اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 3018 - 2010 / 5 / 29 - 02:15
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
الرحلة الى العراق1
16-12-2008 – 16-5-2009
الجزء الاول
-1-
يعود بطل رواية "نزهة" الى الحي الذي ولد و ترعرع فيه , و الذي يعرف كل شيء عنه و عن ساكنيه , فيكتشف انه يعود الى مكان اخر لا علاقة له بمكانه القديم , فأنطفأت في حواسه لهفتها الى أستعادة ما كان قد املً نفسهُ بأستعادتهِ من صورهِ واصواتهِ وروائحهِ. لقد اندرس مكانه القديم الذي كان يحمله في حله و ترحاله مثل وشم في ذاكرته , و حلّ محله حيًّ عصري لم يحتفظ بشيء من معالم المكان البارزة ..
لقد تغير كل شيء و صدم المكان الجديد وعيه و حواسه و ذاكرته و لن أغالي اذا قلتُ بأنني عشت التجربة نفسها , وواجهت الحقيقة القاسية نفسها : حقيقة الغياب الابدي لما كنت أطمح الى معايشته مجددا ..
لقد واجه بطل رواية "نزهة" حقيقة من الحقائق التي بدأ أيقاع التطور العصري يفرضها على بلاده , و التي يمكن أيجازها ب "العصرنة" و "التحديث" , و التي تجسدت أمامه تغييراً شاملاً لكل معالم المكان القديمة . و مع هذا التغيير المادي – المعماري تلاشت أو تبعثرت في زوايا و أركان المكان الجديد ما كان يبحث عنه من وجوه و أصوات و روائح . أسدل الستار اذا على ماضٍ ظل ينوء بحمله ذكرياته . هذا البطل الورقي الذي تشبه حالته حاة كلكامش , فهو يعود خائبا بعد ان سرقت الافعى منه عشبة الخلود.
-2-
في رحلة البحث المستحيلة عن الماضي , تكون الخسارة مزدوجة للماضي و الحاضر في آنٍ معاً على مستوى الأمم و الشعوب فعد ان تفيق هذه الشعوب من وهم البحث عن جذورها في الماضي أو عن هويتها او جوهرها او صفائها تكتشف بأنها خسرت مع فشل رحلة استعادة رسالتها حاضرها ايضا . هذا الحاضر الذي لم تنفق عليه من جهدها و مالها ووقتها ما انفقته على وهم رحلة استعادة جوهرها الخالد ..
اما على المستوى الفردي , فرحلة البحث المستحيلة عن الطفولة و عن ذكريات الشباب على ما فيها من عذاب الصدمة على المستوى النفسي الا انها قد تقود الى تجذير الوعي بضرورة اتخاذ القرار : قرار الانتماء الى الحاضر او قرار الاستمرار في النوم على مخدة الماضي و اجترار ذكريات ما كناه يوما ...
-3-
للوهلة الأولى , اكتشفت , و انا اخطو خطواتي الاولى في بلادي و اتلمس بقوة معاني كلمات الناس في حواراتهم اليومية ,ما لمقولة " الضحية تقلد جلادها " من صدق تاريخي عظيم , صدق هذه المقولة يتأتى من رؤية المشاهد الحية للمارسة السياسية ل " الطلائع الحزبية " على ارض الواقع في العراق فمن الاعلام الحكومي الذي يكفر "بالمعنى الديني للكلمة " كل من لا يؤيد خطوات الحكومة , الى احتكار كل حزب مشارك في العملية السياسية لوزارة او مؤسسة , الى الشعارات و اللافتات المرفوعة الى احتكار الحقيقة و الى الضوء و التماثيل الدينية المنصوبة و الى طرق تنفيذ الاحتفالات و المناسبات الدينية و الوطنية الى ..
