوامل الخارجية لن تظفر ببلوغ مقاصدها، مهما عظمت واشتدت وطأتها، إلا متى تهيأت لها الأسباب والمقدمات في الداخل نفسه. وإننا إذ نختار التركيز على دور العامل الذاتي في إعاقة المشروع القومي النهضوي، نختار تناوله سريعا من مدخلين اثنين: نظري وسياسي كما آوردهما عبد الإله بلقزيز [30]: 1 - في الخصاص النظري: من اللمع اللينينية المأثورة القول بأن "لا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية". يصدق ذلك تماما على الحركة القومية ومشروعها النهضوي: لا سبيل إلى تحقيق مشروع قومي دون نظرية قومية، أو -للدقة- دون نظرية في القومية. والمثقفون القوميون -للأمانة- أنجزوا الكثير من المكتسبات النظرية التي تغذت بها الممارسة واسترشدت على امتداد ثلاثة أجيال. لكنهم لم يتقدموا كثيرا في صوغ إجابات نظرية متماسكة عن أسئلة فرضها السير في مشروع سياسي هو المشروع القومي، وفي مقدم تلك الأسئلة سؤال الكيان القومي ذاته! غير أن معظم ما أنتجه هؤلاء -وغيرهم- نظريا انصرف إلى مجال النظرية الاجتماعية-الثقافية، وإلى التاريخ والتاريخ المقارن، ولم يحتفل كثيرا بميدان النظرية السياسية على الرغم من أنها هي مدماك أي مشروع قومي! لقد أنتج القوميون العرب نظرية الأمة، لكنهم لم ينتجوا نظرية في الدولة القومية. نملك من الأمثلة ما يفيض عن حاجتنا من الاستدلال: يريد القوميون دولة قومية (بقطع النظر عن طبيعتها: اندماجية، اتحادية،…الخ)، ولكن، ما موقفهم من طبيعة النظام السياسي فيها، من الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية وفصل الدين عن الدولة، من المجتمع المدني، من الأقليات الأقوامية. ما القوى التي يرشحها مركزها الاجتماعي لحمل مشروع التوحيد القومي. ما العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية في دولة الوحدة. ما الموقف من الثروة القومية وكيف -وعلى أي نحو- يجري توزيعها؟ وسوى ذلك من الأسئلة التي لا نعثر على إجابات شافية عنها في الخطاب القومي. 2 - في مزالق السياسة: كان لا بد للفكرة القومية من أن تتحول إلى حركة سياسية حتى يكون في وسع المشروع القومي النهضوي أن يجد ترجمة مادية. بيد أن المفارقة كانت في أن تسييس تلك الفكرة، على نحو مبكر وقبل أن يستوي عودها النظري، عاد عليها بنتائج عكسية، إذ أنتج عوائق جديدة أمام تنمية وعي نظري بالمسألة القومية، بل دفع الخطاب القومي دفعا إلى مغادرة موقعه الفكري الإبداعي والصيرورة خطابا إيديولوجيا تبريريا، ومنصرفا إلى التماس الشرعية لها أيا تكون طبيعتها! وهذا في أساس تعطل حاسة الإبداع فيه. والحق أن المنزع التسييسي، الذي نقل الفكرة القومية من محيط الشعب والمجتمع المدني إلى صفة الحزب القومي، هو نفسه الذي سينقلها لاحقا من الحزب ذاته إلى المؤسسة العسكرية التي ستصبح "ناطقا رسميا" باسمها بعد حيازتها السلطة. لم تكن الحصيلة كلها هكذا بهذه الدرجة من السوداوية، كانت ثمة مكتسبات كبيرة في الفكر كما في الممارسة (تجربة عبد الناصر) ، مثلما قدمت الحركة القومية مساهمة خلاقة في المعركة الوطنية والاجتماعية. غير أنها لم تكن في سائر أوضاعها بحجم المهمات المطلوبة، ولا هي أشبعت حاجات ملحة ضاغطة. واليوم، لم يعد ثمة من محيد عن إعادة النظر الشاملة في مجمل المعمار الفكري والسياسي القومي لتأهيله مجددا لحمل مشروع نهضوي لا يمكن إلا أن يكون قوميا -ديمقراطيا- اشتراكيا أو لا يكون، وفي هذا السياق، فإننا نعيب على التيارات والقوى القومية –في المرحلة السابقة- إغفالها للعلاقة التي تربط النضال من أجل إنجاز الوحدة العربية بالصراع الطبقي ، فإننا نؤكد على أن انجاز الوحدة العربية –في هذه المرحلة- أمر مستحيل بدون الخروج من الرأسمالية بمعناها الشامل، واستبدال علاقات اجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة المجتمع المحلي من الجانب الآخر. والسؤال هنا : كيف يمكن للعرب أن يبحروا في خضم المجتمع العالمي الزاخر بالتغيرات؟ المجتمعات العربية شأنها شأن المجتمعات الأخرى التي تسير في ركاب العولمة الرأسمالية ذات الطابع الاستعماري لابد لها أن تطرح بديلها التنموي الاشتراكي في مواجهة الكومبرادورية المحلي رأسمالية العولمة، لتحديات ومشاكل الإنماء والتطور الاجتماعي، وتلك هي مهمة القوى اليسارية الماركسية منطلقاتها القومية الوحدوية . هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الحركات اليسارية القومية العربية من أجل تحقيق سيطرة شعوبنا على الثروات والموارد الطبيعية التي تمتلكها، وإعطاء الأولوية لها في تحقيق مبادئ وآليات التفسير الذاتي والاعتماد الجماعي العربي على الذات لكي تصب في خدمة الوحدة العربية ، كهدف استراتيجي لابد له ان يندرج ضمن الأولويات الأساسية الكبرى .
