|
اخطاء عبد الكريم كاصد
معتز رشدي
الحوار المتمدن-العدد: 3046 - 2010 / 6 / 27 - 02:16
المحور:
الادب والفن
الصواب واخطاؤه
عن ديوان الاخطاء للشاعر الكبير
عبد الكريم كاصد
يا صوابي الخاطيء
اين تقودني ؟
كان هناك
- كما في الحلم -
على مقربةٍ منّي
سماءٌ خالية
أغصانٌ جرداء
أوراقٌ تتطاير
تراها أخطائي؟
( من قصائد المجموعة )
1
( ديوان الاخطاء ) قصيدة - ديوان ، تنتظمها فكرة واحدة ، بعنوانات مختلفة . وهذا ، في
يومنا ، ديدنُ كل شعر حديث جدير بأسمه . زمن المجموعة التي تنفرد كل قصيدة منها بهم ٍ
مختلف ، عن الاخرى ، قد ولى ، وانتمى مرة واحدة والى الابد ، الى ازمنة كان فيها كاتب
الشعر او دارسه يختار من بين مجاميع الشاعر قصائد َ، مختارة ًقد يفصل الواحدة منها عن
الاخرى سنوات ، وربما عقود . نحن ، اليوم ، في زمن المجموعة – الكتاب ... زمن
الكتابة . وهذا مبحث شعري وفكري يطول شرحه .
2
ما الخطأ ؟ ما الصواب ؟ كأني بهما الشجرة التي انجبت غابة ًوارفة الظلال ، اهي شجرة
الخير والشر ؟ اصلها في قلب الانسان الوحيد ، من بين كائنات الطبيعة ، المدرك لحقيقة
زواله ، بينما اعلاها ذاهب ، عميقا ، في خفايا الطبيعة .
هذا ما تبينته ، جيدا ، بعد انتهائي من قراءة ديوان الاخطاء للشاعر عبد الكريم كاصد ؛ حقيقة
مرعبة ، حقا ، ومؤداها : ان الحياة ماكرة لعوب ؛ فهي قد تدفعك دفعا ، لاهوادة فيه ، وبرفق – ايضا –
غير محسوس - اوكما يبدو للوهلة الاولى- ، الى تبني خيارات بعينها في مرحلة ما من مراحل
العمر ، ريثما تكتشف ، بعد حين ، وفي وقت متأخر دائما ، ان الحياة لم تفعل ، مدة دهرها ، شيئا
برفق ، ولن . وانها قد ورطتك ، احيانا ، في ما لا طائل لك فيه . وانك قد خُدعت ... أخذت
على حين غفلة ، وانك كنت تجهل ما يراد بك ... ويراد لك .
وهي ، لو لم تكن ، كذلك ، حقا ، اذن لكنا سُئلنا قبل الولادة ، ان كنا راغبين بالمجيء
اليها ، ولكنا سُئلنا عن وطن الولادة ... ، الى ما آخر ذلك ... من اسئلة هي الوجه الآخر لصراع
القائلين باحدى الفكرتين القائلتين : امخير هو الانسان ام مسير في امنا الدنيا ... ام دفر على حد
تعبير ابي العلاء المعري ؟
ما الصواب ، وما الخطأ بالنسبة لشاعر يتأمل ، او يستذكر في آخرة الليل ... اقواله وافعاله ؟
ليت شعري ، ما الصواب وما الخطأ ؟ كيف يتلبس احدهما لبوس صاحبه ... وكيف يخرج من
جلده ، مُخرجا لسانه ؟ أهكذا يُخرج الحي من الميت ، والميت من الحي ؟ الجليل من
الوضيع ، او بالعكس ؟
كأني بديوان الاخطاء ، صوابٌ متنكر بنقيضه ، او خطأ متنكر بصوابه :
هناك في الطريق
من يرى الصواب
برفقة الخطأ؟
أخطائي واقفة
ممّ ترى تحرسني؟
حتّى في أحلامي
ثمة خطأ
سأضع حدّاً لأخطائي
باقتراف الخطأ .
