|
الرواية : مَطهر 7
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3040 - 2010 / 6 / 21 - 14:44
المحور:
الادب والفن
الإغتسالُ ، بحَسَب الصوفيّة ، هوَ من علاماتِ غيرَة الخالق من مخلوقاتِهِ . وفي واقع الحال ، فما كنتُ بحاجة للإغتسال من النكاح ، بل من الفضيحة : كذلكَ كنتُ أتفكّر ، بُعيدَ عودتي من غرفة شمس ؛ بعدَما تأكّدَتُ أنها كانت نرجس من نابَتْ عن صديقتها ثمة، في فراش العشق. وإذاً ، حقّ لي أن أغادرَ الغرفة بلا نأمَة، مُتسللاً بالطريقة نفسها التي جئتُ فيها ـ وكما لو كنتُ لصّاً . لكنني كنتُ أشعرُ ، في تلك اللحظات على الأقل ، بأني مُتلبّسٌ بصِفة أخرى ، أسوأ. فكنتُ أحسّني ذلكَ المُنتهك لأستار حرمات مُضيفي الأفندي ، صاحب الدار ؛ الذي دأبَ على مُعاملتي كأني من صلبه. بيْدَ أنّ الحقيقة ، إلى الأخير ، جازَ لها أن تعيدني للصواب ، ما دامتْ قد انجلتْ فجأة ً مع مُنبلج الفجر ؛ وما دامَ شعاعها قد شاءَ، عندئذٍ، أن يكشفَ طلاسِم الليلة الحافلة ، المُنقضيَة : إنها لعبة ُ إخباتٍ ومَكر ، ولا ريب ، تعاهدتْ المرأتان على لعبها معي . وإلا ، فما الذي جعلَ نرجس ، المُتحفظة والأنوف ، ترتعُ ساكتة طوالَ اُنس سويعَة العشق تلك ، اللاهبَة ؛ وهيَ من كانت قادرَة على صدّي مذ لحظتها ، الأولى . " ما سِرُّ هذه البَليّة ، التي عَرَتني ؟ " ، تساءلتُ في سرّي مُشوّشاً ومَهموماً. لا يُمكنُ أن يكونَ الأمر، ببساطة ، مُجرّد تسلية ؛ فهذا ليسَ من شيَم إبنة الشاملي ، المَوصوفة. كما أنّ نرجس أكثرُ ترفعاً من أن تحط في دِرْكِ فراش الغير ـ حتى لو كانت تحبّه بحق ـ لكي تُجرّبَ أخلاقه . علاوة ًعلى أنها لم تكُ بحاجةٍ، أصلاً، للتيقن من صِدْق ما سبقَ وخُبِّرَتْ به ، عن مُطارحاتِ المُتعة بيني وبين صديقتها. وعلى سِعَتِها ، ضاقتْ الأسبابُ عليّ ؛ فرأيتني اُحيل تصاريفها، كالعادة ، إلى مُقارباتٍ ذهنيّة بَحتة. إنّ علاماتٍ ثلاث ، فكرتُ إذاك ، تعززُ اليقين بكوني ضحيّة لعبةٍ ، أو مكيدة ربما ، تواطأ عليها البَشرُ والمَقدورُ معاً : أول علامة ، ما كانَ من شُبهتي بحضور نرجس إلى حجرتي ليلاً، هناك في دار الحديث ؛ وإذا هيَ صديقتها من كانت بانتظاري ثمة، على حافة فراشي . ثانيهما ، أنها شمس نفسها من عَمَدَتْ من ثمّ إلى خِداعي ، فتنقبتْ بهيئة نرجس ، دون علمي ، فرافقتني بالكرّوسة إلى منزل الأفندي ، وكنتُ بصَدد السفر معه إلى جبل لبنان. ثالث علامة ، عندما لبِّسَ عليّ ثمة ، في قصر الضيافة بقرية الغرب، وكنتُ وقتئذٍ ثملاً ، فولجتُ حجرة نرجس بدلاً عن حجرتي ، لأُباغت بوجودها مع شمس في نفس السرير ؛ وفي مَشهدٍ مَشبوهٍ ، عارم .
بدورها ، شاءتْ علاماتُ الفجر أن تتواطأ مع علاماتِ العارفِ تلك ؛ فأسلمتني لأنامل النعاس ، الخفيفة المَحمل ، بعدما أثقلَ التفكيرُ أجفاني . فما أن مَضى نحو الساعة على رقادي ، حتى رأيتني أنهضُ ، بغتة، على صوت حركةٍ ما في الحجرة . إذاك ، تهيأ لي أنه كانَ المملوك الصقليّ ، الماكرُ ، من مَرَق بلا مُبالاته أمامَ عينيّ ثمّ صفقَ باب الحجرة خلفه . وما كانَ مني ، حانقا بشدّة ، إلا أن قمتُ من فوري لأتبعَ أثرَه. ثمة في الدرب ، كانَ المملوكُ ، الوقح ، يتثنى مثل أنثى مُتهتكة ، مُلوّحاً للعابرين بإشاراتٍ بذيئة ، مُبتهجاً بما كانوا يلاقونه به من سخطٍ وتبرّم . إلى أن اعترضَ هرٌّ مسكينٌ ، صغيرُ الحجم ، سبيلَ الصقليّ . فإذا به يَتضاحك بمجون وهوَ يخاطبُ من حوله بنبرَته النحيلة ، المُخنثة : " هاكم ما سأفعله بهذا القط ، الشارد " . ثمّ أتبَعَ ذلك بمحاولة تقليد موائه وحركاته . وما عتمَ الوقحُ ، عندما أبصَرَني فجأة ، أن حدّق فيّ مُطرفاً جفنيّ إحدى عينيه ، مومئاً نحوَ المنزل المُجاور ، قائلاً : " يا حرام ، إنّ الهرّ جائعٌ ولا شك ". ثمّ إذا به يدخل إلى ذلك المنزل ، عبرَ بابه الكبير ، ليغيب هناك هنيهةٍ قصيرة ، وليؤوب من ثمّ بهيئةٍ أخرى : كانَ المملوكُ عندئذٍ يتحوّلُ رويداً إلى شبيه ذلك الحيوان نفسه ؛ الذي سبقَ أن سَخرَ منه. لا بل إنه بدأ يدبّ على أطرافه ، الأربعة ، مُتجهاً إلى قرينه وهوَ يَحملُ له طبقا فيه أسلاب من لحم ، كريهة المنظر : " إنها مُغمّسَة بالشطة ، المُحمّرة . هاكَ ، أنظرْ ما سيكونه حالُ القط الآنَ " ، خاطبني وهوَ يَضع الطبقَ بمتناول فم الحيوان . هذا المسكين ، ما أن أكلَ قليلاً من الطعام المغشوش ، حتى انتفضَ بهياج مَسعور ، ثمّ لم يلبث أن استوى بدوره على قائمتيْه ـ كأنه بَشَرٌ سَواءُ . وفيما كانَ المملوكُ ، الماكرُ ، يتضاحكُ في هأهأةٍ صاخبَة ، فإنّ ذلك القط كانَ يَقتربُ مني ببطء واصرار ، مُحدّقا في عينيّ بحقدٍ وغضب وضغينة.