في أجندة العمل السياسي لجميع القوى السياسية اليسارية العربية، لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تغيرات اجتماعية كبرى داخل كل المجتمعات العربية القطرية، وإحلاله محل التحالف الاجتماعي البرجوازي الكمبرادوري والبيروقراطي الرث السائد, ولن يتحقق إنجاز الوحدة العربية بدون هذا التغيير. في ضوء ما تقدم، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل و تجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة، و بوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى، على أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض، و القيام بوظيفتها و مهماتها التاريخية فلا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية التالية:- 1. أن تكون رؤية وحدوية تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية، و تعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي و الإنساني العام. 2. أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة، و ما تضمنته من عقلانية علمية و روح نقدية إبداعية و استكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية و الديمقراطية، و ما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية و سعيها إلى الحركة و التغيير والتقدم. 3. أن تعتمد الأيديولوجية الاشتراكية بمضمونها ومنهجها العلمي ووعيها وإدراكها، كركيزة أساسية و قاعدة و منطلقاً للرؤية القومية العربية الجديدة، بشرط تطوير هذا الوعي وتطبيقه على واقعنا بصورة معاصرة و متجددة، بما يؤدي إلى وضوح العلاقة الجدلية بين خصائص و مكونات واقعنا العربي بكل تفاصيله من جهة، و قوانين و منهجية الاشتراكية العلمية، كمرشد و دليل في عملية تغيير هذا الواقع و تجاوزه من جهة أخرى. إذ أن هذه العلاقة تمثل الشرط الوحيد لإعادة استنهاض حركة التحرر القومي العربي في زمن الصراع المعولم الذي نعيشه الآن، ذلك أن عملية التحرر القومي كضرورة تاريخية لمجابهة تناقضات المجتمع العربي الحديث، لا يمكن تحققها أو ممارسة دورها كنقيض للواقع القائم، بدون الاشتراكية و برنامجها السياسي الاجتماعي و الاقتصادي، كضرورة تاريخية أيضاً لعملية التحرر القومي ذاتها، إذ أن جوهر تناقضاتنا الرئيسة مع الحركة الصهيونية و قوى العولمة الإمبريالية و توابعها المحلية يقوم على الصراع على استرداد الأرض و الموارد و الثروات المادية والبشرية العربية لإلغاء حالة النهب و الاستلاب و الارتهان و الاستغلال التي تعيشها شعوبنا العربية اليوم، و بالتالي فإننا نؤكد أن حل هذا الصراع لتحرير الأرض و الثروات و الموارد العربية لا يمكن تحقيقه بدون إنضاج الوعي الاشتراكي و برامجه التطبيقية الكفيلة بتغيير بنية العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية التابعة والمتخلفة و المشوهة الحالية، إلى بنية إنتاجية تنموية حضارية شاملة تضمن توليد علاقات اجتماعية ذات طابع جماعي تعاوني، يؤكد في جوهره على حق جماهيرنا الشعبية في ملكية هذه الثروات و الموارد عبر مؤسساتها الديمقراطية التي ترى في الحوافز الفردية و الدافعية الذاتية شرطاً للإبداع و البناء و ضمانة للتطور المتجدد و الاستمرار. إن هذه العلاقة الثنائية الجدلية بين الرؤية القومية والماركسية ومنهجها ، و تطابقهما معاً في النظرية و الممارسة بأدوات أو آليات تنسجم مع روح هذا العصر و متطلباته ، هي الصيغة أو المنظومة الفكرية التي نعتقد أنها تشكل المدخل النظري الذي ندعو إلى الحوار العميق فيه من أجل بلورة أسسه و آلياته الفكرية أو المعرفية تمهيداً للوصول إلى آلياته الحركية ، أو مقوماته و أدواته التغييرية الديمقراطية المنظمة ، بصورة عصرية تتوافق مع طبيعة التحولات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، التي نتطلع إليها ، في سياق نضالنا من أجل التحرر القومي و التقدم الاجتماعي و مواجهة تحديات العولمة و المشروع الصهيوني و اشتراطاتهما المذلة .إذ لا يعقل أن نستمر في التعامل مع الفكرة القومية من منطلق أزليتها أو خلودها ، و هي ليست كذلك ، أو الركون إلى مكوناتها الأساسية ، اللغة ، و الجغرافيا أو الأرض ، والتاريخ والثقافة والتراث . فبالرغم من أهمية هذه العوامل كمنطلقات أولية و أساسية للفكر القومي العربي، إلا أنها تظل عاجزة وحدها عن التفاعل أو التكيف الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية و العالمية المعاصرة نظراً لتعدد خصوصياتها القطرية وألوانها رغم تشابكها في لوحة تاريخية وجغرافية متصلة ، مما يجعلها –وفي الظروف الراهنة بالذات- فاقدة بآلياتها الذاتية المجردة ، القدرة على إنتاج الوعي القومي الاستنهاضي ، أو الفكرة التوحيدية الناظمة للجماهير الشعبية والمعبرة عن مصالحها ، و من هنا تتجلى الأهمية و الضرورة معاً للمحتوى الاقتصادي الاجتماعي التقدمي القادر على إنتاج الآليات النقيضة التي يمكن أن تتجاوز هذا الواقع المجزأ ، التابع ، المتخلف ، المشوه من جهة ، وادواته المتعددة القبلية، الكومبرادورية ،والطفيلية، والبيروقراطية الأحادية المستبدة ، من جهة أخرى . إن هذه الحالة من السكون الظاهري أو الكمون العربي ، في مناخ تترعرع فيه كل عوامل الإحباط ، تجعل من الحديث عن المبادرة لانتاج و بناء منظومة معرفية قومية تقدمية تتناسب