هل قلت ان ديوان الاخطاء ، برغم ما تقدم كله ، حافل بصواب التجربة
الانسانية ؟ يمكننا النظر الى ديوان الاخطاء ، على انه ديواننا ، جميعا بلا استثناء
يُذكر ؛ اخطاؤه اخطاؤنا مهما ادعى الواحد منا عصمة وقداسة مزيفتين .... في زماننا هذا
العظيم الذي علمنا ان اخطاء وتناقضات الكائن الانساني ، ليست سبة او نقيصة كما
دأبت ازمنة سابقة ، اقل ترفعا – رغم جهامتها المتعالية – على القول بذلك ، بل هو أمر ، اي
الخطأ والصواب ، منبعه جذور وجودنا الانساني نفسه ، وما قسوة الحدود التي وضعت
بينهما الا لغلظة فكرية ، دينية ٍاخلاقية المنشأ ، صاحبت نوعنا الانساني المخدوع
منذ نشأته الاولى :
كلمني الصواب مرة
وقال:
"أنا خطؤك المقيم"
قلْ لي:
أ ثمة من يفرح بأخطائه؟
خطأ صغير
يتشبث بي
ويبكي .
تمهّل أيها الصواب
لا تسرعْ أيها الخطأ
العربة الخفيفة
لا تنتظر حصانين .
لماذا لحى أخطائي
بيضاء .
وهل قلت ان الفكرة الاولية التي تسند الديوان كله ، كانت لتتحول الى شبه غرفة
مقفلة يجلد المرء فيها ذاته آناء الليل واطراف النهار ، لو ان الديوان كُتب في زمان
آخر غير زماننا هذا ، او قبله بالاحرى ؟
هل قلت : ان ديوانا كهذا لا يكتبه الا ابن حاضرة ؟ اذ تهب المدينة لساكنيها ، ما لا
يقدر عليه الريف . والمدينة المقصودة ، هنا ، مدن تنقل او تشرد فيها الشاعر منذ مطلع
شبابه الباكر . لا تبخل الحاضرة ، اليوم ، على ابنائها بالطرافة ، وقد اثقلتهم بصنوف
المرارات ، وارتهم ما لم يره اباؤهم من قبل . وهذا وجهُ خطأ ٍ، من وجوهها المتعددة ، خالطه
وجه صواب ٍ ؛ حيث ثوراتها العلمية ، وكشوفاتها الانسانية ، التي لم يسبق لها مثيل .
نعم ، ثمة طرافة مقهقهة تتخلل الديوان ، دمعة بالكاد تُرى .... وابتسامة اسيانة .
3
في لقاء اجري مع الشاعر ، وهو واحد من اروع اللقاءات التي اجريت
مع شاعر عربي ، اجراه معه الاستاذ والشاعر المغربي عبد القادر الجموسي ، وطبع
في كتاب بعنوان ( الشاعر خارج النص ) ، تحدث شاعرنا عن صنفين من
الشعراء الكبار ، النوع الاول منهما ، هو القديس الذي يُخفي ، لظروف ما مزاجية
ونفسية ، لعنته ... يخفيها لاسباب خارجة عن ارادته ، اما النوع الثاني ، فهو الموسوم
بلعنة ابدية ، وكأنه نوع من شيطان آخر ، عن هذا الآخير قال شاعرنا ما مؤداه : هو
قديس ، ايضا ، اخفى ، او أُخفيت ، قداسته تحت رداء من اللعنة . ترى ، الي ايهما ينتمي
عبد الكريم ، هنا ؟ في كتابه العظيم ( ثياب الامبراطور ) تحدث فوزي كريم عن شخصية
الشاعر البصري العظيم السياب ، قائلا ، ان لم تخني الذاكرة : كان شعور السياب
بالذنب ، كبيرا ، هذا الشعور بالذنب ، هذا الضعف الانساني المقدس امدنا ، نحن
القراء ، باروع قصائد السياب . كان كلام فوزي نوعا من كشف لي ، صدر عن قاريء
كبير للسياب . عزا فوزي مشاعر السياب بالذنب ، الى حقيقة ان السياب ، في اعماقه ، هو
رجل صالح ، بل وشديد الصلاح . فهل نحن ، قراء ( ديوان الاخطاء ) ، امام صلاح
من نوع آخر ؟ فالاسئلة المطروحة في ( ديوان الاخطاء ) تدل على شفافة صاحبها ، وشدة
مراقبته لافعاله ، حرصا من عند نفسه – والقراءة هنا محض شخصية – على مشاعر
المحيطين به . حسب رأيي - الشخصي ايضا – ان صلاح عبد الكريم كاصد ، هو
