أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - فصل من رواية الحياة لحظة/المتشردة الروسية/















المزيد.....



فصل من رواية الحياة لحظة/المتشردة الروسية/


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 3033 - 2010 / 6 / 13 - 20:20
المحور: الادب والفن
    



المتشردة الروسية/ فصل من رواية الحياة لحظ

منذ بكرة الصباح يخرج «إبراهيم» من الشقة هاربًا من وحدته، فـ«أسعد» بعد أن أحيا فيه كل النزوات القديمة.. اختفى!. يستقل الحافلة المكتظة بالروس بوجوههم المرهقة المتجهمة، القلقة وهم يتوجهون إلى العمل. يقف وسط الزحمة يبحث عن وجه جميل يعينه على قطع المسافة وقوفًا.. يعثر على عينين أنثويتين تهتمان به.. ويبدأ ذلك الكلام الذي تقوله العيون، ظلال البسمة، التشاغل بالنظر عبر الزجاج والعودة إلى حيث يحدق منتشيًا ناسيًا الكل. تظل عينا الروسية تنجذبان حيث يقف راسخ التحديق وكأنه قطب ممغنط..
يترجل من الحافلة منتشيًا، مكتفيًا بمضاجعة العيون الخاطفة.. يهبط سلالم المترو.. يبحث عن عينين جديدتين بين حشود المنتظرين ليدخل في العربة نفسها التي تدخلها وتبدأ اللعبة الممتعة من جديد. الروسية لا تتحمل طويلا.. فبعد عدة نظرات تبتسم وتظل تبادلك النظرات بعينين فرحتين ممتنتين، بالعكس تمامًا من العراقية التي سرعان ما تسخط نظراتها، وتبدأ تتمتم بصوت غير مسموع.. عرف لاحقًا من بعضهن أنهن يشتمن الناظر الوقح لأنه بلا أدب. يمارس اللعبة بكل مكان معانقًا تلك الأرواح الأليفة المرفرفة في ألوان العيون.. يتسكع في وسط موسكو، في المخازن الكبيرة، في الشوارع العريضة.. يتأمل المارة اللاهثين هاربًا من ذاكرته المكتظة بحشود القتلى، الذين قضوا في جبهة الحرب مع إيران، في حرب العصابات في الجبل، في الأقبية المظلمة في المدن والجبال، ما زالت وجوههم تتجسد وهم يعانون السكرات الأخيرة في رأسه حال عودته وحيدًا إلى الشقة. فمن صمتها المغبر وعواء الريح في الغابة القريبة، تهب أصوات المعذبين في عمق الظلام، والتي كان يسمعها وهو معصوب العينين بأقبية الأمن العامة ببغداد، أو إلى جواره في ملاجئ شرق البصرة، أو في الجبل حيث يصرخون، وهم يدورون حول أنفسهم مختنقين بغازات الكيمياء..
يهب الصريخ والشخير وهذيان الألم ما أن يحتويه فراغ الغرفة.. فيهرع إلى كأس الفودكا ويعب الواحدة، تلو الأخرى. رويدًا.. رويدًا يتأرجح على حافة الخدر والنسيان، فيسقط في نوم يبدأ عميقًا في الساعات الأولى؛ ليتحول مع أول استيقاظ إلى رؤى مرعبة تطل من الماضي.. أخيلة وجوه شاحبة تتوالى صارخة دون صوت تخطف، قادمة من نقطة ما مظلمة في الأفق لتحتل زوايا الغرفة.. تزدحم الغرفة بهم.. محنطًا في فراشه يحملق بجزع في أولئك الأحباب، الذين فقدهم بلجة ما بين النهرين.. قسماتهم المرعوبة شديدة الوضوح، فاقعة الصفرة، بعضها مازال ينزف .. وبعضها مسود الأطراف.. تضج الغرفة بهم.. يقتربون من رقدته مادين أذرعهم المستنجدة نحوه.. يحيطون به.. يطبقون عليه محاولين عناقه.. ينفلت الصراخ قويًا يصم الأذان في اللحظة التي تتناوله الأكف الهلامية فيستيقظ صارخًا يدفع بيديه في فراغ الغرفة.
يسقط في صمت الليل الساكن المظلم.. يتلمس قسماته.. يحدق في الزوايا.. في ستارة النافذة المسدلة.. في الحافة الرفيعة التي تسرّب ضوء الشارع الممتد خيطًا شاحبًا حتى حدود المكتبة المنزوية لصق الجدار المقابل للأريكة موضع رقدته.. يضيع عليه المكان.. يظن أول وهلة أنه يرقد على فراش طفولته البعيدة في بيت منزوٍ بطرف الديوانية.. ثم يستدرك معتقدًا أنه في ملجأ في جبهة الحرب.. يتلمس خشونة الأريكة فيتصور أنه يرقد على ( كرتان ) بغلٍ بمفرزة في الجبل.. يتلمس حافة الأريكة.. فيضيع عليه المكان تمامًا.. يهمس بحذر إلى نفسه:
- أين أنا إذن؟!.
كابوس أدمنه.. يتكرر بأشكالٍ مختلفة.. لكنه يفضي إلى السؤال نفسه.. يقوم.. يكبس زر الضوء.. يتضح كل شيء.. وحدته مع ذاكرة محشودة بالعنف في المشاعر والمواقف والرؤية، ذاكرة أججتها الخمرة والوحدة، وسقوط أفخم مدينة فاضلة في نهاية القرن العشرين، حيث حلّ في ذلك الزمن المفصلي.
- لا علاج إلا بما أبدعه أبناؤها من سائلٍ سحري أبيض.. شديد الصفاء أسموه بالفودكا، يحيل المرء إلى فسحة النسيان.
