|
أرض الميّت
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 3039 - 2010 / 6 / 19 - 12:10
المحور:
الادب والفن
الإهداء: إلى (بابا أونتي) أمي. أول من أرضعتني اللغة النوبية وآخر من قد تقرأ هذا الكتاب لأنها لا تحب الروايات ----------------------------------------------------------- [الفصل الأول]
كنتُ منتبهاً لصوت الجدة مِسكة المتشائم، ومتأثراً به، وهي تحكي لنا عن وفاة أحد أعظم الأساطير التي مرّت على قريتنا والقرى النوبية على الإطلاق. وظلت سيرة هذه الشخصية الأسطورية -التي تسببت في تسمية الأراضي التي سكنتها بعض القبائل الأحمسية السمراء- تتردد على ألسنة عجائز القرية، وشيوخها جيلاً بعد جيل؛ إلى الحد الذي جعل الرواية تخضع إلى عمليات تحريف شعبية واعية واسعة النطاق، فأضاف إليها البعض من مخيّلتهم الخاصة؛ بينما اعتمد البعض الآخر على ذاكرته التي أصابها العطب والصدأ بفعل تقدّم السن. ولكنني تأثرت برواية الجدة مِسكة التي روتها لنا بتفانٍ غير مسبوق على حلقات متسلسلة، فكنا ننتظر الظلام وهو قادم يتهادى على مهل فوق سفوح جبال ميمن توّو الجنوبية؛ كغريب يدخل القرية على خجل، فنجلس في نصف دائرة: أنا وأبناء عمومتي، وبعض الفتيات لنستمع إلى ما تبقى من حكايات جلال التمتام.
ومازلتُ إلى الآن قادراً على تصوّر مشهد وفاته الذي لم يشهده أحد، وخضع لتكّهنات الرواة من هيئته التي رأوه عليها عندما عثروا عليه ميتاً على سريره ممسكاً بصورة سيّدة بيضاء. والضوء الذي يمر متسللاً من خلال النافذة المتهالكة على تجاعيد وجهه الذي كجلد تمساح أمازوني، عرّى تواريخها. ذلك الضوء الذي كنهر هادر من آلاف اليرقات الضوئية، يعبر بين ثقوب النافذة الخشبية المطليّة بطلاء أزرق، ناشراً رذاذ أشعة الساعة الثامنة صباحاً على طول المجرى الضوئي المستقيم، مجنونة كإحدى لوحات سلفادور دالي السريالية.
كل الذين رووا قصته أجمعوا على أن الحزن كان أكثر الملامح إضاءة في قسماته المُتعَبة. الهواء الصباحي البارد كان يصفع الباب الخشبي بصفائح الألمنيوم المتآكلة، كأنه جسد كركدن أفريقي معتد بنفسه. والإهمال والغبار يعمّان المكان، ويتركان أثرهما بوضوح في كل ركن. جلال التمتام الأشهب القادم من المجهول حاملاً في قسماته ملامح نادرة، وفي لغته لكنة غير مألوفة، كان له قنٌ يُربي فيه: ثلاث دجاجات، وديكاً أعرجاً لا يُلقّح ولا يُؤذن، وكلبٌ أسود بذيل مقطوع، يُذاع عنه أشياء مُريبة، ويُشكّ في أمره. عندما أقدم الكلب على عضّ صابرين ابنة العمدة ليلة عيد أضحى، لم يجرؤ –حتى إمام القرية– على إمساكه وحقنه بالسُّم. العمدة نفسه كان يقرأ المعوذتين، وينفث عن شماله ثلاثاً كلما رآه، ويردّد بصوت عال ليسمعه الكلب: "أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق!" وظنّ أن ذلك ما يبقيه في حرز منه، وآمن أنّ تلك الكلمات سرّ نجاته من هجمات الكلب العدوانية.
لا أحد يعرف على وجه الدقة من اكتسب الشهرة من الآخر: الكلب الأسود أم ابنة العمدة؛ إذ لم تخل مجالس الرجال من ذكر تلك الحادثة، وأصبح الأمر فاكهة الليالي الخمرية التي اعتاد عليها الشباب في القرية. جاء الناس راجلين وراكبين من كل الأصقاع البعيدة والقريبة ليحمدوا للعمدة سلامة ابنته. وجاء حكيم القرية ليحقن الفتاة المسكينة بإحدى وعشرين حقنة في سرّتها أمام دعوات الجميع لها بالشفاء والسلامة من داء الكَلَب. آمن أهالي القرية أن تبوّل كلب التمتام –والكلاب السوداء على العموم- على عتبات البيوت، يعني نذير شؤم موشك. فلم يسمحوا للكلب بالاقتراب من بيوتهم، أو حتى التفيؤ تحت ظلال جدرانها الجالوصية المتهالكة في ساعات الظهيرة الحارقة. وربما نال حياته بقدر ما نال صاحبه من الاحترام والتوقير.
