أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد سعيد الصگار - غرفة سمير الكاتب (رواية)















المزيد.....



غرفة سمير الكاتب (رواية)


محمد سعيد الصگار

الحوار المتمدن-العدد: 3025 - 2010 / 6 / 5 - 20:16
المحور: الادب والفن
    


محمد سعيد الصكار

‮ ‬غرفة سمير الكاتب‮ (❊)‬


كان الطابق الأول‮ ‬يحتوي‮ ‬على سرير لشخصين،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يعد كذلك منذ سنين؛ ولم‮ ‬يبق له من رونق الأيام السالفة شئء‮ ‬يُذكر،‮ ‬كان مجرد وعاء‮ ‬يحتوي‮ ‬جسده المتعب‮. ‬لم‮ ‬يعد الفراش حميماًً،‮ ‬والواقع أنه لم‮ ‬يكن كذلك حتى في‮ ‬أيام الصفاء‮. ‬والآن صار ركناً‮ ‬للقراءة بقصد الخدر والنوم الذي‮ ‬بات‮ ‬يستعصي‮ ‬على الحضور‮.‬

كتب كثيرة موزّعة على المنضدة وعلى الرفوف وعلى الأرض،‮ ‬هم ضيوفه في‮ ‬الشتاء والصيف،‮ ‬والأحرى،‮ ‬هو الذي‮ ‬كان ضيفاً‮ ‬عليهم‮. ‬وعلى طول العهد بينه وبين كتبه،‮ ‬فترت رغبته في‮ ‬مراجعة الكثير منها،‮ ‬وأصبح محيط الغرفة الواسعة‮ ‬يحاصره بالفراغ‮ ‬والملل؛ ولذلك كانت دعوة سميّة لمشاركتهم جلستهم للعشاء،‮ ‬إنقاذا له من فراغ‮ ‬ذلك اليوم،‮ ‬ومن أيامه عموماً‮.‬
نزل مسرعاً،‮ ‬وحيّا الجميع وجلس‮. ‬لم تجرؤ بطبيعة الحال،‮ ‬أيّة من الحاضرات على استقدامه إلى حوار؛ كان ذلك لسمية وحدها،‮ ‬ولكن لم‮ ‬يُتَح أي‮ ‬حوار،‮ ‬بسبب المسافة الثقافية بين الأطراف‮.‬

كان سمير محتقناً‮ ‬بالأفكار التي‮ ‬تملأ رأسه،‮ ‬وكان ذلك مما شوّش عليه قدرة التنسيق والإنتقاء،‮ ‬وأبقاه نهبة للهواجس والخوف من انفلات الزمن دون تحقيق أي‮ ‬منها،‮ ‬فالأفكار تنمو والزمن‮ ‬يتسلل،‮ ‬وليس بين‮ ‬يديه ككاتب،‮ ‬ما‮ ‬يوثّق أفكاره ويساعد على نشرها،‮ ‬ولم‮ ‬يكن مقتنعاً‮ ‬بكون حضوره بين الأصدقاء كافياً‮ ‬لتطلعاته الثقافية،‮ ‬فهي،‮ ‬في‮ ‬نهاية الأمر،‮ ‬حديث مجالس،‮ ‬لا تؤسس لموقع ثقافي‮ ‬كان‮ ‬يصبو إليه‮.‬

عندما‮ ‬ينتصف الليل،‮ ‬وتأحذ الكأس مدارها،‮ ‬يتعذر استحضار الأفكار التي‮ ‬تتوهّج في‮ ‬الرأس وتقتحم الذاكرة؛ فهي‮ ‬أشبه بالحلم الذي‮ ‬يأتي‮ ‬في‮ ‬أول الليل وتتوالى عليه أحلام أخرى‮ ‬يصعب عليه تنسيقها والتقاط ما‮ ‬غام منها‮. ‬وهذا ما كان‮ ‬يكابده سمير‮.‬