مع روح هذا العصر و مقتضياته ، ضرورة تاريخية استثنائية ملحة تعمل على نقل الواقع الشعبي العربي من حالة السكون أو الركود الراهنة إلى حالة الحركة و التجدد ، يقع عبئ صياغتها و تبنيها و تحمل مسؤولية فعلها و حركتها على عاتق المثقف العربي الديمقراطي التقدمي الملتزم كخطوة أولية ، لإعادة تكريس الوعي القومي بمضامينه و آلياته الحديثة و المعاصرة في التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كأفكار توحيدية للجماهير ، تشكل المحتوى الحقيقي للواجهة العربية الخارجية المتمثلة في اللغة و الأرض و التاريخ و الثقافة ، بمثل ما تشكل أيضاً ، الأساس المادي للمشروع القومي الديمقراطي في الحاضر و المستقبل ، الذي يضمن كسر حلقات التخلف و التبعية و الإلحاق و التجزئة ، و يختصر الطريق إلى المعرفة العلمية و الحداثة من جهة ، و صياغة المشروع التنموي الاقتصادي المستند إلى مبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات الذي يضمن تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية من جهة أخرى . إننا ندرك حجم العقبات أو العوامل الموضوعية و الذاتية التي تشكل تحدياً حقيقياً في وجه تجدد المشروع القومي العربي، و التي تفاقمت طوال العقود الثلاثة الماضية، التي حملت صوراً من التراجع تخطت كثيراً من الثوابت و الحدود و الموانع، و ما زال رسمها البياني متجهاً في حركته نحو مزيد من التراجع و الهبوط حتى اللحظة، لم يصب بالضرر الجوانب السياسية الاجتماعية فحسب، و إنما أصاب أيضاً الأسس الفكرية أو المفاهيم العامة التي ارتبطت تاريخياً بحقيقة الوعي بمفهوم الأمة العربية، و مفهوم الوطن العربي مما دفع بقسطنطين زريق –أحد أهم رواد الفكر القومي العربي الحديث- إلى الإقرار بهذا التراجع في كتابه "ما العمل" –الصادر عام 1998- بقوله "عليَّ شخصياً أن أعترف أنني كنت في الماضي أتكلم و أكتب عن الأمة العربية ، فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش" و لجأ –حتى وفاته في صيف عام 2000-إلى استخدام تعبير "المجتمع العربي" بدلاً من "الوطن العربي" الذي لم يتطور بعد ليصبح وطناً عربياً لأمة عربية ، و لم يكن ذلك موقفاً يائساً من مفكرنا الراحل ، بقدر ما كان تعبيراً عن قلقه على مستقبل هذه الأمة ، و عن ضرورات خلق عوامل التحدي الدائم لمواجهة كل أشكال حياتها و ظروفها المعقدة الراهنة ، لتطوير مفهوم القومية العربية و إخراجه من سياقه الرومانسي المألوف أو المتحجر إلى رحاب الواقعية العقلانية الحديثة ، فالقومية الحقة –كما يراها قسطنطين زريق- ليست دعوة سياسية فحسب، إنما هي حركة علمانية شاملة لحياة الشعب ، تعمل على مواجهة العوامل الرئيسية في أزمة المجتمع العربي حاليا ، والتي لخصها فيما يلي :- -غياب الشعوب عن المسرح العربي . - غياب القضايا الكبرى في المجتمع العربي ، وهي الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص . - غياب العقلانية والنهج العلمي في فهم المشكلات وحلها . - غياب القيم الاجتماعية الإيجابية ، وانتفاء اعتمادها في السلوك العام والخاص . - هذه العوامل نتج عنها غياب القدرة –في المجتمع العربي- على التحصن في وجه الانحرافات والمفاسد الداخلية أو في وجه العدوان الخارجي . لذلك ، فإن حديثنا عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية تقدمية معاصرة ، عبر رؤية وممارسة جديدتين ، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي ، لاعتبارين هامين ، أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية. وثانيهما: أن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي ، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها ، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة ، والتسارع غير العادي ، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي ، إلى جانب وضوح وتعمق تبعية "البورجوازية" العربية للمركز الرأسمالي المعولم ، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا ، كل ذلك يجعل من المثقف العربي ، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلا مؤقتا ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي ، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم حركة التحرر العربي ومشروعها النهضوي القومي ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية . ولكن يجدر هنا أن نشير إلى أن التحرر من هيمنة الآخر الثقافية لا يمكن أن يتم إلا بالتحرر من التبعية للماضي ماضينا نحن، والتعامل مع الآخر نقدياً، بالدخول مع ثقافته التي تزداد عالمية في حوار نقدي، وذلك بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها والتعرف على أسس تقدمها والعمل على استنباتها في تربتنا الثقافية، وهي بصفة خاصة مفاهيم الحداثة والعقلانية والتنوير والروح النقدية من منطلق الوعي المسبق بالماركسية ومنهجها الجدلي في تطبيقاتها على واقعنا العربي من أجل التغيير صوب المجتمع الاشتراكي الديمقراطي . وبالتالي فإن سؤال الهوية بالصيغة التي تحددت بعض ملامحها في هذا العرض عبر التعريفات التي أوردناها ، ليس له من جواب منطقي وتاريخي –فيما يتعلق تحديداً بتبلور الهوية القومية التقدمية - إلا في المجتمع الاشتراكي الديمقراطي العربي الموحد .
