|
في نقد القراءة التراثية
عمر أبو رصاع
الحوار المتمدن-العدد: 921 - 2004 / 8 / 10 - 09:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الحضارة الإنسانية أشبه بقافلة تعبر في رحلتها عدة محطات ثقافية ، تتوقف فيها تتزود منها وتعطيها ، ومن هنا من محطة الثقافة العربية مرت قافلة الحضارة الإنسانية ، فيها توقفت أعطتها وحملت منها قبل أن تواصل المسير ، فالحضارة التي هي حصيلة الإبداع الناتج عن تجارب الوجود الإنساني ليست حكرا على ثقافة دون أخرى ولا يمكن تشطيرها فنقول حضارة عربية وحضارة أوربية ....الخ فما يسميه البعض بالحضارة العربية مثلا هو الحضارة الإنسانية زمن سيادة الثقافة العربية ، الحضارة الإنسانية أشبه بالبناء كل مساهمة فيها هو وضع لبنة في صرح الحضارة ، فهي لا تظهر عند شعب من الشعوب فجأة إذ لا بد لهذا الشعب أن يستوعب كل المساهمات التي سبقته ويهضمها بل ويعيد صياغتها ويضيف إليها مساهمته ، هكذا تكون الحضارة بشكلها الناجز محتوية ضمنا على مساهمة أول من أبدع جديد فالذي اكتشف النار مثلا شريك في صناعة هذه الحضارة لا سبيل الى إنكار دوره فيها . إذا ليس هناك صراع حضارات كما توهم هنتنغتون بل صراع ثقافات هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالحضارة بشكلها الغربي الناجز ليست حكرا على عقل دون آخر عقل يبدع وآخر مصاب بالا إبداع كما يخبرنا د. محمد عابد الجابري في "نقد العقل العربي" . منذ زمن فارق مركز الحضارة الإنسانية الثقافة العربية التي تشرنقت وتقوقعت على نفسها ، ثم صم آذانها دوي مدافع نابليون على شواطئ الإسكندرية أيقظها من نوم طال وعمق ، وسرعان ما تنبهت العقول الى تخلفنا عن ركب الحضارة وبرز التحدي الحضاري للعيان ولا زال يفعل بنا وننفعل به حتى اليوم ولا زال دوي مدافع نابليون يؤكد لنا صباح مساء على امتداد رقعة الثقافة العربية هذا التخلف , وانقسم المثقفون العرب في آرائهم حول السبيل الى جسر الهوة بيننا وبين الأمم التي سبقتنا الى ثلاث اتجاهات : -الأول انقض على الثقافة العربية أو العقلانية العربية باعتبارها سبب التخلف يريد أن يطلق عليها رصاصة اللا رحمة إن جاز لنا التعبير وان يتمثل الثقافة الغربية بشكلها التي هي عليه فاعلة منفعلة بالحضارة الإنسانية بشكلها الناجز ، وليس ظهور هذا الاتجاه بغريب أليست تلك حال الأمم المهزومة -وفق التصور الخلدوني- تقلد الأمم الهازمة ؟! لكن أصحاب هذا الاتجاه يتجاهلون تماما أن التراث العربي جزء أساسي بل المكون الرئيس للعقلانية العربية و التخلي عنه معناه أن نفقد العقلانية أو الثقافة خاصتنا كما أننا لن نكتسب بحال عقلانية الآخر المنتصر المتقدم لأن لها ظروف تطورها الموضوعية التي ليست لنا هذا في واقع الأمر الذي قاد كل تبن ٍ للأيديولوجيات الغربية من قبلنا كما هي عند الآخر إلى مزبلة التاريخ ببساطة لأن الظروف الموضوعية التي أنتجتها يستحيل أن تطابق الظروف العربية. -الثاني اختار التوفيق بين التراث من جهة والمعاصرة والحداثة من الجهة الأخرى ، فهو لما أدرك أنه لا يمكن بحال من الأحول البدء من حيث انتهينا كما أنه ليس من المنطق ولا الممكن أن نقرر إلغاء ثقافتنا وتبني الآخر كما هو ، اعتقد بإمكانية التوفيق بينهما هكذا اتخذ موقف انتقائي من التراث والحداثة الغربية على حد سواء ، أراد أن يأخذ من كليهما ما يمكن أن يتفق و يتجاهل في كليهما ما لا يمكن اتفاقه ، لكنه اصطدم