من هنا،‮ ‬كان لقاؤه بسمية،‮ ‬منقذاً‮ ‬له من الفراغ،‮ ‬أو من الضياع كما كان‮ ‬يتصوّر‮. ‬كان منفذاً‮ ‬لاحتضان اللوعة والتوتّر والوجع المكابر،‮ ‬والخيبة التي‮ ‬لا‮ ‬يستطيع تجاوزها‮. ‬لهذا أسلم قياده بحرية كاملة،‮ ‬إلى هذه المخلوقة الجميلة التي‮ ‬منّ‮ ‬الله بها عليه‮.‬
‮ ‬بدت له الأحوال تختصر بمسافات قصيرة،‮ ‬وتتقلص في‮ ‬حدود أبسط الأمور‮.

‬كان لقاؤهما على فنجان قهوة كافياً‮ ‬لامتداد المسرّة والصفاء الذي‮ ‬لا حدود له‮.‬
ولم‮ ‬يكن الأمر بعيداً‮ ‬عن تصورات سمية،‮ ‬كانت بحاجة إلى فنجان القهوة هذا،‮ ‬بما‮ ‬يحمل من دلالات بعيدة الغور في‮ ‬كينونتها الأنثوية وتشعباتها الإجتماعية،‮ ‬ولكن مكابرة شرقية متأصلة تقودها إلى مغالطة لم تحاول تجاوزها،‮ ‬رغم إحساسها الواعي‮ ‬بخوائها وبُعدها عن الحقيقة‮.‬

لم تكن من القوّة بحيث تكسر هذه القيود؛ كانت رهافتها وثقافتها ورقة طبعها تحضر جميعاً‮ ‬في‮ ‬محاكمة هذا الواقع الذي‮ ‬أبقاها مشدودةً‮ ‬بطرفي‮ ‬الخيط،‮ ‬تنتظر شيئاً‮ ‬ما،‮ ‬معجزة ما،‮ ‬تنتشلها من هذا الضياع الذي‮ ‬لا‮ ‬يختلف عن ضياع سمير؛ وبدا أن تواطؤهما على قبول هذه الحالة بصمت ومكابرة‮ ‬يرفعانهما دائماً‮ ‬إلى مستويات‮ ‬يحرصان على أن تبقى متميّزة ومتفرّدة‮.‬

كان استاذه في‮ ‬اكاديمية الفنون الجميلة لا‮ ‬يعبأ كثيراً‮ ‬بالمواضعات التطبيقية التي‮ ‬كان‮ ‬يتمسك بها الفنانون الاساتذة،‮ ‬التزاماً‮ ‬بشروط العمل وتعويداً‮ ‬لطلبة الفن على أصول وفروع الانتاج الفني‮. ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يرتدي‮ ‬الصدرية البيضاء أثناء العمل،‮ ‬كان‮ ‬يكفّ‮ ‬أردان قميصه ويتناول الفرشاة ويروح‮ ‬يمرح على قماشة اللوحة‮. ‬لم‮ ‬يقم وزناً‮ ‬لنقاط الزيت التي‮ ‬تتقافز على قميصه النظيف؛ القميص‮ ‬يستبدل،‮ ‬اللوحة أثمن وأبقى‮.‬

