أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود كرم - الأصل في فلسفة الوعي الإنساني















المزيد.....


الأصل في فلسفة الوعي الإنساني


محمود كرم

الحوار المتمدن-العدد: 3019 - 2010 / 5 / 30 - 01:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



يبدو لي واضحاً من دون أيِّ ضبابية أو تعقيد أو تردد أو تلكؤ ، أن الأصل في فلسفة الحداثة الفكرية وفي الوعي الفلسفي الإنساني هو تبنيهما الكامل لما هو حقٌ للإنسان أولاً ، على العكس تماماً مما هو سائد في الثقافات والمعتقدات الدينية والأيديولوجية الأخرى ، حيث إنها تفرض على الإنسان قبل كل شيء ما هو الواجب منه فقط تجاهها، حتى من دون أن تمنحه في مقابل ذلك حقاً واحداً يحفظ له استقلاليته وحريته وتفكيره ورأيه وقراره ..

فبعد أن أدركَ الإنسان وجوده عبر التأسيس الفكري الواعي لفرديته الذاتية في صناعة مصيره وحياته وقراره وحريته ، كان الوعي الفلسفي الإنساني يتجه تصاعدياً وتركيزياً وتفاضلياً نحو حماية الجانب الأصيل فيه ، وهوَ أن الإنسان يجب أن يبقى دائماً حراً ، كإحدى أهم المرتكزات في الدفاع عن حقه الأصيل في الحياة ، مالكاً لوعيه وإرادته وتفكيره ، وصانعاً لقراره واختياره وحريته ، فمنذ زمن فلاسفة الأغريق ، ومروراً بفلاسفة عصر النهضة والتنوير والحداثة ، كان الوعي الفلسفي الإنساني في كل تحولاته وتعاقباته وتموجاته ومخاضاته واستنطاقاته ، يتقصّد دائماً استثارة النزعة الذاتية في الإنسان طريقاً لتجذير مفاهيم الحرية على مستوى الذات أولاً ، يستدعيها من حقيقة وجوده وإرادته الذاتية والعقلية ، كفضاء فكري ذاتي ينطلق منه نحو استيعاب حركته وتجربته وتفاعلاته في تلاحمهِ الثقافي والمعرفي مع حركة الحياة في تغيراتها وتقلباتها وتحولاتها ، وفي جوانبها وأبعادها وآفاقها وامتداداتها وتشعباتها ..

ومن المعروف أن الإنسان عادةً ما يأتي إلى الحياة مثقلاً بثقافات ومعتقدات وايديولوجيات ومسلّمات محيطه وبيئته ومجتمعه ، حيث يجدها أمامه حاضرة بكل تناسلاتها وتعاقباتها وأثقالها وأكراهاتها وفروضاتها وواجباتها وتوجيهاتها ، وعليه أن يتوارث كل ذلك من دون تفكير أو نقد أو مساءلة أو اعتراض أو تحديق أو تشكيك أو الخروج منها وعليها ، فالإنسان وسط كل ذلك يغدو ضحية الموروثات والثقافات والحقائق المعلبة والإجابات الجاهزة والمعتقدات المتوارثة ، وفوق ذلك عليه أيضاً أن يكون محكوماً تجاهها بواجب الطاعة والتبعية والتقليد والتكليف ، سالبةً منه بحكم التوارث اليقيني التلقائي والإلزامي والسلطوي حقه الطبيعي الإنساني الحر في الحياة ، والتخلص من كل ذلك يحتاج أن يعرف الإنسان أن له حقاً أصيلاً في الحياة ، يتلخّص في أن يكون حراً أولاً وقبل كل شيء في قبول أو رفض ما يجده أمامه من ثقافات ومعتقدات وموروثات ، وليسَ أن ينحني أمامها خاضعاً مستسلماً ، فاقداً لاختياره وحريته وقراره ، تطبيقاً لثقافة الواجب عليه تجاهها ، كما تدعوا إليه وتعمل به المعتقدات الدينية والتراثية والتاريخية والثقافية والأيديولوجية ..

فالأمر الجوهري الذي تبناه الفكر الإنساني والوعي الفلسفي فيه ، أن يعرف الإنسان أن له حقاً أصيلاً في الحياة ، يجعله يقف على حقيقة حريته التفكيرية والإرادية والعقلية ، ويمنحه ذلك استقلاليته الذاتية الكاملة ، أما ما يؤمن به من واجب تجاه حقه ذاك ، فليسَ سوى الأسلوب الواعي والفكري والأخلاقي والمسلكي الذي يرتب حقه ويحفظه ويحميه له من السلب أو القمع أو التعدي أو التشويه ، ولا يستطيع الإنسان أن يكون خلاقاً في الحياة ، صانعاً للإبداع والحرية والحب والجمال والفن والفكر ، مبتكراً لقيّمهِ وأخلاقهِ وأفكاره وحياته ، إلا حينما يؤمن أولاً بأن له حقاً إنسانياً أصيلاً في الحياة ، حق الذاتية والحرية والاختيار والقرار والتفكير والتساؤل والإبداع ..

