|
مغامرة الأداء .. قراءة في أين تذهب طيور المحيط ل إبراهيم عبد المجيد
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 3042 - 2010 / 6 / 23 - 08:31
المحور:
الادب والفن
في كتابه " أين تذهب طيور المحيط " – الصادر عن هيئة الكتاب المصرية سنة 2009 – يمزج إبراهيم عبد المجيد بين وصف الرحلات الثقافية ، و الأماكن التي زارها ، و مغامرة الإبداع الأدائي للوعي في لقائه الجمالي الأول بالمكان ؛ فهو لا يعاين التجربة من الخارج ، أو من موقع متعال ، و إنما هو جزء من أطياف المكان الثقافية ، و السياسية ، و الفنية ، تلك التي تتحول بفعل التجزئة النصية إلى حالات فريدة مؤولة للأصل ، و ليست خطابا وصفيا مجردا من خصوصية التجربة الإبداعية التي ينتجها المكان ، و الوعي معا . و في هذا السياق تتجسد الهوية في اتساعها العالمي ، و فرحها بالكشف عن الحياة السرية لآثار المكان ، و تأثيرها في كينونة الناس ، و الوعي المدرك ، بحيث يتخلى المكان عن صلابته ، و حدوده من جهة ، و يكتسب الفرد إيماءات المكان بداخله ؛ فيعيد تشكيل ذاته من خلال أصالة الأثر ، و تجدد الهوية من جهة أخرى ؛ فثمة ما هو مضاف إليها دائما من الدوال الفنية ، و الثقافية ، و أصداء الأصوات الإنسانية المختلفة . إن إبراهيم عبد المجيد لا يقيم ارتباطات مباشرة بين توقعاته المعرفية عن المكان ، و معاينته في الرحلة ، و إنما يحول المعلومات إلى خبرات سردية جمالية تنبع من بكارة اللقاء الحدسي بجماليات المكان ، و تجاوزه للحدود المعرفية ضمن بنيته الخاصة . إن السارد يدرك لوحات الفن ، و الآثار المعمارية ، و لقطات السينما ، و الشخوص من داخل الدهشة الصامتة المصاحبة لاندماج الوعي في التكوين الفني / الواقعي . و عن علاقة التلقي بالصمت يرى ريجيس دوبري أن إدراك الصورة يأتي أولا كقلق عارم ، ثم خلود للصمت ؛ فهناك عمق مشاغب يكمن في عدم التعبير عن أي شيء ( راجع / ريجيس دوبري / حياة الصورة و موتها / ترجمة فريد الزاهي / دار أفريقيا الشرق بالدار البيضاء سنة 2000 ص 39 ) . إن تلك الدهشة الصامتة يعاينها إبراهيم عبد المجيد مقترنة بتأويل ذاتي متجدد للظاهرة ، أو الحدث الجمالي ؛ أي أن الظاهرة تنتج عنده لغة ما بعد الصمت ، و فيها يتداخل الإبداع بالتلقي ؛ و الوثائقية بديناميكا السرد ؛ و الصوت بالدوال ، و الأصوات المضافة للهوية . و يمكننا رصد ثلاث تيمات في " أين تذهب طيور المحيط " ؛ هي : الأولى : مغامرة الأداء . الثانية : الروح الجمالية للمكان . الثالثة : التفاعل الثقافي . أولا : مغامرة الأداء : يشير الأداء إلى الفاعلية الجمالية لآثار المكان ، و علاقتها بالوعي ، و السياق الثقافي ؛ فكل من الأعمال الفنية التي يعاينها الكاتب ، و التأويلات النسبية التي ينتجها ، و مفردات المكان نفسه تقع في حالة تفاعل يختلط فيها الإبداعي بالوثائقي ؛ و من ثم تصير الكتابة فعلا أدائيا يعيد إنتاج مثل هذه العلاقات النسبية ، و المتغيرة ، و التي يمنح فيها كل من المكان ، و الوعي خصوصية مضافة لبنية الآخر دون مركزية ، أو تعليقا معرفيا من الخارج . عند زيارة الكاتب لمتحف الانطباعيين بباريس أحس بتجدد حياة الفنانين أصحاب اللوحات ، و كذلك بالقداسة السحرية للفن . هل هي حالة من الصمت المنتج لتواتر الأثر الفني بين الأنا ، و الآخر ؟ أم أن الفن يعبر الحدود الزائفة بين الموت ، و الحياة ؟ لقد تحولت الزيارة إلى فعل استعادة للفن ، و أطيافه ، و تاريخه في الوعي ، و المكان معا ؛ فثمة حالات جديدة من الرؤية ، و الصمت ، و إعادة الإنتاج تصاحب لقاء الذات بالمتحف . و قد تعجب الكاتب من القسوة التي عبرت عنها إحدى السهرات الدرامية التي شاهدها في باريس ؛ و فيها يمارس رجل بغل القهر على امرأة جميلة ، و عند بلوغه المشيب يتزوجها في الكنيسة . لقد جسد العمل الدرامي ما يمكن أن يحويه المكان المتحرر / باريس من تناقضات بين النوازع الإنسانية من جهة ، و نمط العنف الغريزي من جهة أخرى ، و إن جاء العنف هنا في صياغة فنية تستدعي تحرير صور الشر من اللاوعي في سياق يتجاوز العنف في أشكاله الواقعية ، و الثقافية . إنه استدعاء جمالي نسبي للعنف . و في باريس أيضا تضيع من الكاتب فرصة إهداء روايته " البلدة الأخرى " للدكتور ثروت عكاشة ، و يقرأ ذلك الحدث في ضوء تفاعل السياق الثقافي لباريس ، و تأويل الوعي للذات ؛ فهو لا يشعر بالألم عند ضياع الفرص ، و لا يفرح عند اغتنامها ، و تتساوى لديه الذاكرة ، و النسيان كأنه حي يمشي في ميت ، أو ميت يمشي في حي . إن باريس تتميز بالطليعية الأدبية المصاحبة لبنية المكان ، و كذلك بأفكار التناقض في الحداثة ، و ما بعدها ، و التعددية ، و التداخل بين المعاني ، و هو ما تجسد في تأويل الذات في المقطع السابق ؛ فالمكان يخرج هذه النوازع ، و يعززها ، كما يضيف الكاتب إليه ذلك السلوك الجمالي الملتبس بين اللاوعي الفردي ، و أدبيات المكان ، و أفكاره . و قد يندمج الوعي بالمكان بحيث يصير المكان جزءا من حالة الأداء الإبداعي الصامت ؛ فالمكان هنا تجربة إنسانية تتعالى على المادة ، و الحدود . بدا هذا واضحا في وصف الكاتب لمراكش ؛ فهي تتجاوز أسئلة العقل ، و تثير الاضطراب في الروح ، و تنذر ببكاء صامت ، و هي عنده تجربة روحية ، أو تجربة كتابة فنية . تتفاعل الأزمنة - إذا - في مراكش ؛ لأنها تمثل الأصالة ، و البحث عن الخلود معا ، و هي غياب الحدود ، و تجسد أول مرح للعمل الفني في آن ؛ لأن الكاتب لم يحدد أين يبدأ عمل الوعي في تلقي مراكش ، و هو يصفها بالتجربة الفنية ، و كأنها عبور الأصالة الخالدة للذات ، أو العمل الفني معا . ثانيا : الروح الجمالية للمكان : و فيها يبدو السياق الجمالي أكثر حضورا . المكان يعلن هنا عن تفرده الجمالي ، و خصوصيته في الوعي ، و يضيف للأخير تجددا في الهوية ، و إغواء تصويريا يستلبه ، و يحفز ما أضيف إليه للتو من تأثير استعاري تمثيلي بديل عن الحدود الواقعية وحدها . إن المكان يكشف عن هويته ، و قصصه الجديدة ، و حياته الأخرى داخل الآخر / المختلف . في زيارته لموسكو يصف إبراهيم عبد المجيد النهار الضبابي الرمادي ، و الأرض البيضاء ، و تزحلق الأطفال على الجليد بين الأشجار صباح يوم الأحد . إن المكان هنا يعلن عن خصوصية روحه الجمالية في وعي الكاتب ، و لا يبدو كمجموعة من الحدود ، و الأبنية ، و الفراغات ، و تتجلى