لكن هذا الهدف الاستراتيجي (المجتمع العربي الاشتراكي) يفرض على القوى اليسارية العربية، الوعي العميق بالسمات الرئيسة للماركسية التي تميزها عن غيرها من الأنساق النظرية والفلسفية السابقة بأمور ثلاثة: الأول:- أنها تستمد عناصرها ومعطياتها وبالتالي قوانينها من الدراسة العلمية العينية الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي الفكري والصراعي (الطبقي) في فلسطين والوطن العربي والعالم. الثاني:- هو أنها ليست مجرد نظرية معرفية علمية تستمد هدفها من الدراسة العلمية الموضوعية وإنما تتضمن كذلك موقفاً موضوعياً كنظرية لتغيير الواقع تغييراً جذرياً لإقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الاضطهاد الوطني والطبقي ومن الفقر والقهر والاستغلال، وتتفجر فيه إنسانيته الإبداعية وتتوفر له الحرية الحقيقية. الثالث:- الممارسة العملية تتم وفق هذه المعرفة، وهي شرط لها، وهي مصدر أساسي في الوقت نفسه لهذه المعرفة. إلى جانب ذلك فإن الماركسية معنية بثلاث لحظات في ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية الطبقية[31]: v اللحظة الأولى: هي التعليم والتربية في استخدام المنهج الديالكتيكي المادي في التفسير التاريخي والاجتماعي، وهي تشمل قراءة التراث الماركسي الكلاسيكي قراءة متبصرة ونافذة. v اللحظة الثانية: هي إنتاج العلم التاريخي والاجتماعي بالخصوصية القومية ، أي إعادة إنتاج النظرية الاجتماعية والتاريخية هنا عندنا نحن العرب في سياق العصر الراهن. v اللحظة الثالثة: هي إعادة إنتاج الفكر الماركسي لهويته الطبقية وأشكاله وأدواته ، وفي هذه اللحظة تنشغل النظرية بمسألة قضايا التنظيم وبناء الحزب السياسي وفق أشكال مناسبة وفعالة بما تضمنته من بناء تصورات وأيدلوجيا للتغير الاجتماعي التاريخي. وبالاضافة إلى ما تقدم ، لابد إلى أن نشير هنا إلا أن الوعي بمكونات واقعنا الفلسطيني والعربي الراهن- وتأسيس الفاعلية الإنسانية لأحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي ، هو الذي ينتج تحقيق ثورة جذرية عبر دور رئيس للطبقة العاملة وجموع الكادحين والفقراء المضطهدين، وهي ثورة ضرورية وممكنة في وقت واحد، بل لعل إمكانيتها مرتبطة بأساسها الضروري في بلادنا، المتمثل في ذلك الدور البشع الذي تمارسه الامبريالية وحليفها الصهيوني الذي يقوم على اغتصاب أرضنا واحتجاز تطورنا واستغلال فائض القيمة لشعوب بلدان وطننا العربي من ناحية وعلى الملكية الفردية لوسائل الإنتاج في إطار التحالف البيروقراطي الكومبرادوري الطفيلي التابع في بلادنا من ناحية ثانية، وبالتالي فان مجابهة هذا الواقع والنضال من اجل تغييره مهمة أولى ورئيسية لكل القوى الماركسية في وطننا العربي من اجل تحقيق انتقال جماهيرنا الشعبية من فضاء الضرورة والاستغلال إلى فضاء الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، والانتقال بالتاريخ من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية. ان الاشتراكية والماركسية تبرز اليوم كضرورة ما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد تردياً في حياة شعوب العالم و شعوب بلادنا العربية عموماً وشعبنا العربي الفلسطيني خصوصاً، الذي يتعرض مشروعه الوطني الديمقراطي في هذه المرحلة لأبشع أشكال العدوان والغطرسة الصهيونية من ناحية ولأبشع صراع داخلي بين قطبي اللحظة الراهنة، التيار الأصولي أو مشروع نظام الإسلام السياسي وهويته والتيار اليميني المتنفذ في حركة فتح، بحيث بات هذا الصراع وما تلاه من إنقسام خطير بين الضفة وقطاع غزة مدخلاً لمزيد من تراكمات الإحباط واليأس في أوساط واسعة من جماهير شعبنا، ما يفرض على اليسار الماركسي الفلسطيني أن يتحمل مسئولياته والخروج من أزمته الفكرية والتنظيمية صوب ترسيخ وحماية وتعميق هويته الفكرية الماركسية ، بما يمكنه من استعادة دوره الطليعي في أوساط الجماهير وقيادتها صوب تحقيق أهدافنا التحررية الوطنية والديمقراطية في فلسطين الديمقراطية كجزء لا يتجزأ من المجتمع العربي الاشتراكي الموحد . هل من أفق لمشروع عربي : إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعبنا أو الشعوب العربية كلها –في حسم الصراع العربي الصهيوني بما يحقق أماني و مصالح هذه الأمة، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان و المكان دوراً رئيسياً و أحادياً فيها، بل يعني تفعيل و إنضاج عوامل و أدوات التغيير الديمقراطية الحديثة و المعاصرة، و البحث عن مبرراتها و أسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن، الذي لم يعد مجدياً لتغييره، كافة الأدوات و الرؤى و السياسات الرسمية الفلسطينية و العربية الهابطة، عبر أنظمة رسمية عربية فقدت وعيها الوطني والقومي، ستقودنا إلى مزيد من التفاوض و مزيد من المصالح و الصداقات، و ضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية و القومية، التي يكاد أن يصبح أمراً طبيعياً بعدها، أن تتغير الأهداف و جداول الأعمال و المطالب. في مثل هذا الواقع، تنضح معطيات و مقدمات عملية التغيير، بصورة تراكمية، بطيئة أو متسارعة، و موضوعية أيضاً، ليس بالمعنى الذاتي –على أهميته- لهذا الحزب أو ذاك، و إنما بالمعنى الوطني و القومي العام