وهكذا،‮ ‬درج على خطى استاذه في‮ ‬كثير من الأمور التطبيقية والفنية‮. ‬الأساس عنده هو اللوحة وطريق نموّها‮. ‬لا وقت‮ ‬يُرصد لها،‮ ‬ولا خوف من الشطط الذي‮ ‬يروح ويجيء على المساحة العذراء المفتوحة على قماشته‮. ‬ضربات سريعة هنا،‮ ‬خطوط رقيقة هناك،‮ ‬تغيير في‮ ‬الألوان،‮ ‬مسح،‮ ‬تسييل،‮ ‬كثافة،‮ ‬كلها تأتي‮ ‬وفق الايقاع الذي‮ ‬ترتاح إليه النفس‮. ‬شرطٌ‮ ‬أساسيّ‮ ‬كان‮ ‬يلحّ‮ ‬عليه الاستاذ؛ هو الجرأة والجسارة في‮ ‬الضربات وحركة الخطوط،‮ ‬وعدم الخوف من الخطأ،‮ ‬أما الرؤية الفنية والدلالة فذلك مما لم‮ ‬يكن من همّ‮ ‬الاستاذ،‮ ‬لأنه أولاً‮ ‬وآخراً‮ ‬من شأن التلميذ نفسه‮.‬
تشبّع كثيراً‮ ‬بأفكار استاذه،‮ ‬وصرف وقتاً‮ ‬طويلاً‮ ‬لكي‮ ‬يتجاوزها ويبني‮ ‬حضوره الفني‮ ‬المستقل ورؤيته الفنيّة الخاصة‮.‬

في‮ ‬پاريس‮ ‬،‮ ‬حيث قادته الظروف إلى الاستيطان،‮ ‬حاول أن‮ ‬يكون جاداً‮ ‬غاية الجد؛‮ ‬ينبغي‮ ‬إحكام اللوحة وفق شروطها الفنية التي‮ ‬يعرفها الفنانون ويجهلها الجمهور‮. ‬ولكن الجمهور كان حاضراً‮ ‬في‮ ‬كل حركة لفرشاته،‮ ‬لم‮ ‬يكن حراً‮ ‬تماماً‮ ‬في‮ ‬ممارساته،‮ ‬كان هناك همٌّ‮ ‬يَشغَل باله؛ لا‮ ‬يريد أن‮ ‬يتخلّى عن الايحاء والدلالة،‮ ‬والايماء إلى معنى الحركة في‮ ‬مكوّنات اللوحة‮. ‬وهذا ما جعله‮ ‬يتباطأ في‮ ‬إنجاز لوحاته بالقياس إلى ما‮ ‬يفعله زملاؤه المنفتحون على ممارسات حرّة أتاحتها القرائن والتأثيرات التي‮ ‬تحفِل بها انتاجات الشباب الذين‮ ‬يملأون پاريس في‮ ‬تلك المرحلة‮.‬

ها هو الآن‮ ‬يراجع أعماله خلال ربع القرن الذي‮ ‬قضاه في‮ ‬پاريس‮. ‬حضور‮ ‬خجول في‮ ‬المعارض،‮ ‬ضمور واضح في‮ ‬الشخصية الفنية،‮ ‬مواكبة لا ترضيه للمعارض الجماعية التي‮ ‬شارك فيها مع فنانين آخرين،‮ ‬واكتناز في‮ ‬التجربة الفنية التي‮ ‬لم تجد بعد طريقها إلى الظهور‮.‬

في‮ ‬السنتين الأوليين من استقراره في‮ ‬پاريس كانت لوحاته على سياق ما درج عليه في‮ ‬وطنه‮. ‬بعد هذه المدّة بدأ الحنين‮ ‬يتسلل إلى أعماله بنعومة،‮ ‬وبشكل‮ ‬غير مقصود؛ فكانت تظهر ملامح‮ ‬غائمة لقباب ومآذن،‮ ‬وأحياناً‮ ‬لوحدات زخرفية‮. ‬كما حضرتْ‮ ‬فيها ألوانٌ‮ ‬لم‮ ‬يكن ميّالاً‮ ‬إليها،‮ ‬ألوانٌ‮ ‬مألوفة في‮ ‬تراث وطنه‮. ‬ثمّ‮ ‬صار لهذا المنحى حضور أوضح،‮ ‬بحيث‮ ‬غدتْ‮ ‬اللوحات أشبهَ‮ ‬باستذكارات مقصودة،‮ ‬وكشفاً‮ ‬عن مباهج الوطن،‮ ‬واستدعاءاً‮ ‬للجمهور إلى مشاركته في‮ ‬هذه النكهة المحلية‮.‬

‮- ‬ لوحات جميلة‮. ‬ولكن هل تظن أن هذه القباب والنخيل تستهوي‮ ‬الناسَ‮ ‬هنا؟ لوكنتَ‮ ‬في‮ ‬لندن لاقتناها المغتربون المتمكنون لأنها تذكّرهم بالوطن الهارب؛ أما هنا‮ ....!‬

ماذا قالتْ؟

انتبَهَ‮ ‬فجأةً‮ ‬إلى عبارتها‮ »‬الوطن الهارب‮«‬،‮ ‬أكانت تعني‮ ‬ما تقول،‮ ‬أم أنها لا تميّز بين‮ «‬الوطن الهارب‮» ‬و‮ «‬الهارب من الوطن»؟

كثيرون‮ ‬يهربون من أوطانهم لأسباب مختلفة،‮ ‬ويُنشئون لأنفسهم وطناً‮ ‬ليس بالضرورة ذا حدود جغرافية،‮ ‬الجغرافية حالة من حالات الوطن‮. ‬أن‮ ‬يهرب الانسان من وطنه ليس بفجيعة،‮ ‬الفجيعة أن‮ ‬يهربَ‮ ‬الوطن؛ حتّى لو كان وطناً‮ ‬وهمياً‮ ‬تؤسسه حاجة النفس إلى الاحتماء بخيمة ما‮. ‬أن‮ ‬يهربَ‮ ‬الوطن،‮ ‬يعني‮ ‬اليُتْمَ‮ ‬التام،‮ ‬واللوعة التي‮ ‬تفتّتُ‮ ‬مسامات الروح‮.‬

وبكل ما في‮ ‬الكون من حسرةٍ‮ ‬ومرارةٍ‮ ‬ووجَع،‮ ‬رنّتْ‮ ‬في‮ ‬أعماقه‮ «‬أنا‮ ‬يتيم‮» ! ‬

قال في‮ ‬نفسه‮: « ‬يمكن للوطن أن‮ ‬يستعيد الهاربَ‮ ‬منه،‮ ‬ولكن الوطن الهاربَ‮ ‬لا‮ ‬يُستعاد‮».‬

من هنا كانت ملاحظتُها دقيقة تماماً؛ لم تستهوِ‮ ‬اللوحات أحداً‮ ‬من زوّار ساحة مونمارتر الفنيّة كما كانت تستهويهم الصور الشخصية التي‮ ‬يُخططها الرسامون لهم‮.‬

وهكذا وجد نفسه منخرطاً‮ ‬في‮ ‬جوقة هؤلاء الفنانين الذين كانوا‮ ‬يُشيعون الفرح عند السيّاح،‮ ‬حين‮ ‬يُغَطّون التجاعيد ويُضفون على الوجوه حيويّةً‮ ‬وحلاوةً‮ ‬أكثر مما فيها‮.‬
ومع أن المردودَ‮ ‬المادي‮ ‬لهذه الممارسة كان مقبولاً،‮ ‬إلا أن العَناءَ‮ ‬كان كبيراً؛ حضورٌ‮ ‬مبكّر من ساعات الفجر الأولى لاصطياد مكان مناسب،‮ ‬تقلّب مزاج السيّاح،‮ ‬مشاكسات الشرطة،‮ ‬وغير ذلك مما‮ ‬يُحيل العمل إلى روتين مملّ‮.‬

ترك الساحة،‮ ‬وانصرف إلى أسلوبه القديم في‮ ‬رسم اللوحات الفنيّة؛ ولكنه لم‮ ‬يُوفّقْ‮ ‬في‮ ‬اقتحام سوق العمل الفني‮. ‬كان موزّعاً‮ ‬بين الحرص على قناعاته وتطويرها،‮ ‬وبين الملاحظات الحذرة المشفقة التي‮ ‬كان‮ ‬يبديها الأصدقاء الحميمون بشأن ما كانوا‮ ‬يعتبرونه كسلاً‮ ‬منه،‮ ‬أو جرأة مُرَوَّضة،‮ ‬أو قبولاً‮ ‬بما هو دون استحقاقه‮.‬

