|
سَرْدِيَّةٌ أُخْرَى لِلرَّائِيَةْ
السمّاح عبد الله
شاعر
(Alsammah Abdollah)
الحوار المتمدن-العدد: 3039 - 2010 / 6 / 20 - 10:04
المحور:
الادب والفن
من قتل ميس إيجيبت ؟ ذلك هو السؤالُ الظاهريّ الذي يطرحُ نفسَه منذ السطور الأولى للرواية ، والذي لن يستطيع القاريء وضع أصابعه على إجابة أخيرية له ، حتى مع السطور الأخيرة لها ، والتي توهم القاريء أنها وصلت به إلى ما يمكن أن يشفي غليلَه ، وهو يبحثُ عن قاتلٍ واحدٍ ، أو قاتلين اثنين ، أو قتلةٍ كثيرين ، حتى مع هذه السطور التي تعرِّي مجتمعا بأكمله ، وتفضحُ تاريخا بتفاصيله ، نصفه كاذبٌ ، ونصفه مُزَوَّرٌ ، وتكشفُ جغرافيا شيمتها القبحُ ، ورائحتها عطنةٌ ، وأسقفها نازلةٌ على ساكني حجراتها بمطرٍ أسود لا يبلُّ غلة ، بقدر ما يزيد العطش .
نعم ، ولآخر أحداث القصة ، وحتى بعد أن تفضح الراوية نوايا الوارثين ، وتكشط بحبرها الأسود الجاف هذه الطبقة السميكة الناعمة من على وجوههم ، لتظهر ، ربما وللمرة الأولى في سرديات الطرح الإبداعي الحداثي ، جلدَهُمُ المخنثَ الأنانيَّ ، وضمائرهم الخربة المختبئة تحت ستراتهم الكاكية ، وأزرارهم اللامعة ، لآخر هذه الأحداث ، لن يكون القاريء قد وضع يده على القاتلِ أو القاتليْنِ أو القتلة ، وذلك ليس لخطأ تراتبي ارتكبته الكاتبة في بنيان الحكاية ، ولا لكسلٍ مظنونٍ في عملية التلقي ارتكبها القاريء آناء مرور عينيه على سواد الورق الأبيض ، وإنما وتحديدا ، لأننا جميعا قراء وكتبة ، لا يعنينا فكُّ شفرة مثل هذه الأحداث التي تبدو بوليسية للوهلة الأولى ، والتي يبدو حلُّ لغزها غاية في السهولة ، نحن ، قراء وكتبة ، سنكتشف أننا والِغُون في حب القتيلة ، ووالهون في استشراب تفاصيل ملامحها الربَّانية ، وسنكتشف – أيضا – أن أصابعنا وهي تبحث عن القاتلِ أو القاتليْن أو القتلة ، ليست بريئة تماما من دمائها ، وأننا – كلنا – مشاركون في إلباسها زينتها ، وفي ترتيل نشيدها بصوتنا المشروخ ، وفي تصويب مسدساتنا الدقيق على أحلى مناطق جسدها ، وفي تجهيز جثمانها ، وفي تشييع الجنازة .
مع سبق الإصرار ، لن يتاح للقاريء أن يجيب عن سؤال الراوية ، ومع سبق الترصد لن تصرح هي جهرا بهذه الأسماء المخبوءة والمعلنة ، ذلك لأن ثمة ميثاقا غير معلن ما بينهما بإضمامة الفعل ذاته داخل ثنايا الفاعل والمفعول ، ليتسنى لنا أن ننحي جانبا حالة القتل ، ونتابع حالة القسوة ، تلك الحالة التي تكاد تكون هي البطل الحقيقي لكل هذه الحكاية ، قسوة تغلف حتى أرق وأحلى وأصفى لحظاتنا الحانية ، تابع معي أيها القاريء هذه العاهرةَ الخمسينيةَ ذات الألقِ القديمِ ، والأرقِ المقيمِ ، وهي تستدرج رجلا لشقتها عنوة ، وتعريه معنّفةً ، وتُنيمه على ظهرِه زاجرةً ، وتعتليه مرهقةً ، ولا تنقطعُ عن تدخين سيجارتها ، ولا تنقطعُ عن إصدار الأوامر إليه ، تفعل ذلك الفعلَ الحاني بكل ما أوتيتْ من قسوة ، وكأنها تعاقب الرجل على فقره ، أو تعاقب نفسها على جوعها الجنسي ، أو تعاقب الزمن الذي رسم تجاعيده على وجهها ، تابع أيضا هذه الخادمة الحنون ، المحبة حتى الوله لسيدها الجنرال المتقاعد ، والذي يبكي بين يديها ويبللُ أصابعَ قدميها بدموعه لكي ترقَّ له ، وتمنحه بعضَ الودادِ العذريّ ، لكنها تأبي ، وتستعصَي ، رغم عشقِها الذائبِ له ، واحتراقِها – في وحدتها – بلهيب هواه ، تابع كذلك ذلك الطبيب العارفَ المثقّفَ ، ضمير هذه الحدوتةِ ، ولسانها الناطق بالنور ، تابعه وهو يحدّثُ فتياته المتولهات به في الهاتف ، يزجرهنّ بفظاظةٍ ، ويسبهنّ بغلظةٍ ، وينهرهنّ باستعلاءٍ ، ( يحتاج هذا الطبيب العارف المثقفُ ، قطعةً أخرى من الكلامِ ، وفسحة ثانية من الكتابةِ تليقُ بملامحِه ) ، ثم تابع معي أيضا ذوي الذقونِ الكثيفةِ ، والأقوال التي تتسنّدُ على جلدةِ كتابِ الله ، وهم يسمُّون باسم الله قبل أن يذبحوا ضحيتهم ، تمامًا كما يذبحون خراف الأضحيات .