بعد وفاة الشيخ العجوز، قرر بعض الفتيان -من بينهم هارون عزيزة- مطاردة الكلب الأسود العجوز وقتله، واعتبروا ذلك واجباً دينياً مقدساً، وشرفاً سوف يستحقون عليه الثناء والمجد من أهالي القرية. هارون عزيزة وجدها فرصة مناسبة لكسب احترام الأهالي الذين نبذوه بعدما وشت به مجموعة من الأطفال عندما اختلس النظر إلى فتاة بالغة وهي تتغوّط في الخلاء، فكان أكثرهم حرصاً وحماسة لمطاردة الكلب؛ بل وأكثرهم شراسة في الفتك به. اعتبر أنّ دماء الكلب الأسود خلاصه من العار الأبدي. وبموت الكلب الأسود وصاحبه التمتام، انقلبت أحوال القرية رأساً على عقب، ولم تعد تهنأ بالراحة.
هارون عزيزة لم يشأ أن يفوّت الفرصة، فلم يكتف بضرب الكلب بفأس صدئة على مؤخرة رأسه، وإنما حمله على كتفيه وسار به مزهواً في شوارع القرية الصخرية، كفارس إغريقي نبيل يحمل رأس وحش همجي أرّق مضاجع الأميرات. مرّ أمام بيوت القرية على مهل، رافعاً جثة كلب التمتام فوق رأسه مستقبلاً زغاريد النساء الواجلات في صلف لا تخطئه عين. لم تستطع الجدة مسكة التحقق من شأن هارون عزيزة حول أسباب الاحترام الذي ناله من أهالي القرية ما إذا كان عائداً إلى همّته في قتل الكلب، أم بسبب نبوءة التمتام؛ إذ تذكر أنّ جلال التمتام، مرّ ذات أمسية -وهو في طريقه إلى بيته- برهط بينهم هارون عزيزة نفسه، فأشار إليه بعصاه المعقوفة وهو يقول: "ما أسعد القرية بك؛ إنك ستعيش مرتين، وتخون مرتين، وتسكن هذا البيت." وأشار إلى سرايا العمدة، وضحك الجميع.
أوصى الشيخ عبد الصبور إسماعيل دهب إمام الزاوية اليتيمة في القرية آنذاك بتعليق الكلب الأسود -بعد قتله- على سارية كانت فيما مضى جزءاً من ساقية أنشأها أبوه طيّبُ الذكر الشيخ إسماعيل دهب. قال: "يمكننا استخدام جيفته طُعماً للتماسيح، والوحوش الضارية التي تهدد أبناء القرية وأطفالها ومواشيها، أو فلتكن طعاماً للجوارح التي تحمل في حويصلاتها أرواح الأطفال الميّتين، ذلك أدعى للرحمة." ولذا أسموها "سارية الرحمة".
أصبح ذلك فيما بعد سُنّة جارية، فبينما يُدفن الموتى في الضفة الأخرى من النهر، تُعلّق الضباع والكلاب السوداء والبهائم النافقة، والحيوانات الأليفة المريضة بعد قتلها على السارية، وقيل أن ذلك هو السبب في تسمية القرية بأرض الميّت. وقيل إنها سميّت كذلك لسبب لا يتعلّق بجلال التمتام على الإطلاق؛ إذ حكت الجدة مسكة أن أهالي القرية تفاجئوا ذات صباح بجثة شاب غريق ملقاة عند حواف النهر الصخرية، ولم يستطع أحد التعرّف عليها، وإن الشيخ عبد الصبور دهب أوصى بدفنها في مدافن القرية بعد ثلاثة أيام، إن لم يأت أحد للبحث عنها. ثم إن ذوي الغريق جاؤوا بعد ذلك بأيام ليكتشفوا أن ميّتهم مدفون بهذه الأرض الغريبة؛ وربما أطلقوا اسم "أرض الميّت" على القرية أول مرّة، واشتهرت به بعد ذلك. وإذ أن المنطقة التي يمر بها النهر بمحاذاة القرية اشتهرت بحوافها الصخرية المسننة، فقد كان أهالي القرى النوبية الأخرى يأتون للبحث عن غرقاهم في أرض الميّت، آملين أن يجدوا جثثهم وقد نجت بمعجزة من أنياب تماسيح النهر وأسماكه الشرهة، وتعلّقت بأنياب الصخور الملساء، ولم تخيّب القرية ظنّ أحد إلا ما ندر.