كل ذلك يمنحك الايمان بأن لا جديد هناك و أن جديد "هم" يمثل امتدادا و لا يشكل ابدا نقيضا للمنهج السياسي الذي حكم به حزب صدام حسين البلاد , و مهد الارض بذلك المنهج لفرار وعي الامة السياسي من الحاضر الى الماضي و الى ما تمخض عنه في الاوان الذي نعيش من صراع طائفي بعد قيامة ثقافة الفرق الناجية
لقد احتلت التماثيل والصور الجديدة الامكنة نفسها التي كانت صور " المخلص " صدام حسين تحتلها وباشر كل حزب في لهفة مجنونة لمحاكاة صدام حسين في بناء ترسانة حمايته الخاصة .
ومثل صدام حسين اعتمد قادة الاحزاب او بلأصح ملاكوها في قراراتهم على خلاصة التقارير المرفوعة من جماعات الامن المختصة في احزابهم او من قواعد الاحزاب في تزكية الناس وهي القاعدة الاساسية التي نظمت علاقة حزب البعث الداخلية بين اعضائه وعلاقة الحزب ككل بلناس او بما كان يسميه اعلام حزب البعث ب " الجماهير " تدل اليه التقرير " التي افردت لها فصلا في كتابي تشريح الاستبداد الصادر عام 1999 في لبنان " على ممارسة خاصة بلاعضاء المنتمين الى حزب ما حيث تصبح كتابة التقارير جزءا من نشاطهم اليومي الحزبي الذي سيميزهم لاحقا عن اقرانهم الكسالى الذين لا يكتبون التقارير. لكن في مجتمع منقسم على نفسه اثنيا ودينيا وطائفيا كالمجتمع العراقي وتخترقه من قمة راسه الى اخمص قدميه مقولة القبيلة الرافضة لحظور الاخر والساخرة من وجوده ( وليس في الاعتداد بالذات كما يريد ان يوحي بذلك بعض المصابين بعقدة التفوق الفردي او العنصري او الديني ).
فغض الطرف انك من نمير ..
فلا كعبا بلغت ولا كلابا..
اقول تصبح كتابة التقارير جزءا حيويا من نشاط المنتمي الحزبي - ممارسة اخلاقية منحطة لانها ستتعكز وستدور – بغياب برامج ثقافية وتنموية في كيفية الاصلاح الشامل للبلاد - حول الاشخاص فتنحط الى مرتبة " الكرض " هذا المرض الاجتماعي الذي يستشري في كل المجتمعات المتخلفة – التي تغيب عنها ثقافة المؤسسة – ومنها المجتمع العراقي ولا ادري لمَ لم ْ يدرس هذا المرض العميق الجذور في تربة العراق العالم الاجتماعي الفذ الدكتور علي الوردي وركز على دراسة الشخصية العراقية في بعدها التفاعلي مع الجديد في الحياه فشخص سلوكها على انه سلوك متناقض ينطوي على تناشز اجتماعي تتجاوز فيه بقايا الماضي مع طلائع الحاضر فيشطرالشخصية في سلوكها شطرين شطر تعبر عنه بكلمات وهو الشطر الذي تحاول من خلاله الايحاء بانتمائها الى العصر او العصرنه او التحديث وشطر اخر يمسك بها بقوة من الخلف ويدفعها الى سلوك يتنافى تماما مع ما تدعيه في اقوالها .
الكَرض , او بعبارة فصيحة " النميمة " هي الوجه الاخر لكن العميق من وجوه الشخصية العراقيه وهو وجه استبدادي لانه يصدر حكماً غير مشمول بالنقض او بالأستأناف : تحريم الاخر وتسقيطه بتشويه تاريخه وسمعته وتحويل كل ذلك الى حقيقة من دون سؤاله او الرجوع اليه.
كانت كتابة التقارير آليه ثابته من آليات اشتغال نظام صدام حسين ساعدت كثيرا من تشديد قبضته الحديدية على المدنيين ورفعت عاليا درجة الضبط الاجتماعي .لقد بث اعضاء حزب البعث المدنيون الرعب والخوف من خلال التقارير وحولوا " الجماهير " بهذه الاليه الى قطيع مطيع تنتظم علاقته برعاته او حاكميه تمر من خلال التزلف والمحاباة.