بمرور الزمن انعكس واقعه هذا على طبيعة عمله؛ بدأتْ‮ ‬لوحاته تفقد حرارتَها وبهجتها،‮ ‬وحلّتْ‮ ‬الأشكال الهلامية المموّهة لملامح الوحدات التشكيلية محل الحضور الواضح لها،‮ ‬ولم تعُدْ‮ ‬قوة التكنيك وحدها قادرة على النهوض بها،‮ ‬فكثير من خصائص العمل الفنّي‮ ‬التي‮ ‬تهمّ‮ ‬الفنان لا‮ ‬يعبأ بها الجمهور،‮ ‬الجمهور‮ ‬يريد من اللوحة أن تلامس شيئاً‮ ‬من الملامح الغامضة المختفية في‮ ‬تلافيف ذاكرته ودهاليز لاوعيه‮. ‬وهكذا تكدّسَتْ‮ ‬في‮ ‬بيته عشرات من لفائف الكانڤاس،‮ ‬حُشِرتْ‮ ‬في‮ ‬الدواليب وفوقها،‮ ‬وفي‮ ‬أركان البيت،‮ ‬وتحت الأسرّة؛ حتى صارت مصدر ضيق للعائلة،‮ ‬وغدتْ‮ ‬رائحة الزيت تفوح من البيت وتَعلَق بالملابس‮. ‬كما صار الانفاق على المستلزمات الفنية باهظاً‮ ‬في‮ ‬غيبة أي‮ ‬مردود مادي‮ ‬يقابله،‮ ‬وصار‮ ‬يضغط على علاقته المنزلية وينحت فيها؛ وصارت كل أزْمةٍ‮ ‬تحال إلى كسله وقلّة مبادراته‮.‬

كان‮ ‬ينظر إلى لوحاته الداكنة الطافحة بالمرارة نظرة حبّ‮ ‬وإشفاق؛ لم‮ ‬يكن‮ ‬يرى فيها ما‮ ‬يُنَفّر الناس من اقتنائها،‮ ‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬يتحسس أيَّ‮ ‬خللٍ‮ ‬فني‮ ‬فيها‮.‬

‮ -‬ حاول‮ ‬يا حبيبي‮ ‬أن تتخلص من هذه القتامة،‮ ‬جرّبْ‮ ‬شيئاً‮ ‬آخر،‮ ‬أين راحت حساسيتك اللونية ؟

ويجــرّب‮.‬

وتأخذ اللوحة الجديدة مكانها ضمن سلسلة اللوحات المرصوفة في‮ ‬زوايا البيت‮.‬
‮-‬ أنت دائم التفكير في‮ ‬الجمهور،‮ ‬حريص على الايحاء؛ فارسم لهذا الجمهور ما‮ ‬يحبّه ويستميله إليك‮.‬

ويرســــم‮.‬
فتضاف لوحة أخرى إلى الرصيد المجمّد‮.‬

قبل تأسيس اللوحة،‮ ‬كان‮ ‬يثَبّتْ‮ ‬القماشة على المحمَل،‮ ‬ويصفّ‮ ‬الألوان الزاهية على صينية الألوان،‮ ‬ويُحضّر فرشاةً‮ ‬لكل لون،‮ ‬ويأخذ في‮ ‬الضرَبات السريعة على وجه اللوحة،‮ ‬فتبدو بعد دقائق حقلاً‮ ‬ربيعياً‮ ‬نابضاً‮ ‬بالألوان الحيّة المتناغمة حيناً‮ ‬والمتنافرة حيناً‮.‬

