أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - نوستالجيا الأبيض والأسود














المزيد.....

نوستالجيا الأبيض والأسود


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 929 - 2004 / 8 / 18 - 13:22
المحور: الادب والفن
    


ثمة تلك اللقطة الفوتوغرافية المدهشة للممثلة الإيطالية الشهيرة صوفيا لورين: أكثر من نصف المساحة يشغله جدار رمادي معتم، وما تبقى يستهلكه ظهر أريكة من القماش، خلفها قبعة عريضة، وبين الأريكة والقبعة يطلّ وجه لورين، فلا يشغل أكثر من 10% من بورتريه يحمل اسمها! وجه الفنانة التشكيلية الأمريكية الشهيرة جورجيا أوكيفي، في لقطة أخرى، لا يكاد يحتلّ 5% من بورتريه معقّد، تجلس فيه على فراش فقير، خلفها جدار رمادي معتم عُلّق عليه رأس وعل ضخم ذي قرنين هائلين، وثمة شريط رفيع من الضوء يخترق العمل طولانياً من الجهة اليسرى. وأمّا البورتريه الثالث، والأعجب حقاً، فهو يمثّل عازف الفيولونسيل الإسباني الشهير بابلو كازالس: إنه يدير ظهره للعدسة تماماً، جالساً على كرسيّ خشبي، في مواجهة حائط حجري عتيق أشبه بجدار سجن أو سور قلعة، ويشغل بدوره أقلّ من ربع مساحة الصورة!
لماذا وافق هؤلاء المشاهير، والعشرات سواهم، على الوقوف أمام عدسة ليست سخية مع وجوههم، بقدر سخائها مع تفاصيل جامدة كالجدار أو الأريكة أو القبعة أو رأس الوعل؟ ولماذا وافق على الظهور في بورتريهات مماثلة، وإن اختلفت معطيات سخائها مع الوجه الإنساني، ساسة من أمثال الرئيس اليوغسلافي تيتو، والرئيس الهندي نهرو، والملكة البريطانية إليزابيث، والرؤساء الأمريكيون دوايت أيزنهاور وجون كنيدي وبيل كلينتون، والبابا بيوس الثاني عشر، والرئيس الكوبي فيديل كاسترو، والملك فيصل بن عبد العزيز؟ ومئات الأدباء والفنانين، مثل بابلو بيكاسو، وخوان ميرو، وألبيرتو جياكوميتي، وجورج برنارد شو، وألبير كامو، وتوماس مان، وبرتراند رسل، وإرنست همنغواي، وكارل ساندبرغ، وفرانسوا مورياك، وياسوناري كاواباتا، وجون شتاينبك، وتنيسي وليامز، وألبرت أينشتاين، وكلارك غيبل، وأنيتا إكبرغ، وأنا مانياني، وجيسي نورمان، وهمفري بوغارت، وبريجيت باردو؟
الإجابة بسيطة، بالطبع، ومبررة تماماً: تلك كانت عدسة المصوّر الفنان يوسف كرش (1908 ـ 2002)، أحد أعظم عباقرة التصوير الفوتوغرافي، وأمير البورتريه بلا منازع، وأستاذ "الاستعارة الفيزيائية" والاستخدام الدرامي للضوء، لا كما استُخدم من قبل في التمثيل التعبيري عن دواخل النفس البشرية. لا أحد يمكن أن ينسى صورة همنغواي الأشهر، بالكنزة ذات القبّة العالية المطوية، والنظرة العميقة الغامضة، والابتسامة الخفيفة التي تنطوي على المعني ونقيضه في آن! ومَن ينسى البورتريه الأشهر لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، حيث يبدو "الأسد الهصور" متكئاً على مسند أريكة ومتحاملاً على خاصرته اليسرى، فيغيب التفصيل الأشهر في شخصيته: السيغار الغليظ!