بأن العقلانية (الثقافة) سواء كانت العربية أو الغربية كل متماسك ومنتظم لأنها بنيوية لا يمكن تفكيكها انتقائيا ، وبذلك انقلب توفيق ما لا يتفق تلفيقا ! -الثالث اتجاه أصابته الهزيمة بالرعب فاختار الهروب الى الذات عندما كانت هذه الذات فاعلة ، اعتقد بأن العودة إلى التراث وتمثله هي الحافظ من الزلل والوسيلة الصحيحة للنهضة ، هذا التيار السلفي المصاب بعمى الزمن يتجاهل تماما الظرف الموضوعي ويختزل المكان والزمن فهو يهدر التاريخ بالكامل بل إنه يرفض الاعتراف أصلا بتقدم الحضارة فضلا عن كونه يصر على فصل المدنية عنها ، فالحضارة عنده اكتملت في اللحظة الأسطورية الكاملة المكتملة التي جل ما يمكن أن نتمناه اليوم هو تمثلها ومحاولة الوصول إليها فهي ذروة التاريخ الإنساني وقمة عظمته ! -إذا من أين نبدأ ؟ في الحقيقة ليس من بداية أخرى ممكنة غير الذات لأنها الموضوع أصلا ، الذات بمعنى العقلانية العربية ونعني هنا بالبداية البداية على مستوى الثقافة حتى لا يلتبس الأمر فيعتقد أننا نتفق مع الانطلاق من إسقاط فكر جاهز على الواقع المادي أو أن النهضة تبدأ بمشروع لإعادة قراءة التراث إنما نتكلم عن الجهد المطلوب في مجال إعادة قراءة التراث و إنتاجه وهي مهمة تلحق التطور وتحاكيه وليس العكس إذن هي بداية بمعنى إطلاق القراءة التراثية من عقال المدارس الكلاسيكية والتلفيقية والرافضة ، بينما مشروع النهضة تكون بدايته الحقيقية من خلال البيئة المادية الواقع المادي وثورة الإنتاج….الخ(حول مشروع النهضة أنظر مقالنا في العدد 903) ، أما لماذا نؤكد دائماً على أهمية هذا المشروع أعني مشروع إعادة قراءة التراث فذلك عائد لعاملين أساسيين محاولة الكشف عن الطبيعة الانفصامية "الشوزفرانية" للعقلانية-الثقافة العربية من جهة ومن جهة ثانية نقد البنيوية العربية الحديثة ، إن العقلانية-الثقافة العربية لها طابع خاص يتمثل بالعلاقة المميزة لها بالنص ، هذه العقلانية في جوهرها انبنت جدلياً على التراث ، به ومن خلاله ومعه ، والتراث مركزه الأكيد عند العرب هو النص ، والنص الديني بشكل دقيق ، فالنص أو مركزية النص هي الصفة الغالبة والسمة الرئيسة للثقافة العربية إنها منجزها الحضاري الأول ، و بشكل أكثر دقة النص يمثل نقطة المركز أو المحور الذي دارت حوله دائرة الثقافة العربية ، أعطت به ومن خلاله وبالتفاعل معه وفعله مساهمتها في الحضارة الإنسانية ، ومركزية النص وخصوصا القرآني محل اتفاق كل الفرقاء في تاريخ العقلانية العربية وتجربتها الحضارية ، وليس جزء من العقلانية العربية من كان منفلت من دائرة مركزها أي النص الديني فحتى من ألحد تعامل في أدبيا ته وتفاعل مع هذا النص وفي دائرة التأثر والتأثير خاصته ، لا يعني ذلك أن النص صنع الواقع أبداً ، لكنه صورته عند لحظة زمنية زالت وبقي هو مركزاً دائماً للعقلانية-الثقافة العربية. بناء على ما سبق نرى أن المدخل الصحيح هو فهم الذات فهما موضوعيا من واقعنا نحن وبعين عقولنا لأن النهضة المأمولة لا تتم إلا من خلال ذاتنا أولا أي من خلال النهوض بأنفسنا ، ولما كان النص المركز والمحور فلا بد أن نحدد أسلوب القراءة الذي يناسبنا لهذا النص ، لماذا حتى نتمكن من إعادة إنتاج ذاتنا العارفة بطريقة تجعلها اكثر اندماجا وانسجاما مع الواقع. أسلافنا وجهوا عقولهم وأدواتهم البحثية إلى النص ، وضعوه موضع البحث ، فتباينت أساليبهم ، فمنهم من اتبع أسلوب تفسير