|
قطار العودة
بثينة رفيع
الحوار المتمدن-العدد: 3040 - 2010 / 6 / 21 - 01:11
المحور:
الادب والفن
إنه القطار يتسع بياض عينه وهو يحدق بدهشة طفولة شاخت على آلامها واختفت ملامحها بغيهب مظلم بذاكرته الصغيرة ، في كل يوم ينظر حسين من نافذة غرفتنا بعيداً عند سماعه لصوت القطار .. صوت أدرك معه أنه بمكان آخر لا يشبه مدينته المحترقة ، لا لأنه أجمل فلا مكان على هذه الأرض أجمل من فلسطين .. ولا هواء ورائحة أطيب من رائحة مطر وتراب فلسطين .. لكن الرصاص أصبح يتنفس من رئتي وذاكرة أطفالنا .. لم تبتسم لهم الحياة ، وعجزت عن مد ذراعيها لانتشالهم من وهن جنون استبد وعيهم وافترس طفولتهم ، صراع حسين مع الحرب ابتدأ حتى قبل أن يولد ، أدرك اجتياح شارون لشمال القطاع في عملية قطف الزهور وهو لم يزل جنيناً .. وكانت مطابقة لتلك التسمية أجساد غضة غيبها الموت ، وأخرى أصابها العجز وأفقدتها آلة الحرب الصهيونية عنفوان الحياة وتألقها ، وأثناء المواجهات الدامية بين حركتي فتح وحماس كان يختبيء تحت الأسرة هارباً من صوت القذائف والرصاص ورائحة الخيانة ، لم يكن يتجاوز عمره آنذاك العامين ، طخ عليه كانت الكلمة الوحيدة التي يتقنها ويرددها دوماَ حينما يلعب مع أترابه .. وفي الحرب الأخيرة على غزة كنت أوصد أذنيه بكلتا يدي وأضغط عليهما بشدة لا توازي أصوات الطائرات والانفجارات بالمواقع التي تغير عليها وعندما كان ينتفض قلبه ويرتجف ألقي عليه المزيد من الأغطية لتدثره من برد الخوف وجحيم القصف الذي طال كل شيء حتى ألعابه وملابسه وشبابيك وأبواب منزلنا . حسين نموذج لأطفال الحرب والحصار والانقسام الفلسطيني ، عرفت غزة كيف تحتضنهم ، لكنها عجزت عن مسح دموعهم وحمايتهم واستبدال ألعابهم الكئيبة والمخيفة بأخرى تشبه قطار حسين بتعدد ألوانه وتناسقها وحقيقة وجوده .. قطار يسير فوق الأرض يعانق ضوءها .. يحمل الأمل والمستقبل المشرق ولا يندس في الحفر ، وبالطبع لا يشبه قطاراً ممسوخاً سيروه في وهمنا وأطلقوه من بيت حانون حتى رام الله بثقب تحت الأرض ، وهو كل ما ألقته لنا اتفاقيات السلام الكاذبة ، ما يؤلم حسين ويؤلمني أن الدروب المضنية والوعرة التي سلكناها برحلة أبعدتنا عن بقية أحبتنا تحفر تفاصيلها كالأخدود على خارطة الروح والجسد معاً ، فلازال ينادي كل يوم على أخوته ، لكنه وفجأة يصمت بعد أن يدرك أنه وحده هنا وهم ظلّوا هناك يصارعون مشقة الحصار .. يمزقهم الشوق والحنين لأم وأخ صغير رحلوا في جوف ليلٍ مظلمٍ ، يبحثون عن الوطن وعن قطار عودةٍ نسجته النكبة في عروق أعيننا أملاً لا يموت . تعتق من صدى صافرة قطار حسين وهو يجوب المسافات البعيدة ويصل المدن بالمدن ليرسم وطناً آخراً حلم به في طريقه إلى رفح وعشقه عندما اندس كالرصاص في عينيه وصدره وهو ينظر إليه من خلف معبر بيت حانون ، معابر أدمنها الحزن ولفظها واقع الاحتلال سجوناً متلاصقةً تمتد بقيودها بالوطن وخلف الوطن ، وتشتد فيها ريح الفرقة والتجاذبات السياسية ، والمساومة وقهر الاحتلال ، ووطن نلمه من بين أشلائه ونشتاقه في أغنية إذا ما عبر ببرهة خاطفة بين الدموع والقبل ، بمحطة عابرة بالذاكرة يطفيء الوقت فيها كل قناديله .. وتغتالها صور الشهداء بشجونها العتيق وهي تختصر بسرعة المسافات بين زهر الحنون وقرميد يعرش فوقه عشب انتظار المخيم . ففي غزة كل شيء يمر بك على عجل .. أو قلق .. الفرح .. الخوف .. الحسرة .. الألم لرحيل الأحبة .. الموت حين يعبر بين شارعين ويمزق أجساداً صغيرةً ووجوهاً جميلة ويلصق بقاياها على حائط ، أو مقعد بمدرسة ابتدائية .. أو على لوحة تغطي نافذة محطمة كتب عليها نموت ولكن لن نركع . في غزة حيث ترقد أجساد الشهداء وتدمع السماء لتغريد أبو الجديان وهي تقف على باب منزلها تتلقى رصاصات الدبابات بشموخ أكبر من ربيعها الخامس عشر .. وهي تردد لن تكون حياتي أغلى من حياة من يقاتل ويستشهد .. في غزة كل شيء يغيب بالنشيد ويكتوي من زحام قتام ألقوه علانية على رؤوس أبنائها .. ويغتسل الأنين بين الأكف والرغيف .. تفترش الطفولة التراب لتنام عليه وتحلم واثقة ببقية فلسطين . في غزة يموت المستحيل ليبقيها العاشقة الواقفة تُدمى قدماها ويغزل نبضها قصة ألم وصلاة لم تكتمل .. وهجرة أخرى تُسربل عيون حسين بالذهول وتُسجي النهار فوق البيوت المهدمة مطراً أخضراً يبلل عشاق الأرض بالدم الطاهر .. ويعانق قبر تغريد بوردتين .. في غزة عيون حسين سمّرها الألم والحنين على أهداب المجدل وصفد ، والخليل ، لازالت تحدق رغم اغترابها في جبين الكرمل وتنادي قطاراً آخراً يمتشق الأرض والأفق .. ويرتشف الضوء كالقمح حين يُهَرِّب قصيدة في تفاصيل حلمه ويأخذه لحائط في بيته تهدم .. وزقاق تعطر بقامة الشهداء .. حيث تطل مقل فلسطين .. ويبصر حسين فيها قطار عودته .. ليرتمي في حضنها الدامي التّعب .
#بثينة_رفيع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مذكرات طفل محاصر ( البرتقال )
-
بين السلام والحرب
-
من مذكرات طفل محاصر ( لن أنساك يا صديقي )
-
ذاكرة بحر
-
ورقةٌ من غزّة
-
عائدةٌ من حيثُ لم أذهبْ
-
لماذا يا أبي
-
ظلالُ رحيلٍ
-
لوحةٌ فلسطينيةٌ ليستْ للذكرى
-
مرافئُ جرح
-
المسافة بين معبر رفح والحوار الوطني
-
في زمن الردة
-
تراب يواسيك
-
حديد عتيق لأطفال فلسطين
-
عام من الحصار
-
عندما تنام دمشق
-
اليسار الفلسطيني بين التبعية والتهميش
-
فلسطين .. مساحة من دماء
-
حزيران ذاكرة جرح لا يموت
-
الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة
المزيد.....
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|