|
الثقافة والتغيير
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3056 - 2010 / 7 / 7 - 21:15
المحور:
الادب والفن
ظلت الثقافة في عالمنا العربي أقرب إلى الترف الفكري منها إلى الحاجة الضرورية الماسة، سواءً للسلطات الحاكمة أو للمشاريع السياسية المضادة لها، والتي يمكن أن تكون حاملاً لمشروع التغيير والحداثة والتنمية واللحاق بالعالم المتقدّم، لاسيما في ظل العولمة وانفجار الثورة العلمية التقنية، خصوصاً في حقول الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والثورة الرقمية “الديجيتيل” .
ولعل من أسباب تعثر المشروع الثقافي التغييري هو أن المجتمعات العربية لا تزال تعاني من الأمية، في حين أنها من أكثر المجتمعات في العالم غنى، لكنها الأكثر فقراً في العلوم والتكنولوجيا، خصوصاً بوجود أكثر من 70 مليون أمي، ناهيكم عن الافتقار إلى مقومات حرية التعبير ونقص وشحّ المعارف ونكوص دور المرأة والموقف من التنوّع الثقافي والحريات بشكل عام، يضاف إلى ذلك تفشي عوامل التعصب والتطرف، وبخاصة في ظل الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية التي تعاني منها بعض البلدان العربية، ولعل ذلك ما خلصت إليه تقارير التنمية البشرية في السنوات الأخيرة الماضية .
وإذا كان الحديث عن التغيير هاجساً مزمناً للنخب الفكرية والثقافية، فإن من نافلة القول تأكيد حقيقة أساسية تم اختبارها لعدد غير قليل من التجارب العالمية والإقليمية والعربية، تلك التي تؤكد بالملموس وبما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يمكن إنجاز أية عملية تحوّل سياسي واقتصادي واجتماعي من دون رافعات ثقافية، فالبعد الثقافي الذي لعب دوراً مهماً في عملية الإصلاح والتنوير في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين انتكس لاحقاً ولم يستطع أن يكون حاضناً للتطور اللاحق، لاسيما بنكوص الدولة العربية الحديثة عن تحقيق التنمية المنشودة، بمعناها الاجتماعي والاقتصادي، وما يطلق عليه التنمية المستدامة، ويعود سبب هذا التراجع في جزء أساسي منه إلى إهمال دور العامل الثقافي، لاسيما في ما يتعلق بمبادئ المساواة والمواطنة والاعتراف بالآخر، في حين أنه في المرحلة السابقة أنضج ظروفاً مؤاتية وأثار جدلاً واسعاً لمفهوم الهوية والانبعاث الثقافي، خصوصاً أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وفي ما بعد سلامة موسى وأحمد أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم، حيث ساهم بفاعلية في التحرر الوطني ونيل الاستقلال السياسي ومواجهة المشاريع الاستعمارية .
ولعل أزمة المشروع الحداثي العربي لا تكمن في عملية الإخفاق في نصف القرن الماضي على الصعيد السياسي والاجتماعي والتنموي فحسب، بل في منظومة التوجّه الثقافية التي حكمت العالم العربي، وطبعت سمات الوضع العربي منذ ذلك الوقت وإلى الآن، والأمر على حد سواء تقريباً في بلدان اليُسر وبلدان العُسر .
وإذا كان غياب مشروع ثقافي عربي حقيقي متعدد وموحد، ونقصد بذلك مشروعاً عقلانياً ومدنياً وعلمانياً وديمقراطياً، فإن النتيجة قادت إلى ارتداد وتراجع وعدم قدرة على إنجاز مشروع تحول سياسي واقتصادي وتنموي حقيقي أيضاً، فمشروع التغيير والتحول السيا اجتماعي يتطلب مشروعاً رديفاً حاملاً له ورافعاً لمسألة التغيير، وهذا لن يتحقق في ظل محدودية وشحّ الثقافة وقصور وسائلها، لاسيما حصرها بالنخب بشكل عام، في حين يتطلب الأمر تعميمها لتصبح جماهيرية وشعبية ومتوفرة للجميع .
وإذا كانت أسباب داخلية لذلك تتعلق بأنظمة الحكم وممارساتها، لاسيما الموقف من الحقوق والحريات الأساسية، فثمة أسباب خارجية أيضاً، لا يمكن إهمالها أو تخفيف دورها، ونعني بذلك محاولات الهيمنة وفرض الاستتباع وممارسة العدوان والاحتلال والحروب والحصار، التي عانت منها البلدان العربية، بما فيها مرحلة ما بعد الاستقلالات، لاسيما في ظل استمرار الصراع العربي “الإسرائيلي” منذ أكثر من ستة عقود من الزمان .
وحتى الثورات الوطنية والانقلابات السياسية والعسكرية، لم تهيئ البيئة الثقافية للأفكار والمبادئ التي دعت إليها، وكانت في الغالب تمردات وحركات فوقية، لم تستطع توفير مستلزمات التغيير الذي دعت له ثقافياً . وسارت عملية التحوّل والتغيير السياسي والاقتصادي والتنموي بتجريبية وفوقية وأوامرية وقسرية، من دون أن تكون هناك تربة خصبة لتطورها وتراكمها وازدهارها، بل إن بعض البلدان العربية التي شهدت عمليات تراكم جنينية وأولية لتجارب سياسية واقتصادية ذات توجهات ديمقراطية، انقطع فيها خط التطور التدريجي بسبب الانقلابات العسكرية، ثم عادت وارتدّت عنها لعدم وجود مؤسسات حامية وراعية، الأمر الذي ترك إحباطات كبيرة على الصعيد الشعبي، مثلما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها .
لقد هيأت الثورة الفرنسية التي انتصرت في العام 1789 أساسها الثقافي والفكري في حركة واسعة وناشطة للتغيير، قادها فلاسفة ومفكرون من أمثال مونتسكيو وروسو وفولتير وغيرهم، وعندما حانت ساعة التغيير كانت البيئة الثقافية ناضجة لاستقبال أفكار الحرية والإخاء والمساواة، الشعارات الأساسية التي رفعتها الثورة، في حين أن التجربة العربية المعاصرة لم تستطع توفير الحد الأدنى للانتقال بالمجتمع والسلطة معاً من حال إلى حال، لذلك عانت الأفكار الجديدة من عزلة وتشكّك، لاسيما بغياب الحامل السوسيو ثقافي، خصوصاً باستخدام أساليب إكراهية لفرضها في ظل أوضاع التخلف والأمية وشحّ المعارف وضعف المستوى الثقافي .
إن الوعي بأهمية العامل الثقافي في عملية التغيير يضع مسألة التغيير وسيلة أساسية لإزالة التغليف الأيديولوجي حسب اصطلاح ماركس في نقد “الإيديولوجيا الألمانية” وهو نقد لا يقتصر على الدولة حسب، بل يمتد إلى المجتمع أيضاً، لاسيما للنخب السياسية والفكرية والدينية . ووفقاً لألتوسير، فإن النقد لكشف الوعي الزائف أو المغلوط، وذلك بحديثه عن الأيديولوجيا وأجهزة الدولة .
ومن دون ردّ الاعتبار للعامل الثقافي باعتباره حاملاً لمشروع التغيير، لا يمكن الحديث عن تراكم تدريجي وتطور سلمي مجتمعي وإصلاح لمشروع الدولة الحديثة ومؤسساتها، بما فيه لمشروع التغيير السياسي والتحول الاقتصا اجتماعي .
ولعل واحداً من أسباب الإخفاق أو القصور في بلورة مشروع ثقافي حامل لمسألة التغيير، يعود إلى عدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي والتعددية الفكرية والقومية والدينية في الكثير من المجتمعات العربية، وقد كان سبب مثل هذا الإنكار فادحاً، لاسيما بعد نشوء الدول الوطنية الحديثة، الأمر الذي طرح ولا يزال أسئلة وتساؤلات مهمة لا تتعلق بالمشروع الثقافي فحسب، بل بمسألة التغيير والتنمية، وبالسلام المجتمعي، فضلاً عن وحدة وتماسك الكيانات الاجتماعية وأفقها ومستقبلها، بما فيها الدولة ومؤسساتها، ويتوقف الفضاء اللاحق سلباً وإيجاباً على سؤال الثقافة والتنوع الثقافي .
يعتبر البعض الثقافة ملحقاً للسياسة، لاسيما من السياسيين في الحكم وخارجه ويسعون لتوظيفها واستغلالها حين يريدون، حيث يعلو خطاب الوحدة والرأي الواحد والزعيم الواحد على خطاب التعددية والتنوع والخصوصية الثقافية، وينسى هؤلاء أو يتجاهلون أن الثقافة بطبيعتها متعددة وهي مثل الطبيعة مختلفة أيضاً، من حيث مصادرها وأصولها ومشاربها وتفاعلاتها وهوياتها، ولا يوجد مجتمع مهما كان متجانساً وموحداً من دون التنوّع والتعددية والاختلاف، فتلك إضافة إلى كونها من طبيعة الأشياء، فهي حقوق طبيعية لا يمكن التنازل عنها تحت أية مبررات أو مسوغات، فما بالك بالتنوّع الثقافي والديني والقومي والسلالي واللغوي والاجتماعي وغيرها .
الثقافة تمثل حاضنة أساسية للتغيير ولا يمكن إنجاز مشروع تغيير حقيقي، ناجح ومتواصل، من دون بيئة ثقافية صالحة، ومن دون اعتراف بالآخر واحترام خصوصياته، ولعله في ظل مثل هذه ا لبيئة يمكن إحداث تنمية حقيقية ومستدامة وشاملة . مفكر وباحث عربي
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظلال غورباتشوف في صورة أوباما الأفغانية
-
النيل والأمن المائي
-
الانتخابات ومستقبل العراق!
-
الأزمة الكونية وحلم التنمية
-
5 رافعات للتسامح
-
هل تستقيم المواطنة مع الفقر؟!
-
الثقافة والتربية.. لا حقوق دون رقابة
-
قرصنة وقانون: أليست كوميديا سوداء؟
-
مسيحيو العراق: الجزية أو المجهول!
-
الطائفة والطائفية: المواطنة والهوية!!
-
العروبة والهوية والثقافية
-
حكاية تعذيب!
-
العروبة والدولة المنشودة!*
-
حوار الذات وجدل الآخر
-
ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*
-
إسلام واحد وقراءات مختلفة
-
العروبة والمواطنة
-
المعرفة عنصر أساسي في التعبير عن الهوية
-
العروبة والأيديولوجيا
-
المفكر عامر عبد الله في ذكراه العاشرة:الجوهر وجدلية الأمل وا
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|