إن تمسّك الإنسان العميق والثابت والواعي والجمالي بحقوقه الإنسانية الطبيعية في الحياة ، هو الأساس الذي تقوم عليه إبداعاته وتخلقاته وإنجازاته ومنجزاته ، وهو المسعى الإبداعي الحر والمتجدد الذي يكتشف فيه أبعاد العالم من حوله ، ويكتشف فيه وجوده وذاتيته ووعيه وتغيراته وتجدداته وتفاعلاته ، متحرراً من هيمنة الوصايات المرجعية اليقينية والعاطفيات التراثية والحقائق المعلبة والفنتازيا والخيالات الدينية والأيديولوجية ، ولذلك كان تركيز الفيلسوف الألماني فويرباخ على أن يتخلّص الإنسان من الخيالات الدينية لكي يكتشف أبعاد العالم الحقيقي ، وما تأكيد الوعي الفلسفي الإنساني على حق الإنسان أولاً ، إلا لكي يضعه في سياق المسار الإبداعي الإنساني الحر والخلاق ، ويحرره من اكراهات وأثقال وفروضات الثقافات الاستلابية والتوجيهية والتسلطية والتلقينية التي تطلبُ منه قبل كل شيء وبعد كل واجب ما هو الواجب تباعاً عليه أيضاً وأيضاً تجاهها ، محكوماً بطاعتها وملتزماً بالتقوقع والتقزم في تعاليمها وحاملاً لمنقولاتها ونصوصها ومدافعاً عن حمولاتها الأيديولوجية والمرجعية التراثية التكليفية الجامدة والمنغلقة والتراجعية والمنكفئة ، إنها في النهاية تجرّد الإنسان من قيمته الذاتية الإبداعية الحرة ، تقتلعُ منه روح الإيجابية والجرأة والاقتحام والتحديق نحو الحياة ( مَن لا يملك علماً ولا فناً ، ليسَ أمامه إلا أن يكون من المتدينين ) كما يقول الشاعر الألماني غوته ..

ثقافة الواجب والطاعة والتكليف والتقليد ، هي ثقافات قمعية استبدادية في تكويناتها ومنطوقاتها الأدبية والنصية والتفسيرية ، تسلبُ حق الإنسان الطبيعي الأصيل في ثقافة النقد والسؤال والتفكير والتفكيك والرفض ، إنها ثقافات تضع الإنسان تحت قانون الخدَر الثقافي الاستبدادي ، تزرعُ فيه ثقافة الخوف من المجهول ، سبيلاً لإيمانهِ المطلق بمنطق الغيبيات والماروائيات ، وفي اتجاه موازٍ تدغدغُ فيه حاجته الماسة إلى طاعتها وتطبيق فروضاتها وتعاليمها ، لكي ينال شرف خدمتها وإرضائها ، ولكي تجنبه المخاطر والشرور والويلات ، وتجلبَ له الخير والنفع والفائدة والراحة والسعادة الأبدية ، فهذه الثقافات تعمل على ادراج الإنسان في منظومة ثقافية استبدادية تخديرية وخاملة ، يجب أن يعمل فيها بطريقة ميكانيكية تلقائية وانفعالية لتلقّي واجباته منها تجاهها ، وتُفهمهُ تالياً أن طبيعة الإنسان الحتمية أن يندرج مذعناً في هذين المسارين ..

ولذلك كان الوعي الفلسفي الإنساني يعملُ في كل مراحله التنويرية على استثارة ثقافة السؤال في الإنسان ، فتحاً فكرياً ملهماً طافحاً بالدهشة والتأمل والإبداع ، ومفعماً بالاقتحام والجرأة والمجازفة ، يعرفُ من خلالهِ الفرد قيمة ذاته الحرة والمستقلة في استيلاد منابع القوة والإرادة والحرية في أعماقه ، متوقداً بالوهج المعرفي سبيلاً واعياً للتأكيد على حقه الإنساني في امتلاك حريته وقراره وحياته ، فحينما يملك الإنسان حقه في كل ذلك ، رافضاً ثقافة الواجب القمعية ، يملك تفكيره الحر في التحاور العقلاني والواقعي مع الحياة في حركتها واحتمالاتها وتبدلاتها وتغيراتها وتحولاتها واصطداماتها وفي سكونها ومساحاتها وألوانها ، وتغدو الحياة أمامه مساحةً تتمدد في أكثر من أفق وتتشعبُ في أكثر من مدى ، تاركةً له جانب البحث والفكر والتفكير والقلق والمواجهة والتقليب فيها ، متجلياً هذا الإنسان بحقهِ في كينونته الذاتية المعرفية والإرادية ، والتي تعني في تمثلاتها التعبيرية والتجسيدية حضوره النقدي والتفكيري الشهي والملهم والجريء على مسرح الحياة ، فمن غير هذا الحضور الفعلي المسكون بهواجس التفكير والنقد والشك والتغيير والمحاولة والتجريب ، يستسلم الإنسان طوعاً وتلقائياً لثقافة الواجب والطاعة والقبول والتكليف ..