ينطق جملته الفخمة بالفصحى ويقوم من الأريكة.. يصب كأسا في المطبخ.. يجلس بمواجهة النافذة المطلة على حافة الغابة.. يعب بصمت شاردًا من النوم.. من الأخيلة.. من الكوابيس.. من الذاكرة.. يتأمل خيوط الفجر تتسلل من زوايا السماء الغائمة.
هذي الدوامة اليومية كادت تقضي عليه.. فلمرتين اضطر الجيران إلى الاتصال بسيارة الإسعاف حينما أوشك على الاختناق. كان يصل مترنحًا، غير قادر على الكلام إلى باب الجار الذي يتصل بالإسعاف حال رؤيته.. الدوامة المريرة سورته فاتصل بأسعد تليفونيًّا شارحًا وضعه. وعبر الهاتف أحس بأسعد غاضبًا بشدة وهو يطلب منه التبكير بمغادرة الشقة والتسكع بلا هدف في أي مكان بموسكو، ورؤية الروس في حركة يومهم:
- بغير هذا سوف تموت يا ول!
ظل يصرخ مكررًا جملته في الهاتف، وأضاف:
- أصبر عليّ شويه.. أنا أعرف شنو الحل!.
لكنه اختفى ولم يبر بوعده.. رغم ذلك وجد في نصيحته خلاصًا من ذلك الطحن، في وحدته في الشقة مع الخمرة والصمت والذاكرة الدامية..
هاربًا يجوب صرة موسكو.. الساحة الحمراء الواسعة المرصوفة بحجرٍ خاص لم يكن أحمر، كما تخيل منذُ قراءاته الأولى عن الثورة الروسية في سنيّ فتوته العنيفة.. ساحة كأي ساحة لا علاقة لها بمخيلته الجامحة المائلة إلى تقديس الرموز.. ساحة ممتلئة بالسائحين الأجانب والعاهرات.. والروس الساعين إلى الحصول على أي مبلغ من الزائرين.. يقف في صف السائحين الطويل أمام ضريح «لينين»، الذي لم يتمكن أبدًا من إكمال كتاب واحد له رغم وفرتها في العراق أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.. وجدها كتبًا شديدة المحلية، معنية بتفاصيل زمنها وتفتقد إلى المتعة.. فانعطف نحو قراءة من عارض «لينين» واجدًا بكتب «تروتسكي» متعةً وعمقًا نادرين في تفسير الثورة والبشر والوجود.. لا يزال يستنكر طريقة قتله البشعة بفأس في المكسيك ..
يقف «إبراهيم» وسط الساحة الحمراء في صف المنتظرين، يستعيد سرد «جون ريد» في كتابه «عشرة أيام هزت العالم».. يتأمل حماس ذلك الزمن وأحلام بشره التي آلت إلى هذا الخراب.. يأتيه الدور.. يدخل قاعة صغيرة فخمة.. الصمت مطبق.. الصف يسير بوقع خطى مكتومة ويحدق بالرجل القصير، صغير الأطراف، النائم بتجويف زجاجته المضيئة بكامل قيافته.. المكان يثير الكآبة.. يحس المرء فيه أنه مراقب من مئات العيون المختبئة خلف رخام الحيطان وزوايا تجاويف السقف والأعمدة.. يفكر بالعديد من أصدقائه، الذين قتلوا في المعتقل على وهم ما بناه هذا الراقد بسلام منذُ1923 . يفكر بعبث الحياة.. يقارن بين ما يثيره هذا المرقد من كآبة وشعور بالخوف، وما تثيره مراقد أئمة الشيعة الشهداء : الحسين والعباس وعلي في النجف وكربلاء من مشاعر أمان ورواء ودفء.. الناس هنالك يفضون باكين للنائمين منذُ قرون عبر شبابيك الذهب بما يثقل عليهم من شئون الدنيا.. يقول في نفسه:
- .. أولئك مطلق.. وهذا النائم في الصمت داخل تابوت زجاجي ، عابرٌ في التجربة الإنسانية..
ويفكر بضياعه بين الكتب والأيديولوجيا.. بالمرات التي نزل فيها في المعتقل بتهمة الشيوعية، وشبع ضربًا وركلًا معصوب العينين، مقيد اليدين بجامعة حديدية تضيق كلما حركها.. يفكر في المسافة بين الدخول والخروج من باب القاعة المقابل بالعناء، الذي ورثه من عائلته فطرةً، فأبوه وأعمامه كانوا شيوعيين يحلّون في المعتقل بين الحين والحين منذُ الأربعينيات، وكان ينحاز لهم بمواجهة السلطات حتى وجد نفسه يقترب ما أن بلغ السادسة عشرة من تنظيمات الحزب السرية ويدخل ذلك المعترك، الذي لم يجد منه فكاكًا كل العمر.. فها هو في موسكو مشردًا وحيدًا مجهول المصير بسبب ذلك.
فكر بالمرات التي كاد يقضي فيها نَحْبَه في المعتقل أو في الجبل، فحمد الكون على بقائه كي يرى هذا المصير التراجيدي لآخر تجربةٍ للفقراء، الذين حاولوا أن يتساووا مع الأثرياء في الحقوق والواجبات وفرص الحياة. ذلك ما وطّنَ عبثية أفكاره التي استفزها «أسعد» البدوي.. يظهر من الباب المقابل.. يواجه الطرف الآخر من الساحة الحمراء يعب نفسًا عميقًا وكأنه كان في صندوق مغلق.. يواجه كنيسة فريدة المعمار إلى يمين الضريح في الطرف البعيد من الساحة، يحث الخطى نحوها، يجدها أكثر حيوية وبهجة تعج بالروس، المتعطشين إلى أمكنة العبادة، التي كانت مغلقة قبل «جرباتشوف».. أروقة الكاتدرائية وقاعتها الفسيحة تزدحم بالروس، الذين يوقدون أصابع الشمع تحت تمثال المسيح المصلوب.. قال لنفسه:
- أيُّ سجنٍ حللت فيه طوال سنين.. الوطن والعائلة!.