تتوالى الدقائق،‮ ‬تتوالى الضرَبات،‮ ‬وتتداخل الألوان،‮ ‬فيزحف الأخضر نحو البنّي،‮ ‬ويمتزج الأزرق بالأحمر،‮ ‬ويغزو لونٌ‮ ‬جارَه،‮ ‬حتى تضيع ملامح الألوان وتتحوّل القماشة إلى كتلة داكنة قاتمة لا تَبينُ‮ ‬فيها حتّى آثار الضربات‮.‬
‮-‬ لن نخرجَ‮ ‬مما نحن فيه ما لم تخرج من هذا الجو‮. ‬أليس هناك وجوه جميلة،‮ ‬آثار،‮ ‬حدائق،‮ ‬سماوات؟‮! ‬كن حيث أنت وانظر إلى الدنيا‮.‬
كان‮ ‬يُحسّ‮ ‬أن السماوات التي‮ ‬تتحدّث عنها تهبط رويداً‮ ‬رويداً‮ ‬حتّى تلامسَ‮ ‬رأسَه وتضغط عليه وتدعكه في‮ ‬الأرض،‮ ‬فيُحِسُّ‮ ‬بالاختناق،‮ ‬فينتفض،‮ ‬وتندفع‮ ‬يده بضربة طائشة على وجه اللوحة‮.‬
«حدائق وسماوات‮»!‬
طبعاً‮ ‬هناك حدائق وسماوات،‮ ‬وها أنا أرسمها؛ إنها حدائقي‮ ‬وسماواتي‮.‬
ويواصل ضرَباتِه المحكمة على القماشة التي‮ ‬تمتصّ‮ ‬ملامحَ‮ ‬الألوان،‮ ‬فتغدو كحقل محروق ما زالت آثار الماء مختلطةً‮ ‬برماده‮.‬

‮- ‬ عليك أن تقتصد في‮ ‬النفقات،‮ ‬فهذا القماش وهذه الألوان تكلّف كثيراً‮ ‬وتؤثر على حاجاتنا الحياتية؛ وما دامت اللوحات لا تباع فلا داعي‮ ‬لهذا الهدر،‮ ‬جرّب على مواد الهواة القليلة الثمن،

أصحيح أن لا داعيَ‮ ‬له؟ إذن كيف‮ ‬يعمل؟‮! ‬وكيف سيتعامل مع اللوحة التي‮ ‬يريدها راسخة بتقادم الزمن،‮ ‬حاملة كل الكون الكامن في‮ ‬وجوده؟

صارت كل ضربة فرشاة مراقَبة وخاضعة لمقاييس جديدة،‮ ‬وغدتْ‮ ‬كل حركة تُقاس بكلفة مادية،‮ ‬بحيث‮ ‬يمكن القول إن كل أنبوب زيت‮ ‬يساوي‮ ‬مأكول العائلة ليوم كامل،‮ ‬وكل متر من القماش‮ ‬يَعدل كذا وكذا من حاجات العائلة اليومية‮. ‬امّحَتْ‮ ‬الجرأة،‮ ‬وتبخّرتْ‮ ‬حرية التصوّر والحركة،‮ ‬وتبعثَر الخيال،‮ ‬ولم‮ ‬يبقَ‮ ‬إلا صوتها‮.‬

‮-‬ المساعدات الاجتماعية لم تعُد تكفينا،‮ ‬ينبغي‮ ‬التوقف عن هذا الهدر الذي‮ ‬لا‮ ‬يُنتج شيئاً‮.‬

