|
قراءة نقدية في كتاب مناجاة معتقل للكاتب محمد الفلوس ( المغرب)
الدويب مصطفى
الحوار المتمدن-العدد: 3052 - 2010 / 7 / 3 - 17:43
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
Soliloque carcéral de Mohamed fellous Edition attanoukhi 2009 . مناجات معتقل قراءة نقدية في كتاب محمد الفلوس المكتوب باللغة الفرنسية بقلم: الدويب مصطفى انصبت مناجات الفلوس محمد، على معالجة إشكالية اعتقاله، الذي كاد أن يذمر ذات الكاتب في قسوة وعنف منذ أن داهمته الحرائق فاحترق مع الآخرين ( لسبب ربما لا يعرفه وبقي بسببه معتقلا عشر سنوات ). هذه الكتابات أنقذته من الجنون كما أكد على ذلك في مقدمة كتابه. إن سلوكه مثير للدهشة وجدير بالمناقشة، سلوك وفر له نفسا جديدا للمقاومة لكن الثمن كان غاليا. تعود المناجات كما يقول إلى ضيق المكان الذي يتكرر ولا تميزه فصول السنة إلا طفيفا، مكان ضيق يجعل المقيم فيه غارقا في الصمت وأعطى نصا غارقا في التداعي يجعلنا أمام أسئلة متعددة مفتوحة، إنها عزلة قصوى والتي لا يمكن أن تبدع إلا كتابة صاخبة ، عالية النبرة. إحساسات ومشاعر، وسواس يداهمه، لا يلفق ولا يركب أحداثا، يريد البوح. لماذا هذا الإلحاح الآن؟ إنها "الحاجة، في التعبير عن الذات / مع الذات، الاستماع إلى نبضات القلب، الإجابة عن الآلام والتيه في الأفكار، (البوح عن طريق) الكتابة أنس للذات، صراخ صامت بصوت مرتفع (ص10) يتجول الصمت في غرفته، يرفع بصره إلى الأعلى، لا يجد إلا سقفا منخفضا، لا شيء يكسر حاجز هذه الأسوار العاتية. إنه يتحدث الآن في هذه الساعة البعيدة من الليل والقريبة من الفجر. إنه يسهر ليتحدث إليك عن السجن وبؤسه، عن واقعه الشيطاني والشيطان هنا بشري لا ينتمي إلى الخرافة والأسطورة. لا يهمه أن يكون اليوم 3 أو 30 أبريل ، حضور الزمن أو غيابه يتساوى عندما تنعدم الإنسانية ويصبح الجلاد/ الحاكم / الظالم / المتجبر/ سيد الموقف في مواجهة المحكوم ، المظلوم والضعيف. يتذكر السجين أمه، التي يحن إليها في مثل هذه الأوقات الحرجة / الجريحة. تخاف الأم وقلبها ينادي طفلها الحاضر/ الغائب. يقول الكاتب كل هذا ويكرره إلى درجة الملل " لا بد أنك تفهمني ، أنت، الشخص الذي معه أتكلم الآن، أنت الذي تكتب الآن والساعة الثالثة صباحا " (ص 16). يعاند، يهاب النوم، لأن النوم موت وهو لا يريد أن يموت ، يريد أن يتأمل العصفور والنجمة اللذان يؤنسانه. "أتراك تشعر في هذا المكان، أنت الذي معي وتشاركني محنتي. مكان معد للهجوم على إنساسية الإنسان، كالإحساسات والذاكرة...لا يمكن لمن لم يمر من هنا أن يفهم معنى معاناة السجين"، ثم يناجي صديقه الذي بداخله قائلا " أيها الصديق، أنت مثلي وحيد صامت، لا تستيقظ إلا في الليل، كيف يمكن لهذا الجلاد ( الذي تعلم في أرقى الجامعات) أن يحب ويقبل ويربي ولا تصيبه وخزة ضمير" (ص30). " أنت الآخر الذي هو أنا والذي هو بداخلي( يسكنني)...جاء الصباح سأنام سأحاول أن أنام..." (ص34 ). في انتظار ليلة أخرى حيث سيسافر ثانية لا يعلم إلى أين؟ يريد أن يأخذ زمام المبادرة ليولد من جديد. "(أنا) مسافر بدون حقيبة، لكن سأسافر لأجد العذاب والألم والصمت والبؤس المقيم " (ص 37). "وحيد أنا كما كنت منذ سبع سنوات من الاعتقال وكما سأبقى ثلاث سنوات بعد. الصمت وطني في الليل. عاصفة تهاجمني، كلما أحسً الوحدة تقتلني، كلما أحس أنني وحيد، وحيد في هذه الليلة، أعتقد أن هذيان الليلة سيكون رهيبا لأن الفراغ يطبعني إلى الأبد. أنا حارس النوم، لم يقل لنا مدرس التاريخ يوما أن مستبدا يحكم وطننا وأنه يبدل معارضيه إلى آجرة يبني بها قصوره. وطني وطن قمع بجميع أشكاله، وطن الكذب والنفاق