وفقاعة الحياة الموشكة على الانفجار.. يغور في أنحاء موسكو مؤجلًا موعد السكر إلى حين عودته في المساء.. تتوالى الأيام.. يتعمق العبث.. يزور السيرك الروسي الكلاسيكي والحديث.. يزور متاحف المشاهير.. يجلس في أعرق المقاهي.. يتخيل كائنات الروائيين العظماء المنبعثين من وجوه أحفادهم المتعبين في الشوارع والحانات والأسواق.. في الصبح والمساء.. لا يمل من مضاجعات العيون.. والروسيات أمتع نساء الأرض في ممارسة تلك اللعبة التي يعتقد أنها ألذ من فعل الممارسة الفيزيقية..
تتلاشى رغبة التسكع.. يترسب من جديد في وحدته الموحشة.. فيعود إلى دوامة السكر. منذُ بكرة الصباح، يتوجه نحو كشك البيرة القريب من الشقة، حاملًا أناءً زجاجيًا يسع خمسة لترات.. يحدق بغضب في الصف الطويل الممتد إلى مسافة كيلو متر..
يتقدم نحو النافذة الصغيرة.. يفسح له الواقف أول الصف.. يبتسم له البائع.. سيظل مستغربًا من سر صمت الصف الطويل على تجاوزه.. سيكتشف لاحقًا عندما ذهب مع صديق يعيش في روسيا رأى مشهد خرقه للصف بنفسه.. فعرف أن الروس كانوا يعتقدون أنه من عصابات الشيشانيين المنتشرة بأرجاء موسكو في تلك الفترة.. فأولا ضخامة حجمه.. ملامحه الشبيهة بملامحهم.. نظرة الغضب التي تسبق تقدمه نحو نافذة الكشك.. الصمت الذي يقابل به بعض من يحتج.. والأهم علاقته بالروس الذين يتجمعون حول الأكشاك طوال اليوم كي يشربوا فقط؛ إذ كان يقدم لهم السجائر والشرب ويستمع لهم وهم يحدثونه بالروسية..
يضحك حينما يضحك المتحدث.. وينفعل مبديًا مشاركته حين ينفعل.. عندما سمع «إبراهيم» تفسير صديقه، انخرط في ضحك عاصف حتى سقط على الأرض؛ فنظرة غضبه ليس من الروس بل من طول الصف.. وصمته لعدم معرفته اللغة.. أما السكيرون فلم يجد سواهم في وضعه أنيسًا حميمًا يقبل به ساكتًا.. يعود إلى الشقة.. يجلس بمواجهة النافذة المطلة على الغابة.. يرتشف البيرة مستمتعًا بالصمت وغناء طيور يضج في ساعة محددة من الصباح..
في الظهيرة ينزل إلى محل بيع الخمرة ليشتري المزيد من قناني الفودكا. وعند المساء يبدأ في الشرب الثقيل، فتهجم الأخيلة.. والأرواح.. يتحاور معها بصوت عالٍ.. يصرخ بها.. يلعنها.. يبكي حبًّا وأسفًا على غيابها.. يرقص معها.. يرتعب من قسماتها وهي تتجسد دامية.. ممزقة.. تحرز آخر صرخة ألم.. يختلط كل شيء بعد القنينة الأولى.. فلا يدري هل هو في أحلام اليقظة أم أنه في باطن كوابيس.. يختلط إلى أن يجد نفسه في الصباح مستلقيا على الأرض في الغرفة أو المطبخ أو الممر، فينهض فرحًا على صوت غناء طيور الغابة وهدوء المكان.. يأخذ دشًّا دافئًا، وبعد الفطور ينزل متوجها نحو كشك البيرة القريب.. لتبدأ دورة اليوم من جديد.
انهمك «إبراهيم» في خواء اليوم الذي يقضيه بين كشك البيرة والصعاليك الروس الذين أحبوه.. وبائع الفودكا الحكومي، الذي أمسى يحجز له ما يطلبه من قناني؛ لأنه يدفع أكثر من العمال الروس المساكين الواقفين في الطابور الطويل؛ كي يحصلوا على قنينة بالسعر الرسمي.. يضحك في سره من المفارقة.. فبراتب الأمم المتحدة التي قبلته لجنتها في موسكو لاجئًا، يستطيع أن يعيش في بحبوحة السكر والتسكع أفضل من مهندس روسي.. كان يسمع لعنات الروس الواقفين بالصف الطويل المنصبة على البائع، الذي حالما يراه يبتسم ويشير له كي يدور من الباب الخلفي.. ألذ ما في الأمر هو أنه يقدر أن يفعل كل ذلك دون معرفة اللغة..
ومع الرشفات الأولى كان يتألق طربًا، وهو يستعيد ملامح الروس الغاضبين في صف البيرة والفودكا ولامبالاته.. ووجه البائع المتواطئ، وهو يطلب من الساخطين الكف عن الكلام.. ذلك ما فهمه من إشارته بوضع كفه على فمه الكبير.. يضحك ساخرًا من نفسه، وممن مات من أجل هذه المدينة الفاضلة.. يضحك من عبث الدنيا والأفكار.
في الغمرة والاضطراب والوحدة، صارت لحظة الغيبوبة بفعل الخمرة هي المبتغى..
