|
رواية خطى في الظلام - الجزء الثاني
خالد سليمان القرعان
الحوار المتمدن-العدد: 924 - 2004 / 8 / 13 - 09:56
المحور:
الادب والفن
في الصباح، وبينما هو ممدّد لا يزال في سريره مع إطلالة شروق الشمس، ظهرت "آمال" عبر السّاحة الممتدة، المتقابلة مع بوابة غرفته الواسعة، قادِمة، كان قد قضى ليلته قلقاً لم يستطع النوم حتى الصّباح، ظهرت له بوجهها المضيء كأشعّة الصباح، بينما بسماتها تفيض وهجاً تكاد لا تفارق وجنتيها أملاً لرؤيته مستيقظاً علّها تسمع رقيق كلماته. كان قد مضى على لِقائهما اليوم واللّيلة، وجعلها الوقت تهيم اشتياقاً. رمقها بنظرة، عندما شعر بوجودها، ثم استند قليلاً وصلته وهي تحمل بين يديها قاعدة بلاستيكية، فيها نوع من أشتال الورد لم يتفتّح بعد، اقتربت منه وتوقّفت، بعد أن وضعتها على مدخل بابه، انتابها السكون فجأة، وعيناها تبعث الحياة. - صباح الخير أدينان.. يبدو أنّك لا تزال مستيقظاً، لا بأس عليك. ابتسم، وهو يعاود استناده جيداً على ظهره من على السرير - اجلسي "آمال". صباح الخير، لقد افتقدتك كثيراً .. كان قد أشار لها بالجلوس بينما عيناها لا تفارق عينيه.. ثم أضاف: سكناك في "غوط الشعال" يقلقني، إنّه بعيد ولا أدري ما أقول ولا يمكن السكنى في هذا الفندق بسبب سلوك الفتيات فيه. ردّت عليه: - لا عليك "أدينان"، أنا أعيش معتادة على هذه الحياة الصعبة، أذهب مساءً وأعود صباحاً، أشعر أنّني أتمتّع بوقتي هكذا. سادهم الصّمت لحظات والسعادة تغمر كليهما، فقال "أدينان" وهو يحاول القيام للاغتسال: - يمكن أن تنالي سكناً ما هنا، داخل المدينة، حتى لو كان باهظ الثّمن، إنّهم لا يعارضون سكن الفتيات. تجاهلت "آمال" الأمر، وبادرته قائلة: - كي لا تذهب إلى المقهى وتتناول قهوتك. فقد أعددتها، عليّ أن أذهب لإحضارها. فردّ عليها: - كما تشائين، يمكن لي أن أشربها من يديك، و"زيريني" الذي لا يزال نائماً. - سوف أعود الآن. قالتها ونهضت مسرعة، لا تكاد تصدّق أنّه وافقها على شرب القهوة من يديها. تفكّرها "أدينان"، عندما أعطته ظهرها لإحضار القهوة، تأمّل سعادتها وهي ترتدي لباسها الريفي الرّخيص، لم يسبق له وأن أبدى تعاطفاً على فتاة مثلها، تذكّر بساطته في صغره، تذكّر نفسه كيف يعيش غريباً طوال حياته، عرف أنها صنعت منه قلباً كالصخر، كان يريد أن يقول لها شيئاً ليخرجها من حالها، لكنه لم يعرف كيف وهناك ما يمنعه، تذكّر ما قاله "زيريني" - أين أنت من الدنيا، أعرف أنّك أعجبتها وهي كذلك، فلا تنس أنّك مجرم يا "أدينان"، وهي من عامة النّاس، أمثالنا لا تملكهم الحياة، لقد هجرناها منذ زمن، وقد خرجنا عن حالة البشر. لا يمكن العودة، إنّك إن أردت الموت فلا تقتلني معك، أنت تدرك ما أقول، وإذا مات أحدنا سيموت الآخر لا محالة، إذا كنت تحبّها عليك أن تبعدها من هنا، ولتحيا عليك أن تموت أولاً. استجمع ذاكرته جيّداً عندما ردّ عليه وقال: - معك حق يا "زيريني" .. ثم ردّ عليه وقال: - إن أحببت انتهيت يا صاحبي. فقال بغضب: - اذهب. ابتسم "زيريني" وسأله: - إلى أين .. فقـال: - حيث شئت، سوف تعود، لن تجد من الدنيا ما هو أفضل، أرى هذا في عينيك. ابتسم حينها وقال مستنكراً: - لا أدري نحيا على وهم من الحياة، وكذلك ننتهي، وقدرنا أن نستمر. أقبلت "آمال" وهي تحمل بين يديها طبقاً يحوي القهوة وبعض من حبّات الباستي، وضعته على طاولة مخصّصة للجلوس في الساحة المتقابلة مع غرفة "أدينان"، قاصدة الجلوس معه، ثم توجّهت إلى غرفته وشعرت به يغتسل، تذكّرت "زيريني" فتوجّهت إلى غرفته هو الآخر، وطرقت بابه بأصابع يدها، وكان مستيقظاً، حيّته تحيّة الصباح ودعته إلى تناول القهوة، كان "أدينان" قد أقبل واضعاً بمنشفته على رأسه، وجلس حول الطّاولة الموضوعة في السّاحة، نظر إلى السّماء قليلاً، وكانت "آمال" قد جلست أمامه تنظر إليه، وبسماتها لم تتلاش بعد. بادرها "أدينان" قائلاً وهي تقدّم له القهوة: - أسعد دائماً عندما أراك سعيدة. ازدادت بهجةً، وبدت أسنانها الوضيعة ظاهرة من خلال ضحكاتها المتطايرة، حتى قالت: - ليس دائماً "أدينان"، لكنّي حقيقة أشعر بسعادة غامرة منذ أن إلتقينا. سكت قليلاً بعد أن استعد لإشعال سيجارة، بينما "زيريني" كان يقبل عليهم، بادلهم التحية، ثم جلس معهم، فأضاف: - ولكن .. ألا يزعج الإدارة علاقتك هذه انتابتها دهشة عابرة، وبسمتها تتلاشى. - لا أدري. قال لي "أبو عطية" أنّني أُبدي لكِ اهتماماً ولم أجبه، أمّا المدير الجديد "خالد" لا يبدو أنّ هذا الأمر يهمّه. - لا أقصد التدخّل، لا تشغلي نفسك بهذا الأمر، ولا أريد لكِ القلق أيضاً، طبيعة الناس هنا مألوفة لنا جميعنا، خاصّة تجاه الغرباء، لكن ما رأيك.. أعادت النظر إلى عينيه وهي تقدّم القهوة لـ"زيريني" وتلفّظت بخفة من خلال شفتيها: - رأيي! بماذا أدينان؟ فقـال: - لا أظن بأنّ مائة وخمسين ديناراً، تساوي شيئاً بالنسبة لكِ، إنّها لا تعادل ثلاثين دولاراً، إنّهم يستغلونك. شعرت "آمال" بالخجل وردّت عليه قائلة: - هذا صحيح. - يمكنني أن أمنحك راتب عامين. إضافة لتذكرة السفر، لتعودي إلى أمّك، ويمكننا أن نلتقي قريباً هناك، ريثما ننتهي من أعمالنا. ثم نظر إلى "زيريني" وأضاف وهو ينتظر الردّ من حواسّها: - إذا كان هذا المبلغ متوفّراً أحضره. نهض "زيريني" قبل أن يرتشف قهوته،غاب لحظات، بينما هي تفكّر، ثم عاد ووضع بربطة من الدولارات على الطّاولة.
أصبحت "آمال" متوتّرة على غير عادتها، بينما دموعها أخذت تتساقط على وجهها الوردي، وجسدها يرتعش، مدّت بيديها وأخذت تتفحّص النقود، أخذت تعدّها، فتجاوزت العشر ورقات فئة المئة، ثم توقّفت، ابتسمت بحزن وهي تتمتم بلكنتها البربرية باستغراب: - حـ.. حسناً أدينان، أليس هناك أكثر؟ عاود النّظر إلى "زيريني" وقال: - هات كل ما لدينا. فنهض "زيريني" مرّة أخرى، والصّمت يحيط بهم جميعهم بينما العيون لا تفارق بعضها، وحتى عاد "زيريني"، وضع بظرف كبير أمامهم، وقال: - كل ما لدينا أيّها الصّاحب. فتناولتها وأخذت تعد بها، كانت أكثر من مئة ورقة من نفس الفئة التي أحصتها بالسابق، كان "أدينان" يتابع حركة يديها بالنقود. فقال: - يمكنني أن أوفّر لك أكثر من هذا حين وصولك، سوف تصلك حوالة. رفعت برأسها ثم نظرت إلى "أدينان"، وقالت: - يمكنني أن أصنع أشياءً كثيرة بهذه النقود، ويمكنني أن آخذ قومي ليسكنوا المدينة، أنا لم أعد بحاجة لشيء الآن، حتى لك يا "أدينان". فأخذ "أدينان" يبتسم وكذلك "زيريني" الذي قال وهو ينظر إليها: - سوف أذهب الآن وأحجز لكِ مكاناً في الباخرة. وهمّ "زيريني" من مكانه، وتوجّه إلى غرفته؛ ليرتدي ملابسه، وقبل أن يدخلها، نادت "آمال" بصوت باكي: - زيريني. فالتفت إليها فجأة، وقال: - ماذا يا آمال، لقد انتهينا من هذا الأمر فقالت وهي تنظر إلى "أدينان": - يمكن لي أخذها، ولكن دونكم، فلا أستطيع، يمكنكم أن تبعثروها في الأماكن التي تسهرون فيها كلّ ليلة. لم يجبها "زيريني" فاستمر يسير حتى دخل غرفته. أمّا "أدينان"، فطأطأ برأسه وهي لا تزال تحدّق به، أشعل سيجارته، وهو يستمع لها: - أشعر بما أنت فيه، أدرك ماذا تعني حقيقة سفري بالنسبة لك، أنا أعيش في قلبك ولا تظن أنّني الفتاة الحمقاء، لا يهمّني من تكون، ومن أصبحت، حتى لو قضيت على الناس جميعاً. أسندت بيدها على الطاولة، ثم نهضت، وتركت كلّ شيء أمامه، ذهبت وهو يتابعها بعيونه. لم يتبادل "أدينان" مع "زيريني" كلمة واحدة طوال نصف ساعة وهو يفكّر فيما حصل، لم يعتد على أحد بكسر توجهاته منذ سنين طويلة، حتى "زيريني"، لم يعترض، عندما طلب منه كل ما يملكونه من مال، لكن حقيقتها لديه كانت أقوى مما حصل، وهو يكنّ لها وجوداً آخراً مختلفاً. تذكّر تلك الفتاة في فندق "النجمة"، عندما طلبت منه مغادرة البلاد بسبب الفساد الذي يحلُّ في كل مكان من المدينة، إنّها حتى أصبحت تبكي بجنون كونها حصلت على ذلك، لا تكاد تصدّق ما حصل، لأنّها ستخرج من جهنّم بعد أن تورّطت. كان في قرارة نفسه، يميل إلى مساعدة المغتربين والمشرّدين ويراعي أحوال الكثيرين منهم عندما يحيطونه، ذهب إلى ذلك اليوم وهو يتناول مشروبه في صالة "النّجمة"، عندما حاول رجلين أمنيين إخراج إحدى الفتيات رغماً عنها من "المقهى" للتمتع بها وامتنعت. كان "أدينان" قد سأل "زهرة" عاملة المقهى عن السبب فأجابته، إنّهم معتادون على إخراج الفتيات هكذا، لم تخرج الفتاة معهم كونها مريضة، ولا تملك العلاج. فناداها "أدينان" دون التخوّف منهم، وأجلسها على طاولته متحدّياً، فخرج "رجال الآمن" وكان أحدهم ضابطاً في إدارة "البحث الجنائي" يدعى "فرج" تعرّف على وجه "أدينان" وخرج حاقداً، لم يسألها "أدينان" وهي تبكي شاكية أمرها، فمدّ لها مئة دينار، فسألته سفرها. فدعا "زيريني" الذي وفّر لها ذلك. عندما خرج "أدينان" يرافقه "زيريني" من "الفندق" تابعه "فرج" بسيارته الخاصة، بينما هو يسير في شارع "عمر المختار" بسيّارته أيضاً. توقّف "أدينان" عندما حاذاه ونزل. وكذلك "فرج" الذي باغته يقول: أعطني جواز سفرك. فردّ عليه "أدينان" بغضب: - اذهب كيلا أقطع لك رأسك. فشعر "فرج" بهيبة الذي أمامه وانسحب، وكان "زيريني" يهم بإطلاق الرّصاص على رأسه من مسدس كاتم يحمله. قدّم "فرج" تقريراً لرئيسه في إدارة الجنايات، وشرح له ما حصل فتكتّم على الأمر بعد أن قال له: - كان يمكن له حقيقة أن يقطع رأسك أمام الناس وتم نقل "فرج" ملحقاً في إدارة الجنايات بمدينة أخرى نهض "أدينان" عن طاولته، توقف قليلاً ينظر إلى الفضاء، توارت من بعيد الكاميرا، التي كانت تراقب جلوسهم معاً، من على البناء الشّاهق في الجهة الأخرى، وتلاشت أصداء أصواتهم التي التقطتها أجهزة التصنّت المزروعة في غرفهم، ليحتفظ بها في أدراج "أبو ساق" وقد دخلت في كل هذا "آمال" التي لفتت الأنظار إليها، عندما رفضت تناول المال الذي على الطاولة، لم يعد لديهم غموض تجاه علاقتها بهم، كما هو الحال عند فاطمة التي انتهت دون درايتهم. تكلّمت الجدران أخيراً لديهم، بعد أن مضى الكثير على وضعها، لم يسمعوا بها ولو كلمة واحدة تدور بين "أدينان" و "زيريني" طوال الأسابيع التي مضت.