النص بالنص والمأثور ، ومنهم من أعتمد أسلوب تفسير النص من خلال فهمه و واقعه ، على أننا نسجل أن هذا الفرز ثنائي البعد لقدماء المفسرة العرب والمسلمين ليس دقيقا تماما ، ودراسة أساليبهم وتحليلها وتصنيفها لا زالت إلى حد كبير مساق قائما بحد ذاته ينتظر الباحث الجاد لخوض غماره ، عموما يمكن القول أن من سبقنا انطلق إلى تراثه يفهمه ويحلله بما لديه من أدوات البحث وأساليبه ، فقد قام –على سبيل المثال- الفيلسوف والفقيه المحدث أبو الوليد بن رشد الحفيد (520هج/1126م-595هج/1198م) بوضع التراث النصي العربي الإسلامي تحت مبضع البحث المنطقي الذي كان وارثه الأكثر فهما والأفضل شرحا عن أرسطو أبي المنطق حتى أصبح بما لا يدع للشك مجالا البوابة التي عبرت منها أوربا إلى أرسطو وفهمته ، فضلا عن محاولته المواءمة بين الفلسفة والشريعة في كتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال" والذي يرى فيه أنه إذا ما تعارض ظاهر الشرع مع ما وصل إليه العقل عن طريق استعمال المنطق وجب تأويل الشرع ، ولا شك أن توفيقية القديس توما الإكويني (1225-1274)م بين اللاهوت والفلسفة تأثرت بشكل واضح "بفصل المقال" ، هذا وتصدى ابن رشد الحفيد للدفاع عن الفلسفة ضد من كفرها في كتابه الأشهر"تهافت التهافت" الذي رد فيه على الإمام أبي حامد الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" ، وفضلا عن كل ذلك فابن رشد هو الفقيه والمحدث من زاوية فلسفته المنطقية الأرسطية وصاحب محاولة هامة أغفلت في الفقه المقارن على المذاهب الأربعة "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"-أعاد الدكتور محمد عابد الجابري نشره في إطار مشروع لإحياء تراث ابن رشد- ناهيك عن ما يحمله اسم الكتاب من دلالات يضعه من خلالها في مقابلة فكر أبي حامد الغزالي وكتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" ، هذا أحد النماذج الأسلوبية القديمة في قراءة النص بخاصة والتراث بعامة . وإذا كان ابن رشد قد تأثر بشكل واضح بالفلسفة الإغريقية فإن الدراسات العميقة والتي انصبت على دراسة نظام الدلالات أو العلامات كما يطلق عليه اليوم اتسمت بالأصالة لمنشئها الكلامي بل يمكن القول هناك نظرية في علم الدلالة لدى فقهاء اللغة العرب لم يتح لها للأسف أن تطور و تستثمر في ظل القمعية السياسية العربية إن جاز لنا التعبير ، نجد ملامحها بارزة في مؤلفات الجاحظ مثل "البيان والتبيين" و "الحيوان" ، وكتاب "الخصائص" لابن جني ، وكتابي "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة" لعبد القاهر الجرجاني ، وكتاب "المزهر في علوم اللغة العربية وأنواعها" لجلال الدين السيوطي ، وكتابي "المغني" و "شرح الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار المعتزلي ، وكتاب "الفتوحات المكية" للصوفي محي الدين ابن عربي . هذا في العصور الوسطى العربية أما في العصر الحديث فقد كثرت الدراسات التي حفلت بالتراث وتفسير النص ، لكنها على كثرتها تلك لم تتعدى بمعظمها كونها تلميع للقديم واستلهام له واعادة لطرحه ، هكذا ظلت ظاهرة قراءة النص اجترارية اتباعية يقرأ فيها العقل الراهن بالعقل الماضي ، حتى دعاة النظرة المعاصرة و الحداثية لم يكونوا معاصرين وحداثين -على الأقل من زاوية مدرسية – في فهم التراث والنص وتفسيرهما ، ذلك أنهم تعاملوا مع ناتج البناء المعرفي –أو نظرية المعرفة – عند قدماء