وعن هذه اللقطة يروي كرش أنّ رئيس الوزراء البريطاني قام بزيارة خاطفة إلى كندا لإلقاء خطاب أمام البرلمان، في عام 1941، في ذروة الحرب العالمية الثانية، وحين كان تشرشل في قمّة عنفوانه. ولقد وقع الاختيار على كرش لالتقاط الصورة الرسمية، لكنه اختار تنفيذ اللقطة التي ستدخل التاريخ وتخلّد الرجل والمصوّر في آن معاً. وفي قرارة نفسه كان كرش يدرك أن احتفاظ تشرشل بالسيغار الضخم ليس التفصيل المناسب لهيئة التحدّي التي يريد تفجيرها في صورة قائد كبير يخوض حرباً كونية، ولكن أنّى له أن يقنعه بذلك! وفي اللحظة القاتلة، قبيل الضغط على زناد الكاميرا، سارع كرش إلى اختطاف السيغار وحصل من تشرشل على النظرة التي يريد: التحدّي والسخط والامتعاض والحيرة والإعجاب، في آن معاً.
ويوسف كرش مات وهو يحمل الجنسية الكندية، ولكنه آسيوي أرمني تركيّ ولد في مدينة ماردين، وهاجر إلى حلب السورية بعد أن بلغ اضطهاد الأتراك للأرمن مستوى المذابح المفتوحة، قبل أن يحطّ الرحال في هاليفاكس الكندية، في اليوم الأول من السنة الجديدة 1925. ويجمع النقّاد على أنّ السمة الأساسية في أسلوب كرش هي إيقاع الضوء، إذ أنه يجبر الموضوع على السباحة في أكوان من الضياء، يوازنها بالظلّ وبأدنى تباين بين الأبيض والأسود. وهو يقول: "بهجتي الكبرى أن أصوّر ما في القلب والذهن والروح، ولا يهمني في هذا المقام أن يكون موضوع الصورة وافر الإيحاء من حيث الشكل أو التكوين أو الثقافة أو الموقع. عليّ أن أتدبر له موقعاً فريداً علي الفيلم الخام".
وصدور طبعات جديدة متلاحقة من كتب كرش هذه الأيام، واستعادة أعماله في معارض عالمية حاشدة هنا وهناك، يجعلان المرء يرجّح افتقاد بورتريهاته بالأبيض والأسود في هذه الحقبة بالذات، حين تبلغ هيمنة الصورة الملوّنة درجة قصوى من الطغيان. الأرجح أننا نفتقده على سبيل الحنين الحزين إلى جماليات من نوع آخر، تماماً كما تكون عليه حالنا حين نغرق في النوستالجيا المحضة، وحين يذكّرنا عصر الصورة المتلفزة ـ الرقمية بأنّ الذُرى الكبرى في فنّ التصوير الفوتوغرافي كانت ذات يوم... بالأبيض والأسود!



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فرنسيس فوكوياما وتفكك اليمين الأمريكي المعاصر
- إقليم دارفور بين -لعبة الأمم- و-بورنوغرافيا الكوارث-
- محمد القيسي أم الإسمنت؟
- اليهودي العربي
- فرنسا وتهمة العداء للسامية: من الابتزاز إلى المصيدة
- رأساً على عقب
- البرادعي في إسرائيل: تفتيش -وجودي- من ارتفاع عين الطير
- الواق واق الجديدة
- أيهما أكثر أولوية: نهب العراق أم محاكمة صدّام؟
- الشعر والطواحين
- لوينسكي جورج بوش
- سياسة الذاكرة حيث ينعدم الفارق الأخلاقي بين هتلر وتشرشل
- المئوية الفريدة
- النظام الرأسمالي العالمي: التنمية بالدَيْن أم غائلة الجوع؟
- القصيدة والأغنية
- أنتوني زيني: العداء للسامية أم الحقائق على الأرض
- خارج السرب
- حزب الله في ذكرى التحرير: احتفاء مشروع وأسئلة شائكة
- السينمائي الداعية
- بريجنسكي والسجال الذي يتكرر دون أن يتجدّد: خيار أمريكا في ال ...


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - نوستالجيا الأبيض والأسود