الرباط صيف معتدل الحرارة، قدمت رياحه الباردة والرطبة مع تيّارات الأطلسي، وأخرى قدمت عبر أمواج المتوسط القريب. لم تكن الشمس قد توهّجت بقرصها الملتهب، ولم يتسنّ للناس الاختباء منها بعد. كانت قد هبطت إلى الأرض في "مطار الدار البيضاء" طائرة الركاب الإيطالية، بعد رحلة شاقّة قدمت بها من "استنبول". أمّا "باحرار" فقد كان شوقه لوطنه هو ما يشغل باله بينما "زروان" قد أصبح بمثابة الضيف لديه. مضت عشر سنوات كالريح، تنقّل من خلالها "باحرار" كثيراً، وقد أصبح قوياً وغنياً، كاد أن ينسى فيها لغته وعاداته التي اختلفت كثيراً مع غيابه الطويل. "زر وان" مفكر "أدينان" الذي ربط بينه وبين، كل من "مازن" و "ذئب الشمال" فيما مضى، وصاحب الملايين التي يحيطها أشرس الرجال، أمثال "زيريني" و"سليم" و"البكاري" أيضاً "المختار" و"كوران" و"عبد الناصر" الذي انتهى أمره على يد "الاستخبارات الإسرائيلية" ومنهم من ينتظر هنا في الرباط أمثال "إيال" و"سميرة" وغيرهم . أما "الخضيري"، الذي يرمز له بين "حركات التحرر" بـ"ذئب الشمال" هو الآخر، كان بانتظار "زر وان" و "أدينان" منذ زمن، حيث يعتبر "ذئب الشمال" من أكبر المموّلين لـ"حركات التحرّر" خاصّة جبهة "البوليساريو"، وهو المشهور بسخائه الذي قال لـِ"زر وان" يوماً.. إنّ موافقة "أدينان" فقط من أجل العمل معنا سوف تمنحه "ربع مليون دولار"، حيث تمّ له ذلك، دون أن يرى وجه "أدينان" الذي عمل لصالحه عشرات المهمّات في أنحاء متفرّقة من الدنيا.
أُستقبل "زروان" بحفاوة، من قبل "باحرار" الذي رافقه في رحلته، واستقبله كذلك جمعٌ من رجاله بينهم "إيال" و "سميرة"، وعندما تسنّى لـ"زروان" الخروج من المطار، كان هنالك أكثر من عشرة رجال ينتظرون في سياراتهم المختلفة، وضعوا من أجل حمايته دون أن يشعر بهم أحد، وهم يحملون السّلاح. صعد "زروان" برفقة "باحرار" السيارة التي يقودها "إيال" برفقة أحدهم، حاول إقناعهم بتناول الغداء في أحد فنادق "كازا بورت" القريب من البحر، لكن "زروان" أصرّ على مواصلة سير السيارة حتى "الرباط". استغرقهم الوقت قرابة الساعة حتى وصلوا مدينة "الرباط"، قضاها "زروان" يتحدّث فيها مع أعوانه داخل السيارة، وهو يسترق أنظاره نحو السهول الواسعة الممتدة المحاذية لطريقهم. كانت السيارات العديدة قد تجاوزت مدينة "المحمدية"، وتفرّقت كأنّ لا وجود لها عندما وصلت السيارة التي تقل "زروان" حي "أكَدال" في مدينة "الرباط" وهناك في شارع "الأبطال"، استطاعوا أن يغادروها، والدخول إلى إحدى شققهم الخاصة بهم، حيث تمّ لهم تناول الغداء معاً، وتمّ الاتفاق بينهم على الاجتماع في اليوم التالي من أجل مناقشة خططهم وتحركاتهم بتأسيس قاعدة لعمل ثوري مشترك، والأمور التي تتعلق بتأخير "أدينان" في "المدائن". وفي مساء اليوم التالي، اجتمعوا في فيلا "زروان" بحي الليمون القريب من مركز المدينة. وقد حضر طاولة الاجتماع "باحرار" و"إيال" و "القواري" بالإضافة إلى "زروان" الذي تصدرهم وآخرين. فقدم لهم "إيال" ملفّه الذي يضم دراسة شاملة حول تأسيس قاعدة مشتركة والمتّفق عليها مسبقاً والظروف الأمنية التي تحيط بهم. أمّا "سميرة" فقد قدّمت شرحاً طويلاً حول طبيعة البلاد والنظام السائد فيها، وكيفية وجودهم كمستثمرين، الذي يمكنهم من تجاوز الكثير من العقبات أمامهم. أمّا "القواري" وهو من الصحراء الغربية بالأصل، فقد تقدّم باقتراحٍ واحدٍ لهم، شرح فيه كيف يمكن لهم الاستمرار والعمل، فيما لو تعرّضوا إلى مضايقات أمنية، ويقضي بدعم البعض من عناصر "البوليساريو" لعمل الاضطرابات الداخلية والمطالبة بالاستقلال بقوّة، حيث يمكّنهم ذلك من استغلال التوتّر المستمر ببين النظام القائم. بعد منتصف الليل كان قد نتج عن الاجتماع البدء في تأسيس "الجبهة الثورية المشتركة". وتمّ انتخاب "زروان" أميناً عاماً لها، و"أدينان" مسؤولاً للجناح العسكري للقاعدة لاكتسابه الخبرات المختلفة من خلال مناهضته للحركة الصهيونية في العديد من الأقطار الغربية. بينما وزّعت بعض المهام القيادية على الآخرين والذي كان منهم "القواري" و"المختار" و"البكاري". وآخرين وغالبيّتهم كانوا قد انشقوا بالأصل من حركاتهم الأصلية، وتوحّدت مبادؤهم مع تأسيس الجبهة الثورية التي احتضنت ائتلاف كبار ثوار جبهة "البوليساريو" الذين أكّدوا على بقاء عاصمتهم "الساقية الحمراء" وآخرين ممن كان لهم أثراً كبيراً في مساعدتهم على الاستقلال من نشيطي الحركة الثورية الفلسطينية في العالم. وقد انبثق عن الاجتماع موعد مستقبلي يجمع بين الكثير من القادة الثوريين وائتلافهم خلال الستة شهور القادمة، على أن يكون مكان انعقاده المغرب العربي، تكون فيها الجبهة قد باشرت أعمالها الائتلافية والفعلية وبحضور "أدينان" و"مازن" والآخرين الذين وافقوا على مبادئ الجبهة الثورية المشتركة. وفيما دار حول نتائج اقتراح "القواري"، فقد ترك نقاشه إلى وقت لاحق، وحتى يحين موعد الاجتماع العام لهم وبوجود "المختار" الذي يعتبر أحد الداعمين الرئيسيين لحركة "البوليساريو". بعد ذلك، وبعد أن آن لهم الحديث حول أحوال "أدينان" والآخرين قال "زروان". - علمت من "كوران " بأنه يمكن لـ"أدينان" أن يكون مراقباً بعد اختفاء فاطمة. لكن لا شيء حتى الآن يشير إلى ذلك، وهو الآن يقوم بمساعدة المجموعة في ترسيخ تجارتها، وتثبيت الأمور بعد تعرض بعض منهم للمشاكل. وقد اتفق معهم على ذلك، كيلا تدور الشبهات حوله وحول "زيريني" وهم يقيمونَ في فندق "صلاح الدين". علماً أنهم دخلوا المدائن كتجّار ومستثمرين. هذا من جهة صريحة في حركاتهم الظاهرة، بينما الغامض والسري، فـ"أدينان" يستغل تواجده لاختيار بعض من العناصر الفلسطينية ذات الخبرة، والتي كان لها باعٌ طويلٌ في حروبها داخل "بيروت" وخارجها، من أجل بناء منظمة خاصة به، وقد عزم أمره على ذلك، وأخذ يتردد بلقاءاته على أماكن تجمعهم بسرية كبيرة، وحصل أن زار مقر "المؤتمر الفلسطيني"، واجتمع كذلك مع أحد المنشقين من الفصائل الفلسطينية، وتعرف من خلاله على أحدهم والذي يدير مكتب "مالطا". وما يتعلق بحياته الشخصية، فقد التقى بفتاته التي افتقدها طويلاً وهو يهيم بها الآن. لهذا أنصح بالضغط عليه وترك كل شيء والرحيل إلى هنا، يبدو أنه قد نسي نفسه ولا يدري بأي مكان من الدنيا هو، أو أنه فقد توازنه حتى يقوم بكل هذه الأشياء دفعة واحدة. من جهتنا لا يمكن لنا العمل دونه ولا يمكننا خسرانه بسهولة، لكنه أصبح يخرج من دائرته التي رسمها لنفسه، ورغم تقديري له وما يحيط به من ظروف عدائية، اكتسبها بسببنا مع رجال العصابات والاستخبارات الإسرائيلية، فأنا أقدر ما يقوم به لحماية نفسه.