لم يتصل به أحدٌ، فاستطاب «إبراهيم» وضعه ليترسب درجة.. درجة في درك السكر ، الذي قاعه قاع.. لذيذ مطلق.. يذيقه الوحشة والدفء في الوقت نفسه. فزَّ من سنة نومٍ أخذته أول المساء.. قفز من رقدته مذعورًا نحو المطبخ ليتأكد من وفرة الفودكا.. فلم يجد سوى وشل قناني.. هرع إلى المدخل.. ارتدى معطفه الثقيل.. وخرج باحثًا عن شقة قريبة تبيع صاحبتها الفودكا بسعر عالٍ.. عاد منتصرًا منتشيًا بقنينتين.. تسلق السلالم الحجرية بنشاط. ما أن اعتلى آخر درجة تؤدي إلى الطابق الثالث، حتى توقف جوار كتلة مكورة على السلالم المؤدية إلى سطح البناية.. فرك عينيه.. لم يزل رأسه غاطًّا في خيالات السكر وأحلام اليقظة.. ظنها أخيلة. أحد البصر فتأكد من وجودها.. كتلة متكورة تحت معطف أسود ثقيل.. خشي من إيقاظها، فطالما مدّ يده نحو أخيلة الأحباب الذين يزورنه في الشقة، لكن لا يقبض سوى حفنة هواء وخيبة تسعر أشواقه.. استدار عن تلك الكتلة داخلًا الشقة.. ليمارس طقسه المألوف.. في المساء التالي لم يكن بحاجة كي يخرج في طلب الفودكا، لكنه مع هبوط الظلام.. وتقادم الوقت نحو منتصف الليل.. تذكر كتلة البارحة المطروحة على السلالم الباردة الصاعدة نحو السقف.. فقال لنفسه:
- سأخرج لأرى هل كانت البارحة أم لا؟!.
فتح الباب.. جاوز العتبة.. كبس زر مصباح السلالم.. تدفق الضوء شلالًا ليسقط على الكتلة المتكورة بموضع ليل البارحة نفسه. اقترب منها ظانًّا أن أخيلته بدأت تخرج من نطاق غرفة الشقة.. لكنه عندما مدَّ يده ولمس معطفها الثقيل، تأكد أن الجسد المطروح على سلالم المبنى حقيقي.. صعد درجة كي يتبين الوجه المخفي بياقة المعطف الطويلة، فأطل على قسمات امرأة تسقط في نومٍ عميق.. بدت شديدة البراءة وكأنها قسمات طفل.. نزل إلى الفسحة أمام الباب حائرًا.. ودفعًا للشبهات، أطفأ النور ودلف إلى الشقة.. البرد شديد ودرجة الحرارة تقترب من العشرين تحت الصفر:
- ستتجمد!.
قال لنفسه متذكرًا ما قرأه قبل أيام عن مئات الروس المشردين الذين يقضون في الشوارع بردًا كل عام.. ملأ الكأس.. صار كلما عبّ واحدًا ازداد صحوًا، فغادرته الأخيلة إلى أن وجد نفسه ينفجر ببكاء غامض، وكأن عزيزًا جرحه في القلب:
- الشقة فسيحة دافئة والفراش متوفر.. فَلِمَ تدعْ هذه المخلوقة المسكينة تنام على السلالم في البرد؟!. سأل نفسه، لكنه لا يدري من تكون؟!. وما قصتها؟. يضاف أنه لا يجيد اللغة.. في لحظة خاطفة تخيل نفسه أنه تعرف إليها في رواية من روايات «ديستويفسكي».. فطالما شغلته تلك الشخصيات المسحوقة المدمنة للخمرة والعذاب؛ حيث لمس باطن عالمها الدفين في حياتها على الورق.. حتى أحبها أشد الحب وهو يجد فيها من عذاب أبيه السكير شيئًا حينما هجرته أمه، وجعلته يعيش في غرفة داخل البيت، وحيدًا مع خمرة ليله وأغاني زهور «حسين».. كان ينفلت في بعض الأيام صارخًا شاتمًا ويضربها في محاولة يائسة؛ كي يستعيدها دون جدوى.. وعندما أدرك محنة أبيه وبدأ ينسج معه علاقة صداقة متأخرة، لكنها لم تستمر طويلًا؛ إذ اضطر إلى الهرب وتركه وحيدًا.. هب من جلسته وجعل يدور كالمسعور بأرجاء الغرفة.. خرج إلى الشرفة.. حدق في الظلام الشاحب والثلج المتساقط بحفيف خفيف كخطى متسللٍ.. دخل إلى الغرفة.. عبر عتبة المدخل.. استدار نحو المطبخ.. عمَّر كأسًا.. عاد إلى المدخل.. احتدم.. فتوجه نحو الباب المسدود صارخًا:
- ليس عدلًا.. ليس عدلًا!.. ليس عدلًا!.
فتح الباب.. كبس زر المصباح.. انحنى نحوها.. ربت برقة على خدها الأبيض المائل إلى الاحمرار..أبعد أصابعه الوجلة.. المرأة تغط عميقًا في نومها.. شدّد من قوة الربت.. وببطء شديد تحركت الأهداب مرتجفةً.. تباعدت للحظة وعادت تطبق، متضايقة من شلال ضوء المصباح الساقط من سقف السلالم على وجهها مباشرة.. مسح جبهتها بأصابع حنون، وكأنها زوجته التي أحبها ويعرفها منذ سنوات طوال.. نبضتْ مسامه بذاك الحنان القديم الحبيس، الذي كانت تبثه الأصابع عندما يسكر أبوه ويسقط في النوم على كرسيٍ في حديقة المنزل.. يضطر إلى إيقاظه كي يساعده في الوصول إلى فراشه.. جعلها الحنان الساري عبر بشرة الخد تباعد أجفانها كاشفة عن فصين أزرقين أكثر صفاءً من ماء البحر والسماء في يوم شديد الصحو.. لبثتْ على سكونها تدوّر عينيها بين السقف ووجه «إبراهيم» المنحني عليها وباب الشقة المفتوح، قبل أن تتمسك بذراعه الممدودة لتنهض واقفة.. سحبها برفق نحو باب الشقة. دخلت بصمت.. وتفحصت بعينين نشطتا لحظة أرجاء الشقة وقالت بالروسية شيئًا فهم أنها تسأل:
- هل يعيش وحيدًا!
أشار لها برأسه بنعم.. انفرجت أساريرها وسألت عن الفودكا. أشار لها بالجلوس على الأريكة.. وجلب من المطبخ قنينة وكأسين. وجدها تنضو عنها المعطف الأسود الرث، فبان جسدها الطويل الرشيق.. فخذان ممتلئان لا تخفيهما التنورة العريضة البالية. قدمان صغيرتان ظهرتا وهي تنزع حذاءها المطاطي.. خصر ضيق.. وركان جالسان في الوسط بتناسق وبروز مثير.. بطن ضامرة. ومن تحت القميص الممزق بانت صلابة النهدين الناصعين من خلال ثقوب القميص.. لم تكن ترتدي حمالة صدر. صعّد «إبراهيم» ناظريه إلى عنقها الأبيض الطويل.. إلى قسماتها المتناسقة الجميلة وهي تنبض بالسعادة حال رؤيتها قنينة الفودكا.. نفس سعادته حينما يعثر عليها في محلٍّ بعد عناء.
لم يكن مستغربًا من هذه الروسية المتشردة والجميلة.. «ديستويفسكي» جعله يلمس عميقًا أرواح السكيرين الروس قبل أن يراهم.. أبدت رغبتها في الشرب.. أخفى القنينة خلف ظهره.. وأشرّ لها كي تذهب إلى الحمام لتغتسل، فحينما سحبها كي يساعدها على النهوض من على السلالم، ورغم أنه يشرب طوال اليوم هبت من كتلتها رائحة عطن خانقة، فأدرك أنها لم تغسل جسدها منذُ أشهر.. بعد طول عناء فهمت المطلوب منها، فهدرت غاضبة وتكورت بزاوية الأريكة متشبثة بمسندها، عندما أمسكها «إبراهيم» من تحت إبطها وتحت فخذيها قاطعًا أنفاسه.. نزعها بقوة من الأريكة وحملها وهي تصرخ بالروسية شتائم.. قدّر أنها شتائم. وضعها في حوض البانيو وفتح الماء. استسلمت فجأة تحت الماء المتساقط من الدش متحولة إلى طفلة فرحة. غادرها رادًّا باب الحمام خلفه.. أخرج حقيبة كبيرة من الأريكة، وأخرج ملابس كانت زوجته قد تركتها.. حمالات صدر.. قمصان.. بلوزات.. ألبسة داخلية.. أردية منام.. وضبها على الطاولة.. وعاد إلى الحمام.. فتح الباب وجدها عارية وسط البانيو مغمورة بالماء ورغوة الصابون.. ترمقه بودّ.
أشارت إليه كي يساعدها في الاغتسال.. دنا من حافة البانيو.. كان جسدها أبيض بياضًا آسرًا مشوبًا بحمرة خفيفة يتموج في غمرة الماء والرغوة.. ظاهرته وأقعت نصف جالسة في البانيو.. دلك بشرتها براحة يده اليمنى.. مستمتعًا وأطراف أصابعه تنزلق على الظهر الأملس الناصع .. الغريب في الأمر أنه دلك كل جسدها بيديه.. لكنه لم يُستثر!. أكمل غسلها.. ونشفها بيديه.. أجبرها على غسل أسنانها بالمعجون..
جعلها ترتدي ملابس زوجته قبل أن يبدأ الشرب معها.. بعد أن عبت في جوفها عدة كؤوس، شرعت في الحديث باللغة الروسية بوجه منفعل. كان يتأمل نغم الكلام، حركة يديها، ما تبوح به عيناها المتألقتان، تشديدها على كلمات بعينيها لفظًا، وكان يرى تجسيدًا حيًّا لشخصية مذلة مهانة من إحدى روايات «ديستويفسكي».. فما تسرده لا يختلف كثيرًا عما أبكاه مرارًا عند قراءة تلك الروايات.. من المؤكد أنها عاشت عذابًا متصلًا منذ الطفولة.. والصبا والشباب.. قد تكون تزوجت من سكير جعلها تدمن.. أو أدمنت بسبب خيانة الزوج.. أو أنها فقدت ولدًا في حادث.. أو أن ولدها أصبح عاقًّا كأن يكون مجرمًا انضم إلى عصابة.. أو تكون شديدة الفقر طردت من العمل بسبب الإدمان.. لكنها بالتأكيد ليست عاهرة.. فجسمها الذي جسه بيده في الحمام كان متناسقًا بضًّا مثيرًا، كانت تستطيع لو - أرادت - أن تستخدمه كوسيلةٍ للكسبِ.. وهذا يرجح أنها امرأة تفتقد إلى الحب والحنان.. امرأة أقحلتها الوحشة ودفعتها نحو الإدمان.. هو الآخر لولا المخاض العراقي الذي اضطره إلى الالتحاق بثوار الجبل، وعلاقة الحب التي ربطته بزوجته لكان مثلها..
كانت تسرع في السرد وقت الغضب.. وتبطئ وقت هدوء القسمات، فيتحول إيقاع الكلمات وكأنها تلقي قصيدة حب رقيقة.. وكان «إبراهيم» يندمج رويدًا.. رويدًا بعالمها حتى أنه عندما شرعت بالصراخ والبكاء، انفجر هو الآخر باكيًا معها وذلك جعلها تغادر الأريكة لتجلس على السجادة المغبرة جوار قدميه.. وتمسك بكفه وتنهال قبلًا عليها. تبللت كفاه بفيض دمعها الساخن.. أعول مثل طفلٍ فأجهشت بصخب. اعتنقته.. فخفف ذلك من عويلها.. تخافت مثل صوت يضعف.. ويضعف ليتلاشى في الصمت. وعندما سكنت وجدها غافية في حضنه بعد أن هبط هو الآخر إلى السجادة المغبرة الخانقة.
- تمامًا كما كتب «ديستويفسكي» قبل أكثر من قرن.. تمامًا!