كآليات أو إرهاصات فكرية تتمحور حول فكرة أو مجموعة أفكار توحيدية تعبر عن تطلعات كل الجماهير الشعبية العربية في التحرر و الانعتاق و الخلاص من كل أشكال المعاناة و الحرمان و الظلم الوطني و الطبقي. إننا، حينما نتحدث عن نضوج العوامل الموضوعية، فإننا نعني بذلك، و بصورة مباشرة، هذا المشهد السوداوي الذي تعيشه أمتنا بصورة اكراهية و مؤقتة من جهة، و الذي أعاق حركة تطور شعوبنا العربية كلها، و أبقاها أسيرة لأحكام القرن الخامس عشر من جهة أخرى، بعيداً عن المرحلة الجديدة بمتغيراتها الهائلة في القرن الحادي و العشرين الذي نتعاطى معه بمفهوم الوجود في المكان فحسب، و بعيداً عن أي دور أو تفاعل إيجابي ومؤثر لنا في زمانه و مستجداته، رغم أن الإمبريالية المعولمة و أداتها الحركة الصهيونية و إسرائيل في بلادنا تضعنا أمام حالة صراع من نوع جديد يستهدف عبر الخصخصة و اقتصاد السوق و الليبرالية الجديدة، أو أيديولوجية العولمة، شطب إمكانية تجدد مشروعنا القومي و إبقاءه مفككاً مشتتاً فاقداً لمقومات التحدي و النهوض. و في مقابل هذا التراجع الرسمي العربي الذي يقف سداً مانعاً في وجه تطور و تجدد و صعود المشروع الوطني و القومي في بلدان الوطن العربي كله، تتجلى هيمنة العدو الصهيوني بصورة غير مسبوقة، لم يستطع تحقيقها في كل حروبه السابقة مع العرب، إلى جانب عمليات الترويض الأمريكي للنظام الرسمي العربي، في السياسة و الاقتصاد و الفكر و الثقافة التي لم تنجح في تغيير الموازين و المعايير العسكرية و السياسية في الصراع العربي –الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب، بل نجحت في تغيير أسس ما يسمى بعملية التفاوض، في الساحة الفلسطينية، إلى الدرجة التي يجري التعامل معها الآن على قاعدة أن يعترف العدو الإسرائيلي بحقوقنا و ليس العكس، بمثل ما هو الأمر في عملية التفاوض مع العراق الذي وافق على كافة الاشتراطات الأمريكية لدرجة وصل معها إلى حالة تقترب من الاستسلام أو الهزيمة الفعلية دون طائل، ذلك أن المطلوب أمريكيا، المزيد من الخضوع الذي يجعل أمتنا العربية فاقدة لكل مقومات نهوضها ومستقبلها ، خاصة مع التراكمات الراهنة في بنية المجتمع العربي التي ستدفع بالمشهد السياسي الاسلامي لكي يصبح عنوانا رئيسيا في معظم مساحة الوطن العربي خلال السنوات القليلة المقبلة ، وما يعنيه ذلك من تزايد انحسار الهوية القومية أو المشروع القومي والمشاريع الوطنية عموما ، وخاصة في الساحة الفلسطينية ، لحساب "الهوية الاسلامية" التي لا يبدو انها تملك اية مقومات للحياة في الحالة المعاصرة ، ما يجعل من امكانية تزايد التبعية والتخلف مظهرا رئيسيا في بلادنا ، رغم اقرارنا بالدور النضالي للتيار الديني في فلسطين ، بحيث تصبح سياسات هذه الحركة (حماس) جزءا مكملا لسياسات الاعتدال في إطار حركة الاخوان المسلمين عموما وبالتوافق مع فروع الاخوان في تركيا والعراق والمغرب والاردن ومصر ...الخ . على أي حال، و مع إدراكنا لطبيعة هذه التراجعات في الوضع العربي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، لم تكن معزولة أبداً عما جرى و يجري في العلاقات الدولية المعولمة الراهنة، إلا أننا ندرك أيضاً أنه لولا هذه التراجعات العربية التي شكلت قاعدة و مناخاً عاماً عبر أدواتها السياسية و شرائحها الاجتماعية و طبقاتها القديمة الجديدة، لما نجحت العولمة الأمريكية في فرض شروط الاستسلام على بلداننا، ذلك لأن ظاهرة العولمة إلى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة و تحديات كبرى، خاصة على بلدان العالم الثالث عموماً و الوطن العربي خصوصاً، إلا أن هذه الظاهرة تحمل أيضاً كثيراً من الفرص و حوافز الصحوة و النهوض لمن يمتلكون الإرادة، إذ لا يمكن اختزال العولمة في المخاطر وحدها بعيداً عن فرص النهوض، كما لا يمكن اختزالها في أنها عولمة التحديات، أو عولمة الاستسلام، فكل منهما تمتلك مقوماتها و أدواتها و آلياتها الداخلية. و إذا كان صحيحاً أن العولمة –مهما اشتدت هيمنتها- لا تستطيع بأي حال من الأحوال، شطب هذا التنوع الحضاري و التاريخي و الثقافي و السياسي بين الأمم و القوميات، فإن ذلك لا يعني الصمت أو الركون و الاطمئنان، لأن الصراع المستمر و الحركة الصاعدة في إطاره، يشكلان القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية اليوم أكبر بما لا يقاس مما كانت عليه في السابق، لذلك فإن عدم دخولنا –كعرب- إلى حلبة الصراع متسلحين بالرؤية أو الهدف القومي الوحدوي، و بالخطط اللازمة لتحقيقه و توفير مقوماتها و آليات تنفيذها، سيعني مزيداً من التبعية و القهر لشعوبنا، و مزيداً من التراجع لبلداننا على هامش التاريخ أو خارجه لا فرق. أن هذه الاستنتاجات –على مرارتها- ترتبط باللحظة الراهنة من المشهد العربي الزاخر بالتحديات السياسية والمجتمعية على عاتق القوى التحررية والديمقراطية التقدمية العربية في نضالها من اجل كسر التبعية وفك العلاقة مع التحالف الامبريالي الصهيوني ، وتحقيق النهوض والتقدم والعدالة الاجتماعية والديمقراطية ، انطلاقا من التزام هذه القوى برسالتها ودورها التغييري بما يؤكد على رفض وتجاوز المشهد المهزوم الراهن الذي يوحي للبعض ، أو القلة المهزومة ، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة ، أن اللحظة الراهنة توحي بأن المطلوب قد تحقق ، و أن الإمبريالية الأمريكية و صنيعتها و حليفتها الحركة الصهيونية و إسرائيل ، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية ، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية التي تؤكد على الضرورة التاريخية لاستنهاض هذه الأمة ، في مسارها و تطور حركة جماهيرها الشعبية و تطلعها نحو التحرر و الديمقراطية و التقدم و العدالة الاجتماعية ، لأن هذه الحقائق في تكاملها و ترابطها تمثل المشهد الآخر –النقيض- الذي يقول أن المطلوب أمريكياً و إسرائيلياً لم و لن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار ، لأنه لن يستطيع –مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض و إخضاع الشعوب العربية ، التي صنعت ماضي و حاضر هذه المنطقة، و ليست جسماً غريباً طارئاً فيها ، و لذلك فإن سكونها الراهن المؤقت هو شكل من أشكال الحركة في داخلها ، يقاوم كل محاولات تطويع إرادتها ، تمهيداً للمشهد القادم ، بعيداً عن السكون ، مشهد الجماهير المنظمة ، أو مشهد ما بعد الأزمة الراهنة الذي سيعيد لهذه الأمة دورها الأصيل في صياغة مستقبل هذه المنطقة . في ضوء ما تقدم ، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل و تجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق ، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة ، و بوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى . بمعنى آخر نقول ، لقد آن الأوان لنقل حركة التحرر الوطني العربية من حالة التراجع إلى حالة الهجوم المضاد. ويستدعي ذلك البدء بتصحيح التعامل مع التناقضات في بلدان الوطن العربي. لقد نجح اعداء القومية العربية بقيادة التحالف الامبريالي الصهيوني بالاستناد إلى أنظمة التبعية والتخلف في طمس التناقض الرئيسي وتغليب التناقضات الثانوية. وآن الأوان لتغليب التناقض الرئيسي وتجنيب التناقضات الثانوية . آن الأوان للتعامل مع التناقضات على حقيقتها: أن يعود العدو عدوا والصديق صديقاً والشقيق شقيقاً . إن ذلك يعني إعادة طرح كل قضايانا الرئيسية من جديد : قضية فلسطين والصراع مع العدو الصهيوني وإزالة دولته وإقامة فلسطين الديمقراطية ، قضية تحرير الاقتصاد العربي ، قضية التنمية العربية الشاملة ، قضية التحولات الاجتماعية والصراع الطبقي ، قضية الحريات الديمقراطية ، قضية حقوق الإنسان والمواطن ، قضية الشباب والمرأة في الوطن العربي ، قضية الثقافة واستعادة الهوية العربية وقضية التكامل الاقتصادي. وكلها قضايا لا تطرح على حقيقتها إلا في إطار التناقض الرئيسي الذي لابد من ممارسته – بصورة ديمقراطية- بما يؤدي إلى تغيير الأوضاع الراهنة وانهاء كل أشكال التبعية مع النظام الإمبريالي صوب النهوض والتطور الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي والعسكري على طريق بناء الدولة العربية الديمقراطية الاشتراكية الواحدة . على أي حال ، إن المسألة لا تكمن في مجرد طرح الغاية والرؤية فحسب ، بل في كيفية تحقيق هذه الرؤية ، الأمر الذي يستدعي –عبر الحوار المقترح بين القوى الماركسية العربية - تغيير الكثير من الشعارات ، والتأسيس لأنماط عمل واستراتجيات جديدة ، وهي على صعوبتها تحتاج إلى وضوح الرؤى المعرفية والسياسية بمنطلقاتها التقدمية ، بمثل ما تحتاج إلى أدوات نضالية جديدة ، طليعية وجماهيرية، يؤسسها ويقودها الحزب اليساري الماركسي في كل قطر عربي بما يمكنه من توفير وخلق الظروف المناسبة لتأسيس "كتلة تاريخية" ذات مضمون وطني وقومي ماركسي كنقطة انطلاق صوب التغيير المنشود ، تبدأ أنويتها في كل بلد عربي على حدة برؤية تقوم على الالتزام السياسي والتنظيمي والمعرفي والأخلاقي بمصالح وأهداف العمال والفلاحين وكل الفقراء والمضطهدين ، لكي تمتد وتتواصل في الإطار القومي العربي كخطوة لاحقة ، بحيث تضم هذه الكتلة ، كافة المثقفين والمناضلين والديمقراطيين في كافة النقابات والمؤسسات والاطر المجتمعية ، يتوحدون جميعاً في نضالهم من أجل التغيير الديمقراطي والسياسي في بلادهم بما يخدم الهدف الاستراتيجي الكبير المتمثل في استعادة بناء المشروع القومي النهضوي الديمقراطي العربي ، بما في ذلك هدف تفكيك وإزالة الدولة الصهيونية واقامة فلسطين الديمقراطية، عبر المقاومة الشاملة للمشروع الصهيوني بكل الوسائل المتاحة ، تشق طريق الثورة الوطنية والقومية التحررية الديمقراطية كطريق ثالث ، وبديل حقيقي ينطلق من ثوابت وأهداف الجماهير الشعبية الفقيرة ، على المستويين الوطني والقومي ، باعتبارها المحدد الرئيسي للقيادة والتنظيم ، تمهيداً لتحقيق مبدأ الهيمنة السياسية والثقافية والمجتمعية ، ذلك ان نجاح القوى اليسارية الماركسية العربية ، بالمعنيين الطبقي والسياسي في ان تصبح قوة مهيمنة ، سيمكنها من التجاوز أو الإزاحة السياسية الديمقراطية للتحالف البيروقراطي الكمبرادوري ، وان تصبح أيضا الإطار الذي يمثل ويجسد مصالح العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة وكل الكادحيـن ، في مجتمع عربي ديمقراطي موحد تسوده الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية بافاقها الاشتراكية .