بينما كان البحر هادئاً، عصر اليوم، والملأ يتهافت على سواحل الرباط، انطلق "إيال" بسيارته الفارهة من أسفل أحد المباني العالية في شارع "الميريني"، القريب من محطة قطار المدينة، ودخل بها شارع "محمد الخامس" الذي تتوسطه الأشجار الشامخة، قاصداً التوجه إلى قصبة "الأوداية" حيث "القلعة" المطلة على مياه الأطلسي المنخفضة. توقف بها قريباً من فندق "باليما" المقابل لمبنى "مجلس النواب المغربي". ثم ترجّل منها وهو يشوبه الاضطراب، وخطى بأقدامه داخلاً مقهاه، حيث "سميرة" عشيقته، التي تنتظره في حديقة المقهى، على أحد المقاعد، تستند بأكتافها على طاولة زجاجية مستديرة، وكانت سبقته إلى المكان قبل ساعة. لم يتأخرا كثيراً، وهما يحتسيان قهوتهما معاً، ودون أن يتحادثا، بينما هي تراقبه بعينيها المستديرتين. - هيّا.. لقد حان موعدنا. انتابت "سميرة" حيرة غامضة، تردّدت قليلاً. - أنا خائفة من هذا اللقاء. ابتسم "إيال" بتوتر، وهو يهم بالقيام. - إنهم أبناء قومي. تركا طاولتهما، وخرجا من بوابة المقهى المحاذية للشارع، ثم صعدا سيارتهما القريبة، وانطلقا. كان "إيال" يسير مسرعاً، عندما التف إلى شارع "الحسن الثاني"، الذي يؤدي إلى "القناة"، فتجاوز مقبرة "الملوك" ونهر "أبي رقراق"، واستمرّ بطريق القنيطرة. نظرت إليه "سميرة" بينما هو يقود مسرعاً وقالت: - متى ينتهي هذا ؟ أوقف "إيال" السيارة فجأة، والتفت بعينيه الزرقاوين إليها وقال بهدوء: - عندما ينتهي أدينان.. لا أدري، لا تسألي. تنهدت بغضب، ثم قالت: - بالأمس حاربت أبناء قومك، واليوم معهم، هذا عجيب. ساده الصمت قليلاً ثم قال: - حاربهم وحده، كان يدري بغضبي، لكن دوافعه كانت أقوى من غضبي، ولم تكن النزعة قد ظهرت بيننا بعد، كنا نحارب المافيا وليس اليهود. - آه، والآن ظهرت. - إنه يصنع منظمة من أجل هذا، وأنا أصبحت معروفاً "للموساد"، إنّهم يقتلون عندما يغضبون، ولا أريد الموت، فلدي الكثير لأحيا لأجله. - ستموت في كل الأحوال، أنت تخون.. أنت منهم، افعل ما تشاء مع أدينان سوى الخيانة. - كفى.. - هم يطاردون "أدينان"، وليس هو الذي يطاردهم. ابتلع "إيال" ريقه، والتف بسيارته عائداً بنفس الطريق الذي جاء منه، وتوجّه إلى وسط المدينة ثانيةً، عندما تأكّد أنّ أحداً لا يتبعه. قريباً من قلعة "الأوداية"، في القصبة المطلة على نهر "أبي رقراق"، والمحيط وفي مطلع الشارع المحاذي لها، أوقف السيارة فجأة، واستلمت "سميرة" قيادتها ثم انطلقت بها لوحدها، بينما هو سار على قدميه ماشياً إلى "القلعة". عندما وصلها دخل إلى حديقتها، وشدّه نظره إلى جدرانها الضخمة، وانحرف إلى إحدى نوافذها المطلّة على المحيط، حدّق بعينيه في المدى البعيد إلى رصيفه الذي يتوسطه بحجارته، والمزدحم بالناس مع الغروب. أخذ جاكيته يتطاير مع الهواء، فاستدار للوراء قليلاً، ثم تابع سيره راجعاً حتى خرج من القلعة، التي كان ينتظره في حديقتها الخارجية أحدهم. تحادثا قليلاً، وسارا معاً حتى وصلا سيارة راكنة على رصيف الشارع، وانطلقا بها عبر طريق البحر، ثم انعطفت بهم، وتوجّهت إلى منطقة "يعقوب المنصور" ومن هناك تابعا السير بها حتى وصلا إحدى الفلل الواقعة على البحر في منطقة "هرهورة" ودخلت إلى حديقتها المكتظّة بالأشجار، وعندما نزلا منها، دخلا معاً قاعة المبنى الأرضي الكبيرة، والتي كان أغلب جدرانها من الزجاج الأسود. "كان ينتظرهما "إيريك" القائم بأعمال الوكالة اليهودية في الرباط" تصافح مع "إيال" وحيّاه كثيراً، ثم ذهب إلى إحدى الزوايا في القاعة وصَبّ له قليلاً من الخمر المعتّق الذي قدّمه له بنفسه، بعد أن جلس "إيال" في وسط القاعة. كان الانسجام ظاهراً بينهما، و"إيال " تنتابه الطمأنينة التي فارقته طويلاً. جلس "إيريك" أمامه حول الطاولة الكبيرة، والهدوء يحيط بالمكان، بينما أعينهما تتحسّس بعضها. - تقبّل اعتذارنا "إيال"، لا يمكننا الالتقاء دون تنظيم الأمور. جرع "إيال" الكأس الذي تناوله منه، ثم قال: - الحقيقة أنني في مأزق من أمري، ولا أريد أن أُكتشف، وقد كنت على خلاف مع "أدينان"، منذ بداية الأمر، كان يختار أهدافه فجأة، وتنفذها معه، دون أن نعلم ماهيّتها، ولهذا نجح، وكان إذا شكّ بأحدنا أنه تردد، قتله دون إعطائه الفرصة، إنّه كالعاصفة إذا أراد شيئاً، لا يترك أثراً. فكّر "إيريك" قليلاً، وشعر "بإيال" ضعيفاً، أو أنه يريد الاعتذار ولا يقدر، فقال متجاوزاً ما بذهن الذي أمامه: - عندما ننتهي من "أدينان" سوف تعيش في إسرائيل، أنت لست مثلهم مشرّداً، أرضك وأجدادك هناك، ويهمّنا كثيراً أن يعيش الأقوياء من اليهود هناك، التوراة تأمرك بذلك، وليس نحن، ولن تكون مصلحتك مع العصابات أقوى من هذا، يمكن أن ينتظرك معنا مركزاً يليق بك، ومهماً في جهازنا، لن تصبح مطارداً بعد؛ أمّا "زروان"، سنتولّى أمره، ولن ينفعه رجاله الثلاثون الذين "يحمونه" أتُراه جاء هنا ليستولي على عرش الملك، بهذه العدّة الكبيرة وهذه الملايين. تنفّس "إيال" بقوّة وردّ عليه قائلاً: - لديه أكثر مما تصوّر، إن وراءه حكومة بالخفاء في كل مكان. لم يقم في بلد إلاّ وصنع الاضطراب بها، إنّه مرض خطير، إنّه أكبر مموّل للإرهاب بالعالم، أعمل معه منذ عشرين عاماً، لقد جاء إلى المغرب في نزهة لعام واحد، وسوف يسلم قيادة "الجبهة الثورية" لـ"أدينان"، وربّما يكون هناك اجتماع عام لقيادات التحرر بالعالم هذا العام، وسوف يكون هنا في المغرب. اقترح عليكم أن تنسحبوا من هذه المواجهة، كيلا يركز "زروان" عصاباته على أبناء شعبنا في كل مكان. سكت "إيريك" ونهض من مكانه، وذهب لإحضار زجاجة الخمر، وبينما كان "إيال" يشعل بسيجارته، قال وفيه شيئاً من الكآبة: - في كل الأحوال سوف يركز "زر وان" على أبناء شعبنا، عندما يقنعه "أدينان" بذلك، لكننا لن نشعرهم بالمواجهة هذه المرة، ومن أجل هذا يتوجّب القضاء عليهم. أمّا بالنسبة لك، سوف يقدّر شعب اليهود هذه القضيّة، وسوف يكتب تاريخهم ذلك. أخذ "إيريك" يصب الخمر في الكؤوس، ثم أضاف بعد أن قدم الآخر "لإيال": - لقد حاربنا "زروان" سنين طويلة، ماذا سيختلف عنهم؟ إنّه عربي، وكذلك الأمر لـ"أدينان"، فقد قتل الكثير من أبناء شعبنا، وتعدّى على مصالحنا التجارية والسياحية، قضى على ضبّاط لهم أهميتهم في إسرائيل، إنّ أمثاله لو تمكّنوا لن نقدر عليهم، إنّه يبني الآن بمنظّمة مختلفة، ويستجير بالمنظّمات الفلسطينية. كان يعيش دون هدف، واستيقظ من غفوته على ما يبدو، ويصنع الآن هدفاً أقوى مع الفلسطينيين الذين قاتلناهم في لبنان، إنّ هذا خطر عظيم على أمة اليهود، لم يضيرنا "جبريل" الرّاقد الآن في دمشق ولا "خليل الوزير" الذي قُتل في تونس، ولا "أبو نضال" ولا حتى "كمال عدوان" الذي اغتيل في بيروت، لقد تعرّف "أدينان" على ابن عمّه في المدائن، وأصبح ينظّم له الأمور، "أدينان" مختلف عنهم جميعاً، ويحاربنا بطرق مختلفة، ليست له أرض ليطالب بها، إنّه ينظّم ليقتل فقط، وقد عبّأ رؤساء عصاباته على ذلك، "سليم" و"المختار" و"البكاري"، والكثير ممن تعرفهم جيداً، إنّ "أدينان" يصنع ما لم يصنعه أحد من قبله، حتى استخبارات المدائن أصبحت لا تقترب منه، لأنهم يفكرون بالاستعانة به، ويمنحوه المهلة. ذهل "إيال" فجأة، لمّا سمع، وأشعل سيجارة أخرى، ونهض عن مقعده، حاملاً كأسه، فجرعه مرّة واحدة، وقال وقد أصابه التوتّر. - تقصد أنهم يعلمون بأمره. ضحك "إيريك"، ونهض هو الآخر واقترب منه ثم قال: - ماذا تعتقد إذن؟ - إذن أنتم الذين أشرتم لالمدائن. - نعم، أشرنا لمكتب استنبول، ومن بعد وصلت المعلومات. - هنا يعلمون إذن. - كل شيء يتوقف على المصالح الأمنية بين البلدان المغاربية وجهاز "الموساد". خيّم الصمت عليهم قليلاً، ومشى "إيال" بخطواته نحو النافذة المطلّة على الفضاء، وقال: - "زروان" وأنا بخطر هنا الآن. - أنت بحمايتنا الآن، ويعتمد الأمر على مصالحنا تجاه "زر وان"، وليس من السهل على النظام الملكي، استنفار العصابات المنظمة ضده، إنّه أضعف من هذا. وهناك العشرات أمثاله في الشرق والغرب الذين لا يستطيع الاصطدام بهم، إنّهم يشنّون حروبهم بخفية، دون أن يشعر بهم أحد، وهذه هي مشكلتهم مع الأنظمة. كان اللقاء الثالث من نوعه قد انتهى بينهم، من أجل إعداد الخطط التي سيواجهون بها "أدينان" و "زروان" في كل مكان، وقد اتضح لـ"إيال" كل شيء مما يحيطه، واستشعر الخطر الذي لازمه، ورغم نزوح عواطفه تجاه أبناء شعبه، إلاّ أنّه أدرك الفخ والتهديد المبطن الذي تعرّض له. فكّر ملياً بعد أن أوصلته إحدى سياراتهم إلى وسط المدينة، جلس قليلاً في مقهى الباهية، ثم أخذ يتمشّى وحده في زقاق "النوايل" ودخل إلى "باب الرهبة" المزدحم ومنه عبر "السويقة" حيث الأسواق المختلفة، والمحال، كانت عيناه تمر على كل شيء تلتقطه.. - معه حق، كانت هذه المنطقة لليهود فيما مضى، ولم يعد بها أحد منهم، رحلوا إلى أرض الميعاد، هذا الملاّح "حي اليهود"، لم يبق منه سوى الأنقاض، أصبح فارغاً بعدهم، يسكنه المتسوّلون وأرباب الكيف من كل الولايات، أصبح مشوى للأسماك.. لماذا أعيش هنا، عليّ أن استمر مع أبناء قومي، أساعدهم بالقضاء على "أدينان". لقد كان يكرهني، وأراد أن يتخلّص منّي لولا خجله من "زروان"، لقد قال لي يوماً، اذهب إلى الأرض التي انتزعها قومك من الفلسطينيين، سوف نشرب خمركم على قبوركم. عليّ أن أصنع قدراً لنفسي بينهم، بعد كلّ هذا التشرّد في أنحاء الدنيا، ليس لي عائلة، ولم يبق هنا سوى قبور اليهود، وليس لي أرض، المال بحوزتي لا ينفع بشيء طالما أنا هكذا، يمكنني هناك أن احصل عليها، ويمكن لـ"أدينان" أن يشرب الخمر على قبري، لأنه سوف يكون لي قبر، يكفيني خضوعاً طوال هذه السنوات الطويلة، يكفي "زروان" حكماً بي، أنني أحبّه لكن ليس على حساب شعبي هذه المرّة، وعليّ أن أخرج، إنّني منذ زمن أصبو لهذا، لم يعد لي مكانٌ بين هؤلاء، بدأت أشتم رائحة أجدادي، يمكنني الذهاب، ولن تطالني كواتمهم.. لقد ورّطتنا يا أدينان بجنونك، حتى لم يبق لدينا مكان نستطيع العيش به، وأصبحنا مطلوبين. إنّ الله يحبّني، ودلّني على أبناء شعبي ليحتضنني أخيراً بعد أربعين عاماً مضت، قضيتها واهماً بالحياة. وبينما هو على حاله، هاتفته عشيقته "سميرة"، التي أخبرته أنها بانتظاره في مكان قريب من "باب الحدّ" في وسط المدينة القريب منه، فعاد أدراجه ولا يزال هائماً بخياله متجهاً إليها. كانت "سميرة" قد وصلت أسوار "باب الحدّ" المشهور، واحتلّت مكاناً في مطعمه القريب من ساحة الشارع المقابل لبوابة "باب الحدّ" التي تمر من تحت قوسها السيارات، أشعلت سيجارتها، وعينيها لا تفارق البوّابة، ورائحة الأسماك تأتيها من كل مكان من المطعم الكبير، ظهر لها "إيال" وصل "بوّابة الحدّ" المقوّسة، كان بعيداً عنها ما يقرب من الثلاثين متراً، ولم يراها بعد. عندما أصبح بمحاذاة إحدى السيارات الجانحة على رصيف البوّابة، ورغم تواجد الناس، وأرباب الكيف على الأرصفة. باغته أحدهم من خلفه فجأة، وانتشل جسده عن الأرض، عندما وضع بذراعه على رقبته.