ثقافة الكرض التي رفعتها الاحزاب العراقيه الى مستوى النشاط الحزبي الراقي وكرمت اصحابها بلصفات الملتزم والمخلص للحزب والمتفاني في سبيله هي الثقافة السياسية الشائعة التي تحرس الأحزاب جميعا على ممارستها فتزيد الطين بلة والحزب خرابا .ان النتيجة الطبيعية لشيوع ثقافة الكرض او ما تسميه الاحزاب السياسية العاملة في العراق بثقافة التقرير : بروز الشللية والمحسوبية والرياء والتغطيه على الجرائم وابرزها جريمة سرقة المال العام التي لا اظن ان التاريخ والضمير العام سيبرىء ايا من المشاركين في الحكم منها .
-4-
دفعني الخراب العظيم الذي حل بالبلاد ماديا وثقافيا الى اتخاذ القرار السريع , قرار الانتماء الى الحاضر والتهرب من الحاح شريط الذكريات القديمة.. لكن الانتماء الى الحاضر يستلزم الانغماس في همومه لاكتشاف الخطوط العامه التي تتحكم بظواهره وبمساره العام وهو شىء لن يتحقق ان لم اطوف اركان المكان الاربعة واعايش ظواهره التي من ابرزها ظاهرة معمار او خارطة البيت العراقي الجديد ...
كانت العمارة العراقيه وما زالت في غالبيتها العظمى عمارة طينية. والطين هو المادة الاساسية التي الانسان العراقي في محاربة الحر واستجلاب البرودة انه المادة الاساسية الملائمة للمناخ الصحراوي .استبدال مادة البناء الاساسية بمواد اخرى كالطابوق والاسمنت سيجلب الخراب ان لم يتم استلهام معمار البيت العراقي في اصوله الاولى التي دارت حول مفهوم مركزي اخر وهو مفهوم صناعة الظل .
وحتى حين تم استخدام الطين المفخور " الطابوق " في بناء المعابد الدينية " الزقورات " وقصور الملوك في دويلات المدن السومرية فان ذالك الانجاز المعماري استلهم الفلسفة المعمارية نفسها, فلسفة طرد الحر واصطناع البرودة والظل وقد ظلت هذه الفلسفة ممتدة على مدى زمني طويل الى ان حلت الحرب العالمية الاولى .
يمكن الربط ربطا محكما بين بروز طبقة سياسية جديدة في العراق بعد تاسيسه عام 1921 وبين بروز نمط معماري جديد ابتعد عن نمط البناء الموروث من حيث المواد المستخدمة واستخدم الطابوق مادة للبناء للتدليل على المستوى الاجتماعي الجديد الذي ولجته وباشرته طبقة سياسية جديدة كان همها الاساسي الانفصال عن الغالبية العظمى من المجتمع العراقي بنمط من البناء جديد في مادته الاساسية ( الطابوق والحديد ) وفي بنيته المعمارية الجديدة حيث خلت بيوت الساسة والتجار من الباحة : التصميم الاساسي للبيت العراقي المفتوح على السماء والذي تطل عليه دائرة من الحجرات. الا ان هذا البناء الشاهق بعيون الفلاح وكسبة المدن - المخيف لانطوئه على نفسه - حافظ على اسس قوية من فلسفة العمارة الطينية القديمة الموروثة : حائط عريض وفتحات خاصة للتهوية لم يعد لها وجود لاحقا بحلول او دخول عصرالكهرباء .
كان ساسة العراق في العهد المَلكي والكثير من تجاره الكبار مسحورين بالثقافة التركية الجديدة بعد الانقلاب الكبير في الحياة الذي قاده مصطفى اتاتورك وهو يقوض اركان الخلافة. وينهي بجرأه يحسد عليها شكلا اسلاميا موروثا من اشكال الحكم استمر لمئات السنين .
فكانوا يستوردونً خرائطهم من تركيا ذات المناخ البارد مباشرة فتم مع هذا الاستيراد دخول الزجاج كجزء اساسي من اجزاء معمار بيت السياسي والتاجر البغدادي وتمثل ذلك في الشبابيك و الواجهات الزجاجية العريضة وتحول مع مرور الزمن الى مثال معماري تحاكيه بيوت تجار المدن الاخرى وقصور الاقطاع في الريف بدءا من اواسط ثلاثينيات القرن المنصرم . وحتى هذا النمط الجديد من البناء لم يقطع تماما مع الموروث وظل محافظا على ركن اساسي من اركان المعمار العراقي الموروث : ركن الحائط العريق .
