أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد سامي نادر - قصة قصيرة- اعتداد -















المزيد.....

قصة قصيرة- اعتداد -


سعد سامي نادر

الحوار المتمدن-العدد: 3028 - 2010 / 6 / 8 - 02:11
المحور: الادب والفن
    


رغم صعوبة فكه رموز الأحرف عند محاولاته قراءة او كتابة أيّ سطر يتعلق بعمله التجاري الضخم، لكن السيد أمين العاملي كان في جانب آخر، يدهش الجميع بسرعة استخراجه نتائج حواصل ضرب الكميات المباعة في سعرها. وكان يتباهى دوما برد نتائج هذه المحصلات بصوت عال وبسرعة ملفتة للنظر، تسبق سرعة ظهورها على شاشة حاسبة مساعده وماسك حساباته. بينمافي نفس اللحظة، تراقب عيناه بكبرياء وفخر، دهشة انجازه هذا على وجوه زبائنه المتسوقين. السيد أمين، ابو عادل، تاجر عصامي اشتغل منذ صغره مع تجار جملة يهود في سوق الشاي.. أخذ منهم الصنعة وكذلك البخل وحب جمع المال. فأقحم اولاده الستة في السوق وحرمهم من الدراسة وتعلم القراءة والكتابة. لكنهم الان تجار ولهم مكانة في السوق.
من عادات السيد أمين، شرب شاي الصباح معي. يأخذ ولو برهة راحة يكسر بها تعب زخم عمله، كأحد كبار تجار الجملة في سوق "الشورجة".
ذات يوم صرح لي : " عزيزي أبو سلام، أنت تملك كامل المواصفات كي تصبح تاجر جملة معتبر". قالها على وقع طقطقة حبات خرز سبحة "كهرب" كبيرة راحت تنساقط من بين أصابعه الواحدة تلو الاخرى. وكان صداها، سمة تلازمه. ومرات تفضح مجيئه قبل مشاهدته أو سماع صوته الهادئ. مددت يدي ولمست حباتها بأصابعي. ضحك السيد وقال:
أعرف مدى ضجرك وكرهك لصوت حباتها. ابتسمت وقلت: عذرا مولاي، بقدر ما يتعلق الأمر بتقديري لجنابكم الكريم. بصراحة، أجدها لا تليق بكياستك.
مسك لحيته المشذبة الأنيقة وقال: "لهذا السبب انا أودك وأحب الحديث وشرب الشاي معك. لكن صدقني اعرف إنها سخيفة، لكنها العادة. هكذا أدمنت عليها". علق سبحته بساعده ليشرب الشاي
وبحسرة راح يتأوه ويتعوذ الشيطان ويهز رأسه يمنة ويسرة!. مسحت يدي من غبار الأتربة وعاجلته على الفور: خيرا،ً أبو عادل؟. ضحك وقال: "لعنت شيطانك. لم تدعني أكمل حديثي الذي جئت إليك من اجله". وبسرعة وضع مسبحته في جيبه وقال: "سأرجع الى موضوعي.. عندك يا ابو سلام مؤهلات كثيرة، أهمها سمعتك الطيبة وأمانتك، وكونك خريج تجارة، فهذا يعني بالضرورة قرب دراستك من شغلنا في سوق الجملة. وبعيد عن العين والحسد!!، أكرمك الله أولادا مهندسين أذكياء ومهذبين والحمد لله لكن!.. أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم!".
قلت والريبة تملأ روحي : بروح الوالد العزيز لمَ تتعوذ الشيطان؟ بربك اخبرني.. ما الأمر؟ .
شرب الشاي بسرعة وبعصبية أخرج سبحته ووقف مبتسما رافعا مسبحته الى الأعلى مغييرا وجهة الحديث:" ألمْ أقل لك إنه إدمان. بشرفي إن شاء الله، سأكمل غدا ما كان بودي قوله قبل أشهر". وهمّ مسرعا.
بتُ ليلتي أضرب أخماسا بأسداس مفتشا عن سرّ السيد أمين، فلم أجد ما يعكر صفو علاقتنا الحسنة. وحسب علمي، أنامدين له بالكثير. حيث انه يغرق محلي بشتى انواع بضائعه السريعة الحركة، المستوردة والمحلية وبحساب جاري مفتوح.
