Michel VERRIER
في سياق استعادتها صفة القوة العظمى على المسرح اليبلوماسي الدولي، "تلعب المانيا دورا سياسيا وعسكريا جديدا في اطار شراكتها مع الولايات المتحدة" [2] . هذا ما يقوله السفير الاميركي في برلين دانيال كوتس. والموقع الذي تمكنت المانيا من احتلاله داخل اوروبا الخالية من النزاعات لا يمحو في الواقع الرابط الذي لا ينفصم مع واشنطن والمبني في زمن الحرب الباردة. وتبعا للصحافي الالماني برند اولريخ، فإن "اميركا تصنع الحرب والمانيا تحضر السلام" [3] . ظهرت هذه المعادلة في صيغتها الاولى خلال حرب كوسوفو لتتبلور خلال النزاع الافغاني ويمكن ان تتكرر في حال التدخل الاميركي في العراق.
ويستفيد انبعاث الديبلوماسية الالمانية من تقليد قديم مستعاد بين البلقان والشرق الاوسط. حتى انه وبحسب برند اولريخ نفسه "تحول الماضي الالماني نقطة اضافية في سجل السياسة الخارجية". وفي نظر اسبوعية "داي ذيت" فإن وزير الخارجية الالماني، زعيم الخضر السيد يوشكا فيشر "هو وزير الخارجية الوحيد من ضمن بلدان الاتحاد الاوروبي الذي يحوز ثقة الاسرائيليين والفلسطينيين معا" [4] .
الواقع ان لليهود ديناً لا يمحى على المانيا مع الابادة التي ارتكبتها في حقهم وهي تؤمن منذ العام 1948 دعما ماليا وسياسيا واخلاقيا رئيسيا للدولة العبرية. وتعرف جميع الحكومات الاسرائيلية انه ما من مسؤول الماني قادر اليوم على العمل ضد مصالح اسرائيل. فأثر المحرقة يمنع حتى على برلين اي اعادة نظر جذرية في السياسة التي تنتهجها اسرائيل ولو انه تم تجاوز هذا المحظور بعض الشيء خلال عملية "السور الواقي" الاسرائيلية الاخيرة في الاراضي الفلسطينية.
هكذا ركزت الصحافة في عناوينها الاولى طوال اسابيع على نائب رئيس الحزب الليبيرالي، جورغن مولمان، رئيس جمعية الصداقة الالمانية ــ العربية، الذي انتقد سياسة ارييل شارون وبرر العمليات الانتحارية ليتهم من ثم نائب رئيس المجمع اليهودي السيد مايكل فريدمان والذي استنكر اقواله بأنه يعيد بعجرفته احياء شعور العداء للسامية. لكن سرعان ما بدا السيد مولمان معزولا داخل الطبقة السياسية بعدما اتهم بمغازلة اصوات اليمين المتطرف لدعم حزبه في انتخابات ايلول/سبتمبر المقبلة ووصل الامر الى حد اتهامه باللاسامية.
في مجال آخر، ارتفعت اصوات "مأذون لها" في 25 نيسان/ابريل الماضي خلال مناقشة في مجلس النواب، البوندستاغ، تنتقد بقوة سياسة السيد شارون. هذا ما قام به مثلا السيد كارل لامرز، الناطق باسم المجموعة البرلمانية للحزب الديموقراطي المسيحي في الشؤون الخارجية، وكذلك السيد كريستوفر موسبوير من الحزب الاشتراكي والعضو في اللجنة النيابية للشؤون الخارجية وفي جمعية الصداقة الالمانية ــ العربية.
لكن المستشار غيرهارد شرودر، كما غريمه ادموند ستويبر المرشح الديموقراطي المسيحي لرئاسة الوزراء، اعادا تأكيد موقف برلين الثابت من خلال التشديد على العلاقات التاريخية الخاصة التي تربط برلين بتل ابيب وتؤسس للترو الذي تفرضه المانيا على نفسها تجاه اسرائيل. وقد اكد الزعيمان في الوقت نفسه ضرورة ايجاد حل سياسي في الشرق الاوسط، وحق الفلسطينيين في دولة قابلة للحياة. وهما في ذلك يحترمان ديبلوماسية التوازن التي تنتهجها المانيا منذ تأسيس الدولة العبرية.