ونستطيع أن نفهم من ذلك أن فكر الإنسان إنما يبرقُ خلاقاً ومتجدداً وخلاباً من إرادته الحرة ، ومَن يملك إرادته التفكيرية ، يملك تبعاً لذلك فكره الفاره والمتنوع والخلاق والمفتوح ، كما كان يدعو إلى ذلك فيلسوف العقل ديكارت ، فالإنسان حينما يُبدعُ تجربته وإرادته وحريته تأسيساً على حقه في التفكير والخلق ، يبدع فكره وأسلوبه وطريقته ، وقدرة الإنسان إنما تتجلى في قدرتهِ على خلق تفكيره وأفكاره خروجاً منفتحاً حراً على أثقاله وثقافاته الدينية والبيئية الموروثة ، والإنسان المسكون بطاقة الابتكار والإبداع يرتفع ذاتياً إلى مستويات حريته في التعايش الجمالي والحميمي أيضاً مع أفكاره وطريقته وإبداعاته ، وفي المقابل أليسَ تهديم كل ذلك في الإنسان ، كما تسعى إليه ثقافة الواجب الاستلابية وثقافة التكليف والطاعة ، إنما هو تهديم استقصادي لذات الإنسان الحرة والمفكرة والمستقلة والمتساءلة والمبدعة ، إنه تدمير شنيع للإنسان الذي يسعى دائماً أن يكون نفسه ، أن يكون حريته وتجربته وإبداعه وفكره وتفكيره وابتكاره ، فثقافة الواجب الاستبدادية التسلطية اليقينية والتقديسية ، هي ثقافة تهديم واستلاب وفرض وتخريب وخوف وخنوع وتسليم وانهزام وتراجع وعجز وتردد وانغلاق وتقوقع وانكفاء وتأثيم ، بينما ثقافة الذات الحرة المتمسكة بحقها الإنساني الأصيل في الحياة ، هي ثقافة الإرادة والتصميم والاقتحام والجرأة والتمرد والشك والتفكير والبحث والنقد والسؤال والتحديق والمجازفة والتحدي والرفض والاحتجاج والرغبة والشغف والاشتهاء والاطمئنان والحب والجمال والحرية والتمنّي والإبداع والخلق ..



#محمود_كرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التافهون
- الإنسان المعرفي .. إنسان التنوير
- الأفكار بين التأمل وموهبة الخلق
- ما معنى أن يتمنّى الإنسان
- وقاحة مفضوحة
- الإنسانيون ( 4 من 4 )
- الإنسانيون ( 3 من 4 )
- الإنسانيون ( 2 من 4 )
- الإنسانيون ( 1 4 )
- القناعات وَهْم البدايات
- تلك اللذة العليا
- ثقافات بلا منطق
- زرقة الغياب
- بحث في بنية العقل الديني
- الحوار الحر ينتصر للإنسان
- الإنسان .. من الغيبية إلى العقلانية
- الجمال والحرية .. فلسفتان في البياض الشفيف
- حينما يأتي الربيع في أوبسالا
- الأساس الفلسفي للأفكار الحرة
- الانتماءات وهْم .. الحقيقة أنا وأنت


المزيد.....




- أول تعليق من نتنياهو على الغارات ضد الحوثيين
- الإشعاعات النووية تلوث مساحة كبيرة.. موقع إخباري يؤكد حدوث ه ...
- 53 قتيلا ومفقودا في قصف إسرائيلي على منزل يؤوي نازحين في غزة ...
- مسؤول روسي: موسكو لا ترى ضرورة لزيارة جديدة لغروسي لمحطة كور ...
- -نيويورك تايمز-: شركاء واشنطن يوسعون التجارة مع روسيا ولا يس ...
- بينها -مقبرة الميركافا-.. الجيش اللبناني يعلن انسحاب إسرائيل ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل ضابط وإصابة اثنين آخرين في معارك ...
- الكويت.. خادمة فلبينية تقتل طفلا بطريقة وحشية تقشعر لها الأب ...
- 76 عامًا ولا يزال النص العظيم ملهمًا
- جلس على كرسي الرئيس.. تيكتوكر سوري يثير الجدل بصورة له في ال ...


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود كرم - الأصل في فلسفة الوعي الإنساني