أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - عالية















المزيد.....

عالية


هاشم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 3053 - 2010 / 7 / 4 - 11:39
المحور: الادب والفن
    


- هؤلاء حُرّاسنا..
تقولها، بيقين ثمل، كلّما اعترضتُ طريقها إليهم، وتستجيب لطلبي فتطبع قبلتها الخجلة، كرشوة، خارج حدود شفتيَّ قبل أن أسمح لها بالمرور إليهم... وحين تعود منهم أرى على وجهها ألقَ اللّذة التي حصدَتْها وهي تعانقهم... ولم تكن تبالي باستنكاري ما تصنع، فقد كانت مملوءة بالوعد القويّ الذي قطفتْهُ، مطمئنة على مرادها الذي ستحصل عليه في كلّ شيء... طريقها محروسة، وجسدها مستور، وبيتها حصين، وثلاّجتها بصحة وعافية لا تعاني أمراض الكهرباء، وأجفانها لا ترتجف رجفة شؤم، وكلُّ قرصة في راحتها رزقٌ قريب...
- أَ تُقبّلين الأغراب أمامي؟!
- أُسُودي، وحُماتي، وحِصْني !
- ...
لا أعرف بالضبط الوقت الذي شرعتْ فيه تمارس عادتها الغريبة في تقبيل غرباء جلبتْهم إلى بيتنا في أوقات متفرقة، فأقاموا بيننا محفوفين بالتوقير والإجلال والمهابة برعايتها..
هذا ديدنها الذي غدا عبادة... تنهض من فراشها فتهرع إليهم كما لو أنّهم هم من يضعون في راحتها مفاتيح يومها الجديد، وبانشداد الحالمين تدنو منهم حافية، ملتهبة القلب فتلتقيهم حيثُ حَلّوا، وبرفق تمسح براحتيْها وجوههم قبل أن تقتطف من هالاتها المشعشعة ضياء نهارها، ويقتطفوا من شفتيْها الضّارعتين قبلتها الناعسة التي تجعلهم جزءاً من حقيقة البيت...
هائمة، متيّمة لا نكاد نسمع خفق قدميْها في طريقها إليهم بسبب طيران روحها الملهوف... كما لو أنّ قوى الزمان والمكان مسخّرة لخطوتها..
كانت زهرات وجوههم تتورّد في القلانس الدّامية بمجرّد أن يشمّوا عطرها الهائم، وكنتُ ألمح سرورهم يُضيء عيونهم الكحيلة، كما لو أنهم يجدون في حضورها بينهم وطيرانها في سماواتهم شفاءَ جراحهم النازفة، وبُرْءَهم من الآلام.... ولفرط هيامها كانوا يحضرون من أجلها، هي، قاهرين قوى الزمان والمكان، متخلّين عن نسائهم النائحات في البراري، ويتاماهم المذبوحين على التراب، وخيامهم الصارخة المحترقة، يعودون إليها وقد لبسوا رؤوسهم المقطوعة من جديد بعد أن مسحوا عنها الأتربة والدماء وأعادوا إليها نضارتها... وعلى الرغم من أنهم يظلّون معلقين على الجدران، والأبواب، وأغراض البيت العزيزة لحفظها من التلف والعطب واللصوص إلاّ أنّ أرواحهم تستريح في جسدها، وبتلك الأرواح تمضي فتصنع معجزاتها الشّاقة، وتتكبّد عناءَها اليوميّ برضا وحبور...
........
بدأ الأغراب المحبوبون يحلّون في منزلنا خفافاً.. كانوا يجيئون مع أغراضها التي تجلبها من السوق، ولم يكونوا، بالنسبة لها مجرّد رجال مرسومين في صور ملوّنة بمساحة طوابع البريد، أو بسعة سجاجيدها المنتشرة في أرجاء البيت، بل كانوا أحياء كما أخرجهم الله بأسمائهم التي تمسك العالم والأشياء، وبالنور الذي يطلع من فم الإله المحبوب فيحفّ وجوههم بهالات التقديس، وبكلّ ما يجعلهم مبجّلين... السماء التي تحتشد حولهم كما لو أنّهم أطفالها، والأسود الكاسرة الرابضة عند أقدامهم، والكلمات المحلّقة فوق أكتافهم، وحتى قبابهم المذهّبة التي تخفق فوق ذراها الرايات...
كانت تصطحبهم برجائها الدامع كلّما جاء الخطر، وطافت أعين الشرّ، فيتبوأون أمكنتهم العزيزة التي تُنزلهم فيها، وغدت الجدران مرتعاً لهم، وأسرّة النوم تحت سلطان عيونهم المفتّحة ليل نهار، والأبواب بأيديهم، وصرنا ننام، ونستيقظ، ونأكل، وننجز أعمالنا التي لا نجاح فيها إلاّ إذا كانت بوساطتهم.. هكذا أمسى أولادنا يدسون أوراق الامتحان بين صور ضيوفنا المبجلين فتبيت معهم الليل بطوله، حتى إذا جلسوا على مقاعد الامتحان صباحاً، تفتتّتْ أحجار الأسئلة على صفحات أوراقهم، وجرت كالماء...