والتعذيب. وطن السجون "(ص47). "مسافر الليل الذي يعيش بداخلي يعاني القلق والغم والكرب، يسافر عبر الخواء الأقصى ( ص50 ). أوقفتني حاشية مملكة الهمج يوم 14 غشت 1974 وزجت بي داخل هذه الآلة الوحشية التي تعمل على تحطيم الإنسان، لكن سأصمد بيدي، بعيناي، بعظامي وبجسدي. حياتي لا يعرفها أحد إلا أنا، إنها حياتي. أشترك مع الآخرين في صمود ضد العدو، هنا فقط تكمن قوتنا، سبع سنوات من الاعتقال، لم نتغير، بقيت معنوياتنا صلبة" (ص57). أحلامه تحترق وهو يفكر في المستقبل أمام رقصة الهذيان ليبحث عن الصمت ويسمع خرير دمه يجري في عروقه ويسمع دقات قلبه وهو وحيد متوحد ، منعزل ومنفرد يرفع صمته عاليا فوق قلعة المنفى، النوم يراقص جفنه، لا رغبة له في النعاس، لمن سيترك هذا الصمت إذا سلم نفسه للكرى (ص70). حفرت الليالي بصماتها في حياة الكاتب وكأن الليل يكتب سيرته بنفسه فيه وفي داخله لأن عنفوانه تقيد في وقت كان في أشد الحاجة إلى تحرير كل طاقاته. لم يكتمل بعد نضجه النفسي، الشيء جعله نرجيسيا إلى حد كبير، يميل إلى بعض سمات الطفولة والعشق الذاتي، كيف لا وعمره لم يتجاوز سبعة عشر سنة. كل هذا جعله يتيه، يخوض كل ليلة في جرحه الأبدي. "تكرار ثقيل أن يتكلم الإنسان كل ليلة عن هذا الصمت! أعرف، لكن ما العمل؟ إنه هنا كل ليلة ولا أصبح مكتملا واسعا كالبحر إلا معه" (ص83 ) يغترف من كنز الصمت والليل وهو بين أربع جدران، صرف كثيرا من لياليه لتعرية معاناته التي لا أول لها ولا آخر، معانات ذاتية لا صلة لها بالآخرين. لا شك أن تلك الذات الفردانية هي التي حفزته على الكتابة والتي ستصبح بالنسبة له متنفسا وانفجارا لا شعوريا حدث في حياته الشعورية التي لم ينجح الرقيب / الحارس في كبتها، كانت هذه طريقته لمصارعة الجلاد والانتصار عليه. إن السجن مكان وزمان: مكان كابوسي كالأسوار العالية والحيطان والسقف الحاني أما الزمان فيتجلى في محاكمة عبثية فضائعية والليل والصمت والطغيان والتشوه النفسي والكبت الجنسي. كان يحس بنفس الإحساس الذي منذ دخل المعتقل، "أنا هنا أيضا هذه الليلة، تدفعني الرغبة في إخراج ما يفترسني في أعماقي...أحس بحاجة كبيرة للهبوط بعيدا إلى أسفل نفسي، لكن الخوف يملأني لأنني أعرف، في أعماق أعماقي تسكن حقيقة، تعود إلى سنوات خلت...هذا جوهر بليتي" (ص89). صمت يخترق المكان كل ليلة رغم الحراسة المشددة ورغم ضيق المساحة كأن تدخل من النافذة نجمة أو يخرج هو من هذا الثقب الصغير المدجج بالقضبان للسفر والإبحار حيث شاء ومتى شاء. هذا الصمت حاضر يوسع له الزنزانة و يتكلم ليمحو الوحشة وسط برودة الأسوار العالية . إن الكتابة عن عذابات السجن لن تكون لها معنى لمن تجتاحه الكآبة إلا إذا كان النص المكتوب قد أملته الكآبة نفسها. ألم خارج الوصف يلتهمه ويتشبث به، هو نفس الألم الذي أسكته من سنة 1974 إلى 1981. هل كانت هذه المدة فترة كآبة وحداد؟ ولماذا قرر بداية الكتابة اليوم ( 2 أبريل 1981)؟ هل هو دافع لخلق الصلات أم لقطعها؟ " انظروا الباخرة، إنها تبحر هذه الليلة أيضا عبر المحيطات دون بوصلة أو نجمة. لكنها تشق طريقها رغم الظلام ... لست بحاجة إلى أضواء لأسير في طريقي" (ص103). طريق الأمل الذي يكبر مع اقتراب الخلاص، لكن الشك ينتابه ويغمره أحيانا، "هل رأيتم محطة كهذه؟ فيها مسافرون كهؤلاء؟ أنا نعم رأيتهم، لأنني أنتمي إليهم. أنا أنتظر قطاري منذ أكثر من سبع سنوات. لكن لا أعرف كيف سيصل، أتمنى أن لا يحدث مكروه في الطريق" (ص105). سئمتْ عيونُه هذا الأسمنت وسئمت نفسه ذلك الصمت.