الروح الجمالية في أخيلة النقاء ، و البياض من جهة ، و حالة البهجة الجمالية لدوال المكان ؛ السارد ، و الأطفال من جهة أخرى . المكان هنا جمالي ، و طيفي في ذاته ، و يقع في بؤرة رؤية العالم في وعي السارد أيضا . و عند زيارته لأوكرانيا يصف الكاتب التأثير الثقافي ، و الجمالي للمكان على أيقونات المسيح ؛ فهي ليست شاحبة كما هو في أوربا ، و مصر ، و لكنها مشرقة ، و عليها مسحة من فلاحي الريف الأوكراني ، و قد جاء هذا الوصف في سياق معاينة السارد لمتعة النظر لخضرة الربيع هناك ، و الأحاديث العفوية للأهالي . لقد انتقلت روح المكان البهيجة من الجوانب الكونية ، إلى ثقافة الناس ، ثم أيقونة المسيح التي اكتسبت البهجة ، و النضارة ، و العفوية الجمالية للمكان ، ثم إلى وجهة نظر السارد عن المكان ؛ فقد صار جزءا من تلك الهوية ذات الحضور القوي المتجاوز للأبنية الفكرية المسبقة عن الحياة ، و العالم . و في تناوله لمدينة الإسكندرية يقبض إبراهيم عبد المجيد على روح التمرد ، و الوضوح في جماليات المكان ، و ثقافة أهله ؛ فقد كانت مدينة مصطفى كامل المفضلة ، و أدباؤها لا يميلون لتكوين الشلل ، و لو ذهبوا للقاهرة ، و يدمج ذلك الوضوح بانفتاح المدينة على الضوء ، و الريح . لقد التحمت الشخصية بالروح المجازية الانفتاحية للمكان ، و اكتسبت براءة إبداعية متجددة ، و رغبة في حياة تخلو من المركزية ، و السيطرة ، مثل انفتاح روح المكان على الثقافات الأخرى المختلفة . و عند وجوده في روشيل بفرنسا قرأ مجموعة من الأحداث ، و الأخبار ؛ مثل خبر وفاة والدته ، و عدم وصول نقود من خلال أشباح العبث في رواية الغريب لألبير كامو من جهة ، ثم التواصل الإبداعي خارج اللغة مع ألماني ، و فرنسي ، و إنجليزي . و يذكرني النموذج السابق للتواصل بالخروج من العبث من داخله عند يوجين يونسكو في نهاية مسرحية " المغنية الصلعاء " ؛ إذ صارت اللغة أصواتا مجردة تستشرف ماوراء العبث ، و هذه هي الروح الجمالية لفرنسا ؛ العبث ، و اللامبالاة ممزوجة بحالة انفتاح ، و مرح يتجاوز الحدود المنطقية ، و هو ما عايشه الكاتب من داخل دمج الأدب بالروح الجمالية ، و الثقافية للمكان . ثالثا : التفاعل الثقافي : و فيه يدرك الوعي أصالة التعدد الثقافي في بنية المكان من جهة ، و الوعي المبدع من جهة أخرى ؛ فدائما ما ينتج المكان لحظة انفلات باتجاه الآخر حتى يبدو التعدد أصلا تتراكم فيه الدوال الثقافية المختلفة ، أو يتجلى في السياق التاريخي ، و نتائجه الحضارية الإيجابية في الأعمال الفنية ، و المعمار . عند زيارته لباريس استرجع الكاتب تأثير المعمار الفرنسي في القاهرة الحديثة ؛ و على الأخص تأثير الريفولي بباريس في شارعي محمد علي ، و كلوت بك في القاهرة . يكمن الآخر – إذا – داخل التطور الحضاري للهوية الثقافية ، و ينمو تأثيره الثقافي الإيجابي من داخل مساحة لا مركزية للحوار ، و هو ما نجده عند المفكرين العالميين المعتدلين . إن الحضور الثقافي الآخر للمكان يكتسب جماليات ثقافية جديدة تنبع من اختلاف المكان ، و من ثم الأمزجة ، و توجهات الناس الفكرية ، و الانفعالية . و على مستوى آخر نجد التفاعل بين المحلي ، و العالمي في رحلة الكاتب للعلمين ، و فيها يسترجع أصداء الحرب العالمية الثانية ، و ذكريات والده ، و علاقة المكان بالبدو ، و خصوصيتهم المحلية في لقائها بالسياحة . و يبدو التفاعل واضحا بين المحلي ، و العالمي في وصفه لبلدة سيدي عبد الرحمن ، و حكاية رأس الشيخ الذي خرج من البطيخة ، و طلب بناء ضريح له ، و كان صاحبه قد قتله من قبل في الصحراء ، و تحول المكان فيما بعد إلى مصيف . لقد امتزج فعل الحكي بروح الصحراء الخيالية ، و كذلك تجاوز الفن الآن لحدود العمل الفني ؛ إذ صار المجاز قراءة للواقع التسجيلي ، و تلك هي نقطة اللقاء بين حكي البدو المحلي ، و تطور الفن العالمي . هكذا يكتسب المكان في كتابة إبراهيم عبد المجيد حياة متجددة من داخل الرؤى الإبداعية ، و الثقافية ، و الشخصية لآثاره . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نيرمانا كهوية شعرية .. قراءة في ديوان البحث عن نيرمانا بأصاب
...
-
السجن ، و الولادة الإبداعية .. قراءة في رواية الجوفار ل مروة
...
-
الوفرة الإبداعية للشخصية .. قراءة في رواية لم تكتب بعد ل فرج
...
-
دائرية الإيماءات ، و الصور .. قراءة في تجربة علاء عبد الهادي
-
الحكي ، و تجدد الحياة .. قراءة في مجموعة نصف ضوء ل عزة رشاد
-
الإيماءات الإبداعية للحكي .. قراءة في نوافذ صغيرة ل محمد الب
...
-
لعب التشبيهات ، و الأصوات .. قراءة في كأنها نهاية الأرض ل رف
...
-
نقطة الخروج في مسرح أوجين يونسكو
-
نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الد
...
-
الوعي المبدع يتجدد .. قراءة في كتاب المغني ، و الحكاء ل فاطم
...
-
انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم
...
-
الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي
-
الاندماج الأول بالعالم .. قراءة في تفاصيل ، و تفاصيل أخرى ل
...
-
سرد في نسيج الحجر .. تأملات في طبعات الأيدي القديمة
-
امتداد التجارب النسائية .. قراءة في نساء طروادة ل يوريبيدس
-
سياق شعري يشبه الحياة .. قراءة في تجربة فاطمة ناعوت
-
تأملات جمالية في الأنا الأعلى
-
تجاوز الذات التاريخية .. قراءة في أحب نورا .. أكره نورهان ل
...
-
العولمة ، و الاختلاف
-
شهوة الكتابة ، و نشوة الغياب .. قراءة في الرغام ل علاء عبد ا
...
المزيد.....
-
زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
-
مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور)
...
-
إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر
...
-
روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال
...
-
زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
-
-الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ
...
-
عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع
...
-
تهديد الفنانة هالة صدقي بفيديوهات غير لائقة.. والنيابة تصدر
...
-
المغني الروسي شامان بصدد تسجيل العلامة التجارية -أنا روسي-
-
عن تنابز السّاحات واستنزاف الذّات.. معاركنا التي يحبها العدو
...
المزيد.....
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|