تمت القطيعة النهائية مع المعمار الموروث بفلسفته الطينية ذات المفهومين الاساسيين : مفهوم طرد الحرارة و مفهوم اصطناع الظل و استجلاب البرودة , من قبل (الثوار) الذين رفعوا شعارات الاحياء ودافعوا عن الهوية و الاصالة . بنى (الثوار) او الطبقة السياسية الجديدة خاصة بعد 17 تموز 1968 بيتا بشكل قطيعة نهائية مع معمار البيت العراقي الموروث. فبالأضافةِ الى خلوه من الباحة المفتوحة على السماء وانغلاقه على نفسه بسطح اسمنتي ثقيل , انتصبت حيطانه بطابوقة واحدة , وليس بثلاث طابوقات عرضا واحتلت الشبابيك الزجاجية والواجهات الزجاجية جزءا كبيرا منه .
قد يقول القاريء بان هذا الحظور الكثيف للساسة والربط بينهم وبين العمارة عن العراق يلغى من الواجهة الحظور الفعلي لطبقات اجتماعية لها دور اساسي في عملية التطور هذه. جواباً اقول انه عدا الفلاحين , لا توجد طبقة اجتماعية منتجة و صانعه للثروة في العراق. كان الفلاحون وما زالوا الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي تنتج وبالتالي تصنع الثروة. وشكلوا في سنوات الحصار العجاف الحزام الامني الذي منع من انهيار المجتمع السريع. فمن اوساطهم تسللت فئات اجتماعيه اسهمت بقوة في دفع عجلة الدورة الاقتصادية وحلت محل الطبقة الوسطى (وغالبيتها من اصحاب الرواتب التي انهارت بعد انهيار وتلاشي قيمة الدينار العراقي).
لا توجد في العراق طبقة تنتج وتصنع الثروة في المدن توازي في اهميتها الاجتماعية اهمية الفلاحين . ولذا لم يحدث في تاريخ العراق الحديث ان مارست هذه الطبقة المنتجة والصانعة للثروة ( على فرض وجودها) ضغطاً على الدولة , او فازت يوماً بأدارة دفة الحكم ثم وضعت التشريعات التي تراها مناسبة لمصالحها. وجدت وتوجد في العراق طبقة سياسية متأمرة, اي تصل الى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية المتكررة. وبنجاح انقلاباتها تحتل الدولة وتحتكر القرار, وبهذا الاحتكار تحوز على ثروات اسطورية .
ان القانون الاساسي الذي نظم ايقاع حركة السيطرة على الثروة وحيازتها عفى العراق منذ التاسيس عام 1921 حتى اواسط 2009 ,هو قانون الاستيلاء على مركز القوة اي الدولة وتوجيهه صوب تكديس الثروات . هذا الشذوذ التاريخي عن القاعدة الطبيعية في انتاج وصناعة الثروة يفسر لنا جانباً من جوانب الفشل التاريخي لانظمة مجالس قيادة الثورات العربية , مثلما يفسر لنا استشراء المحسوبية وشيوع ظاهرة الفساد المالي التي تنخر الدولة في العراق من فوق الى تحت ولهذا قلت قبل قليل بان التاريخ سوف لن يبريء ايا من المشاركين في التشكيل الحكومي القائم .
وصل التشكيل الحكومي الحاكم في العراق الان الى السلطة عن طريق آليه جديدة تمثل كسرا في المسار العام لاليات الوصول الى السلطة في العراق : هي آليه الانتخابات . لكن المفارقة التاريخية الصارخة التي ترافق التطبيق العملي لهذه الآليه في العراق تتمثل في انها ( اي الآلية) لم تحل كنتيجة منطقية لتطور الوعي السياسي في العراقيين ولا لاحزابهم ( كل الاحزاب في العراق بلا نظام داخلي ديمقراطي ) وفي هذا تكمن المفارقة حيث يفرض المحتل على البلد المحتل ممارسة سياسية جديدة على ثقافتهِ , يستجيب لها الشعب العراقي لكن على طريقته الخاصة طريقة انتاج الموروث الثقافي الاستبدادي بكل رموزهِ : الطائفية والعشائرية و الأثنية , هذه الرموز الجديدة هي التي تشكل الطبقة السياسية الجديدة في العراق:عمائم ولحنٍ و افندية من كل مشرب و اتجاه. و أول قرار اتخذته وهي تباشر التشريع للعصر السياسي الجديد , قرار امتيازاتها (رواتب خرافية مقارنة براتب الموظف الاعتيادي , مخصصات حماية, مخصصات سكن, قطع اراضي حول نهر دجلة, مخصصات خطورة و مخصصات سفر. بحيث يستطيع كل واحد من اعضاء الطبقة السياسية الجديدة بشراء بيتين كل شهر). ثم مهرت هذه الطبقة السياسية حضورها على تربة العراق بمعمار بيت جديد , انفقوا على تنفيذه اطنانا من الحديد و الاسمنت والطابوق. حتى تكامل بناءاً شاهقا يعلو على الجيران خفيضي المنازل و يتجسس عليهم و يسترق النظر الى ما حرم الموروث الثقافي و الديني النظر اليه.
لقد هتكت هذه البيوت الشاهقة حرمة الاخرين. معمر هذا البيت الجديد للطبقة السياسية الجديدة وللمستفيدين من المقاولين و كوادر الاحزاب الوسطى يتألف من طبقتين نصف دائريتين , يلوح لك من البعد و كأنه مجنزرتين علتا بعضهما واستعدا للقتال . يسمونه في العراق(دبل فاليوم) انه المعمار الجديد لطبقة سياسة جديدة , فرض عليها الاجنبي ممارسة آلية , سياسية لا تؤمن بها فاخرجت لها طبعة عراقية هي طبعة التوافق السياسي وتوزيع مراكز القوة في الدولة عليها لحيازة الثروة و الجاه . لمْ تبنِ هذا النمط الجديد من البيوت في عراق ما بعد الهزيمة و الاحتلال عام 2003 طبقة اجتماعية منتجة . بل بنته شخصيات سياسية , نشاطها السياسي يتمركز حول هدف محدد و حيد - مثل كل الطبقات الساسة في العهود السابقة - يتمثل في الوصول الى السلطة لحيازة الثروة و الجاه .
انه بيت معولم , والعولمة كظاهرة اقتصاثقافية علاقة قوة. وبيت الطبقة السياسية الجديدة الذي يرتفع شاهقا في المحلة او الحي : بيت يتضمن القوة كعلاقة وحيدة من علائق ارتباطه بالاخرين.
هل كنت مخطئا وانا استشهد بقانون:الضحية تحاكي جلادها؟ وهو قانون من قوانين الظواهر الاجتماسياسية في العالم الثالث. بعد ان تجاوزته شعوب البلدان الديموقراطية الى قانون اسمى هو قانون : التداول السلمي للسلطة.
-5-
لاحت لي بغداد,لا كما تعودت ان اراها في شاشات الفضائيات العالمية بقعا ملتهبة من الدخان و النار و الاجساد المحترقة او الممدة على الاسرة في المستشفيات ,بل وجها اخر فيه الكثير من النور والاشراق, وفيه انضباط و ضبط للامور . بدءا من المطار حيث التفتيش الذي لا يختلف في دقته عن اي مطار آخر من مطارات اميركا و روما و اسطنبول و أربيل , تلك التي مررت بها في رحلة عودتي الى العراق , و انتهاءا بشارع المطار حيث تتحرك بك سيارة الاجرة على شارع عريض نظيف يخلو من أي مظهر من مظاهر الحرب , ينتهي بك عند ساحة (عباس بن فرناس) حيث يواجهك تمثاله بجناحين شبيهين بأجنحة الطائرات و هو يرمق حركتها بشيء من الغيرة و الحسد .