إنها القسوة ، ذلك العنوان الآخر لهذه الرواية ، العنوانُ الذي لم تشأ الساردة أن تصدمَ به عيون من يتصفحون الأغلفةَ في ميدان طلعت حرب ، واستبدلته بعنوان آخر ، يشدّ عيون البنات الباحثات عن عرش لجمالهن ، ويخطف قلوب الفتيان الباحثين عن ملكات يحملن اللقب ، استبدلته الساردةُ ، لا لتخدعهن وتخدعهم ، وإنما – كما يليق تماما بحكّاءةٍ تمتهن الموضوعية – اختارت ذلك العنوان الحياديّ ، وكأنها بريئة من فعليْ القتل والقسوة .
البهيج في هذه الأقصوصة هو الفن ، المفرحُ في تلك الحكاية هو الحبكة ، المُسعِدُ بين كلّ تلك الشخصياتِ هو الحاكيةُ الذكيةُ بقدراتها النثريةِ الباهظة ، وإمكاناتها الشعريةِ التي تتسللُ لضمير الكتابةِ ، فتعلو بالحروفِ لتصلَ إلى حوافِّ الحكمةِ ، تماما كما ستظل المنتحرِةُ في حكايتها معلقةً على حوافّ الهواء لا ميتةً ولا عائشة ، ولكنها – وبعد أن تطلقَ الرصاصَ على رأسها ويسقطُ جسدها – لن تصدق أبدا أنها ماتت وتظلّ تصوّبُ داقةً بالرصاص على رأسها إلى ما لا نهاية ، وإذا كانت هناك كاميرا تستطيع التقاط صورتها في الأبد ، فستلتقطها صورة واحدة .. من شدة وسرعة تكرارها ستكون ثابتة .
إنه الشعر سيدُ الكلامِ ، وإنها الشاعرة عارفةُ الحكي ، هما اللذان سوف يصعدان بك من سطور ورقات الكتاب ، لتعلو فوق صِغرِ سؤالِ ( من قتل ميس إيجيبت ) .
أما إذا سألتني أيها القاريء العزيز قائلا : ما اسمُ هذه الروايةِ يا كاتبَ الكلامْ ؟ سأجيبك : اسمها ( ميس إيجيبت ) . وإن سألتني يا عزيزي القاريء : وما اسم هذه الرائيةُ التي كتبتها يا صاحب المقال ؟ سأقول لك : إنها سهير المصادفة .
============ السمّاح عبد الله ============
#السمّاح_عبد_الله (هاشتاغ)
Alsammah_Abdollah#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواء طازج - 3
-
سلفادور دالي
-
انخطاف
-
ورود يانعة لنا كلنا من رجل واحد
-
انظر وراءك في فرح لتكتب شعرا حقيقيا
-
من أين أقتطع خبزة القصيدة ؟
-
خراب السقيفة
-
فرلين
-
عن مكاوي سعيد
-
تصاوير ليلة الظمأ
-
أقوال المرأة البليلة وتفاسير أقوالها
-
أغنية البحار
-
فتنة الذكرى
-
معزوفة للحمائم البعيدة
-
الشهداء
-
استراحة المحارب
-
خدعة
-
الرجل بالغليون في مشهده الأخير
-
كلام عن عبد الرحمن الداخل
-
صلاح عبد الصبور
المزيد.....
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|