ذلك ان المانيا الفيديرالية تتمتع في العالم العربي بصورة ايجابية منذ مطلع القرن العشرين. يقول المؤرخ التونسي هشام جعيط: "لم تعتد على الاسلام في الماضي، لم تستعمر ارضا عربية او اسلامية. كانت عدوة اعدائنا واخيرا حليفة تركيا التي بقيت لاسباب مختلفة تمثل شيئا ما في الضمير العربي ـ الاسلامي". خلال الحرب العالمية الثانية "كانت الجماهير ترغب في اكثريتها بانتصار الماني تأمل منه التحرر من نير الاستعمار(...) وفي العقلية العامة اعجاب بالشجاعة الالمانية والاقدام والمهارة الالمانيتين اضافة الى وقوفها وحيدة تقريبا في وجه ذاك التحالف الضخم" [5] .
بعد الحرب تغطى هذا التواطؤ المريب بصورة المانيا ــ العملاق الاقتصادي التي اعيد بناؤها على قواعد السلم. كما ان الحضور الثقافي للدين في المانيا يسهل الحوار مع العالم الاسلامي، فالحزب الديموقراطي المسيحي يشكل مثلا النموذج بالنسبة الى الجناح التحديثي في الحركة الاسلامية التركية، وتشكل العلمانية على الطريقة الالمانية، اي استيعاب البعد الديني حتى في الدستور، مرجعية في البلدان التي تقوم فيها الحريات على نوع العلاقة بين الدين والسياسة.
بالرغم من تقسيم المانيا، عرفت جمهورية بون كيف تثمر العلاقات الديبلوماسية التي نسجها غليوم الثاني وبسمارك وهتلر. ويؤكد أخيرا السيد سيف الاسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي [6] "ان الالمان عملوا دائما عندنا بجد وصوابية"، مضيفا ان علاقات تاريخية تربط ما بين المانيا وايطاليا وليبيا. ويذكر ان السيارة الاولى التي استخدمها قائد الثورة كانت من طراز فولكسفاغن الالمانية وان اولى المساعدات العسكرية التي حصلت عليها ليبيا في العام 1944 جاءت من المانيا. ونجل القذافي قام بدور الوسيط بين برلين و"طالبان" عندما اعتقل هؤلاء في كابول اعضاء منظمة الاغاثة الالمانية "شلتر ناو".
يشدد الصحافي الباكستاني احمد رشيد على ان "افغانستان هي الوارث التاريخي لالمانيا" وذلك خلال انعقاد مؤتمر الامم المتحدة لاعادة اعمار هذا البلد والمنعقد في بون في 27/11/2001. في العشرينات ساهمت برلين في انشاء اول جيش وطني افغاني وساهم الالمان في اعمار البنية التحتية للمملكة التي نالت استقلالها. وكان للملك امير امين الله صلات بجمهورية فيمار وسوف يرفض وارثه على العرش محمد ظاهر شاه طرد الالمان من كابول ابان الحرب العالمية الثانية.
منذ الثمانينات التزمت المانيا الموحدة جانب المساعدة الانسانية وقيادة مجموعة مساندة افغانستان المكونة من 15 بلدا وقد تاسست في العام 1996. وعرفت كيف تجمع فوق اراضيها لمرات عدة ممثلي الشعب الافغاني كما استضافت قمة 6+2 التي حاولت قبل 11 ايلول/سبتمبر ايجاد حل للازمة اافغانية بموافقة دول الجوار. وقد طالب العديد من الوجهاء الافغان اثر سقوط نظام "طالبان" بأن تؤول قيادة القوات الدولية في كابول الى الالمان وهو دور اسند في نهاية المطاف الى تركيا.