في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي لم يحتمل صبري الانتظار أكثر. ذهبت مباشرة الى محله. طلبت منه بإلحاح أن يشرب شاي الصباح معي في دكاني. سحبته من يده معتذرا من زبائنه الذين يغص بهم المحل. في طريقنا القصير، بدأ كالعادة، يقص ويعيد للمرة العاشرة وبتفصيل متقطـِّع ممل عن ما يمتلكه من عمارات ومعامل ومحلات وسيارات وصولا لموديل ومميزات كل منها. واخيرا وصلنا محلي. لم ينقطع هو عن الكلام. وأنا بالمقابل، لم أتفوه بحرف واحد. كنت شاردا خلالها أنتظر بشغف "بيضة" السيد متى ستخرج من حاضنتها الشيطانية.
وحلى لي أيضا أن أسرق ولو نصف إغفاءة تعيد لي
تعجـبي وحيرتي من حال معظم ميسوري وأثرياء الريف الجدد. لقد سلبوا حتى عادات الإقطاع. تراهم بزهو الثراء والوجاهة، يعيدون بلا ملل، مسخرة انجازاتهم السالفة. وبغوصون دون دراية في مواضيع وأمور شتى، دون أن تعرف منهم ماذا يريدون وأين مربط الفرس. لكن الأكثر غرابة، اكتفاء سامعيهم هز رؤوسهم علناً، متصنعين الإصغاء. وسرّاً، الإيغال بكرههم وحسدهم . واسترجعت بعض مشاهداتي ضمن محيط ونطاق عملي السابق كمحاسب لعدة شركات. فقد تكررت أمامي مثل هذه المظاهر. كنت شخصيا في بعضا منها، طرفها المشدوه الصامت. حينها، كنت مستغربا من هذا الاعتداد المفرط الثقة بالنفس. وثرثرة موغلة بالغباء تثير القرف. وكذلك ما يقابله من صمت مُذل، يقف أمامه بإصغاء. لا أدري هل هذه من طبيعة سطوة الثروة والوجاهة ؟، أم من " رهبة الفقراء" التي تقف أمام هيبتها مذعورة، مسمرة، صامتة، يلفها الذل والحسد. صحوت من لحظة غفوة ملل اختلستها دون أن يدري، وعاجلته متوسلا :" ابوعادل، يرحم الله ذاك الأب الطيب، أشكرك على كل مديحك وإطراءك السابق لي. ادخل في موضوعك المريب الذي رحت تتعوذ الشيطان فيه. بربك ما الامر؟".
اجابني ببرود:" ليس هناك ما يقلق، بس اني.." قالها بوجوم وسكت يفتش عن سبحته. عليَّّ الصبر!! أقسم إن من على شاكلته لن يستطع أن يقوم بفعلين في آن واحد!.
فجأة، ضاق صبري وخرجت من كياستي :" بروح النبي، خلـّصني!!". من نبرة سخطي، أحس بثقل دمه وأذعن لمشيئتي موجها حديثه هذه المرة لابني:
" وليدي سلام، أنا عمك ابو عادل اعرف نفسي جيدا باني محسود من الآخرين، لكن ما أريد أن أخبرك به يا ولدي هو: كيف وصلت الى ما أنا عليه الآن!! جاه وعمارات ومحلات ومعامل واستيراد وسيارات آخر موديل..." بادره سلام بآداب السوق: " الله يزيدك.. عمي!".
التفت الى السيد العاملي:" ابو عادل، أرى إنك غيرت وجهة الموضوع.. تذكـَّر أنك حلفت لي بشرفك على ان تبوح لي ما صبرت عليه أشهر. سيدي ومولاي.. لو بيضة ديناصور.. لفقست!!".
بجدية وعصبية قال: " لا بيضة ديناصور ولا هم يحزنون!! أحلف لك بالقرآن الشريف اني لم أغيّر الحديث. الموضوع هو ذاته.. بس اصبر!، وأرجوك لا تقاطعني. أريد ان أعطي ابني سلام درسا في التجارة ، هو كل ما علمتني عليه الشورجة". التفت صوب سلام. غير اني استغربت جدا حين سمعته يستخف بي :" وقبل أن يدمر أبوك الطيب القلب! والشريف الرؤوف جدا! كل اندفاعك وهمتك بأفكاره وإنسانياته التي لا تمت بصلة بالمرة، لا لدراسته ولا لعملنا في السوق و..".
قاطعته :"هذه أفكارك عني!!، على كل حال، شكراً مولاي".