من ساحبة عباس بن فرناس , يمكن للمسافر ان يستأجر سيارة تاكسي تقله الى المكان الذي يشاء في بغداد , لكن العودة الى المطار - في حالة السفر الى الخارج تتطلب من المسافر عبور المسافة الكائنة بين ساحة عباس ابن فرناس و المطار , عبر محطتين و استخدام سيارتي اجرة لا سيارة واحدة كما هي الحال عند مغادرة المطار . هذا ما فهمناه من السائق , فسأله أحد الركاب مستغربا ً " لماذا ؟
اجاب السائق : تعليمات أمنية !
المسافر : لكن التفتيش يبدأ من بوابة المطار و ليس قبلها .
أجاب السائق : دع الناس تعيش !
و قد عدت بعد اسبوعين الى المطار للذهاب الى مدينة السليمانية , فلم أر ضرورة امنية قاهرة في تقسيم المسافة التي لا تستغرق اكثر من 10 دقائق الى منطقتي ركوب .
لا يوجد تفتيش و كل ما يفعله المسافر هو ان يترجل من سيارة ليركب اخرى , و في الحالتين عليه ان يدفع أجرة .. هل يشارك المسافر العربي و الاجنبي في دفع تكاليف خطة أمن بغداد ؟
ما أن ينتهي شارع المطار و تبدأ بمواجهة قلب العاصمة حتى يطل عليك وجه آخر لبغداد فيه الكثير من الجروح و الندوب , و حين تبدأ الشمس بالأنسحاب و يحل الغروب , تطل معه وحشة و سكون عميقين , أذ تبدا الكثير من مظاهر الحياة اليومية بالانسحاب . و مع ذلك تظل بقع من الضوء ترف في شوارع و اماكن محددة : البتاوين , الكرادة , ساحة الاندلس , اتحاد الادباء و الكتاب . مع الايام اكتشفت أن بغداد مقطوعة النسب , فبدلا من " عيون المها " تنتشر عيون السيطرات بين الرصافة و الجسر , ومع انتشار هذه العيون , انطفأت نيران السمك المسكوف , و ارتحل سًمّار ابي نؤاس الى أمكنة أخرى , و تراجعت مياه "دجلة الخير " بأمتار كثيرة عن شاطئه .. و في ضجة مظاهر الحياة اليومية تكتشف ان بغداد غائبة عن الوعي , و انها تًصرف شؤونها تحت ظل هذا الوعي الغائب أو بالاصح المًغَيَبّ , و أن ثمة عنف يتخفى تحت سطح الحركة اليومية و يتحكم بأنسياب البشر و السيارات و البضائع ..
في السادسة صباحاً من أحد أيام شهر آذار 2009 , كنت في شارع السعدون باحثا عن سيارة تكسي للذهاب الى منطقة اخرى في بغداد , لا سيارة في الشارع , ثمة سيارات عسكرية و بعض المشاة من المدنيين . نظرت عن يميني الى ساحة التحرير القريبة من موقفي فكانت هي الاخرى مقفرة . كانت كل الشوارع المتفرعة من ساحة التحرير و المتصلة بها خالية من الحركة تتوزع في اركانها نقاط سيطرات عسكرية . حاذيت أحد المًشاة عند رأس الجسر و سألته , فأجابني : لا اعرف . سألت عسكريا من القوة القريبة المتمركزة عند راس الجسر فأجاب ب" لا اعرف " ايضا !
كانت حركة الناس – و جلهم من الموظفيين , هكذا خمنت – تتجه صوب الجسر , حملت نفسي على السير في الاتجاه نفسه , و عبرت الجسر – الذي تقع المنطقة الخضراء خلفه – مع العابرين .
مشهد هذا الصباح : الجسر و نهر دجلة و المنطقة الخضراء , جعلني أردد مع نفسي هذا المقطع للشاعر المصري امل دنقل :
يا أخوتي لا تحلمو بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموتُ قيصر جديد.