العرب والمستند إلى النص و التراث أو لنسميه المعقول الديني عند القدماء على أنه هو الدين بالمفهوم المطلق ، أي أنهم نظروا إلى التجربة والنص بعين ألئك القدماء ، فوقعوا في مواجهة الإشكالية الناجمة عن تناقض نتاج الفكر الإنساني بشكله الناجز أخيرا في الحضارة الإنسانية و الذي حملوه باعتبارهم معاصرون و حداثيون مع المعقول الديني بشكله عند القدماء العرب والذي حملوه كجزء من الذات العربية أو الهوية الثقافية العربية ، تلك هي الإشكالية الرئيسة التي تضخمت لدى المثقف العربي حتى أصبحت حالة من الشوزفرانيا-الفصام-التي لا يمكن التقدم في إحداث نهضة في العقلانية على المستوى التنظيري دون التصدي لها وعلاجها من ثم تجاوزها ، السؤال الذي يطرح نفسه الآن كيف تعامل هؤلاء مع تلك الإشكالية ؟ التوفيقيون منهم و للتخلص من مأزق التناقض بين الحضارة والمعاصرة فيما تحملانه من فكر وبين الفكر في النص التراثي معقولا بعقل القدماء لجئوا إلى القراءة التشطيرية التلفيقية فانتهوا تلفيقيين، وأنتجوا قراءات مضطربة وهشة و مهلهلة وبالتالي سهلة الاختراق و متهافتة ، فالقراءة الانتقائية تطلق الدلالة من عقالها الموضوعي ، هكذا تشظت الدلالة عندهم واندفعت على غير هدى دون أن يحكمها ضابط نظري معرفي منظم ، فكيف تصمد مثل هذه القراءة وهذا حالها أمام البنية المتماسكة للمعقول الديني عند القدماء ؟ طبعا لن تصمد ويسهل نقضها ، ببساطة لأنها تعقل النص- تفهمه –بعقل القدماء ، بل وتعقله عقلا تشطيريا انتقائيا ، فهم لم ينظروا إلى المعقول الديني من زاويتهم لا بمعنى استقباله بمواقف مسبقة بل بمعنى توظيف التراث في إطار نظري آخذ بأدوات العقل التفسيرية والمنهجية المعاصرة ، توظيفا يدرك الحاضر ويستوعبه ويدرك التراث تراثا متموضعا في موقعه الزمكاني- أي الزماني المكاني –ويوظفه ويتجاوزه ، هذا فيما يتعلق بالتوفيقين ، أما بالنسبة لألئك الذين رفضوا التراث بجملته معتبرين أنه عقبة في سبيل النهضة والتقدم فقد وجهوا جهودهم لإبراز تلك الإشكالية وذلك لإدانة المعقول الديني بالمطلق ، وأصحاب هذه الإدانة التي تقصد من طرف خفي غير مصرح به إلى إدانة الدين على اعتبار أنه العقبة الكبرى في وجه التقدم ليسوا أقل إصابة بعمى الزمن من السلفية ، لأنهم فضلا عن خلطهم المعقول الديني لدى القدماء بالدين مطلقا وجعلهم إياه معقولا مطلقا وبالتالي غير قابل لأي إعادة عقل-بمعنى فهم- أقول فضلا عن ذلك يتجاهلون تماما الزمكانية –ظاهرة الزمان والمكان- عند القدماء ومدى تطور النظام المعرفي أو نظرية المعرفة عندهم ذلك أنهم أصلا وكأي مصاب بعمى الزمن لا يعترفون بتطور نظام المعرفة أو على الأقل لا يفهموه ولا يدركون أن النهضة لا تكون بإنتاج قطيعة رافضة مع للتراث و إنما بتجاوز هذا التراث ، هذا حقيقة هو ما أدى لذلك الخلط آنف الذكر ، فإذا كان السلفي يجعل من نقطة ما في الماضي ذروة مقدسة للتاريخ الإنساني فإن هؤلاء أيضا بعماهم الزمني يجعلون من اللحظة الراهنة للحضارة الإنسانية ذروة مقدسة للتاريخ لا يمكن تجاوزها ومرفوض ما قبلها ، ولا ننسى أن الفشل الذريع لمشاريع النهضة العربية ذات الطابع التوفيقي كان من أهم دوافع هؤلاء للموقف الذي اتخذوه من التراث بعامة . إضافة لما سبق نشير إلى عيب خطير أعتور الدراسات النقدية والتفسيرية المعاصرة بشكل عام متمثل بالتعامي عن انفتاح مدارس النقد والتفسير أو القراءة بشكل عام التي وسعت