قال لنفسه هكذا لابسًا ثوب القس أليوشا في «الإخوة كرامازوف». سحب جسده من تحتها. وضع ذراعه في وضع الوسادة. تناول الوسادة ودسها تحت ذراعه. هبط برأسها إلى سطحها.. أعدَّ الفراش على السجادة.. وحملها ليضعها عليه. وقام ليجلس على الأريكة.. صب كأسًا عبها في رشفة واحدة منتشيًا وهو ينظر بصفاء روحي افتقده منذ الطفولة نحو هذي المخلوقة المشردة الغافية بسلام تحت ناظريه.. منتشيًا من الناصية التي اعتقد أنه قد وصل إليها.. إذ كانت أثناء تقبيلها كفيه تردد:
- يسوس.. يسوس!.
فتخيل نفسه «عيسى» العازف عن شهوات الدنيا.. مذلول شريف من شخصيات«ديستويفسكي»:
- أنا في باطن رواية من رواياته.. وفي موسكو حقا!.
أطربه الوضع، فهذه المرأة التي عثر عليها وحممها، واستمع إليها عدته قديسًا في ساعات وبكت في حضنه وغفت مثل طفلٍ في حضن محب.. أليس ذلك عجيبًا.. فهو في حقيقة الأمر لا يختلف عنها قيد أنملة إلا في طبيعة الظروف المختلفة.. هو بائس الطفولة.. ارتكب من الذنوب ما قد يفوق ذنوبها؛ لذا كان يحس أنه في باطن رواية لا في واقع حقيقي. تذكر «أسعد» بشدة:
- أين صرت يا «أسعد».. لو كنت معي!.
قال مع نفسه في أول خروجٍ من قالب العائلة المحكم الطاغي:
- لولا سفرهم لما رأيت من يعتبرني المسيح!.
صب المزيد من الكؤوس.. ليطير في نشوة الخمرة والخيال إلى أبعد نقطة.. إلى الطفولة.. إلى خيوط الفجر التي تسللت من النافذة.. إلى غناء العصافير القادم من الغابة المجاورة.. ترنح عند قيامه. جهد حتى استطاع الاستلقاء جنبها.. وغفا غفوة طفلٍ وديع.. أيقظته شدة انتصابه.. نظر إلى ساعة الحائط القديمة كانت تشير إلى الحادية عشرة صباحًا.. لا يزال في حومة الخمرة وخيالاتها.. تلمس الجسد اللصيق.. كان شبه عارٍ، وثوب المنام الشفاف منحسر حتى أعلى البطن. كان في وضع مختلط فيه كل شيء.. ورائحة ثوب النوم أليفة تتغلغل في حواسه قادمة من نسيجه.. أشعلت شهوته ، وفاقم من تصلب رمحه المشدود، لصقه الجسد الأنثوي ملمومًا بوضع الجنين.. الردفان الضخمان الناعمان الملتصقان بحضنه يؤججان نيرانه العميقة، وهو المحشود بإرث حرمانِ مخيلةٍ لا ضابط لها ولا حدود .. الرائحة نفسها.. رائحة الزوجة القادمة من ثيابها الحميمة.. لكن اللحم غير اللحم.. هذا أبيض بض شديد السطوع.. التحم بها.. عندما تململت قبَّلها .. كان محتدمًا بغزيرة ثور بري .. استيقظت مباعدة أجفانها ورمقته بنظرة استغراب.. فتح فخذيها الملتصقتين بعنف .. متدفقًا لاهثًا .. محتدمًا .. منصهرًا في فوران شهوة عمياء .. ناسيًا تجلي البارحة.. في اللحظة التي أولج فيها حاولت المقاومة بحركة خفيفة من الفخذين المفتوحين بقوة جسده بصمت حاولت دفعه، ولكنها استسلمت وظلت تحدق نحوه بحياد وهو يخترقها عميقًا بعنفوان.. سوف تظل نظراتها الشديدة الحياد المستسلمة.. الشاخصة نحو كتلته الراهزة بشدة تعذبه، حينما يصل إلى الذروة وحيدًا.
لن يكرر العملية ثانية، وهي تتردد طارقة بابه كل مساء بعد أن تغيب طوال النهار، وتأتي جائعة تشكو البرد والبشر.. هكذا ثرثرتها بالروسية فهي لا تكف عن الكلام منذ لحظة دخولها.. كان يقدم لها الطعام والمأوى.. ويستمع إلى سردها الذي ينتهي بالغناء الحزين بصوتها الجميل.. كان ينفعل مع إيقاعه، وكأنه ينصت لغناء داخل «حسن» و«حضيري أبو عزيز».. كانت تغني إلى حد الإنهاك.. تتكوم على الفراش.. وتظل تغني بصوت يتخافت ويتخافت إلى أن تسقط في الغفوة، فيقوم ليغطيها.. أدرك بمرور الوقت أن الخمرة دينها.. لا علاقة لها بجسدها وشهوته.. ظل يداري شعور الذنب من مضاجعة ذاك اليوم الشبيهة بالاغتصاب في الحنو على وضعها.. هو الآخر كان يرى نفسه داخل رواية من روايات الكتاب الروس العظام.
ما استله من باطن أخيلة قراءات صباه المتجسدة في موسكو وألقاه على أرض الواقع شعوره بالعار منها، ففي مساء بارد قُرِعَتْ الباب في وقتٍ مبكر.. استغرب لذلك.. وتساءل عمن يكون الطارق في مثل هذا الوقت.. فتح الباب فدخلت متوترة.. قدر أنها لم تحصل هذا اليوم على ما يكفيها من البيرة والخمرة.. مثلها مثله في تلك الأحوال.. كان قد أفرغ أخر كأسٍ قبل لحظات، فلم تجد شيئًا.. أوشكت على الانهيار. كان في اليوم نفسه قد تسلّم راتبه كلاجئ مؤقت.. مسح على رأسها وقال لها بالعربية:
- لا تحزني هيا سنشتري الفودكا!.