ظهراً ، عندَ لحظة افاقتي من النوم ، كانت سِحنة المَملوك ، المَنحوس ، هيَ من طالعتني بملامِحها ، المَرسومة بريشة المَكر. فاستعَدّتُ إذاك ، بلمحةٍ ، تفاصيلَ الكابوس ، مَدهوشاً ولا شكّ لغرابة المُصادفة. وكانَ المُضيف قد أرسل إليّ الصقليّ ، كما قالَ هذا ، لكي يُعلمني بخبر وصول سيّده الشاملي . ففي مساء اليوم ، المُنقضي ، كان هوَ بنفسه قد اُمِرَ بالتوجّه إلى الشام ليُبلغ سيّده بعودتنا من إمارة الجبل. فما أن غادرَني ذلك المَنحوس ، حتى أضحيتُ نهبَة ً للهواجس . كنتُ ولا غرو مُحتاراً في أمري ، وما إذا كانَ يتوجّبُ عليّ مُصارحَة كبير المجلس بكلّ ما جرى معي ثمة ، في مصر ؛ وأعني طبعاً ، موضوع تكليفي بالمُساهمَة في وكالة أعمال حاكمها. إلا أني ، وقد فكّرتُ بسرعة ، إرتأيتُ تأجيل بحث الموضوع لحين إياب القاروط من عكا : " إنّ تلك الرسالة ، السرّية ، المُوجّهة لأعيان البلد من لدن العزيز ، موجودة مع البك على أيّ حال " ، أسررتُ لنفسي فيما يُشبه العَزاء أو الإعتذار. قاعة الطعام هنا ، في دارَة الأفندي الريفية ، وبالرغم من سِعَتِها وتلبيسِها الحَسَن ، فقد كانت تشي بلمساتٍ من أنامل خَشِنة وحَميمَة في آن ؛ من الطاولة الكبيرة ، المَنحوتة من شجَر غابيّ ، إلى الكراسي الخشبية ، المَجدولة مَجالِسها بالقنّب المَضفور. وإذاً بعدَ سويعة أخرى ، كنتُ مُجتمعاً مع الشاملي على مائدة الغداء ، العامِرَة . فحَقّ للقاء بيننا أن يكونَ مؤثراً إثرَ تلك المدّة من فِراقِنا ، الطويلة نوعاً ، والتي حَفلتْ بأحداثٍ جسيمَة . وكانت ملامحُ كبير الأعيان ، الجَهْمَة ، فيها علاماتٌ من أثر تلك الأحداث ، الداهِمَة. ولكننا لم نتبادلَ ، على المائدة ، سوى عبارات عامّة ، مُجامِلة . فما أن فرَغنا من غدائنا ، حتى انتقلنا إلى قاعة الصالون . " ألم تصدفكم عقباتٌ ما، خلال طريقكم إلينا " ، بادَرتُ بسؤال الشاملي . وكانَ هذا صامتاً مذ لحظة دخوله القاعة ، يتأمّلُ طبقَ الحلوى ، المَنذورَ لِحِصَّته . فرفعَ نظره نحوي ، وأجابني بسهوم : " لا ، والحمد لله ". ثمّ عادَ للإهتمام بطبقه ، مُداعباً طرفه هذه المرّة بأصابعه : " لقد جَدَّتْ تطوراتٌ خطيرة على ولايتنا ، بعيدَ مقتل الوزير والقبجي رحمهما الله وغفرَ لهما " ، أضافَ الشاملي . ثمّ مالبثَ أن أعطى مَثلاً ، مُقتضباً ، على ما يَعنيه. فأخبرني بنبرَة ارتياح ، مُخالفة لما بَدرَ منه حتى اللحظة ، أنّ الإنكشاريين وأتباعهم مَحصورون ضمن أسوار المدينة القديمة ، وأنه حتى منطقتهم هذه فهيَ مُخترقة بالقلعة ، التي تسيطر عليها قوات المجلس : " وعلى ذلك ، فإنّ الطريقَ إلى إمارة الجبل ، أضحى اليومَ مؤمّناً أيضاً ؛ بما أنّ الأرباض جميعاً ، الكائنة خارج أسوار المدينة ، خاليَة من الإنكشارية ". قالها بانشراح . عندئذٍ أدركتُ ولا غرو ، أنّ حيّ القنوات ـ أين دار الكبير ومقرّ زعامته ، قد استعيدَ كذلك من يد أولئك الأوباش . بيْدَ أني لحظتُ ، بالمقابل ، أنّ الشاملي ما عتمَ أن عادَ ثانية ً إلى خِصلة الصمت المُتطاول ، المُريب ؛ وكأنما أمرٌ آخر ، مُستطير ، كانَ يقلقه ويشغله.
" إنّ مَقدورَ الشام الشريف ، المَجهولَ ، ما يَفتأ همّاً مَطوياً على قلوب الخلق ثمة " ندّتْ عن كبير الأعيان ، المُتنهّد بعمق . ثمّ استأنفَ كلامَهُ مُوضحاً ما يَعنيه : " أجل ، إنّ مِحنتهم بالإنكشارية ، حاضِراً ، لا تعدّ شيئاً ذي بال بالمقارنة مع ما سيَعتريهم ، غداً ، من بليّة قادِمة من طرَف الآستانة ". عندئذٍ فهمتُ ، ولا شك ، أنه يَقصدُ إحتمالَ إنتقام الباب العالي من المدينة ، جزاءَ قتل عامّتها لوزيرهِ ومَبعوثِهِ . وبغض الطرف عن الصورة القاتمَة ، التي وَضعنا فيها كبيرُ المجلس، إلا أن شعاعاً من نور وَمضَ فجأة في داخلي وشاءَ أن يُبَدِدَ شيئاً من العتمَة ، الداجيَة : " هيَ ذي اللحظة السانحَة ، التي تمنيتها ، لكي أبريء ضميري قدّام كبير المجلس " ، قلتُ لنفسي . " إنّ تدبيراً ما ، خطيراً ، قد اختمَرَ الآنَ في رأس عزيز مصر ـ كما عاينتُ ذلك بنفسي ، خلال لقائي مع سعادته " ، خاطبتُ الكبيرَ ثمّ أردفتُ حالاً : " وبرأيي البسيط ، أنّ هذا التدبيرَ يُوافق هوى أمير الجبل ؛ المير بشير ". ولكنه الأفندي ، من نهضَ للمُبادرة لاجابتي : " إنّ أطماعَ والي مصر بالولاية الشاميّة ، لم تعُد سراً. وأن نأملَ بالخلاص من خلال تبديل عمامة السلطان بسَرْبوش العزيز ، لهوَ مَحْضُ وَهْم ٍـ كمن اغترّ في النوم بحُلم لذيذٍ ، وافقَ مُنى يَقظتِهِ ". إذاك ، أجزتُ لنفسي الإفصاحَ بلا مواربة عما أفكر فيه : " ليكن أنّ أولي أمرنا ، كلّهم ، من أحبار السّوء . إلا أنّ الرعيّة ، لو كانَ بإمكانها أن تقررَ ، لاختارتْ الأقلّ سوءاً ولا غرو. ومن المُفترض بنا ، نحن في مجلس العموميّة ، أن نكونَ صدىً لصوت أولئك الناس وأن نعملَ على هدي رغباتهم ومصالحهم ، المَشروعة ". وجاءَ دورُ الكبير ، كما بدا من نحنحته ، لكي يُعلّق على رأيي : " سأصارحكَ ، يا آغا ، أننا في المجلس كنا آخر من له علم بسَفركَ إلى القاهرة صُحبَة ذلك الرجل " ، قالها وهوَ يَحدجني بنظرةٍ صارمَة. ولم أتأثرَ بنظرته هذه ، المُعاتِبَة ، بقدَر ما أدهَشتني إشارته تلك ، المُهوّنة من مقام القاروط . فلم يتأخرَ الرجلُ في اجلاء حقيقة الأمر ، حينما توجّه إليّ مرّة أخرى بتحديقة عينيْه نفسها ، مُتسائلاً بنوع من التهكّم : " وأظنّ أنكَ كنتَ ماثلاً في حضرة العزيز ، لما قررَ تعيين أحمد بك ، المصري ، وكيلاً له في الولاية الشاميّة ؟ ".
ذاك الخبَرُ ، المُنغِصُ ، كانَ مثل الدواء الناجِع ؛ الذي يَشوبُهُ الطعْمُ المُرّ . وإذ كنتُ قد اُعلِمْتُ من الشاملي ، تواً ، عن مَصدَر خبَرهِ ، فإني رأيتها هُنيهة ً مُناسِبَة لكي أفضي له بتدبير البك ، الماكر : " إنّ الوكيل السابق ذاك ، الذي أعلمكَ بالأمر ، لم يكن لديه علمٌ ، على الأرجح ، بكوني أنا من تمّ اختياره من لدن العزيز لاعانة القاروط في وظيفته المعلومة ، الجديدة " . وقبلَ أن يَفيقَ كلّ من الجليسَيْن من وقع الصَدمَة ، تأثراً بقولي ، رحتُ أقصّ عليهما تفاصيل ما كانَ من أمري مع القاروط ؛ ثمة ، في القاهرة . " وإذاً ، فإنه استغلّ موقفَ مجلسنا ، الحَرج ، لكي يَحصلَ على ما يبدو أنه كانَ مُرادهُ من زمان ؛ بأن يُمنحَ هذه الوظيفة الكبيرة ، الساميَة ـ كوكيل لأعمال عزيز مصر في الشام ؟ " ، تساءلَ كبيرُ المجلس بمرارة وكأنما يُخاطب ذاته . فبادرته قائلاً : " ولكنّ القاروط ـ كما أكّدَ بلسانه وعلى مَسمَع من أخينا ، عبد اللطيف أفندي ـ كانَ يَحمِلُ أولاً توكيلاً من مجلس العمومية ". فتساءلَ كبيرُ المجلس باستغراب : " عن أيّ توكيل ، يا آغا ، أنتَ تتكلم ؟ " " أن يتفاهمَ مع عزيز مصر ، بوساطة من المير بشير ، لمحاولة التدخل لدى الباب العالي واقناع جلالته بشمل الشام بعفوه ، مرة أخرى ". فما أن أنهيتُ جملتي ، حتى بدا جلياً أنّ مشاعرَ الذهول والسّخط قد عمّتْ ملامح الشاملي . ولكنه طفقَ صامتاً ، فيما كانَ يُمرّر نظرته الغائمة بيني وبين الأفندي . ثمّ ما عتمَ أن قالَ بنبرَة أسيفة : " لم يحصل منا البك على أيّ توكيل ، قط . ولكني لا أنكرُ ، بالمقابل ، أنه طرَحَ أمامنا موضوع الإستعانة بنفوذ العزيز لدى الباب العالي عن طريق المير بشير. إنما ذلكَ كانَ كلاماً عابراً ؛ كانَ رأياً منه شخصياً . أما سبب توجيهه إليكم ، هناك في إمارة الجبل ، فكانَ لسبب وحيد : كنا نخشى أن يظنّ المير بأنّ مجلس العمومية كانَ يحاولُ خداعِهِ، حينما أرسلناكما إليه للطلب منه دَعم موقفنا أمامَ قناصل الدول الأجنبية. أجل ، لقد بعثنا البك إلى المير بشير ، لأنه كانَ على معرفة به قديمة ووثيقة. وعلى ذلك ، كانَ باعتقادنا أنه الشخص الأكثر قدرة لدينا ، في المجلس ، على التأثير في مزاج حاكم الجبل وتنويره بحقيقة ما جرى من لِبْس بخصوص مَقتل الوزير والقبجي ؛ وأنّ ذلكَ كانَ بتدبير آغا باقوني ، وحده ، ولا دخلَ لنا في مَكيدته تلك ، الشيطانية ". سكتَ الشاملي عن هذا الحدّ وهوَ يلهث باجهاد وعِسْر : إنّ الخِطبَة الطويلة، كما الخَطبَ الجلل، قد فعلا تأثيرهما السيء في صحّة صاحبنا ؛ المريض بالسّكري.