ذهلت حين راح يشير لي بسبّابته وبنبرة غضب قائلا: " انتبه أبو سلام ولا تقاطعني.. اسمع وبسْ!. منذ أشهر وأنا اخجل أن أصارحك بأنك تحارب رزقي، فبضاعتي التي أنتقيها خصيصا لك، من عينة السوق، وأرسلها لك بكرم وسخاء يليق بكرم أخلاقك، وأمانتك. لكنك بالمقابل، لم تجازِ كرمي هذا.. بل بالعكس رحت تذل أسعار بضاعتي وما أرسله إليك. لأنك مع الأسف لم تحافظ على سعر سوقها، رغم ندرتها. ولم تبال حتى لزيادة سعرها في محلاتنا. بل على العكس، تبيعها بنفس سعرها القديم.. لا أدري، إن كان هذا.. أستغفر الله! عن قصد أم عن ماذا؟.. ابو سلام، إننا نعمل سوية في سوق جملة.. وهو سوق أزمة وشحّة في المواد. لا تظن إن تجار المفرد الذين كسبتهم بسرعة يهتمون بأدبك وحسن ثقافتك.. صدّقني انهم يعبدون السعر الأدنى الذي يناسبهم. وأنت سارح في هواك، غير مكترث ومبال لارتفاع سعر السوق. بمعنى آخر، غير آبه بزيادة أرباحك. وبالمقابل خسارتنا ايضا. صحيح ابني سلام ؟؟ انت شاهد على ما اقول"
أجابه سلام فورا:"صحيح عمي صحيح".
عندما أردت ان ادافع عن نفسي: " بس يا أبو.." قاطعني السيد :" أبو سلام بدون بس! أفكارك وطيبتك ستخرب كل طموح سلام الذي جمع سمعة وشهرة لم يستطع جمعها تاجر بعشرين سنة وبشهادة كل أبنائي، الذين لولا حبهم لسلام لقطعت التعامل معك".
أجبنه: "الله أكبر، لهذا الحد! أنا بهذا السوء؟..لم أكن أعرف!!".
مسك سبحته بكلتا يديه مفرطا خرزها حبة حبةْ. وتوجه بالحديث الى ابني: "وليدي، أباك أحسن وأطيب إنسان. بس مكانه خارج السوق وبالأخص سوق الجملة. وأتصور، ورب العباد وحده العالم!، ربّما سيفشل حتى كتاجر مفرد!!. وأطلب من الله أن يهدي والدك العزيز ليتركك تعمل بمفردك، وسيرى نتاج حيوية وطاقة وذكاء وهمـة لم أشاهد مثيلها ولا حتى في أحد من أولادي الستة".
هنا، مسك سبحته بكلتا يديه. فرز من وسطها بهدوء خرزة واحدة وراح يحدق بها كساحر يحاول فك لغز محير. مع طقة الخرزة، أكمل حديثه:
" أولا .. لا تعرض جميع بضائعي السريعة الحركة دفعة واحدة. قدمها على دفعات وانتظر وراقب الطلب. ارفع السعر لأنك بالمقابل ستشتري مني بسعر أعلى من السابق، وإذ بقى الطلب على حاله. ارفع السعر أكثر قليلا .. وإذا هجم عليك باعة المفرد طلبا لها. اعلم أن هذا النوع قد نفذ عندي وفقد من السوق. هنا!، خبأ ما عندك منها. وإن صح لك أن تجمعه من السوق، فتوكل على الله ولمْلِمْ ما تقدر على جمعه، حتى لو بسعر أعلى. هنا، اضرب ضربتك وضاعف السعر بما تشاء. لا تخف، الكل سيشتري منك مجبرا دون كرم وابتسامة والدك الوديعة!!".
حرّك خرزة أخرى وقال :" ثانيا... سوقنا سوق أزمة أما شحة في مادة أو إغراق فيها حدّ تلفها من الحر. المعيار يا ولدي عندك "الندرة".. لا تخف!! كل شيئ، كل المواد تباع، لكن الربح الحقيقي يأتيك من زيادة سعر ما هو نادر فقط. تذكر وليدي، لا يأتي الغنى وتراكم الثروة إلا من الاحتكار!. تذكر الاحتكار! وذكـِّر أباك، عسى أن تنفع الذكرى!!".
هنا رفع وجهه من سبحته ونظر نحوي متنمرا،رافعا حاجبيه ساخرا. وبتعالي وكبرياء، قال كلمته الأخيرة وهو يحدق بي بتحدٍ سافر:" ابني سلام ، من تجربتك الصغيرة قي الشورجة، هل كل ما ذكرته لك صحيح، أم..؟!".
أجابه سلام على الفور:" جداً صحيح مولاي ابو عادل".
خرج السيد أمين مسرعا الى اليمين، ضاحكاً يطقطق بسبحته الكهرب. وأنا بدوري رميت مجموعة مفاتيح محلي الى ابني سلام، و خرجت أسير ببطء بالاتجاه المعاكس.









#سعد_سامي_نادر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نوافذ الفنار
- يوميات هولندية -5: - نحيب من الجنة -
- يوميات هولندية- 6 - دون كيخوت وطواحين الدم -
- يوميات هولندية -4 : - حديث في السياسة والنار -
- - هُبَليات -
- - حلم -
- يوميات هولندية 2 (آنزهايمر )
- يوميات هولندية- 1 (إرثٌ وحقيبة )


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد سامي نادر - قصة قصيرة- اعتداد -