‮- ‬ سوزان،‮ ‬أنتِ‮ ‬كاتبة وناقدة فنية،‮ ‬وعلى علاقة بالوسط الفني،‮ ‬ماذا تَرَينَ‮ ‬في‮ ‬هذه الأعمال؟‮ (‬كانتا زميلتين في‮ ‬معهد الفنون‮).‬
‮- ‬ أراها قوية ومُفْعمة بالحيوية والايحاء‮.‬
‮- ‬ إيحاء بماذا؟ ألا تَرَيْنَ‮ ‬أنها قاتمة وثقيلة على النفس؛ مَنْ‮ ‬يشتريها؟
‮- ‬ البيع والشراء موضوع آخر،‮ ‬ولكن اللوحات جيدة وقوية‮.‬
‮- ‬ إذن لماذا لا تُشترى؟
‮- ‬ التسويق الفني‮ ‬محكوم بشروط لا تتعلق دائماً‮ ‬بجودة اللوحة،‮ ‬هناك الشهرة والترويج وآراء النقّاد وقنوات الاتصال‮.‬
‮- ‬ ونحن لا نملك من كل هذا شيئاً‮.‬
‮ -‬ ينبغي‮ ‬مواصلة العمل والبحث عن قنوات‮.‬
‮-‬ هو‮ ‬يواصل العمل ولكنه لا‮ ‬يبحث عن مجالات التسويق‮.‬
‮ -‬ لماذا لا تقومين أنتِ‮ ‬بذلك؟
- ‬ أنا؟
‮-‬ طبعاً،‮ ‬لماذا لا تحاولين؟

حاولَتْ؛

أخذتْ‮ ‬عشر لفائف من الكانڤاس المركون في‮ ‬زوايا البيت دون أن‮ ‬يعلم،‮ ‬وطافت بها على عشرات الكاليريهات،‮ ‬فلم‮ ‬يحفِل بها أحد‮.‬

راحت إلى السوق الكبير للفن المعاصر الذي‮ ‬يُقام سنوياً‮ ‬في‮ ‬ساحة الباستيل،‮ ‬حيث‮ ‬يَعرض الفنانون الناشئون ومتوسطو الكفاءة،‮ ‬وسألتْ‮:‬
‮- ‬ قل لي‮ ‬يا مسيو فرانك،‮ ‬هل‮ ‬يمكن أن ترسم لوحةً‮ ‬علي‮ ‬لوحة مرسومة قبلاً‮ ‬لفنان‮ ‬غيرك؟
‮ -‬ طبعاً،‮ ‬سأعتبرها أساساً‮ ‬للوحتي‮ ‬إذا كانت صالحة‮.‬

طارت ثلاثون لوحة مما كان محشوراً‮ ‬تحتَ‮ ‬الأسرّة وفي‮ ‬زوايا البيت،‮ ‬كانت عشرٌ‮ ‬منها من حصّة فرانك؛ تأملها وتمنّى لو كانت له القدرة على هذه التقنية الرفيعة‮. ‬

أحَسَّتْ‮ ‬بنوع من الغبطة،‮ ‬وقرّرَتْ‮ ‬مواصلة مشروعها ما دام المعرض قائماً‮.‬

لم تُخبره بشيءٍ‮ ‬مما فعلتْ،‮ ‬ولكنه بعد أيام لاحظ ما‮ ‬يجري،‮ ‬لم‮ ‬يقُلْ‮ ‬شيئاً‮.‬

بعد أن تمالك نفسه من الألم الممضّ‮ ‬لقرحة المعدة الذي‮ ‬صرعه وألقاه في‮ ‬المستشفى منذ اسبوعين،‮ ‬استطاع أن‮ ‬يكتب‮:‬

« ‬لم أبكِ‮ ‬منذ زمن‮. ‬الآن تراودني‮ ‬رغبة مبهمة في‮ ‬البكاء‮. ‬لست تعيساً،‮ ‬ولكن حزناً‮ ‬شفيفاً‮ ‬مريحاً‮ ‬يلملم أشجاناً‮ ‬قريبةً‮ ‬وبعيدة،‮ ‬ويدفع بها إلى صدري‮ ‬فينضغط،‮ ‬فتتصاعد إلى صدغي،‮ ‬وتروح تراود عيني‮ » . ‬

أحِسّ‮ ‬بهشاشة روحي،‮ ‬ببساطتها،‮ ‬بطفولتها،‮ ‬ببراءتها،‮ ‬وأريد حضناً،‮ ‬صدراً،‮ ‬أسكب عليه كل دموعي،‮ ‬وأسكت؛ استغرقُ‮ ‬في‮ ‬الصمت؛ لا صوت إلا صوت نشيجي،‮ ‬ورفيف‮ ‬يدٍ‮ ‬حانية‮.‬