" وبَعد ، يا سيّدي ؟ ماذا ترانا سنتصرّف عندما يَحضر القاروط مع رسالة العزيز ؟ " قلتُ للزعيم مُستفهماً . إثرَ وهلة تفكير ، أجابني الرجلُ بقوّة وحَسم : " لن يكونَ له مكانٌ بيننا بعدُ ، في المجلس " . فما أن قالَ ذلك ، حتى عادَ الصمتُ ليحتلّ جوّ المكان . وإذاً ، شاءَ مُضيفنا ، الأفندي ، أن يدلي أخيراً برأيه بعدما كانَ ساكتاً خلال المُجادلة : " اسمحا لي ، أيها الصديقان العزيزان ، أن أبدي هذه الملاحظة المُبتسَرَة . إنّ إبعادَ البك من عضوية مجلسكم سيبدو ، في نظره على الأقل ، كما لو كانَ ثأراً منه ، شخصياً ". فلم يَصبرَ الزعيمُ على حميه فيدَعَهُ يُكمل فكرته ، حينما بادرَ للسؤال مُفرداً كلتا يَدَيْه بحركة حائرة : " وماذا ينتظرُ هوَ منا ، بعدما صارَ وكيلاً لولايةٍ يُجاهر حاكمها برغبته في الاستيلاء على الشام ؟ ". إذاك تبسّمَ الأفندي بلطف ، ثمّ أجابَ مُحدّثه بالقول : " إنني مُتفقٌ معكَ تماماً ، في هذا المُبرّر . وأعتقدُ أنّ البك بنفسه سيكونُ مُقتنعاً بتبريرك ، فيما لو اُعفيَ الآغا أيضاً من عضوية المجلس " ، نطقَ جملته الأخيرة وهوَ يتطلع نحوي. للحقّ ، فإني أخذتُ اقتراحَهُ هنيهتئذٍ على مَحْمَل من الريبة والاستياء . بيْدَ أنّ الشاملي ، الأكثر خبرة مني وتبصّراً ، فهِمَ بسرعة مغزى قول حميه . " إنّ رأيكَ حصيفٌ ، أيها الأفندي . وعندي أنّ الآغا سيُفيدنا بشكل أفضل ، بوجودِهِ قريباً من ذاكَ الرجل ؛ عليماً بحركاته واتصالاته ". إذاك حَسْب ، أدركتُ أخيراً جليّة الأمر . إلا أني تكدّرتُ مما يُراد مني ، فقلتُ للزعيم : " ، لو سمَحتَ لي ، يا سيّدي . ما فهمته من كلامكَ ، هوَ أنّ المطلوبَ مني أن أكونَ عيناً للمجلس على شخص القاروط ؟ ". احمرّ وجه الزعيم نوعاً ، ثمّ أجابني بنبرَة ودّية مُتماهيَة بالمَرَح : " اعذرني ، يا عزيزي، إذا كنتُ قد أسأتُ التعبير عن مُرادي . كانَ قصدي ، أن تظهِرَ الغيظ حينما يتمّ تبلغيكَ بدوركَ بالاعفاء من عضوية المجلس. وفي الآن نفسه ، أن تستمرّ على صلة طيّبة بوكيل العزيز هذا ، الجديد ، بصفتكَ مُساعداً له في وظيفته . إنكَ ستخدم قضيتنا بشكل أكبر، في هذه الحالة " . ولم ينتبه مُحدّثي ، بطبيعة الحال ، أنه كانَ يُكرر عليّ الطلبَ ذاته ؛ إنما بكلماتٍ أخرى ، أقلّ وطأة . لعمري ، فهذا هوَ سرُّ الكلمة وسِحْرُها على السواء ـ كما شاءَ ربّكَ في نزول وَحْيهِ شِفاهاً ، وليسَ كتابة : أقولُ ذلك ، أنا عبدُ الله ، المُسَرْغن في جزيرة الأروام ، البعيدة ؛ أنا من يَكتب الآنَ كلماته بمداد أسودَ على ورق أبيضَ ، مُدركاً أنّ ما يَكتبه سُيحال إلى العَدَم ، دونما ان يتاحَ لأحدٍ قراءته.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرواية : مَطهر 6
-
الرواية : مَطهر 5
-
الرواية : مَطهر 4
-
الرواية : مَطهر 3
-
الرواية : مَطهر 2
-
الرواية : مَطهر
-
الأولى والآخرة : صراط 7
-
الأولى والآخرة : صراط 6
-
الأولى والآخرة : صراط 5
-
الأولى والآخرة : صراط 4
-
الأولى والآخرة : صراط 3
-
الأولى والآخرة : صراط 2
-
الأولى والآخرة : صراط
-
الفصل الثالث : مَنأى 9
-
الفصل الثالث : مَنأى 8
-
الفصل الثالث : مَنأى 7
-
الفصل الثالث : مَنأى 6
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
-
الفصل الثالث : مَنأى 4
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|