فهمت كلامه فورًا، فأسرعت بارتداء معطفها الأسود السميك الرث، والذي نزعته وقذفت به إلى أقصى الغرفة حال دخولها. في الطريق نحو محل بيع الخمور القريب، عشّقتْ ذراعها بذراعه المخبأة كفها بجيب معطفه في وضع، يبدو للرائي وكأن ثمة علاقة حميمة بينهما.. كانت جذلة شديدة الفرح.. وهي تصرخ بالصف الطويل الواقف في انتظار الحصول على قنينة فودكا.. كان لا يفهم من الحوار المحتدم بينها وبين أولئك الروس المساكين الساعين للحصول على ما يخفف من عذابهم.. لكنه أحس بالعار من عيون الروس الساخرة والشاخصة نحوهما من وجوه متعبة، تقف في الصف الطويل وبمختلف الأعمار تنتظر..
شعور مباغت هدم مخيلة الصبا والروايات.. وفي لحظة احتدامها في المشادة مع أحد الواقفين في الصف انسل ما أن أفلتت ذراعه منها، توارى خلف الزحمة. ومن بين الأجساد الضاجة، لمحها تتلفت باحثة عنه.. تسلل إلى العجوز الروسية، التي تبيع الفودكا سرًّا بسعر عالٍ.. ابتاع عدة قناني.. وعاد إلى الشقة. في اللحظة التي صب فيها كأسًا سمع قرعًا شديدًا على الباب.. لبث بجلسته جامدًا، يحاول التخلص من شعوره بالعار من خيانته للمتشردة المسكينة، التي كانت في أقصى لحظات نشوتها، وهي تتباهى به أمام صف أبناء جلدتها المنتظرين الساخرين منها.. يبدو أنها بنت الحارة والكل يعرف قصتها.
كان يحاول التخلص من عار هروبه منها، فيما القرع يشتد.. وسكونه يشتدّ.. كان غير قادر على الكلام والفعل.. عاجزًا.. تافهًا إزاء شخوص طالما بكى من أجلهم في الروايات.. لكنه هرب منهم دون فهم.. هرب بكل جبنٍ، تاركًا المتشردة وحيدة بمواجهة البرد والروس القساة الساخرين من تباهيها به.. كان يشعر بأنفاسها اللاهثة تخرق خشب الباب السميك.. وهي تنادي باسمه متوسلةً كي يفتح لها.. لكنه نسى كل ما خرف به «ديستويفسكي» في روايته.. كل ما خرفت فيه أخيلته من أوهام.. أصم سمعه حتى تلاشى الطرق.. وهدأ الضجيج..
أفرزته خيالات السكر ثانية إلى أمكنة الرواية وموسكو.. فكر بوضعها البشري.. بسخافة إحساسه بالعار منها.. فهي كائنة مسكينة لا يختلف وضعها عنه إلا في اختلاف التجربة.. لا بل هي أكثر بؤسًا وأمرَّ تجربة منه، فهو عاش مقاومًا من أجل بناء المدينة الفاضلة.. بينما هي عاشت في ظلها واكتشفت أنها قبض ريح.. هي بهذا المعني أنبل عذابًا منه.. فرغم كونه مشردًا يستطيع أن يشتري ما طاب له من الخمرة والطعام أفضل من عامة الروس..
لعدة أيام متتالية، كان يظل طوال فترة القرع جالسًا يعب من كؤوس الفودكا.. لكن عندما يتوقف ويسود السكون.. وتباشير الفجر تلوح خلف النافذة.. يقوم مترنحًا.. يفتح الباب بحذر.. فيراها مثلما وجدها أول مرة مستلقية على السلالم الصاعدة نحو السقف.. ملفوفة بمعطفها الأسود الطويل.. فيعود إلى الأريكة وينام..
في فجر داكن أحس بالحنق من نفسه، من ترفعه اللا إنساني على المشردة المسكينة.. فهرع نحو الباب وجدها موضع رقدتها نفسه. اقترب منها، وربت على خدها كما فعل أول مرة.. ومثل أول مرة انقادت معه إلى فراشها المنزوي بطرف الغرفة.. وغفت بعمق ما أن ألقت جسدها عليه.. لم يطل الأمر، فسرعان ما قرر عدم فتح الباب لها مهما كلف الأمر، حينما قرعت الباب كعادتها في المساء، كان إبراهيم وقتها خلف النافذة يحدق بالثلج المتساقط بحفيف خفيف.. حمل جسده بتثاقل صوب الباب.. دور المفتاح، وسحبها نحوه. وجدها تقف مبتسمة وخلفها أربعة أشخاص، لم يتبين ملامحهم إلا حينما دخلوا بصخب وأخذوه بالأحضان. ثلاثة رجال وامرأة يغطون برائحة نتنة، لحاهم كثة وملابسهم شديدة القذارة.. احتلوا الأريكة، وأخرجوا من جيوب معاطفهم الداخلية قناني من النبيذ الرخيص.
انفردت المتشردة معه في المطبخ، وفهم منها أن هؤلاء أصدقاء حميمون حدثتهم عنه فأصروا على رؤيته.. هكذا فسر كلامها، بعد أن بدأ يفهم عديدًا من المفردات الروسية.. قبلته على جبينه وكأنه قديس.. جلس وسطهم ينصت إلى حوارهم وصخبهم.. أرادوا خمرة فأخرج لهم قنينة فودكا كاملة.. عانقوه بقوة.. قبلوه.. لم يحتسِ قطرة واحدة.. ظل يراقب بحذر هذي الكائنات الغريبة، وهي تتشاجر.. تضحك.. تصطخب.. تغني.. تبكي.. نسوه تمامًا في صمته وسطهم.. راحوا يتصرفون وكأنهم في بيتهم.