[1] القيت هذه المحاضرة في عدد من الندوات الثقافية المعقودة لكوادر الجبهة في مناطق قطاع غزة خلال الفترة من 25/حزيران - 6 / تموز / 2010 · في الوقت الذي يعيش فيه العالم الإسلاميّ مرحلة من هيمنة الفكر الأصوليّ وصعود الهويات الدينية والطائفية يطرح البعض أفكارا من قبيل التقريب بين الأديان أو بين الطوائف عبر رجال الدين هذه الظاهرة في الحقيقة ليست سوى تعبير آخر عن هيمنة النفاق السياسي والاجتماعي في المنطقة، وعن ميل نحو التعاطي السطحيّ مع المشكلات البنيوية وعن البحث عن حلول ترقيعية لها. إنّ صعود الهويات الدينية والطائفية يعني فيما يعنيه، بروزا للمقولات اللاعقلانية، وهيمنة للمقدّس الميتافيزيقيّ، وتعصّبا للدين يحوّله من صفته كمعتقد إلى هوية جوهرانية متعالية على النقد أو التشكيك أو المساءلة العلمية، ، ولذلك أزيحت تدريجيا مقولات الأمّة القومية التي لم يكن لها من نصيب قويّ للازدهار خارج إطار النخب الثقافية والسياسية، والتي شوّهها فساد تلك النخب وارتباطها بنظام الهيمنة العالميّ، لتحتلّ مكانها مجدّدا مقولات الأمّة الإسلامية وحاكمية القرآن ومرجعية الكتاب والسنّة، ثم لتنطلق حملة واسعة لإعادة أسلمة المجتمع، وهي حملة سهّلها تواطؤ النخب السياسية مع رجال الدين والأصوليين عبر ترك المجتمع الذي يئنّ من الفقر والجهل والمرض مساحة حرّة لهيمنة الخطاب الثقافيّ للأصوليين أخذت ظواهر الأسلمة المتصاعدة للمجتمع تتجلّى في انتشار كاسح للحجاب كمّا ونوعا، وإطلاق اللحى بين الشباب، والانتقال إلى الزيّ التقليديّ، وانتشار تداول الكتب والأشرطة الدينية، وتزايد أعداد الأدعياء ورجال الدين وتزايد مواردهم المادية، وكلّ هذه الظواهر كانت في جوهرها تعبيرا عن أولوية الهوية الدينية وانبعاث لمقولاتها، فقد وجدت الأصولية الدينية في الحداثة خصمها الأيديولوجيّ الأساسيّ، ولذلك سعت للانقضاض على ما كان قائما من مظاهره، واتسعت مساحة اللامفكّر به، كما انحدرت أهمية العلوم الاجتماعية والجامعات بوصفها مراكز للتحديث والعقلانية. لم يعد الدين بأيّ شكل من الأشكال معتقََدا، صار مقدّسا بذاته، صار مرادفا للقراءة الأصولية له، صارت نسخته الاجتماعية أكثر تزمّتا من نسخته الرسمية. إنّ جميع تلك التحوّلات انصبّت باتّجاه إعادة إنتاج الهوية الاجتماعية كما يُعَرّفها الأصوليّون، اتّجهت لنبذ منظومة قيم الحداثة والعقلانية واستبدالها بقيم لاعقلانية ومقولات ميتافيزيقية، فالديمقراطية كفر لأنّها اعتداء على حاكمية الله، والبحث العلميّ لا ينبغي أن يشكّك بالمقولات الدينية بل إنّ هناك من صار يعلن رفضه لبديهيات توصّل لها العلم مطلع عصر التنوير الأوربي، كدوران الأرض حول الشمس، صار على المؤسّسات أن تتكيّف مع كون المرأة ناقصة عقل ودين ومع حرمة خلوتها بالرجل، وعلى القانون أن يتكيّف مع نقاب المرأة وما يعنيه من إنكار لهويتها، الهويات الجديدة هي بالضرورة هويّات قاتلة، لأنّها أخذت تنتج أجيالا لا تستطيع أن تدرك العالم خارج إطار المقولات الأصولية،وهي أجيال لا يتاح لها التفكير خارج البنية العقلية الأصولية، فلا تجد ملاذا إلا عبر مزيد من الأصولية. هكذا أنتجت الاصولية هويات قاتلة فعندما تكون الأصولية فكرا مسيطرا، والهوية الدينية أو الطائفية مهيمنة، لا قيمة اجتماعية لمن لا يساير الفكر المهيمن ولا يقترب من العقل السائد. إنّ المستقبل الأصوليّ لا مكان فيه للآخر، ولذلك فإنّ مستقبل الإنسانية هو ذلك الذي لا مكان فيه لأصولية مهيمنة، فنحن الذين لا نبحث عن حياة أخرى غير تلك التي نعرفها ونريدها أن تكون أفضل، ليس أمامنا إلا أن نواجه العقل الأصوليّ، الذي لا بدّ أن يندثر عندما لا يعود قادرا على أن يقدّم ملاذا للخائفين من مواجهة معضلاتهم الحقيقية… تلك التي لا جواب سماويا لها (المصدر: حارث القرعاوي – الهويات القاتلة في عصر الأصولية الدينية – 19/1/2010 – موقع الأوان – الانترنت ). [2] د.حامد خليل – مشكلة الهوية في الفكر العربي المعاصر – الانترنت – موقع فلاسفة العرب http://www.arabphilosophers.com . [3] محمد عبد الجابري – سؤال الهوية في العالم العربي – موقع الجابري – الانترنت . [4] د.حامد خليل – مشكلة الهوية في الفكر العربي المعاصر – الانترنت – موقع فلاسفة العرب http://www.arabphilosophers.com . [5] المتأني في مفهوم الهوية يكتشف انه مفهوم غربي لم تعرفه لغتنا العربية إلا حديثاً. وهذا لا يقلل من شأن ثقافتنا العربية.