الذي يثقب الأذنين، يتغير أسلوب الكتابة السوداوية مرحليا إلى أسلوب أكثر تفاؤلا. نعتقد أنه استرجع شيئا من الثقة بالنفس " سيستمر الكفاح. ينبغي أن نضحي ليستمر الكفاح. حتى لا ينام الخسيسون مرتاحي البال" (ص133). ليته استمر على هذا الخط التفاؤلي بل سرعان ما سيعود إلى سوداويته السابقة، " أنا أعيش موت الجدران، أعيش موتي بل أعيش داخل الموت. أعيش موت الآلهة التي لا تموت...مسكون كل ليلة، ثماني سنوات، بهذا الهزيز الصامت للموت الذي ينبعث من الحيطان" (ص175). لكنه رغم حجم المعانات نراه يتكلم في الماضي وكأنه ترك السنوات الصعاب وراء ظهره، "هل أنا الذي عشت ثماني سنوات في هذا الهذيان؟ من حلم لكابوس، ثماني سنوات..." (ص176). وتستمر المعانات ويتساكن التشاؤم والتفاؤل لكن سرعان ما تظهر قضية أخرى كانت تؤرقه لتنضاف إلى محنته الحالية، ذكريات حب جنوني قديم لفتاة ما، محبط منها، منكسر من مرارتها، حبيبته المستحيلة " لست أنا الذي أتكلم في هذه الليلة. من يكون إذن؟ (أكيد) إنه الجرح الذي بداخلي أخذ شكل أحد آخر يسكنني" (ص226). ينهي كتابه بهذه الجملة "أنا ممسوس بجن الوحدة واليأس، أختنق ولا شيء يفصلني عن الجنون سوى خيطا رفيعا. أنا مقبرة لوحدتي" (ص248). هذا النص من بدايته إلى النهاية يشبه كاتبه في عفويته وتلقائيته. كتابة هادرة كالطوفان، مدمرة، حافلة بالهموم الشخصية والآلام الذاتية ولا تنعكس فيها هموم ( الرفاق) الآخرين. أنا مجروحة متمردة على ذاتها، أنا فردية مسحوقة بالآلام واليأس إلى درجة الجنون، عارية من علاقتها بالآخر وكأنه لا ينتمي إليهم، وكأن التزامه السياسي منعدم، يذكرني بانتماء الماغوط للحزب القومي السوري، لما التحق به مراهقا، لقرب مقر هذا الحزب من بيته ولأن المقر كان دافئا في الشتاء وبيته كان باردا جدا. الكتاب سيرة وتسجيل تاريخي لمرحلة من المراحل الأولى لحياة الكاتب وهو في مقتبل العمر، نفهم ونحن نقرأ أننا أمام إنسان استثنائي، اختار العزلة وسط الاعتقال فتقوقع داخل آنويته مما جعله يؤدي غاليا ضريبة هذا الاختيار. لم يتنكر لأحد ولم يتنكر له أحد، إنما اختار منطقه الذاتي فحارب بطريقته وانكمش ليعيش عشر سنوات وهو يكرر الكاوابيس التي تنزل عليه كل مساء . مزاجه الحاد لم يساعده على الاسترخاء ولو لحظة. إنه كذلك الذي جرح بسهم مسموم، وخرج باكيا يسأل عن جوهر هذا السم عوضا من أن يسأل كيف ينزع السهم المسموم. لكن قيمة هذا النص تكمن في أسلوبه العفوي والفريد، إذ تظهر الآنا بشكل ملفت، أفعال مضارعة تتكرر، أسماء تضاف إليها ياء الملكية ( مهنتي ، ذكرياتي، زنزانتي، وحدتي ...) كلمات عنيفة يشرح فيها سلوكاته وتصرفاته وتجعله يختزل كل ما يتسلل إلى عينيه ليتسكع ليلا، وكان الليل/ الليلة هو العنوان الدلالي لجل فقرات الكتاب إذ تكرر في ثلاث وثلاثين فقرة، وفي كل ليلة يلقي كل معاناته على قارعة الفراش.
#الدويب_مصطفى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المحكمة الدولية: على الدول التعاون بشأن مذكرتي اعتقال نتنياه
...
-
الأمم المتحدة: نصف عناصر الجماعات المسلحة في هايتي أطفال
-
اليونيسف: نسبة غير مسبوقة... نحو نصف أعضاء الجماعات المسلحة
...
-
في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة وتزامناً مع انطلاق
...
-
آليات الاحتلال تطلق النار العشوائي على خيام النازحين في مواص
...
-
الأونروا: نصف مليون شخص في غزة معرضون لخطر الفيضانات
-
-هيومن رايتس ووتش-: استهداف إسرائيل الصحفيين في حاصبيا جريمة
...
-
عدنان أبو حسنة: منظمات الأمم المتحدة ليست بديلا عن الأونروا
...
-
تشديد أمني وحملة اعتقالات تستهدف مسيرة لأنصار عمران خان في ب
...
-
منخفض جوي على غزة.. أمطار غزيرة وأمواج البحر تغرق خيام الناز
...
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|