أمام طغيان الدموع تنهار مكابرتي،‮ ‬لا أخجل من ضعفي،‮ ‬فأنا لم أتصوّر نفسي‮ ‬بطلاً‮ ‬بأي‮ ‬شكل من أشكال البطولة‮. ‬

جرعةٌ‮ ‬تتلو جرعة من هذا الطباشير المذاب،‮ ‬والغمام‮ ‬يتصاعد،‮ ‬وتتزاحم في‮ ‬الوجنتين رغوة أعرف مداها،‮ ‬إنها تتكاثف الآن،‮ ‬تبدأ في‮ ‬الوجنتين ثم تتصاعد‮. ‬نقرةٌ‮ ‬واحدة تفجّرها،‮ ‬لكنني‮ ‬لا أريد أن أفتعل هذه النَّقرة،‮ ‬أريد أن تأتي‮ ‬طوعاً،‮ ‬وفي‮ ‬الواقع،‮ ‬لا أريد شيئاً،‮ ‬أريد أن أبكي،‮ ‬لا أكثر‮.‬
يَحسبونني‮ ‬سعيداً‮ ‬بين الآخرين؛ لهم ما‮ ‬يظنّون،‮ ‬والبكاء ليس ضد السعادة،‮ ‬البكاء نوع من التجلّي،‮ ‬نزول إلى نهر النظافة،‮ ‬وصعود إلى سهل الصفاء الروحي‮.‬
من لي‮ ‬بنَـقْـرة تفجّر هذا النشيج المكتوم في‮ ‬صدر اليتيم‮ »‬؟‮!‬

حلّتْ‮ ‬النَّـقْـــــرة؛ بصمتٍ‮ ‬ووقار‮.‬

أخْليَتْ‮ ‬الطاولة من الطباشير المذاب،‮ ‬وطويَتْ‮ ‬الشراشفُ‮ ‬البيضاء‮.‬

ظلّتْ‮ ‬هي‮ ‬تنتظر الموسم القادم للسوق الكبير لمعرض الفن المعاصر‮ !‬


‮(❊) ‬ فصل من رواية‮ ‬بهذا الإسم،‮ ‬جاهزة للنشر‮.‬
پاريس في‮ ٩/٩/١٠٠٢‬
[email protected]



#محمد_سعيد_الصگار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الباء تتدخل في مصائرنا
- شؤون تنحتُ‮ ‬في‮ ‬القلب
- نحو المربد السابع
- غداً موعدنا مع الغد
- الصگار في حوار مع جريدة المدى
- برمكيات
- البرد وعلي الشرقي والإنتخابات
- إحماض قبل الإنتخابات
- ايمان صبيح والوعي الرياضي
- قداس الميلاد في‮ ‬كنيسة الكلدان في‮ ‬ ...
- سيدات محافظة واسط
- سامي‮ ‬عبد الحميد‮ ‬ لا‮ ̷ ...
- خذ قصيدتك وامش ١
- إنا لله وإنا لهذا العراق
- مزالق الشيخوخة وفؤاد التكرلي
- نعمة الملل
- آفاق الكتابة
- محمد شرارة الشجرة الوارفة
- مجسّات القلم
- رجلان ... أي رجلين!


المزيد.....




- كرّم أحمد حلمي.. إعلان جوائز الدورة الرابعة من مهرجان -هوليو ...
- ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
- الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا ...
- بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب ...
- مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب ...
- فنان مصري يعرض عملا على رئيس فرنسا
- من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة ...
- إطلالة محمد رمضان في مهرجان -كوتشيلا- الموسيقي تلفت الأنظار ...
- الفنانة البريطانية ستيفنسون: لن أتوقف عن التظاهر لأجل غزة
- رحيل الكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد سعيد الصگار - غرفة سمير الكاتب (رواية)