لكن برلين هي قبل كل شيء الشريك الاقتصادي الاول لانقرة، ومحاورتها الالزامية في اوروبا. فأكثر من مليوني تركي يقيمون في المانيا حيث يشكلون اكبر جالية اجنبية وتشبه العلاقات بين تركيا والمانيا العلاقات الفرنسية ــ الجزائرية ولو ضمن اطر مختلفة.
العلاقات بين البلدين عريقة، فالعالمان العثماني والجرماني تواجها منذ القرن السادس عشر فارضين تقسيما ضمنيا لاوروبا الوسطى والشرقية كما في البلقان. وسوف تتحول هذه المواجهة الى تحالف مع انهيار الامبراطورية العثمانية. فمنذ العام 1835 لجأت هذه الامبراطورية الى خدمات الجنرال هلموت فون مولتكه ثم ابرم الامبراطور غليوم الثاني عام 1888 معاهدة مع السلطان عبد الحميد. وتبوأ كولمار فريهر فون در غولتز المعروف بغولتز باشا منصب نائب رئيس الاركان في الجيش العثماني الذي اشرف عليه ضباط المان حتى غداة الحرب العالمية الاولى. وسيكونون شهودا كباراً، او حتى مشاركين بحسب البعض، للابادة في حق الارمن(6). من جهته اظهر مصطفى كمال أبو الجمهورية التركية رفضا لنفوذ برلين لكن اشعاع القومية الالمانية وفكرة الهوية/الامة سوف تؤثر في العمق على رفاق مصطفى كمال في جمعية "تركيا الفتاة".
غداة الحرب العالمية الثانية والتي اتخذت خلالها انقرة موقفا "حياديا" (الى ان دخلت الحرب الى جانب الحلفاء عام 1945) حافظت تركيا على علاقات اقتصادية مع هتلر كما عادت العلاقات "المميزة" بين تركيا والمانيا الى سابق عهدها ضمن منظمة حلف شمال الاطلسي. فالمانيا هي المورد الرئيسي للجيش التركي بعد الولايات المتحدة. وقد اوضح السفير التركي السابق في بون اركان فولهاران قائلا: "انهما البلدان الوحيدان اللذان يواجهان التوسع السوفياتي في صورة مباشرة" [7] .
لكن هذه العلاقات تراكم مزيجا من التاريخ المشترك، فيه ثنائية التقارب والرفض واشكال التواطؤ والسلوك الدنيء. هكذا فإن الحزب الديموقراطي المسيحي بزعامة هلموت كول كان معترضا دائما على دخول تركيا الى الاتحاد الاوروبي الذي يعتبر نادياً للدول المسيحية. ولا يخالف السيد ادموند ستويبر هذا الموقف. في الوقت نفسه كان مدير صحيفة Turkish Daily News يشير الى انه "خلال العقدين المنصرمين رأينا المؤسسات الالمانية تتركز في تركيا وكانت مساهمة مؤسسة اديناور (المرتبطة بالحزب الديموقراطي المسيحي) ضخمة في تنمية بلدنا وخصوصا في دفعه نحو الديموقراطية".
وتمثل طهران الحليف الثاني المميز لبرلين في المنطقة وهنا ايضا للعلاقات بينهما تاريخ قديم. "انها متجذرة في العمق" بحسب السيد مهدي كروبي [8] رئيس البرلمان الاوروبي. في 26 شباط/فبراير 2002 اعاد كل من وزير الخارجية الايراني السيد كمال خرازي ورئيس البرلمان الالماني السيد وولفغانغ تيرس التأكيد معا في العاصمة الالمانية لمتانة الروابط بين البلدين. ولم يتوانَ السيد فيشر عن انتقاد مفهوم "محور الشر" العزيز على قلب جورج والكر بوش والذي يشمل كوريا الشمالية والعراق وايران.