توسّعت نشاطات "سليم" في الوقت الذي آلت إليه الأمور بالتدهور وقيام الاضطرابات مع جهاز الأمن الخارجي، الذي شعر بأنّ هنالك اجتياحاً لمصالحه الأمنية يُدار بغموض. حصلت الاجتماعات والجلسات المتوترة بعد التنسيق لها بين الفصائل والحركات الثورية المختلفة المتواجدة في المدائن، وبعد اعتراضها على خلفية إغلاق مقر المؤتمر الوطني الفلسطيني ومكاتب نشطاء الساقية الحمراء. "أدينان" الذي كان يساعد في تنظيم الأمور وتهدئتها بشكل سري، نصح بالانسحاب وتلاشي النهج الثوري الذي بات واضحاً لدى الاستخبارات والتي اعتادت على فرض سياستها التي اقترنت بنهج النظام وتوجهاته، وطلب على تحقيق رغبته من "سليم" والآخرين الذين يعرفونه بحيث كان يدرك حقيقة الدائرة التي تحيط بهم ولا تمكنهم الاستمرار بعد أن شعر بالخطر الذي أصبح يعترض البنية الثورية واحتدام الصراع الذي سيؤدي بهم للمواجهة مع سياسة النظام والأجهزة الأمنية الأخرى خاصة بعد الأحداث التي تعرّض إليها بعض من أفراد الفصائل المختلفة للاعتقال والتحقيق والتي كان يشرف عليها "أبو ساق" بالتنسيق مع النظام وسياسته عندما أخذ يتذرع بدوره بالحجج القاطعة في تحجيم دور الفصائل والحركات الثورية داخل بلاده من أجل تجسيد نفوذه عليها بعد أن أصبح النظام يخضع للمصالح والمعاهدات الدولية التي تحد من عمل الحركات الثورية . ففي وصفه للعرب "بأهل الملح" بعد تهجّمه على الأنظمة العربية والاستهتار بشعوبها وسياستها، صرّح العقيد ضمن احتفال وطني بأنّ شعبه إفريقي العرق والنسب لا ينتمي للشعوب العربية بشيء، جسّد ذلك مفهوماً عنصرياً خطيراً لدى الدوائر الأمنية والسياسية والعامة، وزادت النزعة الإقليمية وصعّدت الاستخبارات نشاطها في اعتراض القائمين على الفصائل الثورية المختلفة بشكل مباشر ومتفاوت وعادت إلى الأذهان مأساة الفلسطينيين عندما تمّ تجميعهم وترحيلهم إلى حدود امساعد المصرية، حينذاك كان قد أعدّ "سليم" مشروعاً وخطّة تحتوي في ثناياها على الإعداد لاغتيالات متشعبّة بناءً على سياسة الحركة الثورية التي يتزعم مجلسها يقوم بها المتخصصين فيها من أجل كبح التآمر على رجالاتها ضد بعض من مسؤولي النظام الذين يميلون إلى القضاء على فصائل الثورة المختلفة بناءً على توجهات سياسية دولية معادية لهم ومما كان يعزّز في تنفيذ الخطة المصادر الاستخبارية للحركة التي علمت بوجود دراسة معدّة للقضاء على أقوى عناصر الحركات الثورية في البلاد. رفض "أدينان" مشروع المواجهة في الوقت الذي كانت فيه الحركة تعد خططها بينما الأجهزة الأمنية والاستخبارية تستعد لمواجهة نشاطها بعد أن أكّدت المصادر لديها خطورتها والتي يتزعم نشاطاتها سليم بالإضافة لقياديي الحركة الآخرين "المختار" و"البكاري" الذين يديرون الجبهة في شمال أوروبا. كان رفض "أدينان" ينم عن تحليلات واتجاهات مختلفة كان أهمها ما يتعلّق بتشكيلاتهم الثورية التي أصبحت ظاهرة مكشوفة في أغلب نشاطاتها لأجهزة النظام وأنه يمكن للمواجهة أن تعكس مساوئها على العائلات الفلسطينية والمغربية الذين يقيمون في المدائن في الوقت الذي كان فيه يستعد للقيام في اختراق المصالح اليهودية وخاصة الاقتصادية منها في شمال إفريقيا. ومن ناحية المعلومات التي حصل عليها، وهي علم الاستخبارات في المدائن بالائتلاف الجبهوي بين الحركات التحررية والثورية والذي سيؤدي الصراع المباشر معه إلى تفكيك الائتلاف، ورغم إصرار الحركة على المواجهة فقد أصر "أدينان" من جهته على رفضه باعتباره مسؤولاً عن الجناح العسكري للجبهة والذي تسلّم قيادته عند تشكله في الرباط. أدركت الاستخبارات نهج الانحراف الثوري وأيقنت بأنّ الأمور قد أخذت تخرج عن سيطرتها وتتأزّم وعلمها كذلك بخطط الحركة التي يتزعمها "سليم" ويعارضها "أدينان" الذي استهدف بالاعتقال وجاء رفضه من صالح سياسة النظام الذي تردد في اعتقاله مرة أخرى إلى حين زوال التوتر والصراع. وبعد أن تبيّن لهم بأنّ هناك أكثر من عشرة رجال تولّوا التداور في حمايته بشكل لافت للنظر إلى حدٍ وصل فيه الأمر إلى إخفاء "آمال" بسبب التوتّر، فسّر لهم ذلك ما هو مهمٌّ من أجل القيام به حتى قام بإخفاء أحب النّاس إليه، ومن التحليلات التي كانت في حوزة "أبو ساق" وأخبر بها ضبّاط أنّ العقيد يترك الأمر لـ"أدينان" إلى حين مغادرته البلاد بعد أن يكون قد أعدّ نفسه في مواجهة أجهزة الموساد الإسرائيلية خاصة في مالطا وإيطاليا والمغرب العربي لثقته المطلقة في مرونته بعد أن ركّز في مواجهتهم بحيث يصب الأمر بالتالي إلى صالح الأمن الخارجي والسياسة الثورية للنظام في تلك البلدان، وقد كان هذا التحليل في حسابات الاستخبارات الإسرائيلية عندما قال "إيريك" لـ"إيال" بأنّ النظام في المدائن يعطيه الفرصة لاستخدامه بشكل مباشر. وقد انطوت هذه التحليلات- تحليلات "أبو ساق"- على فشل المعلومات التي أفادت بأنّ "أدينان" دخل المدائن من أجل القيام بأعمال تضعضع استقرار النظام القائم بالاتفاق مع بعض من زعماء الحركات الثورية والتي كان مصدرها- المعلومات- الموساد الإسرائيلي بعد أن أرسل بالإشارة إلى المدائن عن طريق مكتب استنبول. على ضوء استمرار الصراع والتوتّر تمّ إلقاء القبض على "المختار" و"البكاري" بعد الفشل في اعتقال "سليم" وبعد السيطرة على بعض المكاتب التجارية التي تعود لهم في المدائن. انتكس "أدينان" قليلاً وزعماء التشكيل الجبهوي يتساقطون والاستخبارات لا تزال تبحث عن "سليم" وفي الوقت الذي كان ينظّم فيه نشاط جبهته من جديد بعد أن تمّ له عملياً الاختيار في إيجاد الأفراد الذين يملكون الخبرة في مواجهة نشاط الموساد التوسعي والمختلف في شمال أوروبا من جهة وفي شمال إفريقيا من جهةً أخرى، وتأكّدت لديه النوايا السياسية في المدائن التي تعمل على تحجيم الوجود الثوري والتنظيمي.
كان "سليم" مختفياً بشقّة، في شارع "جمال عبد الناصر" قريباً من فندق "أنيس" تعود ملكيّتها لشخص يدعى "القمودي" وهو في عداد المعارضة السرية للنظام، ومقرب من "سليم"* وكان "أدينان" قد أمره بالاختفاء، لظروف احتياطية بعد الإعتقالات التي حصلت في مجموعته. تمّ الاتفاق على عقد اجتماع سرّي، في ذات الشقّة، حضره "أدينان" و"زيريني" بالإضافة إلى "سليم"، الذي أمره فيه "أدينان" بمغادرة البلاد فوراً، وترك ما حصل "للمختار" و"البكاري" له، إلى حين إعداد الخطّة التي يمكن من خلالها إطلاق سراحهم، بعد أن تمّ احتجازهم في سجن "إحوازة العنب". وبعد أسبوع تم إخراج "سليم" إلى إحدى المدن بسريّة تامة، وغادرها إلى مصر عبر الصحراء، حيث أقام في الإسكندرية مدّة أسبوعين، ثم انطلق إلى مالطا، وكانت قد خضعت إدارة بعض الأمور لأحد أعوانه، والذي خضع بدوره لسياسة "أدينان" مباشرة، وكان هذا الإجراء قد عتم الكثير على جهاز الاستخبارات، بعد أن اختفى سليم مع اثنين من أعوانه المهمين فجأة. علم "زر وان" بما ألمّ "بأدينان" وأعوانه وعلم بالأمر "مازن" المقيم في ميلانو خفية، فطلب "أدينان" إرسال "إيال" إليه، فاعتذر "زروان"، وكان قد فسّر وضع "إيال" لديه ، والذي كان لا يزال محتجزاً عنده، وبعد أن تم التشاور في أمره، اتفق على قتله، وتم له ذلك، وماتت أسرار "إيال" معه، بعد أن رفض الإدلاء بالمعلومات التي بحوزته وأرسل "زروان" أربعة من رجاله الخطرين إلى "أدينان" بعد أن هبطوا في أحد مطارات تونس، وبعد أن تمّ دخولهم بتكتّم شديد عن طريق "رأس جدير"، واحتلوا مكاناً في مزرعة كان قد اشتراها "علي" في غرب المدائن، بناءً على أوامر "أدينان" وكان هذا الوضع يعني الكثير لدى "أدينان"، والذي لم يكن يدركه سوى "زيريني".
في الليل، جلس جوار الحائط الذي يطل على السماء بساحته الواسعة من أعلى الفندق، شرد ذهنه بعيداً، وهو يتفكر الكون وما يحيطه، كانت كلّما دخلت عليه تقتحم خلوته، ليرى المجهول يتراقص من حوله، ويتحوّل إلى حقيقة، ينير ظلمته الأبدية التي يعيشها، وتبعث فيه الحياة ليحيا من جديد، وتُعيد من رحلتها أيّام براءته، التي خلت من آهاته وذنوبه التي عاقبته دائماً. اعتاد عليها كالوميض في الليالي الظلماء، عندما كان يختفي فيه عالمه الساكن بالغموض والموت، تعزف بصوتها آلاماً ضالة في أحشائه وبواطنه، يحيي فيها أملاً غاب عنه طويلاً. أنسل حبّها بين ضلوعه، وهو يغيّر عالمه، الذي ألفه كارهاً. ويزداد سكونه مع الحياة، تتدفق من ثنايا صدره نوازعاً مقيتة تعذّبه، وتوقظ بذاته إحساساً بدا أنه اختفى منذ زمن بعيد. أخذ يسعى، ليفوز بجنة لم يشتم رائحتها بعد، وقد أطبقت عليه أحوال الدنيا، وتضع فيه ما ليس منه، أوحت له أن الحياة لا تزال بعد، وأنّ ما مضى قد تطاولت عليه الأقدار، أيقظت في كينونته حنيناً لأيام مضت، وولّت، وإلى آلهاتِ العمر، مُذ كان يبدأ بطلبها، كان يصغي المجهول لمحاكاتهما دائماً، ويضيء فيهما سكونهما لتأتلف الأرواح، وتصنع منهما الدنيا حقيقة. خلقت لا تدري بعد كيف تحب، وهي تجني من هفوات لسانه الظامئة ما غَدَر بها من الدنيا وأذلّها، وأزهق فيها أياماً مضت في ذلك السالف من الحياة. هاجر معها إلى ما أوجدها بحقيقتها، وأحياها دون أن يسألها، وعندما كانت تهيم به أسمال الحيرة والألم، يفتش عنها، يترقّب من عينيها السماويّتين ما خبا له، ويفسّر حقيقة نوازعه المتراكضة نحو المجهول. عاد الهدوء يخيّم على توترات المدائن، استيقظ من سكرته وتنهّد، وهو ما يزال بعيداً، تحسّسها كالخيال العابر تظلّه، توقّفت حول خبايا الظلام خلفه. - أنتِ هنا، كان عليك أن تذهبي قبل الغروب. عادت إلى نفسها إلى صوتها المحموم قهراً، قالت وهي تضع بيديها حول كتفيه، يستشعر من خلالها الحنان: - يخيّل إلي، أنني لا أقدر على مفارقتك بعد. ضحك وقمرة الليل تضفي على وجهه سحراً كونياً، استدار إليها متظلّلاً بعتم السماء، ونهض على قدميه. - أرى في عينيك خوفاً، لا عليك أيّتها الحبيبة. دمعت بسخاء، قطرات سالت متسارعة مبهمة، أشعل بريقها في عينيه مسارات حزينة، قادمة من سنى وجنتيها الورديّتين، حاولت دائماً أن تبتسم، حتى وهي كئيبة، لتُسعِد فيه أحزانه وآلامه. - تجاهلتني كثيراً، كيف لا أخاف، تريدني أن أمضي دائماً، هل تظنّني أستطيع؟ أرى في وجهك ما هو أبعد من هذا، هيّا نرحل "أدينان"، سنجد أرضاً تمنحنا الحياة. ذهب فكره بعيداً وارتعش، تذكّر ما قالته فاطمة، وعينيه لا تفارق المجهول بنظراتها الحادّة، تساءل في ذاته.. ما هي الحياة؟ يبدو أنّني لا أفهم معنىً لها، إنّ "زيريني" على حق، لقد قال لي: "أمثالنا لا تملكهم الحياة، هجرناها وخرجنا عن حالة البشر". عاد إلى نفسه بعد التوتر الذي أصابه. - سوف نذهب، نذهب معاً قريباً. شعرت بالسعادة تطيح إليها من السماء المحتقنة. - أنت واثق "أدينان" - ليس دائماً، اذهبي.
في الصباح أيقظته، شرب من يديها قهوته، وكان على موعد مع أحد المقرّبين منه، في كازينو "البرج" الواقع شمالا قُبالة البحر. استقل السيارة التي يقودها "زيريني" وتوجها معاً صوب عمارة "البرج" من خلال شارع "عمر المختار"، أخّرهما الازدحام قليلاً وحتى وصلا إلى موقف السيارات، نزل منها "أدينان" وتوقف على قدميه، فاعترضتهما فجأة، إحدى السيارات التي ظهرت من أمامهما مسرعة، وقد تراشقت من أعلاها صليات رشاشة دوى صوتها أرجاء المنطقة بكاملها، واخترق الرصاص أماكن كثيرة في السيارة، أثناء ذلك عاد "أدينان" إلى مكانه لا إرادياً بعد أن شعر بالرصاص يصيبه، وقد أخرج مسدسه، فانطلق به "زيريني" خارجاً من الكراج، بعد أن اختفت السيارة التي هاجمتهم، بينما كانت قد تابعتها سيارة أخرى بمنأى عنهم فيها بعض من رجال مجموعتهم، واستمر "زيريني" يسير نحو الغرب من المدينة، عندما عرف أنّ صاحبه مصاب. في الطريق توقف "زيريني" وأخذ يتفقّد بطن "أدينان" حيث أدرك أنّ الرصاص قد مزّق جانباً منه، وكان يعلم بصعوبة إيجاد طبيب جرّاح يمكنه إنقاذ حياته، ابتسم "أدينان" وهو لا يزال قابضاً بيده على مكان الجرح النّازف بشدّة، وقال بصوته الهادئ: - يمكن لـ"لزروان" أن يرسل طبيباً. حدّق به "زيريني" قليلاً ثم أضاف: - بل يمكننا إحضار طبيب بالقوة. ابتسم متألماً ثم قال: - لكن لا يوجد في هذه البلاد أطباء يمكنهم عمل ذلك، كيف ستدخل مستشفى عاماً وتختطف منه طبيباً، هذا صعب. عادت سيارتهم تخترق منطقة "الفلاح"، وتدخل حي المزارع البعيد بسرعة فائقة، ثم عادت الحياة لـ"زيريني" وقال: - كيف ستتحمّل الألم حتى مجيء الطبيب من المغرب. - لا عليك. فردّ عليه "زيريني" وهو يقود بجنون: - حسناً، سوف نأتي لك بمخدّر، بخمر، أي شيء، سوف أثأر لك بمئة رجل منهم. وصل "زيريني" المزرعة التي أُعدّت من أجلهم، والتي يتواجد فيها أعضاء مجموعتهم التي جاءت على أوامر "زروان"، حاول بعضهم مساعدة "أدينان" في النزول من السيارة، فرفض ذلك وغادرها وحده قابضاً بيديه على مكان الإصابة، وقد أخذت الآلام تسري بجسده، ودخل الطابق الثاني من فيلا المزرعة لوحده، واسترخى على أحد الأسرّة، حيث جاء أحدهم ووخزه بمخدّر الآلام، بعد أن قام بتعقيم جروحه ، وكانت ملابسه قد امتلأت بالدماء حتى أسفل قدميه. اشتد غضب "زروان" عندما علم بالأمر، واتفق على إرسال جرّاح في اليوم التالي، إذا توفّر الطيران إلى مطار تونس. أما "أدينان"، فقد طلب من "زيريني" عدم القيام بشيء انتقامي دون أوامره، وطلب منه إحضار "آمال" وإخفائها لكي لا تتعرض هي الأخرى للمخاطر، بعد أن أيقن وجود أشياء غامضة تدور من حولهم دون معرفتها. في المساء عادت المجموعة التي راقبت الأمور بدقّة، واستطاعت أن تتابع السيارة التي هاجمتهم، حيث تبيّن لهم أنّ الذي قام بالأمر هو "جمعة" شخصياً ومعاوناً له، وهو أحد الضبّاط الصغار ويدعى "علي" والذي يقطن في "قرقارش" مع عائلته، وبعد أن حدّدت مواقعهم، واستمرت مراقبتهم، وقبل منتصف الليل، اقتحم "زيريني" بمجموعته فيلا واقعة بمنطقة "سوق الجمعة، حيث كان يجتمع فيها "جمعة" مع "علي"، والذي قام بالمهمة معه، واستطاع "زيريني" أن يفاجئ "جمعة" أثناء جلوسه بغتة وضربه بمسدسه على وجهه، وتمّ بعد ذلك توثيقهما الاثنين ووضعهم في إحدى سياراتهم بقوّة السلاح، والقذف بهم في مكان مخصّص بالمزرعة التي يتواجد بها "أدينان" دون أن يعلموا أين هم من الدنيا، بعد أن لُفّت رؤوسهم بالأكياس السوداء. استطاع "أدينان " أن يمارس حياته عادياً، وهو تحت المخدّر داخل البناء، يفكّر بالأمور ويخطّطها، وكأنّ لا شيء قد حصل معه، بينما جسده قد شُدَّ بالقطن والقماش، و"آمال" إلى جانبه تعاني آلامه بدموعها.
استمرّت الاتصالات مع "زروان" حتى الصباح الذي نظم الأمور لهم في إرسال طبيبين مختصين بكامل ما يحتاجونه، وقد كان الحظ لصالحهم عندما كانت هناك طائرة مغادرة إلى مالطا ومن ثم إلى تونس. جهاز الاستخبارات بدوره، فقد اضطربت عنده الأمور، عندما علم بحادث إطلاق النار في كراج "البرج"، وكانت قد وصلت المعلومات متأخّرة، وعندما تأكّد "أبو ساق" من خلال تحرّياته باختفاء "أدينان" حاول أن يجد "جمعة" بعد أن انقطعت أخباره هو الآخر، وبعد أن حصل على معلومات من العامة تفيد وتشير إلى أمور غامضة كانت قد حدثت قريباً من فيلته في منطقة "سوق الجمعة". وفي صباح اليوم التالي، ازدادت المعلومات غموضاً عندما اختفت "خولة" فجأة من شارع "أول سبتمبر"، والتي رأى فيها العامة مجموعة قد اختطفتها في إحدى السيارات بالقوة، فأيقن "أبو ساق" أنّ الأمور كلّها تتعلّق بـ"جمعة"، الذي تبيّن أنّه قام بإطلاق النار على "أدينان" من سيّارته الخاصة، فتولّدت الشكوك والتحليلات لدى "أبو ساق" الذي أمر بتمشيط ضواحي المدائن في البحث والتحري والأسباب التي من ورائها جعلت "جمعة" يحاول قتل "أدينان" دون أوامر القيادة، وأعقب ذلك توالي البرقيّات إلى جميع دوائر الأمن والحدود، وحماية مباني الاستخبارات في جميع الأنحاء، وكذلك أعضائها المهمين. قبل منتصف الليل من اليوم التالي للحادثة، وصل طبيبان جراحان، بعد أن قطعوا مسافة من حدود "رأس جدير" الحدودية، ثم بدءوا في إجراء العملية الجراحية لـ"أدينان"، التي استمرت حتى الصباح تقريباً قضاها فاقداً الوعي، بينما "زيريني" يولي حقده في إجراء التحقيق المميت مع "جمعة" والآخرين الذين اختطفوهم.
ردّدت جدران المكان صرخات "جمعة"، وهو على وشك الموت لشدّة التعذيب الذي تعرّض إليه، على يدي "زيريني" والآخرين، خذله الجفاف والعطش وهو يشاهد نفسه يموت موثقاً بساعديه إلى الخلف، وقدميه لا تساعدانه على الوقوف بعد. تعلّم الكثير في مواجهة المجرمين، لكن أمام "زيريني" فقد فشل التعلّم، وتجاربه تستثنيه في المواجهة وكأنّ لا وجود لها، حيث أدرك الموت إذا أطاع نفسه ولزم الصمت. فقد داسَ "زيريني" على كبريائه بقدميه، وجعل من شاذة كـ"خولة" تراه كالفأر، جعله ممسوخاً كالقرد وهو موثّق عاري الجسد، وأعقاب السجائر يتلظّى منها جسده المتدلّي كخليقة الخنازير، حتى أدرك أنه قد واجه أُناساً خطرين حقاً تموت الإرادات أمامهم وتذوب، ليرى طباعاً متفاوتة كالرياح، لا يدري من أين تبدأ أو إلى أين تصير. تأمّل "جمعة" المكان من خلال عينيه المليئتين بالقذى والدماء، وقد ظهرت حولهما خطوطاً مبهمة بيضاء، من العرق والدموع، بينما فكّه السفلي لا يزال ينزف دماً فاسداً، بسبب اللّكمة التي باغته بها "زيريني" بكعب مسدسه لحظة اقتحامه مكان جلوسه في منزله، والتي أطاحت ببعض أسنانه. كان يرى "زيريني" كالشبح في الغرفة المخصّصة للتعذيب، والتي بدت له أنها تقع في أسفل البناء، ولا يمكن لصوت أن يُسمع أو يخرج منها، وقد أصبحت تغص بالدماء بسبب التعذيب الذي تعرّض له "علي" و"خولة"، اللذين نزفت دماؤهما وملأت المكان بعد أن تعرّضت "خولة" لطعنة من يد "زيريني" عندما أنكرت اتصالها بـ "جمعة" قبيل مغادرتهم الفندق تجاه الكراج الكبير في منطقة "البرج". حاول "جمعة" أن يتحرّك و"زيريني" يخطو إليه ببطء، لكنّ جسده لم يساعده على ذلك والآلام تخور في كامل قواه، فقال "زيريني" بعد أن دسّ بفوهة مسدّسه في فمه موشكاً إطلاق النار: - لدي الكثير عنك يا "جمعة"، كم فتاة اغتصبت من فتيات بلادي بطرقك الشاذة، وكم زوجة انتزعتها من زوجها رُغماً عنه، آخر ضحية كانت قبل أسبوعين أوليت بزوجها إلى ضابط في قسم المدينة، لفّقوا إليه تهمة بعد أن صلبوه في النافذة طوال الليل. تراودني نفسي أن آتي بزوجتك وأغتصبها أمام ناظريك، وأفجّر رؤوس أطفالك، هل تعاني هذه الأمراض بسبب الطليان الذين تدرّبت على أيديهم، أم على أيدي اليهود، ولا زلت تتصيّد الأحرار من العرب برصاصك، الذي هدّفت به صورهم المعلّقة في جامعات روما العسكرية، أنت أحد الذين اشتركوا في قذف هؤلاء الأحرار بالبحر، وجاء لديك دور "أدينان"، تكلّم أيّها الوسخ، هيّا كيلا أمزّق أحشائك، ما هي علاقتك بالموساد؟ تألّم "جمعة"، ثم تأوّه قليلاً، و"زيريني" يتهيّأ لإطلاق النار، وعندما رأى الموت يقترب منه فجأة قال بتردّد: - عدني بعدم الاقتراب من عائلتي. ابتسم "زيريني" بشموخ وقال بعد أن رآه قد انهار: - حسناً، اشرح لي علاقتك بالاستخبارات الإسرائيلية. عاد جمعة إلى تردّده وهو يفكّر ولم يجد مفراً لنفسه عندما قال: - أنا على علاقة بهم من خلال تردّدي على إيطاليا، جهازي لا يعلم بذلك. فرض عليّ "يوسي" القيام بقتل "أدينان". لم يترك "زيريني" الفرصة له مرة أخرى ليفكّر فسأله فجأة: - ماذا عن "البكاري" و"المختار"؟ - خطة الجهاز إرباك "أدينان" من أجل مغادرة البلاد بناءً على أوامر عليا، يمكن للجهاز أن يبادلهم بي، إذا بقي أمري مع الموساد سراً. - أصبحت تفكّر جيداً يا "جمعة". - لن يظل لي مكان بالجهاز بعد اختراق أوامره، يمكنني التعاون معكم على المدى البعيد، إذا حفظتم سري. تنهّد "زيريني" ثم تركه دقائقاً قليلة ثم عاد إليه وسأله قائلاً: - ما هي الخطط الأخيرة لديكم تجاهنا؟ - بعد اعتقال "البكاري" و"المختار" الذين صنعوا إرباكاً لدى الأمن الخارجي وبتوجيه من الجهاز، كنّا على وشك اعتقالك، ولو استمرّ "أدينان" في البلاد سوف يواجه نفس المصير، بعد اكتشاف علاقاته مع أعضاء خطرين من المنظّمات الفلسطينية، الذي حصل لبعضهم وأن سافروا بجوازات سفر مزوّرة إلى مالطا والمغرب. - لدى جهازكم كلّ هذه المعلومات ولا زال صامتاً حتى الآن. - كل هذا لا يؤثر على الجهاز، طالما أنه متأكد أنكم ستغادرون البلاد، هناك مصالح أمنية خاصة وراء ذلك لا أعلمها. - من الذي أشرف على أجهزة التصنُّت؟ - وضعت بالتنسيق معي، وطوّرها أحد رجال الموساد بعد قدومه من إيطاليا إلي دون علم الجهاز. - مصيرك الإعدام لدى جهازك. - ربّما. - يمكنك العمل لحساب "أدينان"، ومصيرك بين أيدينا، إذا أطلقنا سراحك وتمّ تبادلك مع رجالنا. - يمكنني. تم الاتفاق بينهم على العمل معاً وتجاوز ما جرى من عداء وتم له مقابلة "أدينان" الذي أقنعه بضرورة مواجهة الأعداء وليس بعضهم بعضاً. ثم وعده بتنظيم الأمور في إطلاق سراحه والتكتم على أمره بعد أن يتم تبادله بـ"المختار" و"البكاري" من قبل جهاز الاستخبارات. وكان قد أبدى جمعة ندماً كبيراً بعد أن برر توجهاته للضغوطات التي تعرّض لها.
لم يستغرب "أدينان الخطة التي أطلعه عليها الجراح الذي أجرى له العملية، كانت بمثابة النهاية إلى علاقته بـ"بزروان"، إذا لم يخرج من البلاد، حسب ما أُعد إليه بدقّة، أدرك أنّ وجوده في المدائن يدور في حلقة مفرغة، وقد صنع شرخاً كبيراً لقاعدتهم. السر في الأمر، أنّ "زر وان" خاطبه بعاطفة غامضة، يفهمها كلاهما، وعاد به إلى بداية أمرهم مع الحياة، وإلى الظروف التي جعلتهم يجتمعون، ويكوّنان فيها الحركة، وكيف آن لهما أن يخسرا بعضهما. كان على ثقة، بأنّ زعيمه الذي اختاره وصنعه، ليس كبقيّة الناس، ينهار بسبب تهوّره الذي يرتكبه بعيداً عنه، ودون هدف، شعر أنّه يستغيث، وقد تسبّب بفعل الكثير. في مطلع العشرين من تشرين الأول لنفس العام، أبحرت حاملة الركاب اليونانية "جالاكسي" من ميناء "كازابلانكا" متّجهة عبر البحر الأبيض المتوسّط، إلى ميناء المدائن البحري، من أجل العودة برحلتها بالقادمين الجُدُد، لقضاء فصل الشتاء المنتظر في ربوع المغرب العربي، من ذوي الأعمال والمصالح، الذين يعيشون في شمال إفريقيا، لم تخل الباخرة المبحرة من أفراد خطرين، نظّموا بداخلها لاحتمال أي طارئ مفاجئ، يمكن أن يحدث لـ"أدينان"، الذي سيكون على متنها، في رحلة العودة، وقد حملت بسريّة متقنة، بقطع صغيرة من الأسلحة الرشّاشة في جوانبها الخارجية، عندما أُدخلت إليها أثناء رسوّها في ميناء "كازابلانكا" ليلاً بمساعدة غوّاصين محترفين، استخدموا فيها القوارب المطاطية.
عانق "أدينان" السماء بعينيه الثاقبتين، وقليل من آلامه تسري به، كان الفجر على وشك البزوغ وآمال قد أوقفت تفكرها بالغيب قريباً منه، أدارت بنفسها إليه، بعد هيام طويل، وهي تنظر من أعلى البلكونة، إلى الكون عبر غموضه، وقليل من نسيم الهواء البارد يضفي ببرودته إليهم. السكون من حولهم كان أقوى إيلاماً، وقد ظهرت عواطفهم تجول بهم. تفوّه "أدينان" بكلمات غريبة، على غير عادته، بينما هي تنتظر أن يتكلم: - كلّ شيء يبدأ كالليل من حولنا يكاد يختفي. رمقته بعينيها،ووجهه مستظلاً بغيم الشرق، لم تخفِ عليه حيرتها، عندما نظر إلى وجهها الحزين، شعر بها تسائله بصمتها، ثمّ أضاف : - ما بالك؟ أرى فيكِ ما لا كنت أراه طوال خمسة أشهر ماضية، فكّري أنْ تتحدّى الزمن، الضعف، انظري دائماً إلى ما بعد وجودك ودوافعه، من يريد الحياة، فلا خيار آخر، لا نستطيع أن نفهم الحب دون معاناة، عندما نتطلّع للوراء، لن ننجو من آلامنا الكثيرة، يجب أن ينذر الإنسان نفسه للوقوف، ويمكن له أن يساعد نفسه في اختياره للوجود الذي يريده. طالها الصمت قليلاً، ثم تنهّدت، ومسحت بيدها دمعة سالت على خدّها، لم يساعدها صدرها على حبس نفسها الخانق، حتى حرّكت بشفتيها. - أنت هكذا دائماً، منذ أن عهدتك في صباي، لكي تكون قوياً، عليك أن تكون بعيداً عن الذين حولك. اقترب منها وقال: - لا يمكننا أن نعلم كلّ شيء، لكن القوة تحفظنا، سوف ننجو برحلتنا هذه، حساباتنا أقوى منهم، هم ينتظرون حتى ينفّذون شيئاً بسيطاً، ونحن لا ننتظر. انتابتها حيرة غامضة ثم قالت: - هل يمكن للحب أن يكون نافعاً بيننا بهذا الشكل، من أجل استمرار الحياة، لقد اخترتك رغم ما يحيطك. فردّ عليها: - الحياة والحب، يأتيان بمرارة الآلام، ولا يستطيع أحدنا التنبؤ بعواقب اختياره. قاطعهم "زيريني" عندما دخل عليهم خلوتهم والصباح يظهر بأطيافه البيضاء، لا يسمع منه سوى زقزقة العصافير، القادمة من أشجار المكان المحيطة بهم، بدت في وجهه علامات السرور عندما قال: - "المختار" و"البكاري" في تونس الآن. سادهم الصمت قليلاً ، ابتسم "أدينان"، بينما "آمال" تراقبه بعيونها. وقال: - أكاد لا أصدّق هذا الانتصار. ثم تفكّر قليلاً، بعد أن طلب القهوة منها وأضاف: - هذه الليلة أقذف بـ"جمعة" إليهم، وأحرص على أن يخرج كما دخل، اضغط عليه، طالما أنه أصبح بين أيدينا، أمّا "خولة"، إذا رأيت أنّ صحّتها قد أصبحت جيّدة بعد العملية، اقذف بها هي الأخرى إلى أحد الشوارع العامة. تخلّلت حديثهم القهوة التي جاءت بها "آمال" وتناولاها وهما لا يزالان واقفين على البلكونة، فقال "زيريني" وهو يرتشفها. - لكن، ماذا بالنسبة لنا ؟ فردّ عليه أدينان. - هذا يعتمد على الخطة المتفق عليها. - لكن، عمّمت أوصافنا في كل مكان، أُفضّل السفر إلى الصحراء، حتى نصل الخرطوم، ومن هناك نطير إلى "كازابلانكا". - هذا مستحيل، نخرج بالقوة، إذا أصاب رحلتنا الخلل، لكن أن نخترق الصحراء، سوف يكلّفنا ذلك أسابيعاً طويلة، ربما نموت فيها، ونواجه جيوش الحدود، يمكنك أن تتبع الخطة الأخرى بعد خروجنا، إذا لم يسعفك الحظ اللّحاق بنا، بعد خروج "جالاكسي" من المياه الإقليمية. فردّ "زيريني" باستنكار: - هذا الأمر يربكني. رمقه بنظره طويلاً ثم قال: - لا خيار أمامنا. فردّ عليه "زيريني" بهدوء: - سوف تكون مواجهة ينتهي فيها جميعنا. - لن أكرر، تجاوزنا كثيراً من المواجهات والاختيارات الأصعب من هذا الخروج. - مشكلتنا أنه ليس أمامنا سوى البحر. - ليحترق البحر بمن فيه. - و"آمال". - أصبحت مطاردة مثلنا، وقد اختارت، وضع في حساباتك هناك خمسة أعضاء من مجموعتنا قادمون في البحر مع "جالاكسي" سوف يعودون معنا، إنها مسئوليتهم إذا حصل الخلل داخل الباخرة. لقد راهن "زروان" على المئات من الآلاف لأجل خروجنا، لم يجد بديلاً عن ذلك، وإلاّ فعل. إنّ هذه الباخرة تتسع للآلاف من المسافرين. لن يخاطر العالم بهم من أجلنا. لم يبق لدينا متسعاً من الوقت سوى يومين..
ارتعدت سماء المدائن، عندما انطلقت صفارة "جالاكسي" الراسية في ميناء "الشعاب". تكوّرت الغيوم بزرقائها تدور من أعلاها، قبل أن تنحدر الشمس للمغيب، ويبتلعها المجهول وراء البحر. التهبت السماء بطيورها الراحلة تدور في الأفق متسارعة، ولم يئن بعد الاختفاء قبل حلول الظلام، تتابعت أعين الملأ في مسارها المجهول تطاردها عن كثب من كل أنحاء المدينة، التي غيّم سماؤها وذبل فيها قرارها. شيئاً ما غريباً داورها صراعها يتوسط الأرض وزرقة السماء، تساقط من عتم الغيم الهائج شرقاً مطراً متقطّعاً نديّاً، لتتشكّل الدوائر الضالة متناثرة على سطح البحر تداعبها الأسماك المتقافزة باضطراب. تابع "أدينان" بعينيه أفول الغيم المتراكم بعيداً، وهو لا يزال يحتسي القهوة في حديقة المكان قريباً من "آمال" ثم أخذ يسترق النظر إليها بهدوء، وهي تهيم فيه بعينيها الحزينتين، ينتابها ألم غامض شعر به، في دواخلها وهو على علم بما حملت أحشاؤها المعذبة من جروح وآهات، في هذا اليوم الذي انتظره طويلاً. تردد مراراً قبل أن يخبرها شيئاً في داخله، وإرادة خافية من حوله تدفعه إلى ذلك ليتحدّث به أخيراً. ابتسم وتفوّه بهدوء: - رأيت من يحملني على تابوت وأنا بيقظة من أمري . ثم عاد يحتسي القهوة ويدخن، بينما عينيه الحادّتين تخترقان المجهول بسكونهما. لم تكد تسمع "آمال" ما سمعت، حتى أطبقت دقات قلبها المتسارعة على وجودها لتهزها، فانتشلتها من مكانها، وقد وجدت نفسها على قدميها تقترب منه. اختفت دموعها واحتبست، وتجمرت وجنتيها احمراراً، لتمتلئ عيناها بالدموع تبكي. أدركت أنه يمضي إلى المجهول، إلى غيب أقداره، وقد ظهر لها حلمه واضحاً يخطو إلى الموت بإرادته، ويجد نهايته التي بحث عنها طويلاً دون الشعور بها، شعرت أنه سيبقى خالداً في ذاتها وينتهي كل شيء من حوله عندما تأوّهت وهي تشدّه إليها. - وحقي فيك "أدينان"، إنني لن أعيش بعدك، أكان مفروضاً علينا هذا الخروج بهذه الطريقة المميتة، لقد أهديتك عمري، جد طريقاً آخر. لم يغّير نحيبها لديه شيئاً، عندما رفع برأسه إليها، وفكره مختلف عمّا في قلبها. كان يود القول لها، إنكم هكذا تفكرون بسبب ضعفكم، إلاّ أنّ حبّها لديه منعه، كي لا يغوص ذهنها إلى ما هو أبعد، فقال بحزم ساكن: - لا مفر، سوف نموت هنا، هذا لا يشرفني. تأوّهت الشقاء، وظلم الحياة، وهي لا تقوى على الكلام، لا تدري ماذا يمكنها فعله وهي تترنّح في ظلِّ جسمه الخاشع كالجبل أمامها، لا يقوى على الحراك وهو يفكر بعند قاتل. حتى قالت: - ألا تصحو بعد للحياة؟ ألا ترى في عينيك شيئاً مخيفاً. استنكر بشموخ ثم توقّف على قدميه، وأخذ يمسح دموعها الغزيرة. - بل أرى كل شي، عدت إليها بعد أن استمديت وجودي منك، بعد أن خرجت عن حالة الملأ، وهمت بالظلمات، العبد يبقى عبداً، ولست عبداً لشيء. - تعاند القدر، وترى الموت. - وربما لا أرى شيئاً. في تلك اللحظات، جاءته الإشارة من "زيريني" بالانطلاق، اجتمع جمعٌ من الرجال حولهم في الحديقة، والسيارات في حوزتهم على أُهبة الاستعداد. جالت أصداء الصفارة الثانية للباخرة الأجواء البعيدة، اهتزّ بدن "أدينان"، وصعقت أحشاء "آمال" أمامه، بينما دموعها تسيل بغزارة. شعر "زيريني" بالحزن تجاه صاحب العمر. حدّق بها "أدينان" والظلام قد أخذ يحتل مكانه، بعد الغروب. ابتسم لها ابتسامته الغامضة، وعينيه تحدّثانها بأمور تفهمها جيّداً، بينما وجهه يفيض بالمجهول، لم يجرؤ القول لها اذهبي معهم، لكنّها أيقنت لحظة الانطلاق، عندما ابتسم لها، نظر إلى الأعلى، إلى السحب الهائجة بثورتها. ثمّ أحنى برأسه إليها، حاولت أن تقول شيئاً، لم تستطع، تدافعت في بواطنها روحها، وقالت: - لا أستطيع "أدينان"، ألا يكفي ما حَلّ بنا في أطلس، ألا يكفيني الفراق، هل ألزمنا قدرنا كلّ هذا؟ أرجوك "أدينان". فردّ عليها بصوته الحائر: - سوف نلتقي داخل الباخرة، إذا أتقنت التصرّف بشخصيّتك الجديدة. عليكِ أن تعودي إلى تلك الفتاة الريفية البسيطة، وتتناسي هذا اللباس الفاخر الذي ترتدينه، والاسم الذي تحملينه، لا يطادر الإنسان أحداً إذا لم تطارده ذاته. فتمتمت بحنان وهي تحدِّق النظر إلى صدره: - جرحك لا يزال ينزف، إنّي أرى هذا من خلال قميصك. ردّ عليها باستنكار مبهم:: - سيلتئم على يديك هذه الليلة. ذهبت وذهب معها، إخفاق مضى منذ زمن طويل، هَبّ زلزال من حوله، عصفت به الأيام البعيدة، إلى قدره، إلى طريقه في سبل الأيام كالرياح المتناقضة، كأنّه خلق بين غياهب الأقدار ومظالمها، في كل مكان من دنياه الضائعة. شعر بالحب يمضي، وقوّته تتضاءل، رآه يزول، عرف أنّ الأيام عادت تواجهه ككل مرّة وتتكرّر الآلام، ويغزوه العذاب، وتدور بذاته دون دراية، ودون إرادة.
نظر إلى ساعة يده، وقد حان موعد انطلاقه، خرج به "زيريني" وهو يقود سيارته، وغادر منطقة "الفلاح" التي عاش فيها أيام اختفائه، تجاوزت الساعة التاسعة، وقد اقترب موعد انطلاق الباخرة، ليكون في أواخر المسافرين، كما أُعدّت الخطة له، بينما "آمال" تكون قد وصلت، ودخلت بمساعدة الآخرين وحدها، وكما أُعد لها أيضاً، كان الميناء لا يزال يكتظ بالمسافرين، ومبنى الرّكاب مزدحماً هو الآخر، لكثرة الناس الذين جاءوا من كل الأماكن بالمئات. دخلت سيارتهم المدائن، المتلألئة بأنوارها الملوّنة، والتفّت بهم عبر الطريق البحري، حتى وصلت كراج الميناء الخاص بالمسافرين، وتوقّفت هناك.
ظهرت لهم "جالاكسي" الرّاسية في عرض البحر، والناس لا يزالون يتهافتون عبر الظلام إلى مبنى المسافرين القريب منهم. كانت أنوارها تحتل مكاناً باهراً، وهي ترسو بشموخ بينما الأضواء الأرجوانية، تعكس بسحرها بريق أمواج البحر الهادئة. طال بهما الانتظار، وهما على حالهما يراقبان الملأ، وقد أحاطت بالمكان البنادق الرّشاشة، من خلال السيارات التي يقودها أفراد المجموعة التابعة لـ"أدينان" والتي نظّمت أماكنهم بإتقان، بينما على الجهة المقابلة لهم، والتي تحوي مبنى المسافرين، انتشر رجال الأمن بشكل متفاوت، وهم ينظمون عمليّات السفر للمغادرين. جاء أحدهم، وأخبرهم بأنّ موعد الإبحار، سوف يحين في الحادية عشرة قبل منتصف الليل، وأنّ "آمال" لا تزال تنتظر، وقد تأخّرت قريباً من بوابة المبنى. تفحّص "أدينان" المكان الذي ظهر له مظلماً ومكتظاً بحركة الناس. وقليلاً من الأنوار الخفيفة تنبعث إليه، بحيث لا تمكِّن أحداً من تمييز الآخر. تشاور مع "زيريني"، ثم غادرا السيارة سيراً على الأقدام، توقّف "أدينان" بجانب الحديقة المقابلة لبوّابة المبنى رآها جالسة عل الرصيف قريباً من شجيرات المكان، الذي يجتمع حوله الناس، اقترب منها بخطى بطيئة، شعرت بوجوده، ثم رفعت برأسها لتجده قد قرفص أمامها، وجدها حزينة، تحمل همّاً غريباً، تنهمر على وجنتيها بعض الدموع، رمقته بنظرها من خلال العتمة وكان قد ضم بيديها إلى يديه، ينما عجوز قريبة منهما تراقبهما بعيونها. نهضا على أقدامهما، حاولت أن تقول شيئاً فلم تستطع، وهو ينتظر حركة شفتيها، رأى في رسمات وجهها ما لم يراه سابقاً من خلال النور المنبعث إليه، التفت بنظره إلى بوابة الدخول القريبة، التي أخذت تفرُغ من الزحام، ثم عاد به إلى وجهها الذي يشع غرابة في الظلام، ابتلعت ريقها الجاف وحرّكت بِشفتيها الكئيبة. - إيد.. أدينان. - ماذا؟ - وا.. والله أُحبّك. تفارقت أيديهما المتجمرة، ثم انسحبت بخطاها فجأة، واختفت بين المسافرين بعد أن دخلت المبنى، تصنّم بمكانه يتابع خيالها بعينيه من خلال الزجاج، استيقظ من غفوته على قطرات المطر، عندما آن له الدخول، حاول أن يتقدّم، سمع شيئاً من خلفه في الظلام، خطى خطواته الأولى باتجاه مدخل المبنى، شعر بمن يمنعه، عندما وضع "زيريني" بيده على كتفه فجأة. - أدينان. قاصداً بذلك منعه من الدخول فالتفت "أدينان" برأسه إليه، وبريق عينيه يخترق الصمت، رمقه بنظرة لم يألفها "زيريني" طوال عمره وهو إلى جانبه، جعلته لا يستطيع النطق و التحرّك، ثم اخترق المكان بخطاه القاتلة وهي ترتجف، يحمل بإحدى يديه حقيبته الخاصة. تأخر قليلاً وهو يراقب المكان من حوله، بعد أن تناول أحدهم جواز سفره. وبعد ربع ساعة أُشير إليه بالمسير من خلال الممر الخاص بالمغادرين، والذي يؤدي إلى مؤخّرة الباخرة، وضع حقيبته على آلة الفحص، ثم تناولها من المكان المخصّص، وبعد أن سار خطوات، أصبح على الساحل مباشرة، والذي ترسو عليه "جالاكسي". لفحه الهواء، وسرت في أنحاء جسمه رياح البحر الباردة، عندما أصبح قبالتها يتأملها بعينيه،تقدّم بخطاه، ودخل المكان المخصّص برجال الأمن في جوفها، وضع بجوازه على المكتب أمامهم، بعد أن طُلب منه، وتناول منهم استمارة الدخول التي قيّدت فيها بعض المعلومات، ثم أُشير إليه بالدخول ثانية. تعاقبت قدماه بصعود السلّم الحديدي، حتى تجاوز الآخر وأصبح على متنها في صالة الاستعلامات المستديرة، والتي تجمع في أطرافها جمهرة المسافرين، تقدّم إلى الكاونتر المستدير، واستقبلته إحدى العاملات بابتسامتها الرقيقة، حيث أملت ببعض المعلومات أمامها، ثم رافقته في دخول أحد الممرات الطويلة، والذي تصطف فيه الغرف، وعندما وصلا نهاية الممر، فتحت له بوّابة إحدى الغرف، رحّبت به بداخلها، ثم أشارت له على أحد المخابئ في السقف، بعد ذلك استأذنته في إحضار القهوة واعتذرت ثم ذهبت.