الرجال الذين جاؤوا بحثاً عن الغريق، حكوا لأهالي القرية عن ميّتهم: إنه اعتاد الجلوس على تلة رملية بيضاء قرب النهر وقت الغروب، يدخن البنقو، ويُردد الأغنيات التي لا يرغب في سماعها أحد، وأنه حكا للجميع عن الجنيّة التي خرجت إليه عارية من مياه النهر، وقبّلته، وطلبت منه أن يتزوّجها، وأنها أغرته باللحاق بها في النهر. وتمكن صيّادون ليليّون من إنقاذه. وشاع في القرية خبر الجنيّة اللعوب التي تتصيّد الشبان، وتغري بهم لتجعل نهايتهم على يدها: إما غرقاً في النيل، أو خلف جبال ميمن توو الجنوبية. ومازال يُشاع حتى الآن في أرض الميّت أنّ الأطفال عندما يموتون تتخطّف الجوارح الجائعة أرواحهم في طريقها إلى السماء، فتسكن حويصلاتها لأنهم لا حساب لهم أمام الله، أو يغدون ملائكة صغيرة؛ لا يُوكَل إليهم تلك الأعمال الشاقة التي تُوكل إلى الملائكة، فقط يحوّمون في الأرجاء يهبون السلام والرحمة لذويهم ولمن هم في الأرض.
يؤمن أهالي القرية أن أرواح هؤلاء الأطفال المحمولة داخل حويصلات الطيور سبب في خصوبة الأرض، ونجاح مواسمهم الزراعية، لذا فإن الأهالي لم يمنعوا الطيور من أن تحط على أشجار مزارعهم. وبينما تقتات الطيور على ديدان الأرض، ويرقات المحاصيل الضارة وجرذان الحقول، يوعز المزارعون نجاح مواسمهم الزراعية إلى رضا الأرواح، ودعمها الذي لا ينقطع إلا عندما يغضبون، فتزحف الغربان السوداء على المزارع، وتأتي على الأخضر واليابس وتقضي عليه، فتقيم النساء المناحات حزناً على تعاسة أرواح أطفالهن الراحلين.
قيل إنّ الشيطان يتشكّل في أجساد الكلاب السوداء، فيدخل البيوت ويبث فيها الشرور والأحقاد، وأوعز البعض حوادث غرق المراكب النهرية إلى أنّ بعضها تتسلّل إلى النهر، وتستحم وتشرب منه؛ فأطلق شبان القرية وشيبانها حملة للقضاء عليها كانت الأشرس في تاريخ القرية كلها. ثم عمّت الحملة كل الحيوانات السوداء: قطط، عقارب، أفاعي، غِربان. وأُصيبت القرية كلها بلوثة اللون الأسود. حدث هذا بعد خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ عبد الصبور دهب (إمام القرية) وحذر فيها أهالي القرية من الكلاب السوداء التي تسكنها الشياطين؛ ولذا فإنهم رأوا في قتل كلب التمتام الأسود واجباً دينياً مقدساً. كل ذلك ساعد على إقناع الأهالي بأن قريتهم تعج بالملائكة والشياطين، وأغلب الظن أن هذا هو فهرس الحياة السرّي.
قالت الجدة مِسكة فيما يُشبه العتاب المؤدّب: "إنّ العجوز التمتام دُفن دون مناحة تليق بسنوات عمره الثمانين، أو بمآثره التي لا تعترف بها إلا النساء فقط. ولم يترك ورائه ما يجعل الآخرين يتذكرونه به غير كلبه المعلّق على السارية، وثلاث عشرة حفرة متفرقة في جسد القرية الحجرية، وبعض الخردوات التي يحتفظ بها في حقيبته القماشية". ولم يدع أحد الرواة معرفته باسم جلال التمتام بالكامل، ولكنهم ذكروا أن (التمتام) لقب أُطلق عليه لكثرة تأتأته.
جاء إلى القرية قبل سنتين من وفاته، ولم يحمل معه –وقتها- غير حقيبة قماشية يجعلها على ظهره، وتميمة معدنية يضعها في يده اليسرى، وكلبٍ أسود يتبعه لاهثاً بلسان متورّد ورطب. سكن أطراف القرية، وأقام خيمته المصنوعة من مادة غير مألوفة على تلة يستخدمها كَلَس كمئذنة يرفع منها آذان المغرب في المواسم الرمضانية، ورغم أنّ جلال التمتام جاء في غير مواعيد رمضان؛ إلاّ أن أهالي القرية اعتبروا ذلك مساساً بمقدساتهم، وقرروا طرده وحرق خيمته، وكادوا أن يفعلوا لولا تدخل العمدة.
وبفتوى من الشيخ عبد الصبور دهب تم منع النساء من النياحة عليه بعد موته؛ رغم أنهن الوحيدات اللواتي أحزنهن رحيله فعلاً، فلم يبكين عليه إلا سراً. وعادت للتلة قداستها؛ حيث تتنزّل الملائكة بعد غروب شمس كل يوم دون أن يتمكن أحد من رؤيتها. وأكدّ البعض أنهم رأوا خيالات ضوئية خضراء وبيضاء تلّف التلّة بعد وفاة التمتام بيومين، وفسّر الشيخ عبد الصبور تلك الأضواء بأنها الملائكة، وأكّد بأنه ليس بإمكان أيّ بشر رؤية الملائكة عياناً؛ إلاّ أولياء الله الصالحون الذين يخصّهم بكراماته ويكشف عنهم حجاب الرؤية. وظلّت سيرة الضوء الذي لم يشهده إلا أموات القرية حجّة على قداسة التلّة التي أصبحت في مقام جبل عرفة من الحجاز؛ لذا فإن عمدة القرية أمر –بإيعاز من شيخها- أن تُسوّر التلّة بسياج له باب. وتولّت عائلة كَلَس حراسة التلّة، واحتفظوا بمفتاح بابها الزنكي المتين، ومُنع الناس من التبوّل أو قضاء الحاجة عندها.
وحسب رواية الجدة مِسكة فإن رجال القرية وأطفالها تجمهروا على باب خيمة الغريب التي كثمرة إجاص عملاقة حاملين العصي والحجارة، في انتظار أن يخرج إليهم الغريب، ولكنه خرج راسماً ابتسامة سلمية حذرة على وجهه، وهو يستقبل العمدة وضيوفه: "يمكنني أن أجيب عن أيّ سؤال تشاءون؛ إلاّ فيما يتعلّق بجهة قدومي. أنا بينكم الآن لأن العالم انتهى بي هنا، وهذه التلّة طيّة العالم الكبيرة. أحببتُ أن أموت في هذا المكان الجميل. ماذا يضيركم إن بقي بينكم رجل عجوز مثلي؟!" أخرج التمتام بعض الأدوات المعدنية من جُراب جلدي قديم معلّق على عارضة الخيمةِ، ونثرها أمام الجميع: "هذا كلّ ما أحمله." نظر الناس بدهشة إلى الخردوات التي يحملها، وكتموا ضحكاتهم، بينما قال العجوز الغريب:
"هذه آخر أسرار الفيزياء الحديثة. الإنسان ينوي أن يطوي العالم في كفّه، وهو في طريقه إلى خلق معجزاته الخاصة، البعض يتحدث عن عصور قادمة لن يحتاج فيها الإنسان إلى الحركة؛ حيث سيكون كل شيء بضغطة زر واحدة، وسيكون للأسلاك المهملة شأن عظيم في تواصل البعيدين وتقريبهم من بعضهم، وستعود الخيول والجمال والحمير إلى البريّة؛ إذ لن يكون الإنسان بحاجة إليها في تنقلاته، ربما تصبح أداة لتسلية إنسان ذلك العصر! سوف يعرف الناس الضوء الذي يوقد بلا زيت، يوقد بالأسلاك والأزرار، وعندها لن تعودوا بحاجة إلى فوانيسكم التي ستوُدع المتاحف. هل تعرفون المتحف؟ وسوف يتوقفون عن كتابة الخطابات والزيارات، سوف يكون كل ذلك تراثاً لا يتبعه إلا الفقراء والجهلاء فقط. سوف يتمكن الإنسان من رؤية الشياطين والجن بعينيه، ويختفي هو عن الأنظار! سوف يُصبح هو أسطورة يخشاها مردة الجن، ويُجنبون أبنائهم منهم. سوف يُصبح الإنسان قادراً على رؤية ما وراء الأشياء الصلبة، والدخول من خلالها. هذه ليست محض أمنيات أو خيالات. سوف تنهار الأسرة ويتبادل الجميع الأدوار، فمن كان له ابنة أو ابن فليسعد برؤيته الآن وليتمتع بحسّه الأبوي؛ فربما لن يعود هنالك أبناء. سيكف الإنسان عن مغازلة القمر في أغانيه وأشعاره، ويصعد إليه في زيارة سياحية كل عام! الراكضون وراء الإبل والأغنام سيجدون ذلك مضحكاً، ولكن تلك هي الحقيقة."
كلماته المتعجرفة تلك جاءت موافقةً لبريق ماكر لمع في عينيه. رفع حاجبه الأيمن الكث حتى ظنّ الناس أنه سيقع، استغربوا كيف أنّ شعر حاجب أكثر كثافةً من الآخر. ملامحه تلك أشعرتهم بالخوف منه، إضافةً إلى طريقة كلامه المليء بالطلاسم المخيفة، والعبارات المبهمة. مدّ التمتام يده داخل جُرابه، وأخرج قطعةً معدنيةً غريبةَ الشكل، وضعها بشكل عمودي على الأرض، وراح يضغط على طرفها العلوي بسبابته؛ فأخذت تتراقص بمرونة، ثم أفلتها فجأةً؛ فقفزت كجراد مذعور في حقل يحترق. تعجّب الأهالي للمعدن الطيّار، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يتعرفون فيها إلى النوابض المعدنية.
ثم مدّ يده -مرة أخرى- وأخرج أداة أخرى، وأبدى –هذه المرة- اهتماماً بالغاً بما يفعله. تجمهر الناس حوله، وهو لا يفعل شيئاً غير الإمساك بتلك الأداة غريبة الشكل. بدت لهم كقرص زجاجي تافه لا جدوى منه، وانتفضوا مذعورين عندما بدأ اللهب يشتعل في الأوراق اليابسة تحتها. سبحلَ البعض بصوتٍ عالٍ: "سبحان الله .. سبحان الله"، ونظروا إلى بعضهم البعض وهم يضحكون. قال أحدهم: "لقد عاد عصر المعجزات!" الوحيد الذي لم يعجبه الأمر هو الشيخ عبد الصبور دهب؛ فقد نهض مفزوعاً من مكانه كالملدوغ وهو يقول: "هذا سحرً، هذا فعل شيطاني، لا يجوز. حرام!" وغادر المكان وهو يكرر: "استغفر الله العظيم .. استغفر الله العظيم!"
عمدة القرية لم يكترث كثيراً لفزع الشيخ عبد الصبور، وشغله اندهاشه عن ذلك. تقدّم التمتام منه، وهو يمسك أداة أخرى غريبة الشكل، قال: "أمّا هذه فتسمى (عين الشيطان). خذ، أمسكها يا عمدة وانظر من خلالها". لبعض الوقت؛ تردد العمدة؛ وخاف أن يؤدي ذلك إلى فقدانه بصره، خاف أن يخرج منها مارد شيطاني، ويتمكن من الدخول إلى جسده عبر عينيه فتحرقهما: "ماذا تريدني أن أرى بهذا الشيء؟ أنا لا أؤمن بالسحر." ضحك التمتام، وأخذ ينظر من خلالها ناحية القرية: "سترى القرية -كلّ القرية- بين يديك، لا يحق لغيركَ أن يراها كذلك."
عندها قفز العمدة مدفوعاً بشغف السلطة والفضول. نظر إلى القرية فرأى البيوت وكأنها أمام عينيه تماماً. رأى الشيخ عبد الصبور راكباً حماره وقد تعلّقت ثمرة نبتة شوكية بعباءته، بدا قريباً لدرجة أنّه مدّ يديه لينتزع الثمرة الشوكية عن عباءة الشيخ عبد الصبور، ولكنه لم يتمكن من ذلك، أزاح الآلة عن عينيه؛ فرآه بعيداً جداً عنه فصرخ مجدداً: "سبحان الله!" وتهافت البقية على العمدة يريدون أن ينظروا من خلال الآلة العجيبة فزجرهم: "لا أحد يحق له النظر من هذه العين الشيطانية إلاّي؛ وإلا ستحتقرون." ابتسم التمتام في سخرية وقال: "حضرة العمدة، هذه الآلة تسمى (المنظار)، وهي إحدى منجزات الفيزياء الحديثة". مسح العمدة أنفه وسأل: "وما الفيزياء؟"
--------------- أرض الميّت: رواية صادرة عن دار سندباد للنشر والإعلان - مصر/القاهرة
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بتروفوبيا - 7
-
بتروفوبيا - 6
-
بتروفوبيا - 5
-
بتروفوبيا - 4
-
بتروفوبيا - 3
-
بتروفوبيا - 2
-
بتروفوبيا - 1
-
رواية أرتكاتا
-
شركاء التوليب
-
الحزب الأسود
-
الموت ليلة البدرنار
-
رحيق البابايا
-
رؤية حول إضراب أطباء السودان
-
محاولة لتبسيط العالمانية
-
الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
-
فن الثورة
-
أكمة الإعلام المصري وما ورائها
-
رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
-
رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
-
الإنسان: المطلق والمقيّد
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|