في مطلع الخمسينات، ايدت كل من المانيا والولايات المتحدة قيام ديكتاتورية الشاه رضا بهلوي لكن الثورة الايرانية سوف تؤدي الى تجميد العلاقات مع برلين. عندذاك سعت المانيا الى تعزيز علاقاتها مع العراق [9] لتعاود احتلال موقع المحاور الاول لطهران عبر "حوار نقدي" يهدف الى تطوير حقوق الانسان والتجارة في آن واحد. وكانت واشنطن تشعر بالانزعاج الدائم من هذا الموقف.
وسوف تتجاوز العلاقات المتينة بين البلدين عمليات الاغتيال التي تعرض لها معارضون اكراد من مسؤولي الحزب الديموقراطي الكردي في ايران بتدبير من الاستخبارات الايرانية في ايلول/سبتمير 1992 في برلين وما كان من رد فعل بون بادعاء القضاء الالماني على كبار المسؤولين في الدولة الايرانية في نيسان/ابريل 1997. وما زاد من التوتر الديبلوماسي في تلك المرحلة اعتقال طهران أحد رجال الاعمال الالمان والحكم عليه بالاعدام ثم اعتقال عدد من المثقفين الايرانيين ومحاكمتهم بتهمة اشتراكهم في برلين خلال شهر نيسان/ابريل 2000 في منتدى حول مستقبل ايران. بدورهما، قام السيدان فيشر وتيرس بزيارتين متتاليتين لطهران في آذار/مارس 2000 وشباط/فبراير 2001 من اجل توثيق العلاقات مع الرئيس محمد خاتمي الذي يتكلم الالمانية ويكن الاعجاب لهذا البلد. وستلعب برلين دور الرابط بين طهران وواشنطن خلال الازمة الافغانية.
كان التعاون وثيقاً دائما بين الاستخبارات الالمانية والايرانية وكانت المانيا الاتحادية الوسيط المفضل بين اسرائيل و"حزب الله" في لبنان في ما يعود الى تبادل الجنود الاسرائيليين المحتجزين لدى الميليشيا الشيعية مقابل معتقلي "حزب الله" لدى الدولة العبرية [10] .
نشير اخيرا الى ان تجارة الاسلحة قد دعمت من نفوذ برلين في المنطقة وكانت المانيا خلال الثمانينات في مقدّم مصدّري الاسلحة الى هناك وقد مكنت العراق وايران وليبيا من اقتناء تقنيات تصنيع الاسلحة الكيميائية [11] . كذلك فإن شركات المانية سمحت بتصنيع صواريخ سكود ب العراقية والتي ستطاول تل ابيب خلال حرب الخليج! لكن الحقيقة ان بون ساهمت في المقابل بتزويد اسرائيل صواريخ باتريوت و... أقنعة واقية من الغازات السامة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحافي، برلين.
[2] Berliner Zeitung, Berlin, 21 janvier 2002.
[3] Bernd Ulrich, … Neue Deutsche Rolle î, der Tagesspiegel, Berlin, 29 décembre 2001
[4] N36,2001
[5] Hichem Djaït, L Europe et l Islam, Seuil, Paris, 1978
[6] Der Tagesspiegel, 7 janvier 2001
[7] Wolfgang Gunst, Der V?lkermord an der Armeniern, Hanser Verlag, lieu diédition ? 1993. Lire également Noureddine Zaza, Ma vie de Kurde, Labor et Fides, Bruxelles, 1993.
[8] Les Turcs, les Arabes et la Revolution francaise, Edisud, Aix-en-Provence,1989
[9] Erich Schmidt, Der Schatten Krieger, Klaus Kinkel und der BND, Eenboom, Econ, lieu diédition, 1995
[10] Haaretz, Tel-Aviv, 3 décembre 2001
[11] Jrgen Gr?sslin, Den Tod bringen Waffen aus Deutschland, Knaur Verlag, 1994
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم