|
ليس كمثله شيء
محمد أبو زيد
الحوار المتمدن-العدد: 3041 - 2010 / 6 / 22 - 16:39
المحور:
الادب والفن
في شتاء عام 1999 ، في أحد المنتديات الشعرية التي تقيمها الجامعات للتباري بين شعرائها على طريقة سوق عكاظ ، كان يُنظر لي ـ وصديق آخر ـ نقول قصيدة النثر ، على أننا كفرة ، على أننا زناة ، على أننا صابئون ، لا نعرف معنى الشعر الحقيقي ، لا نعرف إيقاعه ، ولا قافيته ، وكنت أقول لنفسي : هؤلاء جهلاء سذج ، منغلقون على أكاديميتهم وعلى دروسهم التي تلقوها في الثانوي ، ولن يتبقى منهم أحد في النهاية ، إذا خرجوا إلى الوسط الثقافي الحقيقي سيعرفون أن الشعر لا يكيل بتفعيلاته ولا بعدد قوافيه . لكن الإشكالية الحقيقية كانت بالنسبة لي ـ حين خرجت أنا القروي الغض ـ إلى الوسط الثقافي الذي ضاق هو الآخر ـ في منتدياته وندواته ومقاهيه ومقالاته النقدية ـ بقصيدة النثر وبكتابها وعاملهم كالغجر. كنت وقتها قادما من ريف الصعيد ، للدراسة في القاهرة ، أكتب القصيدة الخليلية ذات الضلفتين ، والتفعيلية ذات الضلفة الواحدة ، صدمة المدينة لم يستوعبها بداخلي سوى قصيدة النثر ، قصيدة تناسب المدينة ، بحزنها ويأسها ، بضجيجها ، بصراخها ، وكنت أجيب من يسألني لماذا أكتب قصيدة النثر ولا أكتب التفعيلة : وكيف يمكن لشخص يهرول صارخا طوال الوقت في هذه المدينة أن يغني ؟ لست ـ بالمناسبة ـ ضد قصيدة التفعيلة ، أو القصيدة العمودية ، ولست من هواة نفي الآخر ، فليكتب كل شخص كما يريد ، المهم أن يكتب روح العصر الذي يحياه ، لا الذي كان يحيا أجداده ، المهم في الأمر كله الشاعرية ، تلك التي تحسها ، التي تأسرك . تمر عشرة أعوام منذ كتبت قصيدة النثر لأول مرة ، فيما تكاد تقفز من حنجرتي صرخة ضخمة ، يتردد صداها داخلي حتى الآن ، مع مرور الوقت تبقى القصيدة وحدها ، ولا ينتهي السؤال عن ماهيتها ،عن عطاياها ،عن جمهورها عن جدوى كتابتها في زمن كهذا ، عن جدوى هذه الأسئلة العبثية الوجودية الساخرة أيضا ؟ لا ، ليست ساخرة فحسب ، بل محبطة أيضا ، وكفيلة بإيصالي إلى حافة الجنون . نصف قرن منذ كتب محمد الماغوط قصيدته النثرية الأولى ـ هل أعود إلى الوراء وأقول أنها ثلاثة أرباع منذ كتبها حسين عفيف ـ ولا نكف عن طرح الأسئلة وعن الإجابة نفس الأجوبة . سأترك كل هذا وأتحدث عن الشعر بالنسبة لي بشكل نفعي بحت : هو وسيلة للخلاص من كآبة هذا العالم ، وسيلة للقفز على الإحباطات المتوالية في كافة مناحي الحياة: في المنزل ، في العمل ، في الشارع ، في المقهى في غرف النوم ، في التلفاز ، في علاقاتنا الإنسانية ، يظل الشعر ـ أيا كانت طريقة كتابته ـ مهربا وحيدا ، لا مهرب سواه ، بديلا وحيدا للانتحار ـ كما قال أمل دنقل ـ النافذة التي نفتحها فنتنفس ، الملجأ من هذا العالم الذي يطردنا على وجوهنا نتسكع في مقاهي وسط البلد ، والندوات التي