July 14, 2002 بقلم رشيد قويدر
عقدت مجموعة «الثمانية» قمتها الدورية في كندا في 26/27 حزيران (يونيو) المنصرم. وقد مهد لها اجتماع وزراء الخارجية في ويستلر قبل أسبوعين، حيث أدرج على جدول أعمال القمة بنداً رئيسياً هو «مكافحة الإرهاب». وبمبادرة من الجانب الروسي أضيف موضوع «الاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي»، كما نوقشت الحالة في أفغانستان، وتبودلت الآراء حول الحالة بين الهند وباكستان والوضع في الشرق الأوسط.
وما يميز هذه القمة، أنها تأتي بعد القمة الروسية ـ الأميركية في موسكو، وقمة روسيا ـ حلف الناتو في روما. وما حوَّل موضوع «محاربة الإرهاب» إلى الموضوع الرئيسي، كونه موضع تباين في المفهوم ووجهات النظر، داخل المجموعة ذاتها، فأوروبا الرسمية والشعبية تبدي امتعاضها من الهيمنة والتفرد الأميركيين. حتى إن طوني بلير رئيس وزراء بـريطانيا وأقرب الحلفاء إلى واشنطن، يضطر الآن تحت ثقل الضغط الشعبي، وكي يعود إلى السلطة مجدداً، أن يترك مسافة سياسية واضحة بينه وبين الموقف الأميركي. فأوروبا ترى أنها غير معنية بمساندة أميركا، أو دفع فواتير كلفة حروبها. وتشاركها اليابان في هذا الموقف. إذ ترى أن لا علاقة لها بهذه المشاكل العالمية، لذلك لم تتوصل القمة إلى تصور حول شكل تفاعلها (أوروبا واليابان) في الحرب الدائرة الآن ضد «الإرهاب»، ومنه دفع فاتورة حروبها وإعادة الإعمار في يوغسلافيا السابقة وأفغانستان، أو أية حروب تطمح واشنطن لها مستقبلاً. وفي التباينات أيضاً أن أوروبا ـ فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص ـ، عقدت آمالاً على إضافة روسيا إلى مجموعة «الثمانية»، لتدعيم موقفها من قضايا «الحرب والسلام» الأميركية. أما روسيا المتلهفة لمشاركة الغرب، فقد استفادت من الخلافات الأميركية الأوروبية، ولم يحصل الموقف الأوروبي على دعم من موسكو، في محاولة لجم اندفاعة واشنطن وفرملتها، الأمر الذي يولد امتعاضاً أوروبياً من سياستها..
فثمة وجهة نظر رسمية روسية، ترسخت طوال عقد، وباتت الآن أكثر ملموسية في نشدانها العلاقات مع الغرب. وهي ترى أن الطريق لذلك يمر عبـر واشنطن وليس عبـر أيٍ من عواصم أوروبا، رغم شعارها المرفوع «الأمن عبـر الأطلسي كلٌ وموحد»، وهو ما يُصطلح عليه «من فانكوفر إلى فيلاديفوستك» كأمن واحد لا انفصام له. ومع إدراكها أن ضربة الحادي عشر من أيلول وجهت إلى الولايات المتحدة باعتبارها «ضربة للعقلية الأميركية»، لكن نتائجها أفادت موسكو، حيث أدت إلى اعتماد واشنطن على الحلفاء أو الشركاء، الأمر الذي أملى على موسكو انعطافاً حاداً لتغدو مع أولوية الشركاء، بانفتاح الأفق لها نحو تحفيز العلاقات الروسية ـ الأميركية، والذي أزاح معه العديد من العوائق والخروج من حوار الطرشان الطويل. وفي السياق ذاته فإن تقارب موسكو ـ واشنطن بات يعني تباعداً عن أطراف أخرى، فشركاء واشنطن الأوروبيون لديهم حدود وفواصل لما يمكن أن تأمل به موسكو من علاقات خاصة أوروبية، الأمر الذي بينته قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة، وبالذات في مجال «إدارة الأزمات». فإلى أي مدى سيكون بوسع الاصطفاف بكل عضويته لاحقاً؛ أن يجمع في علاقاته ذات المواقف إزاء «الخطر الجديد المشترك»؟! خاصة وأن المستقبل يمهد لإبـراز مشاكل مزمنة منها تمدد الناتو شرقاً، وحرب الشيشان، ودور المنظمات الدولية، والدرع الصاروخي فهل حقاً بإمكان المجموعة تكوين آليات مشتركة لاتخاذ قرارات تفضي إلى أعمال منسقة ومشتركة؟
وفي التباينات الكبـرى، يبـرز مفهوم واشنطن لـ«الإرهاب» ممثلاً باستراتيجيتها المعلنة للقرن الحادي والعشرين بـ«الردع النووي»، وهو سلاح يقلب الكثير من المفاهيم التقليدية عن أمن الدولة والأمن الاستراتيجي العالمي. وباعتبار «الإرهاب» سلاح الضعفاء المسحوقين تحت وطأة النظام العالمي الحالي؛ وتعتبـره في ذلك واشنطن حرباً عالمية ثالثة، ولا يقتصر الأمر على حدود المفهوم، فهي تُدْرج به مناهضي العولمة، وباعتبارهم خصوماً راديكاليين للـهيمنة على اقتصاد العالم. وهم ذاتهم إبان القمة ذاتها في كندا مَنْ تظاهروا في سبيل هذه الأهداف، وضد القمة ونتائجها السياسية والاقتصادية. بيد أنهم في الشمال وليسوا مَنْ الجنوب المعدم والمستنزف. فهل «الإرهاب» ومناهضة العولمة مترابطان داخلياً؟
