|
إبل هيرودتس لـ - عبد الله طاهر
كريم ناصر
(Karim Nasser)
الحوار المتمدن-العدد: 922 - 2004 / 8 / 11 - 10:47
المحور:
الادب والفن
قلما نجد عملاً أدبياً مغايراً يهدم نظام المعايير السلفية، ويتمرّد على سياقاته الميتة، وفعلاً أنّ تجاوزاً من هذا النوع يعتبر بحد ذاته مغامرة وتطوراً في آن، ويمكننا أيضاً أن نقول أنَّ عملية التخطي هذه من شأنها أن تقدّم لنا جنساً أدبياً مستقلاً ذات تنويعات متعدّدة، من الملاحظ أنَّ هذا الواقع بطبيعته ودلالته يعمل على إفهامنا بأننا نعيش في عصر لا يتناسب مع الأساليب الوصفية والتعابير الميكانيكية، كما هو الحال في القصص التي نقرأها بين الحين والحين الآخر "بغض النظر عن كل توسّع" في مكوناتها الأسلوبية. الدروس علمتنا بأنّ السلفية سيئة إلى الحد الذي ترفض فيه عملية التطور شكلاً ومضموناً، وأنّ اهتمام السلفيين (بفن الدوغمائية) في الحقيقة هو أمر بديهي لا يحتاج إلى تفصيل كثير، نتيجة الفهم القاصر لنظرية تنوّع الأجناس وآليات التعبير، وإذا نظرنا من منظار نقدي لمعرفة الأسباب الحقيقية لتراجع الجنس الأدبي ـ القصة القصيرة مثلاً ـ فلا يسعنا إلاّ أن نلقي الكثير من اللوم على المفاهيم السلفية، كونها هي المسؤولة عمّا يحصل من تراجع ومراوحة في البنية القصصية.. لذلك فمسألة التصدّي للماضوية أصبح أمراً واقعاً لا يمكن التراجع عنه، وهو الأسلوب الأمثل لجعل النتاج الفني حراً ومغايراً وأدباً هائلاً. إنَّ التطور انعكاس لأسلوب الكاتب من حيث هو مبدع قصص أو مبدع شعر، من هنا عليه أن يغامر بأدواته تناغماً مع الحداثة بوصفها فن العصر، وبخلاف ذلك تبقى بنية الخطاب الأدبي مرهونة بسياقات محدّدة ومفرغة من تراكيبها الإشارية واللغوية والدلالية، إذا لم نقل من جماليات التعبير، لذا لا نستطيع أن نسمّي العمل الأدبي الذي تخلو بُناه من مصدر اللغة، ومن التنويعات الإبداعية وانزياحاتها الإشارية بالعمل الحقيقي ـ الخلاّق.. فالجنس الأدبي دلالي قبل أن يكون بنية سردية، أو وصفاً لمظاهر اجتماعية، وهذه السمة بقيت ملازمة لبناه منذ انطلاقته الأولى.. "إنَّ الظواهر الدلالية وهي موضوع التأويل لا تتلاءم مع الوصف" الجاهز بتعبير تزفيطان طودوروف، ومن العسير الحكم على النص من صيغه السردية وباستعمال بُناه المجرّدة من المعاني الدلالية كمعيار لتقويمه، وتبعاً لذلك فليس للنص إطار محدّد يغلف بنيته الخطابية المتعدّدة الوحدات.. إنّ القوالب الجاهزة يمكن أن تجرّ القص إلى قسرية مسبقة طبقاً لتقاليد قديمة يكون فيها الخطاب (أحادي القيمة)، ورهن عوامل هي ليست بطبيعة الحال من صلب الأحداث.. القصة تحديداً لا تصنعها يد غير ماهرة وغير محترفة، وبعبارة أخرى أنَّ القصة القصيرة لا تنتجها العقليات النكوصية، ولا تحدّدها وظيفة مرجعية، فهي نتاج وعي الذاكرة، يحتل فيها المتخيّل حيزاً كبيراً، مع الاعتقاد بأنّ المغامرة هي معيار النجاح، فمن دون هذه المسلّمة يبقى الجنس الأدبي مرهوناً بنظام أسلوبي محدّد لا يشكل وجوده أثراً بالغ الأهمية. ثمة علامات حضورية لطفيليات وفيروسات وجراثيم فتّاكة يشكل وجودها خطراً على الإنسان، والحرق "الطريقة المثلى للتطهّر" منها بحسب القاص، "المؤلف الطبي" ص19، وهو تعبير عن بنية دلالية صارمة، يمثل الإدهاش بمستوياته