|
فرانكشتاين...صورة عن الواقع والخيال
احمد ثامر جهاد
الحوار المتمدن-العدد: 929 - 2004 / 8 / 18 - 13:23
المحور:
الادب والفن
صورة عن الواقع والخيال تنفرد بعض القصص و الحكايا العالمية بسمات مميزة ومكانة خاصة تجعلها متفردة الخواص ، قوية بما تشغله من مساحة جذابة وتأثير حاد في وجدان الجمهور ، مهما تقادم عليها الزمن . لا سيما ذلك النوع من القصص الذي يعانق الأسطورة في امتدادها أو وهمها ، فيؤسطر المعنى فيها ، إذا صح قول " بارت " إن لكل عصر أسطورته ، مثلما لكل معرفة أساطيرها الخاصة . فهذه حكايا الإغريق مازالت تعيش بيننا ، أدبا وفنا وصورة ، وليست أقل شأنا المساحة التي تجذّرت فيها أساطير الشرق وقصص الصحراء . مع أن تلاحق العصور هو ما يمنح هذه الحكايا حياة جديدة أو يدفعها لمنطقة الظل ، إلا أن بعضا من سرِّ بقائها يكمن فيها . من ناحية أخرى نجد أحيانا أن مدى عصرنة الذهنية المعرفية هو المسؤول عن تنميط أسطورة ما أو اندثارها . ذلك بحسب ما تملكه من اتساق بين نظامها الدلالي والجمالي . والإنسان قادر دوما على الاكتشاف مثلما هو قادر " كمنتج للخطاب المعرفي " على أن يُعيد تشكيل البنى أو تفكيكها باتجاه صياغة أخرى . يوم أن قررت " ماري شيللي– 1797 -1851 " زوجة الشاعر الكبير " شيللي" كتابة قصتها الشهيرة " فرانكشتاين – الذي اكتسبت شهرته اسم خالقه " ، لم تفكر بكل الأسباب الدافعة التي نفكر نحن بها الآن ، حين نتأمل غرابة هذه البدعة الخيالية . لذلك نجد أن ما يُحيط بواقع هذه القصة هو القدر نفسه من الغموض الذي أحاط بسيرة " ماري شيللي " وحياتها الذهنية . أحيانا ينظر إلى " فرانكشتاين " على أنه حكاية رعب محبوكة تبتكر الشر ، دون الانتباه إلى المغزى الإنساني العميق فيها ، كنوع من مقاومة الظلم الاجتماعي والقانوني في أخلاقيات ذلك العصر . هذا الكائن الغريب الباحث عن الرأفة والحب ، كـان يقول : [ أرى الهناء في كل مكان ، وأجدني وحدي المحروم منه بلا أمل في نيله . لقد كنتُ خَيّراً وطيبا ، ولكن التعاسة جعلت مني شيطانا . أسعدني وأنا أعود فاضلاً مرة أخرى 000 صدقني يا فرانكشتاين ، لقد كنت خَيّراً . وكانت روحي تتألق بحب الإنسانية00 ولكن ، ألست وحيداً الآن ، وحيداً إلى حد التعاسة ؟ ] * لأجل أن تكتمل صورة هذا الكائن العجيب ، علينا أن نفكر بنشأته الأولى ، بتكوينه المتفاعل وهو يعكس صورة حادة لكيمياء الحياة بمعناها الواسع ، حين تنتج كائنا آخر يستمد روحه من كائنات هجينة لا يربطها سوى حقيقة الموت وديمومته . سيظهر " فرانكشتاين " من بين تلك الحيوات بقوة جبارة وإرادة حقيقية تنبأن بالكثير دون أن تتركان ملامح واضحة تحدد المغزى منه 000 جوهر آخر ضائع أنفلت من سياق تجريبية العلم البيولوجي آنذاك وتخطى فكرَ صانعه بما يُشبه إرادة مستقلة تغلب طابع الأحداث في الفيلم . من حافة هذا الطرح المجازف قياسا بثقافة النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، يمكننا أن نطرح افتراضاتنا حول " فرانكشتاين " الكائن الأسطورة . المسألة الأولى : ان " فرانكشتاين " إلى حد ما يؤشر مغزىً أخلاقيا بعيدا ، يحاول أن يضع الأسئلة بوجه عجلة العلم الطبيعي الجبارة ، ليؤكد مقدرة الإنسان على الخلق والإبداع الحر بشروط مختلفة ، إذا ما تنكر لها ، تُصبح معرفته العلمية هي الكارثة ذاتها . المسألة الثانية : ان ظهور " فرانكشتاين " يعكس من زوايا عدة ، القلق الذي واجهت به العقليات المحافظة حركة العلم الصاعدة ، وعدم رسوخه كمعطيات معرفية – اجتماعية لها أن تتفاعل مع الثابت من الأخلاق والنظـم البشـرية ، ولا سيّما الأديان . على ذلك نرى إن هذا القلق غير المُدرِك والمُشكِّك في مصداقية التطلعات العلمية ، امتد حتى أوائل القرن العشرين واستشرف النهايات والكوارث التي يُفترض إنها تنتظر البشرية إذا ما انفلتت زمام الأمور من بين يديها . فكاتب ومفكر بارز مثل : " هـ . ج . ويلز " اهتم بوقت مبكر بفتوحات العلم ومستقبل البشرية فكتب روايته ذائعة الصيت ( آلة الزمن ) وكذلك روايته( جزيرة الدكتور مور ) وكلاهما حولا إلى عملين سينمائيين . فكيف لـ " ماري شيللي " أن تواجه ثـقافة جديدة متطلعة كوّنت صورة دالة لعصر محتدم بديناميكيته ؟ المسألة الأخرى والأهم : أن الأمر قد لا يخرج على عمل الخيال بآلياته الخاصة " ففرانكشتاين " من هذا الباب يكشف طموحا بشريا دفينا بكائن خارق يتجاوز حدود بشريتنا أو يكاد . كان هذا الحلم قد راود فيلسوفا كبيرا هو " فريدريك نيتشه " لكن بصياغة زرادشتية مختلفة . ربما إذا جمعنا هذه الأسباب والافتراضات معا على خط واحد لن يكون صعبا معرفة الحاجة إلى صناعة نسخ حديثة من " فرانكشتاين " الذي قدمته السينما مرات عدة . ان هذا الكائن َمَثل نموذجا لامتزاج حيوات مختلفة فيها من نوازع الخير بقدر ما فيها من الشر . وحتى يحقّق مشروعية وجوده القلق سيُفكر بخلق صنوٍ له ، أنثى تجعله يشعر بذاته ككائن حي يمتلك القدرة على الحب مثلما يملك القدرة على التدمير ، مثل البشر جميعا . وأي إنسان في نهاية الأمر يختلف عن ذلك ؟ قدرات كبيرة استخدمها الشريط السينمائي في توفير الأجواء اللازمة للإيحاء بقوة المحتوى الذي توّزع بين صناعة الديكورات الفخمة والمناظر المُؤثرة التي أعادت للحكاية روحها الحقيقية . لازم ذلك الحرص الفني براعات الأداء التمثيلي لنجوم كبار أبرزهم : " كينيث براناه " ممثل ومخـرج الفيلـم الشهيـر " هاملت " والنجم البارع " روبرت دي نيرو " الذي أثبت حقا كما في أدواره السابقة ، أنه شيطان السينما ، إذا ما كانت للشيطان قدرة حقيقية في تقمص كل الشخصيات ببراعةٍ فذة .
* الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي : ت : عبد الوهاب المسيري ومحمد علي زيد . سلسلة الألف كتاب – 1964 / مصر .
#احمد_ثامر_جهاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ورشة غابرييل غارسيا ماركيز
-
تراجيديا انتخابات الجمعية الوطنية
-
مَن أذلَّ الجواهري في كردستان !؟
-
مارتن سكورسيزي
-
بعيدا عن دائرة الحياة
-
متاهات بورخس والكتابة بالذاكرة
-
جوزيف كونراد سينمائيا
-
حصار هوليود ووعي الآخر
-
عودة كازانوفا
-
أفلام وأوهام وواقع افتراضي
-
بوابة رومان بولانسكي عالم من الأسرار والمتاهات
-
أفكار حول خطاب الثقافة العراقية وحسن قراءة العالم
-
حوار مع الناقد السينمائي أحمد ثامر جهاد
-
جحر الإمبراطور
-
سوء استخدام الحرية
-
صور الاستبداد من ثقافة الخوف إلى الخوف من الثقافة
-
الحرب من الواقع الى الصورة
-
عالم السينما الفسيح
-
عيد الحب ومنفى البلاد العربية
-
حول إشكالية التلقي بين الرواية والفيلم
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|