تجاوز مؤشر الوقت لديه الحادية عشرة والربع، وضجيج المحرّكات الهادئ يدور. نظر من خلال النافذة الزجاجية المستديرة المطلة على الفضاء. ثم أمعن النظر بالمدينة التي تعلوها أسرابٌ من الأنوار الملوّنة، عادت الفتاة وهي تحمل كأساً زجاجياً من القهوة في إحدى يديها، قرعت الباب بهدوء وعندما فتح لها وضعته على الطاولة، ثم غادرت. في نفس الليلة، كانت قد وصلت معلومات استخبارية مؤكدة، مصدرها "بون" في ألمانيا، تفيد بأنّ "أدينان" والمطلوب لدى أجهزتها هناك منذ سنوات طويلة، على خلفية الاشتراك والتخطيط لعملية "ميونخ" والتي قتل فيها الكثير من اليهود، ينوي القيام وخلال اليومين القادمين بخطف طائرة من أحد المطارات العسكرية للخروج بها من البلاد إلى إحدى البلدان الإفريقية. وعلى أثر ذلك وقبل منتصف الليل، اكتظّت شوارع المدائن بسيارات الجيب العسكرية، التي توجّهت بمئات الجنود إلى مختلف المطارات، بينما "أبو ساق" قاد جنوده إلى محاصرة الميناء البحري، بناءً على إشارة أُخرى مصدرها مجهول. ترجّل مساعدوه من سياراتهم، عندما غادر سيارته العسكرية، قبالة الكورنيش المطل على ميناء "الشعاب"، الذي ترسو فيه "جالاكسي"، توقف ثم نظر إلى البعيد عبر ظلمة البحر متخلّلاً الأنوار الأرجوانية الخافتة في مياهه، والتي تزهو بسحرها وهي تتوسط المياه، ثم حوّل نظره إلى "جالاكسي" الشامخة بأضوائها في وسط الظلام، اقترب منه مساعدوه الذين يثق بهم، وقال بصوت مبحوح: - إذا كان على متنها، فاستعدوا لمعركة. ثم استدار إليهم وأضاف: - في كل الأحوال سوف تتعرض مصالحنا في كل مكان للنسف، إذا حصل له شيءٍ هنا، إنه محسوب على الجبهة الثورية، وعضو كبير فيها، علينا بمنع ضباطنا من اعتراضه، للآن لم يؤذنا بشيء، إنه يحارب اليهود ولا يحاربنا، ويريدون لنا أن نبتلي فيه، بعد أن عجزوا عنه، ألا تدركون كل هذا؟
هبط قلبه فجأة. عندما سمع أصواتاً خافتة، استدار بوجهه ناحية الباب، وهو لا يزال يبدّل بملابسه، حاول أن يصل مخبأ السلاح في سقف غرفته، إلاّ أنّ بواعث القدر كانت أسرع منه عندما سُدِّدت أفواه البنادق على كافة أنحاء جسده، وتعالت أصوات غليظة متسارعة تُنذِر: - لا تتحرّك، يديك إلى الأعلى. - ارجع، ارجع للوراء، سنطلق النار. تجمّرت ثنايا جبينه بغضبه القاتل، وهو يحدّق بعينيه، اللتين اخترقتا الصمت وصدى أصواتهم العالية، تجول بها الممرات الطويلة. تفقّد الوجوه التي أمامه، بينما البنادق ترتجف بها الأيدي، وتكاد الأعين من خلفها تكون مغمضة. تمعّن وجه جمعة الذي يحتل مكاناً في زاوية الباب موجهاً مسدّسه، شعر جمعة بندم عابر، تفهّم "أدينان" الأمر من خلال الصمت الذي سيطر على المكان، عندما تنحّى "جمعة " بوجهه عنه، فانحرف "أدينان" بعينيه للوجه الآخر الذي ألفه في مخيّلته طويلاً، كان وجه "فرج" الذي يحاول التقدم منه أكثر وهو يصوّب بكلتا يديه ضاغطاً على مسدّسه، رأى في عينيه شرراً يتطاير حقداً، عندما تفوّه وقال: - أخيراً التقينا. تراودني نفسي بتفجير رأسك هذا. لزم "أدينان" الهدوء وهو يحاوره بعينيه، بينما "فرج" يحاول الضغط على زناد مسدّسه بتردّد، تحرّكت الشفاه وارتجفت، وهيبة "أدينان" تضع في قلبه الخشية، عندما تدخّل جمعة وقال بغضب: - لا أيها الضابط، إحذر التهوّر والتزم بأوامر القيادة. فتوجّه "أدينان" بعينيه القاتلة إلى "جمعة" الذي يقف على يمين "فرج" وقال بصوت هادئ: - أتظن بأنّه يمكن لكلب أن يصبح ذئب. ثم عاد بنظره إلى "فرج" الذي لا يزال يسدّد بفوهة مسدّسه إلى وجهه، وأضاف.. هيّا أيّها الكلب، أثبت لهم أنك ذئباً. تجمهر المسافرين خلف ضبّاط الأمن، وقد تعالت بعض أصوات النساء احتجاجاً*، رأى "أدينان" بينهم نعيمة التي سالت دموعها على خدّيها، توهّج وجه "فرج" بالحرج والاحمرار، حاول أن يطلق رصاصته والعيون تنتظر، وبعض من المسافرين أخذ بالتدافع وهم يدفعون، بعض من ضباط الأمن بلا مبالاة، وبعض آخر من رجال الأمن أخذ بدحرهم تحت تهديد السلاح.
* أثناء تواجد "أدينان" في المدائن وتنقّله في فنادقها وصالاتها، اشتهر بين المغاربة بفضل شخصيّته وسخاؤه، وكان مسرفاً وقد تعرّف عليه الغالبية فيهم، عرفه الكثير داخلها عندما تردّد اسمه في الممرات، فحاولوا أن يصنعوا من أجله شيئاً. وفجأة سُمعت الميكروفونات تطلق إنذاراتها، حينما أخذت الممرات تهتز أركانها وهي تردّد. - لقد تمّ إغلاق الباخرة، وهي تنطلق بالبحر الآن، لقد سيطر المسلّحون على غرفة القيادة، على رجال الأمن الاستسلام فوراً، وإلاّ ستتعرّض "جالاكسي" للانفجار والجميع يموت، هيّا دون تردّد… تعالى عويل النساء، وتوتّر المسافرون، فزع "فرج" وهو يحاول الانسحاب مع الآخرين، شعر الجميع بارتجاج الباخرة وهي تسير على غير عادتها تطلق بصفّارتها عنان السماء. سمع "أبو ساق" ومساعديه إنذار السماعات العالي وهو على الكورنيش، ابتسمت نعيمة للحدث الغريب وهي في زحمة المسافرين، اقتحم رجال "أدينان" الزحام وهم يهدّدون. - المسافرون إلى غرفهم بسرعة، ضعوا بأسلحتكم على الأرض، هيّا.. نحن نقتل دون تردّد.
دخلت "جالاكسي" المياه الإقليمية، استسلم رجال الأمن، وحُجِزوا في مكان خاص بهم، بينما المسافرين التزموا غرفهم، استمرت الاتصالات بين "أدينان" و"أبو ساق" الذي أعلمه استعداد القوة البحرية لاقتحام "جالاكسي". هدّده "أدينان" بقتل ضباطه العشرة الذين بحوزته ونسف الباخرة بمن فيها إذا اقتربت الزّوارق الحربية منهم لأكثر من كيلو متر واحد. ردّدت ردهات الباخرة تعلن طلب "آمال" من بين المسافرين، أو تحديد مكانها، تخبّط "أدينان" في ذاته كثيراً، ثم أخذ أفراد مجموعته بتمشيط الباخرة بحثاً عنها، حتى أنّهم لم يتركوا مكاناً دون تفتيش، تجاوز "زيريني" حينها الزّوارق الحربية المنتشرة في عرض البحر من خلال قاربه المطاطي السريع وتمكن من صعود الباخرة وهي تسير، راجع "أدينان" سجلاّت المغادرين وجاء بالمسؤولين وهدّدهم دون أن يصل إلى شيء، ثم أمر رجاله بإيقاف الباخرة في وسط البحر وشاورهم بالرجوع للميناء بقرار هستيري، فرفض "زيريني" والآخرين الأمر، وجاءوا بجمعة وقادوه إلى مقدّمة الباخرة وهي تشق بِسهمها الظلام، وخيّروه بمعرفة سر اختفاء "آمال" منه أو القتل والقذف به إلى البحر، فلم يجد بديلاً عن الاعتراف حينما قال: - إنها عملت لصالح الموساد منذ تواجدها معكم في فندق صلاح الدين، فُرض عليها الأمر مع "يوسي" عندما قدم إليّ من إيطاليا، هدّدناها بعائلتها هناك، واختارت الإبقاء على عائلتها، لم يكن يدري أحد بخروجكم من هنا، غير أنّ المعلومات التي وصلت من الموساد أكّدت بأنّكم ستقومون بخطف طائرة عسكرية من أحد المطارات والتوجه بها إلى إفريقيا. على ما يبدو أنّ هذه المعلومات كانت قد وصلتهم من "آمال"، إضافةً إلى المعلومات التي جاءت من "بون"، بناءً على توجّهات الموساد الإسرائيلي، والتي ظنُّوا من خلالها بأنّك ستنتهي على أيدينا. تذكّر "أدينان" ما قاله لها قبيل السفر بيوم واحد، وجاءت معلومات جمعة تؤكّد له سرّه الذي لا يعلمه غيرها.
اخترق بريق عينيه الظلام تحت المطر، تأوّه قلبه للبحر قهراً ثم رفع بحاجبيه نحو سماء المدائن البعيد، التي تكاد أضواؤها تختفي، احتوته ذكرياتها والباخرة تسير للمجهول.. ما كان عليكِ أنّ تفعلي.. لقد أحببتك أيّتها الحبيبة .
إنّها تخترق السماء.. تعود الغيوم، وتتبعثر في ثناياها، تُخيّم على الكون دفئاً، وينتشي الملأ الحياة.. تكاد السماء تُطيح بها، ويحتقن رمادها، ليكوّن غموضاً كونياً لا إرادياً، بعيداً عن الأرض وبعيداً عن السماء
أحِنُّ إلى مطلعها كلّ صباح..ليتني أعيشُ في ظلّها..في عصفِها ورعدِها لأنتشي منها حقيقة الحياة .. تجاوز الحنين تجاوزه، نحن اليوم هنا وغداً هناك، والشرق أصبح مَيْتاً نرتجيه.
.. لا يمكن لا يمكن لأحدنا الاستمرار، وتجاوز حقيقتنا، لقد أهلكني الاغتراب، وجعلني أتوه عن حقيقتي، التي لن أراها بعد إلاّ مَيْتاً، لقد أصبحت أفقد إحساسي بالانتماء، إنّه لا يُضيرني حُكم الله، على قدر ما يضيرني حكم الاغتراب.
انتهى خالد سليمان القرعان كتبت هذه الرواية في المملكة المغربية نهاية عام 2001م وأجيزت من دائرة المطبوعات والنشر الأردنية ووزارة الأعلام
**************** [email protected]
#خالد_سليمان_القرعان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية وتمضي الارض
-
في توجهات السياسة الأمريكية والنظام العربي الحاكم
-
رواية خطى في الظلام - الجزء الاول
-
علاقة النظام العربي بالصهيونية والادارة الاميريكية
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|