صلاح من عركته الاسفار ، ومن امدته ثقافة المدن العالمية ، التي عاش فيها ، بقوة
انسانية مضاعفة – وهذا ما لم يتوفر للسياب - وقفت حائلا بينه وبين بلوغ مرحلة جلد ٍ، ذاتي غالبا
ما يكون مصحوبا بنواح وعويل ، والنواح العراقي ، في حالتنا ، شديد ، حتى لتتمزق
منه نياط القلب ، الممزقة اصلا . وما عبادتنا للسياب الا لانه استشعر قبلنا جميعا وقع خطى كارثة
كانت ، وشيكة . و كان ، هو ، اول من رأى نذرها الحنظلية السود في روحه وجسده
على حد سواء ، كارثة لم ننتظر ، لسوء حظنا ، طويلا ، حتى وقعت على جسد وروح كل ذكر
وانثى منا :
آلام الجسد اختبرتها
آلام الروح اختبرتها
ولو سُئلتُ
أيهما أشقّ؟
لما أجبتُ
متطلعاً إلى جسدي
بعينين مطرقتين
الاطراقة ، في المقطع اعلاه ، هي اعمق واجمل اطراقة في شعرنا الحديث ، اطراقة
الحائر ، لا عن عجز عن الاجابة ، ولكن ، لان الاجابة اكبر من ان يجاب عنها بكلمات .
وتلك هي الحداثة الحقيقية في الشعر ؛ الابقاء على الصمت ، والاجابة الموحية الخافتة
النبرة ، على صخب والحاح السؤال ، مما يُشرك القاريء ، برفق واثق من نفسه ، في
عملية ابداع القصيدة .
4
لا ادعاء صاخبا في شعر عبد الكريم كاصد ، فهو يتمتع، شأنه شأن كل شعر كبير آخر ، ببساطة
آسرة هي الوجه الآخر لعمق ونبل انسانيين نادرين ، في عصرنا العربي هذا ، عصر ترهات
الحداثة ، وما بعدها !
اما التعالي على واقعه ، وواقع قرائه فهو اكثر ما يكون بعدا عنه . والتعالي ، في حداثتنا العربية ، اليوم ،
سمة شديدة الوضوح من سماتها الزائفة ، التي ساهمت في صرف القراء عنه ، لانه ليس لديه
ما يقوله للناس ، وكأن الشعراء ، اليوم ، فزاعات مضحكة في حقل غير ذي زرع ؛ لِم يكتبون ؟
ولمن ؟ اذا كان واحدهم لا يفهم ما يريد صاحبه ايصاله له ! هل يفهم كاتب النص ، منهم ، هم
انفسهم ، لِم هو يكتب ، وماذا يكتب ؟ اذ ضرب كل واحد منهم ، حول ذاته ، فراغا اشد
خواء من خوائه الذاتي !
الجميع ينطقون بالصواب
من ينطق بالخطأ؟
نعم ، كلهم ناطق باجمل الشعر ، فمن اين انهمر على رؤوسنا كل هذا الهراء ؟ هراء حداثة
صبيان الابدية ، وما بعدها !
ويظل ديوان الاخطاء ديواننا ، جميعا بلا استثناء يُذكر ...
#معتز_رشدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كأنها خرجت من أفلام الخيال العلمي.. ألق نظرة على مباني العصر
...
-
شاهد.. مشاركون دوليون يشيدون بالنسخة الثالثة من -أيام الجزير
...
-
وسط حفل موسيقي.. عضوان بفرقة غنائية يتشاجران فجأة على المسرح
...
-
مجددًا.. اعتقال مغني الراب شون كومز في مانهاتن والتهم الجديد
...
-
أفلام أجنبي طول اليوم .. ثبت جميع ترددات قنوات الأفلام وقضيه
...
-
وعود الساسة كوميديا سوداء.. احذر سرقة أسنانك في -جورجيا البا
...
-
عيون عربية تشاهد -الحسناء النائمة- في عرض مباشر من مسرح -الب
...
-
موقف غير لائق في ملهى ليلي يحرج شاكيرا ويدفعها لمغادرة المسر
...
-
بأغاني وبرامج كرتون.. تردد قناة طيور الجنة 2023 Toyor Al Jan
...
-
الرياض.. دعم المسرح والفنون الأدائية
المزيد.....
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
المزيد.....
|