نطاق الدلالة بما أنجزته من تطور في أساليب القراءة جعلها تعمل معا تتجادل وتتكامل كما هو الحال في دراسات الهرمنيوطيقا –نظرية التفسير أو التأويل- هذا التعامي يجعل باحثنا يصر على مصادرة كل قراءة ممكنة غير قراءته أيا كانت هذه القراءة واختزل أي دلالات ممكنة بالدلالات التي أنتجتها قراءته مواصلا بذلك الظاهرة الاقصائية المتفشية في ثقافتنا قديما وحديثا على حد سواء ، محتكرا الحق والحقيقة ، منكرا كل قوانين النسبية التي تحكم الدراسات الإنسانية بشكل عام ، وبدلا من أن ننعم بالمعارك الفكرية التي تبني بجدلها المعرفة وتنميها نشقى بالمعارك القضائية التي يحاكم فيها الفكر بل ويدان! إذن ما هي القراءة التي نطمح إليها للنص والتراث ؟ لا بد أن نشير هنا إلى التطور المذهل الذي أصابه تفسير النصوص كظاهرة أسلوبية ، إذ أصبح هناك نظرية قائمة بحد ذاتها أو قل علما هو الهرمنيوطيقيا –التفسيرية أو التأويلية-وقد كان أول ظهور للمصطلح دالا على نظرية التفسير عام 1654م كما يذهب بعض الهرمنيوطيقيون ، إلى أن جذوره قديمة قدم الانشقاق الذي أحدثه مارتن لوثر في الكنيسة ، فالهرمنيوطيقيا ظهرت بداية في مجال الدراسات اللاهوتية للدلالة على مجموعة القوانين أو المعايير التي يجب أن تنظم القراءة التفسيرية للكتاب المقدس قبل أن يتسع مفهومها ليصبح نظرية التفسير و التأويل لكافة العلوم الإنسانية ، وماذا فعل مارتن لوثر في حقيقة الأمر أكثر من كونه كسر احتكار الكنيسة الكاثوليكية لتفسير الكتاب المقدس ؟ أليس هذا الكسر هو الذي أتاح لاحقا لفلاسفة من طراز الفيلسوف الأخلاقي الكبير كانت أن يكون مؤمنا بالله بل ومسيحيا ، وأن يحاول إنقاذ أسس الدين المسيحي على حد تعبيره ؟ ورغم أن مدارس التفسير البروتستانتية وصلت إلى ما وصلت إليه من الغلو والتشدد فإن ما يعنينا في مقامنا هذا إطلاقها تفسير النص الديني من يد المحتكر الكنسي الكاثوليكي ، بحيث توفرت للجميع إمكانية النظر في النصوص الدينية وتفسيرها ولم يعد هناك قراءة أحادية محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها ولم يعد هناك حارس أمين على فهم النص الديني ! لا ننسى كذلك أن محاولة إزالة التعارض بين نتائج النظر العقلي وظاهر النص كانت أول إرهاصاتها عند أهل الرأي وعلى رأسهم المعتزلة ، وأحل فيها ابن رشد المنطق الفلسفي محل الأساس الكلامي الاعتزالي ، وعبرت منه إلى أوربا الكاثوليكية و توما الإكويني كما سبق وبينا ، ونحن نزعم أنه يمكن اعتبار الهرمنيوطيقيا امتداد طبيعي وتطور لتلك النزعة العقلانية لكن دون أن نتوهم التسوية بينهما . الهرمنيوطيقيا تسعى إلى الوصول للفهم الصحيح للنصوص باتباع القواعد والأسس المعرفية السليمة ، فهي تثير تساؤلات مركبة ومعقدة حول النص بطبيعته وعلاقته بالتراث ، وعلاقة النص بالمؤلف ، وعلاقة الناقد أو المفسر بالنص التي هي نقطة المركز في الدراسات الهرمنيوطيقية . إذا ما تناولنا طبيعة النص ، علينا أن نميز بين النص متموضعا بلغة ما وفي شكل انتهى إليه وبين النص من حيث هو مجموعة من الدلالات التي يلتقطها العقل ، فالنص ثابت بشكله لكن العقل الذي يُنطق النص الدلالة ليس كذلك لأنه أي العقل كأداة فهم يتعامل مع المادة موضوعة الاستدلال وفق منهجيات معقدة التركيب تسهم في بنائها عدة عوامل مستقاة من واقع هذا العقل المفسر للنص بكل مضامين وأبعاد هذا الواقع ، فإذا كان النص موضوع الاستدلال فإن