فالبحث في معاجمنا-كما يؤكد مجدي عبد الحافظ-يشير بما لا يدع مجالاً لأي شك ؟إلى هذه الحقيقة فالمصباح المنير ،والقاموس المحيط ولسان العرب تخلو من هذا المصطلح الحديث،إذ لا يعدو الشرح عن أن تكون "الهوية" مستقاة من الفعل "هوى" أي سقط من علِ أو أن يكون معناها البئر البعيدة القعر. ولعل مفهوم الهوية قد تسرب إلى الفكر العربي على الأخص في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، لأننا في الحقيقة لا نجده صراحة ضمن المصطلحات المترجمة في هذه الفترة وهي: الحرية، والأمة، والقومية، والمساواة، والوطن، والوطنية، والثورة...الخ. ولعل أول من استخدم مصطلح الهوية هو سلامة موسى نقلاً عن إبراهيم اليازجي . [6] المصدر : المنجد في اللغة والاعلام – دار الشرق – بيروت – 2002 - ط 39 – ص875 . [7] رفيف رشيد – الهوية – الحوار المتمدن – الانترنت – 4/5/2006 . [8] المصطلح مورفولوجيا يشير إلى علم دراسة الشكل والبنية، وعادة دون اعتبار الوظيفة. وخاصة في ما يلي: 1- في البيولوجيا: التشكل (أحياء) دراسة شكل وهيكل والحيوان والنبات.. 2- في الجيولوجيا: التشكل (الارض) دراسة بنية الصخور والإصلاح الزراعى. 3- في اللغويات، التشكل (لغويات) ويسمى أيضا علم الصرف وهو دراسة البنية الداخلية للمورفيما (الكلمات ودلالية التركيب). [9] محمد عبد الجابري – سؤال الهوية في العالم العربي – موقع الجابري – الانترنت . [10] كلمة د.هشام غصيب أمام المؤتمر السابع للجمعية الفلسطينية الأردنية 23/8/2008. [11] المصدر السابق [12] محمد عابد الجابري – الهوية " الاقوامية" ... ومسألة " العروبة " – جريدة الاتحاد - http://www.alittihad.ae - الانترنت [13] مصدر سبق ذكره - محمد عابد الجابري – الهوية " الاقوامية" . [14] د. نصر حامد أبو زيد – من الحجاب إلى النقاب – الحوار المتمدن – الانترنت – 6/7/2007 . [15] د.حامد خليل – مشكلة الهوية في الفكر العربي المعاصر – الانترنت – موقع فلاسفة العرب http://www.arabphilosophers.com . [16] د.فؤاد مرسي – نظرة ثانية إلى القومية العربية - كتاب الأهالي رقم 20 – القاهرة – 1989 – ص 65 – 89 . [17] المصدر السابق – ص67 . [18] د.فؤاد مرسي – نظرة ثانية إلى القومية – مصدر سبق ذكره – ص68 . [19] المصدر السابق – ص70 [20] المصدر السابق – ص72 . [21] المصدر السابق – ص73. [22] المصدر السابق – ص77 . [23] المصدر السابق – ص78. [24] المصدر السابق – ص79 . [25] المصدر السابق – ص80. [26] المصدر السابق – ص80. [27] المصدر السابق – ص81 . [28] د.حليم بركات – المجتمع العربي في القرن العشرين – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – يوليو 2000 – ص65 . [29] عبد الاله بلقزيز – " عوامل إخفاق المشروع النهضوي القومي العربي" – 6/9/2007 – موقع الفكر القومي العربي – الانترنت. [30] عبد الاله بلقزيز – مصدر سبق ذكره. [31] نايف سلوم - ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية في الفكر الماركسي – الحوار المتمدن – الانترنت – 28/1/2004 .
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا بعد وصول حل الدولتين إلى أفق مسدود ..؟
-
هل انتهت الفلسفة
-
كتاب - التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة الغربية وقطاع غ
...
-
كتاب- التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة وغزة-
-
وعد بلفور ومسار الصراع العربي الصهيوني
-
الحصار والانقسام وآثارهما الاقتصادية والاجتماعية على قطاع غز
...
-
الفلسفة وتطورها التاريخي
-
حول مفهوم الأخلاق والحزب الثوري
-
معظم النظام العربي يلعب دور أساسي في استمرار تقدم المشروع ال
...
-
ما الماركسية ؟ الصوراني يدعو كوادر الجبهة للتمسك بالماركسية
...
-
حول تطور م.ت.ف من عام 1968 – 1974*
-
تطور الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر إلى بداية القرن الحادي
...
-
ورقة حول : أنفاق رفح وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسي
...
-
حول فشل الحوار الوطني
-
الأزمة المالية العالمية وتداعياتها على الاقتصاد العربي
-
حول الثقافة ودور المثقف
-
حول حوارات اليسار الفلسطيني - هل يمكن لليسار الفلسطيني أن يت
...
-
تلخيص كتاب : التطهير العرقي في فلسطين تأليف: إيلان بابيه
-
معطيات وأرقام حول الشعب الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين
-
حق العودة وخيار الدولة العربية الديمقراطية
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|