لم تحبسهم وراء زجاج، ولم تعلّقهم بمسمار بل ألصقتْهم في كلّ مكان بلاصق شفّاف، ينحلّ عنهم بيسر حينما تنام ساعاتنا فينجزون ما تطلبه بصمت...
هكذا خرجت الذكرى من الصور، وتحوّلتْ إلى مادة حيّة، وأضحت حياتنا مضطرة إلى أن تتقبّل هذه المادة الغريبة، وأن تدعها تعيش بيننا... كما لو أنّ هذه المادة هي بنزوات الصوديوم الحافظة لمادة حياتنا المعلّبة في وعاء الألم...
هل كان سهلاً عليهم أن يعيشوا تراجيديا حياتهم الذبيحة في ملهاة حياتنا؟
يسقط ماعون فيتهشّم على الأرض، ويحترق ماطور الماء فجأة، ونشقى بلا ماء أيّاماً، وتزلّ قدم أحد الأولاد فيتدحرج من السلم، ويصاب بكسر في ساقه، وتصير كلّ ليلة من ليالينا ساقاً مكسورة موجعة، وتضيع محفظة نقودها فلا تعثر لها على أثر، وفيها ثلاثة أرباع رواتبنا، وتُسرَق قنينة غاز من الحديقة، وتتسرّب مياه المطر من سقف إحدى الغرف...
- هذه خسائر مقبولة، عليك أن تسعد بها، لأنها رشوة تقدموا بها إلى الشيطان، فأرضوه بها، وكان في نيّته أن يوقع بنا أفدح الخسائر، لكنهم جعلوه يتقبّل قنينة الغاز التي فقدناها، ومحفظتي، وساق الولد، والأشياء الباقية التي لا تقارن بالشّرّ العظيم الذي دفعوه عن بابنا بها.
- ...
- من لنا، في النار المشتعلة، بين الشياطين، في أرض الأفعى السّامّة، تحت سماء ترجمنا في النهار وفي الليل؟
- ...
- لا يبيتون ليلةً في منازلهم الذهب، من أجل من؟
- ...!
- من أجلك ومن أجلي... من أجلنا جميعاً.
....................................................
حضر البناؤون ليتمّوا بناء إحدى الغرف في دارنا ورأوا شيئاً عجباً، فطابوقات الجدران الأربعة التي رصّوها بالأمس اكتست ببقع سود انتشرت على سطوحها، بقع من كلمات ، كسرب نمال، كُتبت بالقلم الرّصاص، وكأنّ نبيّاً أمضى الليل بطوله معتزلاً في الغرفة الرّطبة التي لم يكتمل بناؤها، سهران يحمل كلمات إلهه الثقيلة التي تسقط من فمه العذب، ويبذرها على الجدران... لابدّ أنّ البناءين المصعوقين اعتقدوا أنّ ذلك النبيّ هو، ذلك الصباح، في الفراش يعالج السهر بالنوم، لكنّ أحدهم التقط بقايا قلم رصاص بحجم فلتر سيجارة مرميّاً أسفل أحد الجدران وبالقرب منه مبراة صغيرة متّسخة وشرائح قشرة القلم تحفّ بها.
من بين جدران العالم كلّها ترتفع جدرانها بثلاث طبقات من المواد العازلة لعلّ أوهنها، لكن أشدّها قوّة، طبقة الكلمات التي مازالت تعيش تحت الإسمنت والبورك...
- أرجوك، لا تدقّ المسمار على الحائط!
تقول وقد انتزعت من بين أصابعي مسماراً..
واستعاضت عن الكلمات بإشارات فهمتُ منها أن المسمار قد يقتل إحدى كلماتها..
- عزيزتي أنا حريص على أن لا يتجاوز المسمار طبقة الإسمنت..
- مجرّد الدّق على الحائط يفزع الكلمات ويجعلها تهجرنا..
وتعود إلى جدارها برأس خدر منتشٍ وتحرّك أصابعها على السطح الأملس البارد وبرضا تميل عليّ:
- ها هي تدبّ تحت راحتي!!
أقول لها خائفاً:
- من هي؟
فيقرعني صوتها:
- الكلمات حيّة تحت الإسمنت أجسُّ دبيبها.. تعال ضع يدك هنا !
........



#هاشم_تايه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عابر استثنائي... وعي العين وشقاء الرؤية
- الرّسّام سارداً تشكيليّاً
- قصائد
- جدل حول قصيدة النثر في بيئة مُسرْطَنة
- سليلة الملائكة
- عصفور آب
- معرض أطفال العراق في حفل زواج
- الشعراء العراقيّون يغزون أمريكا
- كيسُ القُبَل
- نُزهة قاتلة
- على مفرق الحجر
- سياحة عمياء
- بعيداً عن الوحل خذني
- حوار مع الفنان العراقي هاشم تايه
- ميثولوجيا عراقية
- مصالحة في الهواء الطلق
- ذُعْر لا يقوى على حمله الهاتف
- كلاسيك
- المربد ... الصوت والصدى
- ضيف الحجر


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - عالية