قامت المرأتان وجلبتا شطائر خبز وبيضًا مسلوقًا.. وما توافر في براد المطبخ من فاكهة وخضرة وقناني بيرة.. نَسوُه في غمرة السكر الذي عصف بهم وجعلهم ينطلقون بغناء بدا حزينًا. بكت المرأتان..واحتدت ملامح الرجال غاضبة.. وقاموا يرقصون ذلك الرقص الثقيل حيث يضخون أرواحهم في بطء حركاتهم المتناسقة. تعرقوا فنضوا قمصانهم الثقيلة.. اللعنة على «ديستويفسكي» كيف غار في أعماق هؤلاء.. قال لنفسه وهو منزوٍ على طرف الأريكة مذهولًا بهم.. بمرح لحظتهم وحزنها.. جوٌّ آسر مغرٍ يجذب أمثال «إبراهيم» جذبًا.. كاد ينفلت بضحك عاصف حينما جلسوا بعد جولة رقص، فلاحظ وشم أذرعهم المليئة.. كان الرجال الثلاثة واشمين سواعدهم شعار المنجل والمطرقة المتقاطعين..
- إذن هم من الرفاق القدامى .
همس لنفسه ساخرًا.. في آخر المطاف تشاجروا بعنف.. ضربوا المرأتين بقسوة. ظل «إبراهيم» جالسًا على الأريكة مذهولًا من تدفق العنف هكذا بغتة بعد طرب ورقص.. كانتا مستسلمتين لأكفهم الخشنة.. فأدرك وقتها لم كانت تأتي في بعض الليالي مزرقة العينين متورمة الوجنتين.. ما كانت تسرده عند عودتها وهي تبكي بدا واضحًا الآن.. كان أحدهم أكثر وشمًا وشراسة ينهال صفعًا وركلًا على بطن المتشردة التي ألفها.. لم يكف رغم خمود حركتها حيث لم تقو بعد دورة الضرب على رفع ذراعيها كي تحمى جسدها.. قفز من مكانه ووقف حاجزًا بينه وبينها. ولم يحس إلا بالقبضات تنهال عليه من الرجال الثلاثة والمرأة التي قدمت معهم.. لم يبادلهم الضرب بضرب.. تكور ليحمي جسده جوار جسدها الخائر.. في الصباح وجدهم متناثرين، يتوسدون أرض الغرفة غارقين في النوم مثل موتى.. تحسس جسده الوارم، وقام إلى المطبخ.. أشعل سيجارة وجعل يرمق الثلج، الذي لم يزل يتساقط منذُ مساء البارحة:
- كيف المخرج من هذه الورطة؟!.
صرخ بصوت جعلهم يستيقظون.. أقبلوا عليه وكأن ما حدث البارحة لم يكن.. قبلوه على الوجنتين.. والذي ضربه حد الإغماء تهالك على ركبتيه وأخذ كفيه وراح يقبلهما باكيًا هاذيًا بكلمات اعتذار روسية يفهم طرفًا منها.. أما المتشردة التي آواها لمحها تنسل خارج الشقة خجلةً.. عندما خرجوا أيقن أن معرفة مثل هؤلاء البشر في الكتب هي أيسر وأسهل من معرفتهم في الواقع.. لكن كيف السبيل إلى الخلاص من المأزق.. حال خروجهم أتصل بـ«أسعد» وسرد باختصار ورطته، قال له:
- يا ول كم يوم وجايك!. لا تخليهم يدخلون للشقة مرة ثانية!.
جهز «إبراهيم» ما يحتاجه لمدة أسبوع من الأكل والشرب. وحبس نفسه معرضًا عن القرع الشديد أول المساء وآخر الليل وفي الصباح.. تجاهل صراخ المتشردة التي سرعان ما تنخرط في نحيب مؤلمٍ، يقاوم بشدة كي يستطيع تجاهله. كلت يدها.. وقسا قلبه.. بعد أسبوع كف القرع.. بعد الأسبوع بيومين سمع صوت التكريتي الأجش «أسعد» يصيح من الشارع باسمه، وينادي:
- جيناك.. جيناك!.
فقفز إلى النافذة المطلة على الحديقة الوسطية ليشاهد «أسعد» بصحبة «شيركو» الشاعر الشاب الكردي!.



* الفصل الثالث من رواية – الحياةُ لحظةٌ – التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية – القاهرة - 2010



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقاد ومثقفون يناقشون رواية «الحياة لحظة»
- رواية الحياة لحظة تثير جدلاً سياسيا حاداً
- «الحياة لحظة» تشبه الفقاعة حاولت توثيقها قبل ان تنفجر
- سلام إبراهيم في اتحاد الأدباء..رواية (الحياة لحظة) تثير الجد ...
- إغماض العينين للؤي حمزة عباس - تجليات العنف في زمن حرب مليشي ...
- إلى: ناهدة القزمرية - بهار - أنا أكتبُ لكِ فقط
- الناقد د. صبري حافظ: صدرت روايات عربية بعضها أهم كثيراً من ا ...
- عن رواية الإرسي - د. صادق الطائي
- -الإرسي- الخارج من المحرقة*
- شعريّة الكتابة الروائية -قراءة أجناسية في رواية (الأرسي) لسل ...
- ‬-الإرسي- لسلام ابراهيم: الرواية والكناية عن التجربة ا ...
- (الإرسي)..إشكالية التجنيس، والأسئلة المعلقة!!
- رواية الإرسي.. رحلة الكينونة المعذبة ....من منظور اخر
- أماكن حارة/ محاولة لكتابة التاريخ العراقي الحي عبر قرن
- الإرتياب في المكان - قراءة في رواية- الإرسي
- سلام إبراهيم.. الحياة والصداقة
- الحياة لحظة رواية الكاتب العراقي سلام إبراهيم
- -الحياة لحظة - . رواية تجسد العذاب العراقي في نصف قرن
- رواية حسن الفرطوسي - سيد القوارير - عن أحوال العراقيين في بق ...
- التسلل إلى الفردوس ليلاً


المزيد.....




- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - فصل من رواية الحياة لحظة/المتشردة الروسية/