التأويلية جزءاً من موضوع القصة وبنائها التركيبي والسيكولوجي. وهكذا نرى أنَّ تبنّي موضوع التعدّدية في البنية القصصية لا ينسف المفاهيم الماقبلية حسب، وإنّما يضعها على طاولة التشريح، ليبني على أنقاضها أداة معرفية متطورة، وبإتباع أسلوب الكتابة الحديثة، تتسع رقعة الحرية باتجاه الإبداع بفضل تعدّد البنى، وتعدّد المفاهيم، وتعدّد الأجناس، وبذلك بوسع الكاتب إنقاذ عمله من حساسيات الانزلاقات الموروثة والمكتسبة من الماضوية، كما أنّ نظام التعبير يصبح أكثر نضجاً في صناعة المنتوج الأدب
في "إبل هيرودتس" نجد ميلاً قوياً لتعدّد البنى الفكرية والدلالية ونظم إيصالها، ومن الممكن أن نكتشف أيضاً هذا الاتجاه مجسّداً في صلب القص التي تمثل التقنيات الأسلوبية والتفكيكية منطلقاً لصيرورته، وهي طريقة تعبير تعد أكثر حساسية في توالد المعاني، لأنها تهدم في أغلب الأحيان القيم الموروثة، وتعيد صياغة الإنتاج وتحوله إلى إبداع إنساني عظيم الأهمية بطريقة تختلف تلوّناتها تركيباً ودلالة، هدفاً ورؤية. نستخلص من كل ذلك بأنّ أسلوب التعبير في القصص الآنفة الذكر مهما تطرف في بعض سياقاته، إلاّ أنه لم يخرج بتاتاً عن الخط البياني للإطار العام لمفهومي التخطّي وتوالد المعاني اللذين أشرنا إليهما في بداية المقالة، وإذا أثيرت حساسية هنا أو هناك بخطأ تأويلي، فليس معناه أنّ ثمة تأثيرات خارجية تتحكم بآليات التعبير، وأنماط العلاقات، وحركة الشخصيات وانزياحاتها.. ولكن من المهم أيضاً أن ننبّه هنا إلى ذلك: فمعظم القصص هي من نتاج وعي القاص ومخزونه اللغوي والحياتي والمعرفي، وهذا ما يجعله أن يتميز عن غيره بالاجتهاد والكد والمثابرة العنيدة كتابة وقراءة، وصولاً إلى خلق نموذج إبداعي مكتمل الملامح معرفياً، كما يتضح ذلك من سياق قصصه. "فلم تكن النقود المعدنية الضئيلة في واقع مثقل بألغاز يظنها بعضنا إكسيرية سوى دواب مريضة حوّلها التجار إلى قطع شيطانية"، "أركيولوجيا النقود" ص39، علماً أنّ فكرة هذا النص مستمدة من لغة معرفية متينة. لم يكن سهلاً على الإطلاق كتابة النص ـ القصة تحديداً ـ ما لم يكن الكاتب يمتلك وعياً معمقاً بفن القصة وتحولاتها الكبرى، وما لم يتجل ذلك ثقافياً في نتاجه، وما لم يساهم في إشراك المتلقي في إنتاج الدلالة، وابتكار المعاني وربطه بالحدث، وذلك كي يكون حاضراً دوماً في سياقاته، كما أنّ القصة في ذروة تطورها لا تقدّم الفكرة على طبق من ذهب، ولا تكمن وظيفتها في تعريف الخطابات ورصد حركات الشخوص وتنقلاتهم وأهوائهم الشخصية، ولهذا لم تكن عملية استقطاب المتلقي قضية سهلة من دون ملامسة وعيه من جهة، والتناول الدقيق بالنسبة للغة من جهة أخرى.. وإنه لمن المفيد أن نذكر في هذه المقاربة أنَّ المجموعة القصصية نبهتنا إلى واحدة من أهم التقنيات الأسلوبية (تعدّد المعاني) وأبلغها شأواً في إنضاج الخطاب الأدبي، وجعله سمة تعبيرية لتأويل الدلالة (وأزمنة الأفعال) وتواريخ الأحداث.. والحال أنّ تعدّد المعاني لا يعني بالضرورة تناسخ الأشكال من حيث هي خطابات نظرية، ولكنه أيضاً لا يعني التحول من نمط إلى نمط معين آخر، إنّما يجسّد بصفة شاملة التنوع داخل جزئيات الجنس الأدبي الذي تؤدي نماذجه أفعالاً (حاملة لتمثلات جماعية) تشمل الكاتب ـ المتلقي ـ النموذج.. والحق ليست كل التآويل مقنعة (فنحن لا نرى ما يدعو) إلى الإقناع والرضا وبالتالي فأنّ الشك يظل دوماً موجوداً، ما لم يتوفر منهج نظر يوازي الوحدات النصية ومستوياتها المتعدّدة.. باختصار شديد ليست كل وجهات النظر صحيحة، ويخطىء من يعتقد بأنّ تعدّد المعاني تجسيد طبيعي للتنوع الذي تمثل الأعمال جوهره وتجلياته في الآن نفسه، فإننا لا نرى في هذا التوصيف ما يقربنا إلى استنباط المعنى الدلالي، والخوض في الوحدات النصية، "لأنه من البديهي أنّ الأعمال لا تتنوع وإنّما التنوع في الأدب" كما تؤكد بعض الدراسات التأويلية. إنَّ "قوة الضخ المخيالي القصصي القصوى" كما يجتهد القاص نفسه، مكنته من الولوج كما يبدو إلى عالم هو بحد ذاته من نمط معقد وعصي عن الكشف، وهو عالم الجاسوسية المعبّر عنها بدلالات رمزية ملغزة يقول: "لا بد لي هنا من أن أستبدل كلمتي اغتيال، والأخلاقية، بكلمتي كتابة، ومخيالية"، "المخبر سارداً" ص18. أكثر النصوص نجاحاً هي النصوص التي تخضع لتآويل مختلفة، ويجب ألاّ نغفل حقيقة نوع الجنس الأدبي الذي يخضع للتأويل النقدي، وهو شرط من شروط النقد الجاد بقصد تدعيم الخطاب الأدبي وتشكلاته وتنويعاته، وإظهاره بمظهره اللائق، وهنا لا بد من أن تصبح اللغة مادة أساسية للتحليل النقدي، لتيسير العلاقة بين المتلقي والنص، لتكون علاقة تكافؤ بمعنى من المعاني.. فما لمسناه في القصص في حقيقة الأمر لا يختلف مضمونه جملة وتفصيلاً عن الحقائق التي توصلنا إليها بمتابعتنا للوحدات النصية والتي هي أصل العمل، ومادته الأولية في القص، حتى لو أقصيت بعض الإشارات من أهم المواضع، لكن ذلك لا يعتبر نقصاً يحاسب عليه القاص، إنّما هو التأويل بحد ذاته، بما يجعل المتلقي حاضراً دوماً في روح النص "لإتمام العمل الذي امتنع السارد عن القيام به".. كما نلاحظه في "صاحبة الشوكة" و "الترجمة والسُجُق"، وبوسعنا أن نضع هاتين القصتين في إطار زمني ومعرفي واحد ينتمي إلى نفس الأسلوب والمستوى وقوة عنصر التخيّل.. انطلاقاً مما سبق يمكن القول إنَّ عملية الخلق الأدبي، والتنوع الإبداعي، والاقتراب من وعي القارئ وشدّه إلى عناصر البناء (القص) هي أهم ما تتميز به قصص المجموعة، وعلى وجه الخصوص "المؤلف الطبي، أركيولوجيا النقود، المخبر سارداً".. ثمة تحولات في البنى وفي الوظائف وهي تتعدّد بتعدّد التآويل، وإذا ما قطعت أجزاء من لحمة النص بسبب أو بآخر، بيد أنّ ذلك لا يتعارض مع تقنيات التعبير الأدبي.. السمة الإيجابية في القصص أعلاه أنها قدمت لنا النموذج الدلالي من حيث هو عمل أدبي لا بنية وصفية، انطلاقاً من أنّ التأويل والشعرية أرضية خصبة للخطاب الأدبي. إذاً، فالخطاب الأدبي لدى القاص عبد الله طاهر هو إبداع إنساني قبل أن يكون صناعة أدوات، وهو عملية خلق قبل أن يكون كتابة وصفية، وهو بنى وأخيلة قبل أن يكون أنظمة أسلوبية.. ومن هنا فأنّ الحرص على إنتاج النص الإبداعي الأكثر حداثة ـ الأكثر حساسية، هو في حقيقته نتيجة طبيعية لوعيه الذي يتطلب في كل الأحوال الخروج عن مبدأ الانحياز والمألوفية، انطلاقا من معايير جديدة (تستبعد كل اهتمام) بالسائد والكتابات المبتذلة.
#كريم_ناصر (هاشتاغ)
Karim_Nasser#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|