|
السكن في جمهورية برتقال ابراهيم الخياط
جبار النجدي
الحوار المتمدن-العدد: 3023 - 2010 / 6 / 3 - 23:07
المحور:
الادب والفن
تُبحر نصوص الشاعر إبراهيم الخياط مع الفجيعة وتعود بمعونتها، وهو امر نلمسه في لحظات الانفعال الصامت التي تسود مجموعته (جمهورية البرتقال). حيث يتم وبتكتم إخضاع النفس إلي معايير قاسية، في لمحات من الضحك المأساوي المتراكب مع سخرية الأقدار، وبذلك نجد ان للسخرية مكون مأساوي يسهم في بنائها، ويتيح لبعد آخر أن يحضر في الشعر، ألا وهو عذابات الذاكرة والحنين المبهم لمدينة (البرتقال) وما تلقته هذه المدينة علي مدى واسع من الزمن من مشاهد قاسية جرت على مستوى عواقب الحرب، وعلى وفق ذلك كان لا بد للشاعر إبراهيم الخياط أن يلجأ إلي تخزينات الذاكرة معتمدا علي بنى نصية ارجاعية في اشتغالاته الشعرية، تلك الاشتغالات التي تقع في اغلب نصوص المجموعة في مدار حديث الذاكرة، وبلغ من اهتمامه في ذلك بأن جعلنا نعي ان الذاكرة هي واحدة من قوى الشعر الفذة، فيمكن للشعر أن يحرك ما يرقد في تلافيفها من أمكنة غير مسالمة إذ سرعان ما نكتشف مشاهد إلحاق الحياة بالقتل، وتعطيل قدرات الجسد، للحد الذي يصبح فيه الموت متسعاً للراحة، غير أن هذا الاجتياح الجسدي من قبل الذاكرة يقابله في نصوص الشاعر (الخياط) قدرات الجمال التي لا تتلاشى شجاعتها ابداً، وما أن تصبح لحظة رهان الشاعر علي القدرات الجمالية في الإنسان متفوقة حتي يوضع اسم الشاعر في (ملصق المطلوبين) وإثر ذلك يلجأ الشاعر في نصوصه إلي خيار التعمية الذي هو يشكل في الوقت ذاته إضافة مساحة جديدة للرؤية، إن الأمر يتعلق إذن بالمعنى الذي يرهن وجوده بالبحث عن معنى آخر، وجدير بنا التأكيد إن تركيبة الجملة الشعرية في هذه الحالة بإمكانها أن تضع أكثر من مكان أو شخص في شخصية واحدة، وتبعاً لذلك ينبغي علي الشاعر أن يبذل غاية الجهد للتخفيف من ثقل الجملة الشعرية حتي تقوى علي المشي وتواصل الحركة، لا سيما وانها متأتية من جهة الملمح الشعري الذي كان مخزناً لمدة من الوقت في الذاكرة، وبإزاء ذلك يبادر الشاعر إبراهيم الخياط إلى استدعاء فخامة اللغة وبهاء الفاظها واشراقاتها مستفيداً في مفاصل عدة من قوة الإعجاز القرآني بإيراد طائفة من الكلمات التي تمكنه من أن يفلح في ضمان تراجع جاهزية الذاكرة أمام جاهزية الشعر، في محاولة لعرض الكائن الشعري بوصفه من أهل الكلام والمحدثين الوعاظ الذين تجري علي ألسنتهم اشراقات من الأمل لمواجهة ما يقلقهم من مخزونات الذاكرة: برتقالة هي خارطة العين وبيوتات تقرنت تدورت كمهابط العصافير يقال إنها بساتين فتنهضين في الذاكرة وأنت من أنتظر ؟ وإذا كان الشعر في مجموعة إبراهيم الخياط (جمهورية البرتقال) امتداد لجسد الذاكرة وإستطالة له، فإن الشاعر لا يخضع لإلزامات هذه الاستطالة وما يفعله هو محاولة تصريف مدخراتها بدوافع القبض على المعنى الذي لا يخلو من العبرة التي توجب الإمتثال للإنتاج الشعري الذي يتطلب بدوره إعادة إنتاج ما يعتمل في الذاكرة على نحو قد يكون مفارقاً لما تبوح به هي نفسها، وبذلك ينأى الشاعر بنفسه عن حالة الاجترار لما يترسب في الذاكرة من تجارب ليقوم بإنتاجها ثانيةً وبالطريقة التي تضمن تفوق الشعر على الذاكرة: ها أني اخرج من معارك سبع وتريني ادخل ارض النار والزاحفون يجيئون كالجراد فلا المح قربي أي بياض ارفعه سوي قلبي إن عملية إعادة إنتاج الشعر في المجموعة تُعد اشتغالية في نطاق معرفة معرقلة، فالخوف مثلاً هو معرفة والمعرفة قوة بوسعها أن تنتج إستشرافاً قادراً علي التعرف على المجهول لمواجهته وهي بذلك إنما تمثل عاملاً معرقلاً لما نسميه عادة بالإقدام، لكن على النحو الذي لا يدل على التراجع بقدر ما يدل علي محاولة الإحاطة بما يدور حولنا، لقد حاول احد الذين عنوا بإعادة إنتاج كلمة الشجاعة، في تراثنا العربي، فعرفها بجملة مفادها (إنها وسط بين رذيلتين: الجبن والتهور)، أما الشاعر إبراهيم الخياط فيطرح هذه المسألة عبر تركيبة شعرية على وجه آخر مختلف فيقول: اثمة - فينا - من ينقصه الخوف ؟ عليهم ارمي ما بيدي واعتصم بالشق ثانية أغمض عيني لأرشق فوجاً من الطلقات بوجه شبح للشجاعة بدا يتعملق قدامي لا يتيح الشعر في هذه المجموعة لأي شيء أن يحضر من الذاكرة إلي النص مباشرةً، فهو غير موجود على النحو الذي يقع في الذاكرة وما عملية إعادة إنتاجه إلا عبارة عن توكيد ما يغييب عن الشعر، ولكن من الممكن أن يظهر في تأويلات الشعر اللاحقة وبالصورة التي لاتقع ضمن اشتراطات عمل الذاكرة، والسبب يعود إلى أن زمن عمل الذاكرة يدخل في زمن غير زمنه هو زمن عمل الشعر الذي لا يفترض تطابقاً مع مخزوناتها بل يفترض إختلافاً كلياً عنها، إن مخزونات الذاكرة لا تتفق في ثباتها كخزين مع معاني الشعر ودلالاته التي تمثل مقادير متغيرة لا تذعن لأي ثبات، ولذلك تمدنا اشتغالات الشاعر إبراهيم الخياط بفكرة تشير إلي ان المعنى لا يصبح معنى إلا بالخروج من أوهام الذاكرة، وإن قولاً كهذا لا يجيز للحظة زمنية أن تعود مرة أخرى بعينها تماماً، فحالما يتسع لها مجالاً من (التخييل) الشعري حتي تكون مفارقة لسماتها الأساسية، وبالتالي تمنحها السمة المفارقة قدرة مغايرة في التأثير الشعري، لذلك فأن الشاعر مثلاً يرسم صورة لـ(انكيدو) لا تمت بصلة لما تحفظه ذاكراتنا عنه: كان أنكيدو فتى صعلوكاً أغري المليك وأغواه برقصتين وحرير الكلام ونسج من الخلود المرتجى عباءة الأوهام لعل ما تبوح به الذاكرة في شعر إبراهيم الخياط هذا الكشف لطبيعة الأمكنة التي تكتنف كل ما يدور في ذاكرة الشاعر من جدل واصطراع يقوم علي حالات التعاقب والتقلب والانفلات، ليجعل الشاعر غير متأكد من كل شيء، وفي سياق ذلك تتخذ المعاني في نصوص المجموعة اشكالاً متحولة، فيما تصبح عملية التلقي عبارة عن مشاهد متغيرة، ليتوجه الاشتغال الشعري وفي اغرب معانيه إلي إمكانية توجيه الأسئلة للأسئلة ذاتها من دون إنتظار حلول من أية إجابة منتظرة، ونفهم من ذلك ان تركيبة الجملة الشعرية لدى الشاعر (الخياط) تنمو بوجهة من شأنها أن تجعل صوت الشاعر مستريباً حذراً متشككاً ازاء ما ينفلت من تخزينات الذاكرة، الأمر الذي يغري اشتغالات الشاعر في أن تتوسع إلي ما وراء الذاكرة ذاتها: وأنا المجبول دمعاً إذن كيف أوهمونا ان للمدن ذاكرة ؟ يا مدينة الباعة الصغار أخاف علي زجاجة روحي أربعون صيفاً ولم تهشمها دورة المعارك أو: إنتكس القلب مرة وانتكس النهر مرات فلم يبق لقلبي سوي ظل انثى ولم يبق لنهرنا الشقي سوي حثالة الأهل المتسربين ومثل كل مرة كانت المدينة تسورني بالتماعاتها وتأمرني بالبكاء وهكذا يتضح ان الشاعر إبراهيم الخياط ليس معنياً بجمع ما يتشتت في فجاج الذاكرة، وإن الأمر الذي يعنيه حقاً هو ما يتعلق بطبيعة النتاج الشعري وإشتغالاته المولعة بتسريبات الذاكرة، التي تفلح في اغلب الأحوال في أن تجعل التجربة الفردية تحتفظ بكل أهميتها، وبالأخص عندما يقع المعنى في مكان خفي محاولاً الاغتذاء من تلك التسريبات التي لا يلامسها الشاعر إلا بقدر ما يمتلك من (تخييل) يتصف بالاشتغال المفارق لتخزينات الذاكرة وبالتالي فإن عملية (التخييل) تتوق إلي الانشطار عن الذاكرة لا الالتحام بها، وهذا أمر كاف ليجعل من المتعذر لمعنى ما في الذاكرة أن يكون معنى ممكناً في الشعر: قلبي عليك... قلبي علي قلبي ينوح في أول حرب..... خسر الكلام وفي آخر الحروب، خسر الروح وقلبي عليك.. قلبي علي قلبي حزين... من كل ذلك نستنتج ان الشعر المتولد من ذاكرة الشاعر إبراهيم الخياط، إنما هو شعر ما بعد الذاكرة، بمعنى انه متقدم بفارق تخييلي كبير على عمل الذاكرة التي لا تمنح سوى جزءا من تسريباتها لعملية اشتغالات الشاعر (الخياط) الشعرية. ــــــــــــــــــــــ "جمهورية البرتقال" ديوان الشاعر ابراهيم الخياط اصدار مشترك بين وزارة الثقافة واتحاد الادباء بغداد ـ 2007
#جبار_النجدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حسين القاصد يهاجم الجواهري وقصيدة النثر
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|