الدلالة بنت فعالية العقل في النص أو بنت انفعاله به وتفاعله معه . عند الحديث عن أي نص فإن مصدر النص لن يصوغ أفكاره معزل عن عقل اللغة فاللغة التي يستخدمها لصياغة الأفكار وجعلها خطابا محكومة بقوانين ، أي أن لها عقل -إن جاز لنا التعبير-هذا العقل يمارس فعاليته في النص من خلال اللغة في ذات الوقت الذي يمارس فيه مبدع النص التصرف بجسد عقل اللغة أي التصرف باللغة ، هنا يبرز سؤال هام هو هل عقل اللغة هذا جامد أم أنه متجدد بشكل لا نهائي عند كل استعمال لجسده أي اللغة ؟ ثم أليست النصوص أو بشكل أكثر دقة جملة الاستخدامات للغة هي التي بنت وتواصل بناء عقل اللغة من خلال تفعيله والانفعال به ؟ إن اللغة ليست مادة عديمة العقل طيعة مجردة ، بل هي مادة حية فياضة الدلالة وكلما تركبت زاد فيضان الدلالة خاصتها تؤثر وتتأثر بعقل مركبها أو مستخدمها ، فإذا كان النص هو الشكل الذي تموضعت فيه تجربة المؤلف الوجودية فإن اللغة هي مادة شكله المتفاعلة جدليا مع هذا النص . هكذا فإن النص فكرا يتحد مع النص لغة في النص شكلا منفصلا عن مصدره متجها نحو متلقيه وهذا بدوره يفعِّل مضمون النص الذي تلقاه من خلال لغته وعقله اللذان هما نتاج تراكم تاريخي وواقع عملي مادي ، ألا يمكن أن تلاحظ معي الكم الهائل و المتطور من القراءات الممكنة للنص ؟! أن النص شكلا متى أكتمل انفصل عن مصدره و لغته لأنه صورة مثبتة لتفاعلهما عند زمن يمكن أن نسميه زمن التفاعل بين المبدع بفكره واللغة مرآة العقلانية ونتاج تطورها في مجتمعها ، ومتى انتهى هذا الزمن عبرت تلك الصورة إلى ما بعد ذلك الزمن و أصبحت شيء مستقلا حتى لذات المصدر واللغة التي لم يعد عقلها كما كان . هناك أيضا الواقع المادي ودوره ، هل هناك فكر أو لغة يعملان في الفراغ ؟ أو بصيغة أخرى هل يمكن أن يوجد نص خارج إطاره ؟ النص بالضرورة لا ينتج دلالة إلا في إطار دلالي قطباه واقع مادي ومتلقي ، التفكير- أي تفكير- عملية جدل تستحيل خارج الواقع المادي ، وكذلك يستحيل النص خارجه إذ أن السؤال الذي يلح هنا على ماذا سيدل وبماذا سيستدل ولمن يعطي الدلالة ، والحق أن قدماءنا أدركوا هذه المسألة وبحثوا الإشكالية في إطار نظرية الدال والمدلول التي سبق أن أشرنا إليها ، ولذلك لم يكن عبثا -كما يحاول البعض إيهامنا- بسطهم البحث في مسألة خلق القرآن وأصل اللغة أهي على التواضع أم وقف من عند الله؟ عموما فإنه حتى أرباب القراءة الكليانية للقرآن لم ينكروا الفروق الأسلوبية الواضحة بين مكيه ومدنيه ، ناهيك عن مواضيعه ففيه القصص و أدلة الألوهية و الربوبية و التشريع و المجادلة وفيه العام والخاص والناسخ والمنسوخ ، مما يظهر بنية القرآن الغنية المتنوعة والجدلية . نهاية أليس النطاق الدلالي للنصوص التراثية بشكل عام بحاجة إلى ثورة تتناسب أسلوبيا أولا ومفهوميا كنتيجة مع ما وصل إليه إنسان القرن الحادي والعشرين ؟ وألا يعتبر هذا الدور المطلوب اليوم أساسيا ومحوريا في الدفاع عن الهوية العربية أو عن الذات الثقافية العربية و إعادة إنتاجها و تفعيلها وتحريرها من جمودها ؟ إن المسألة مسألة مبدأ أن نكون أو لا نكون ، فإن كنت تشاركني قلقي لا تكتفي بالفرجة على مذبحة التراث .
#عمر_أبو_رصاع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الذَّبحُ و الأرَبُ
-
قراءة حول إشكالية النهضة في الخطاب المعاصر
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|