بلا جمهور ، يظل الشعر هو الشعر ، هو حروفه الخمسة الساحرة الساخرة المبهرة ، يظل هو ، الذي ليس كمثله شيء ، ويظل ما عداه هامشيا ، لا يذكر ، لا ، أنا الذي لا أريد أن أذكره . العالم ـ حتى وإن أغراه سرده بأن يتخلى عن الشعر في الآونة الأخيرة ـ فالشعر لم يتخل عنه ، ما زال يحزن من أجله ، يفرح لأجله ، يرقص ويبكي ،يموت ويخاف منه وعليه ، ظل قابضا عليه يستمد منه تفاصيله البسيطة الحميمة التي لا ترى ،من شوارعه ، من مقاهيه من حواريه . هل صدقتم كذبة الكتابة الذاتية ؟ ، الأمر لا يتجاوز فكرة لعبة البازل ، القطع البسيطة التي تتجاور ،الهموم التي تتلاصق فتكون عالما إنسانيا ، هي ليست كتابة الذات إذن ، هي كتابة ذات العالم ، ذات إنسان العالم الذي تسحقه العولمة ، فيختبئ في تفاصيلها خلف كومبيوتر صغير ـ مثلي ـ و يشكو همه . ماذا أقول إذن للذين يتهمون جيلا كاملا بالإغراق في الذاتية ، وفي الهموم الشخصية ، هل أقول : أيهما إذن أكثر التصاقا بالإنسان : عنترة الذي كتب عن بطولاته وحده ، الخنساء التي رثت أخيها فقط ، عمرو بن كلثوم الذي تفاخر بقومه لا غير ، أم شاعر صغير يكتب قصيدة النثر ويكتب هموم إنسان آخر يجلس في ركن ما من هذا العالم الشاسع يشاركه نفس هم الفناء والبطالة وهجر الحبيبة وزحام الباص وتغول الرأسمالية ، لا أريدها مقارنة ، لكل نص شاعريته ، لكل نص جمالياته محسناته البديعية كما يرى جدنا عبد القاهر الجرجاني ، لكل نص قارئه الذي يشعر به ، فقط لا تجردوا النصوص من شاعريتها ، ولا الشعراء من قصائدهم ، حتى لا نظل طوال عمرنا ندور في نفس الدائرة من الأسئلة التي لا نمل تكرارها . حين شرعت في كتابة ديواني " مديح الغابة " كان العالم على وش الانفجارـ ألم ينفجر بعد ؟ ـ مجازر ومذابح في فلسطين ، توتر بين سوريا ولبنان ، أميركا أجهزت على أفغانستان وبدأت توزع دماء العراق على القبائل بالترتيب لاحتلالها ، إعلام رديء ، وأنظمة رسمية أكثر رداءة ، وعلى الناحية الأخرى كانت الاتهامات للشعر بأنه في عزلته مستمرة ، وما زال الذين يصرخون ـ بما يعتبرونه شعر ـ على جثث أطفال فلسطين والعراق وعلى صدام حسين والصحاف يصرخون ، وما زال الذين يروجون بالابتعاد عن القضايا الكبرى يروجون . ماذا ستفعل بالشعر في جو كهذا ـ بل ماذا سيفعل بك الشعر ـ وأنت ترى عالمك ينهار ، هل يمكنك صياغة كل هذا الألم ، في قصيدة ، قصيدتين ، ثلاثة ، عشرة ، ديوان ، لا أعرف ، لكني وجدتني مدفوعا للكتابة عن الغابة التي توحشت ، أهجوها أم أمدحها ، لا يهم ، فبعض المديح هجاء ،وبعض الهجاء مديح، في الديوان طرحت أسئلتي التي لا أعرف الإجابة عنها ، ألا يقولون أن مهمة الفن هي طرح الأسئلة ؟ بعد خمس سنوات من كتابة الديوان ، كنت أكتب ديواني " طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء " عن العالم الذي أصبح أكثر سوءا ، يتمدد عنفوان المدينة أكثر فتشتد الحاجة إلى قصيدة نثر تقاوم عنفوانها ، كان القادة العرب كما هم بسياساتهم الفاشلة ، وكان السادة النقاد يطرحون نفس الأسئلة ، كانت أمريكا تستبيح العراق وسط عشرات التفجيرات ، وكانت الندوات في معرض الكتاب تسأل لماذا يكتب الشعراء قصيدة النثر ، كانت إسرائيل تدك غزة بصواريخها ، وكانت مقاهي المثقفين في وسط البلد تواصل نفي الآخر ، وتسأل أسئلة ـ أصبحت ـ مضحكة بمرور الزمن حول ماهية قصيدة النثر . كنت أتذكر عالم الطلبة وأساتذة الجامعة الضيق في منتديات الطلبة بين الوقت والآخر ـ عندما كنت في الجامعة ـ هؤلاء الذين اختفوا تماما ، وأقول أنهم معذورون فهذا ما تعلموه ، ونحن لا نقبل التغيير بسهولة . حين كتبت ديواني الخير كان الواقع السياسي و الحياتي لم يتحرك قيد أنملة ، وكانت الأسئلة التي تطرح في المنتديات الثقافية ـ حول قصيدة النثر ـ لم تتغير ، أدرك أيضا أنني بعد عشر سنوات ، سوف أدخل مقهى ثقافي في وسط البلد ، سأجلس على طاولة وأطلب شايا بالنعناع ، وسأسمع الشخصين الذين يجلسان بجواري يتحدثان عن جدلية قصيدة النثر ، ولن أعلق سوف أكتب قصيدتي التي تعبر عني ، قصيدتي هي يوتيوبياي الخاصة ، مدينتي الفاضلة ،التي ألوذ بها من صهد الواقع ، هي منفاي الاختياري ، وسجني الأبدي ،هي الدم الذي سال من شاشات التلفاز فأغرق الساهرين يضحكون ، هي ضجيج المظاهرات وصراخ المعتقلين ، هي نداءات باعة الفل على الكورنيش ، وكلام الأحبة ، ورسائل الاس إم إس ، هي ضجيج المقاهي ، وابتسامات تخفّت خلف أكف بنات الثانوي ،هي الحب في طلته الأولى ، هي الفراق والدموع في العينين ، هي المدينة التي جعلتني اكتب قصيدة النثر ، هي رحيل الأمهات والآباء ، وصرخة أم في غرفة العمليات ، هي ضحكة طفلى ، هي حزني ووحدتي ، هي أنا .
#محمد_أبو_زيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل أنقذ الله اليونسكو من الفنان فاروق حسني ؟
-
أسباب وجيهة لكراهية المثقفين
-
لا عزاء للسيدات
-
سأقابل الله وأشكوكم له
-
وثائق طه حسين السرية .. ليست سرية
-
يوتوبيا الشعر
-
الكتابة بأسماء مستعارة في الصحافة المصرية بين الحاجة و تصفية
...
-
هل تنتظر الصحافة القومية في مصر رصاصة الرحمة ؟
-
نعمان جمعة اتهزم يا رجالة
-
الغمة العربية
-
البوسطجي .. ملك الشوارع
-
الأخطاء المطبعية في الصحف.. يوم لك ويوم عليك
-
مملكة السماء لا تزال صالحة لإثارة الدهشة
-
حنا السكران
-
الشبابيك: عيون البيوت التي تكشف الشوارع
-
قبلات السياسيين.. بين العادات والفضائح والمصالح
-
لماذا كلما رأى مريد البرغوثي قتيلا مسجى ظنه شخصا يفكر؟
-
كل شيء جائز إلا الرصاص الحي
-
الهتيف : الحياة فوق الأعناق
-
ارتد جميع ملابسك فالسماء تمطر بالخارج
المزيد.....
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|