في الحسابات الإطلاقية الأميركية، فإن كل ما يعترض طريقها. أي طريق الشركات المتعدية القومية، بما فيها الحدود القومية للدول، ـ وقد بات الآن كثير جداً ـ هو «إرهابي»، وهو ما تولي معالجته إلى جنرالاتها وأجهزة استخباراتها على غرار موقفها من شافيز فنزويلا. الأمر الذي يستنزف إطلاقيتها الرسمية وفق معادلتها «هجوم الشر على الخير، والبـربـرية على الحضارة» أو العكس. الأمر الذي يمس «الآخر» ويجرده من حالته وطبيعته المشخصة بتحويله، إلى شيء آخر ارتدى لبوساً جغرافية وعرقية ودينية. وهنا مكمن المفارقة، لأن فخر الحضارة الغربية هو إلغاؤها التصنيفات المبسطة للبشر «الطيب والشرير، الأبيض والأسود»، وكل ما يندرج في هذه السذاجة التي تقود إلى أبشع المجازر العنصرية في التاريخ الإنساني، أما خلاصة حسابات واشنطن فهي تواصل الأخطاء فيما يعني «الإرهاب» في صورته المناهضة للغرب كمفهوم فضفاض معادٍ لسياسة الولايات المتحدة وليس لعموم الغرب. إن أدل مثال على ذلك؛ باكستان ذاتها؛ الحليف التاريخي لواشنطن، والعدو اللدود للاتحاد السوفييتي السابق. فمنهج واشنطن حولها إلى القاعدة الخلفية للإرهاب ومن ثم المايسترو للإرهاب الأفغاني، ونحن نشهد الآن كيف أن واشنطن تستعيد السيناريو التاريخي في جغرافيا جديدة وفي قلب أوروبا بالبلقان، وفي الشرق الأوسط، وفي أقصى الشرق في الصين بمساندتها الانفصاليين الإيغور في «تركستان الشرقية» والعديد من الأخطاء المماثلة التي تدحض وتقلب حقيقة النظرة والمفهوم الأميركي..
ويندرج في جوهر الأمر، المنحى الانعزالي الأميركي في الإطلاقية الإيديولوجية، كتغطية على السلوك الحقيقي، ما يبـرز في خطتها المقدمة على مدى أربعين عاماً مقبلة، لتطوير وتعزيز الترسانة النووية الأميركية، وزيادة عدد الأرصفة الجوية والبحرية والأرضية على مراحل ثلاث (2020، 2030، 2040)، والاعتمادات الجديدة للاختبارات النووية واستمرارها، وهي كلها بحسب وزير الدفاع الأميركي السابق روبـرت مكنمارا «تكشف حقيقة التعهدات الأميركية بمنع الانتشار النووي، وهي أمور لا يمكن للإدارة الأميركية أن تقررها منفردة». ويمتد التدرج البياني لتقف ضد العالم كله بـرفضها القبول بالمحكمة الجنائية الدولية، وإعلانها منع مواطنيها من التعاون معها، إضافة إلى حكاية ثقب الأوزون وبـروتوكول كيوتو، واتفاق الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والسامة ومعاهدة حظر الألغام، وحظر التجارب النووية، ومعاهدة الصواريخ البالستية. وهي في هذا جمعيه تنشد حكم القوة لا حكم القانون، أي صورة الإرهابي بضربها مؤسسات صنع المعاهدات الدولية، أما الخلفية الإيديولوجية فهي عنصرية تطال كل مفاهيم التوازن البيئي الذي يستند على المساواة بين البشر، والتوزيع العادل للموارد..
أمام هذا؛ يمكن القول؛ إن الغرب تسوده الآن منظومتان فكريتان، الأولى مغرمة في الإطلاقية، وتنطلق من الخاص إلى العام، ومن الجزء إلى الكل، في إحياء يومي للتناقضات البغيضة وتغذيتها بدلاً من حلها والانفتاح عليها. وهو أمر يُدخل الحضارة الغربية في تناقض مع ذاتها، ويلقي بظله البغيض على العالم. والثاني هم أصحاب ما بعد الحداثة، الذين يعترضون على الأحكام الأخلاقية و«شرعيتها الموضوعية»، وهم في أوروبا عامة، وانضم لهم لاحقاً صاحب «صدام الحضارات» صموئيل هنتنغتون، وعلى خلاف الانطباع لدى كثيرين، وجميعهم ينادون بالحوار تحت عنوان «لا يمكن لحضارة أن تدين حضارة أخرى» وتأكيد ضرورة الانطلاق من الملموس إلى أحكام سليمة في حالة معينة، وعبـر الانفتاح على الآخر، فالديمقراطية الغربية لا يمكن تجزئتها بين داخل وخارج، وأي ضحايا في العالم، بمن فيهم البعيدون الغرباء، يُلقون بظلٍ بغيض يهز أسس الحياة عامة، وهو إحساس فاجع بنسف دعامة أساسية من دعائم ما بعد الحداثة، والتي تصور الحياة بأنها لعبة لا تحتمل الجد..
إن كلا التيارين يعبـران عن معضلة فكرية في الغرب، تزداد الفجوة بينهما بسبب من حروب أميركا عبـر إحساسها المريض بـ«الأنا» وعدم الرغبة في التعرف على الآخر، وإبقائه في صورة ذهنية محاطة بظلال القطيعة، وهي نتاج خلاصات التطرف البشري الذي سيتهاوى بالتأكيد في المنعطفات التاريخية الحاسمة، أمام القيم الإنسانية البسيطة والكبيرة في آن معاً..