مَنّ أمر بأن يكف نبض الحياة عن حركته الطبيعية في هذا الصباح الباكر ؟ قوة ما .. لكن لا أحد يعلم من هي ؟ و ما اسمها , و أية مؤسسة حكومية تقف خلفها , و كم يستغرق من الزمن هذا التوقف ؟ لا أحد يعلم, و لذا ترى الجموع بلا مبالاة عجيبة يركبون ظهر الجسر , و يدوسونه بأقدام لها رجع صدى ً , تردده جنبات الجسر و شواطئ دجلة !
مساءا سمعت من نشرة الاخبار بأن السيد رئيس الوزراء زار وزارة الداخلية , لكن كم استغرق من الوقت قرار قمع الحياة و اعدامها على ساحة التحرير و على ظهر الجسر و في الشوارع المتاخمة للساحة الى ان تم عبور موكب رئيس الوزراء ؟ لا أعرف .
و ماذا عن المسؤولين الذين هم دون رئيس الوزراء في المسؤولية ؟ هل تتم تنقلاتهم بالطريقة نفسها , طريقة القمع و الاعدام ؟ نعم انها الطريقة ذاتها و أن اختلفت درجتها , و اليك مشهد مواكبها و هي تجوب الشوارع : سيارات فورد حديثة سوداء اللون , حجم الواحدة منها بحجم بعير هائج و لا تهيج البعران الا في موسم واحد هو موسم تكاثرها . و بعران المسؤولين في العراق الديمقراطي تعيش موسم هيجانها هي الاخرى , تعبر عن هذا الهيجان بزعيق ينطلق من مشافرها و آذانها و مؤخراتها . فيرتعد الحجر و الشجر , اما البشر فيتابعون بعيون مشدوهة اسلحة الجنود التي تعتلي ظهورها و هي مصوبة ضدهم . تجري خلفها بالسرعة نفسها سيارات ( لاندكروز) فارهة مدججة هي الاخرى بالسلاح و الجنود .
ما ان تسمع السيارات المدنية اصوات زعيق موكب المسؤول الحكومي حتى تتوقف على جانبي الطريق , فقد تعلم سواق هذه السيارات دلالة الصوت الزاعق الذي يعني الانزياح عن الطريق العام و اخلائه و التوقف على جانبيه فهنالك مسؤول في حكومة بغداد يمر , وعلى الجميع التوقف !
التوقف عن الحركة و عن النشاط ولا حق لأحد بالعودة الى مزاولة نشاطهِ المعتاد و استعادة جركة الحياه الا بعد أن يبتعد موكب المسؤول الحكومي و يختفي . عند ذاك تتنفس الحياة الصعداء , فيعود كل شيء الى حالته الطبيعية : السيارات الى الحركة و العربات الى التنقل و البشر الى ...
لكأن وجود الحياة الطبيعية و وجود مواكب المسؤولين شيئان متنافران و متناقضان , و لا يقوم وجود لأحدهما الا على حساب وجود الاخر .
لا يعرف الناس شيئا عن هذا المسؤول الحكومي و عن درجته الوظيفية , أهو وزير أم مدير عام ؟أم هو قائد عسكري ؟ كل ما يعرفونه : أن عليهم التوقف ما أن يروا هذا القناع الجديد للسياسي الجديد في العراق و هو يتخفى خلفه في حركته على الشوارع لكأنه روبوت ذو أذرع حديدية , تطلق اثناء حركتها اصواتا زاعقة تخلف ورائها و هي تمر مسرعة دوائر خانقة من الرمال و العبار .. بحيث اصبح من بديهيات الوعي السياسي العام الربط بين المسؤول والمسؤولية عن وجود القوة المسلحة , و من حق هذه القوة المسلحة – في العراق الديمقراطي – ان تحتل الشارع , و ان تربك حركة السير , و ان تصادر حرية مرور الحياة وانسيابتها , و يتكرر المشهد يوميا و يصبح خانقا حين يترافق مع العواصف الرملية ..
و الحق ان مشهد المسؤولين الذين يطوفون بغداد مشهد مخيف . تلمس هذا الخوف ماثلا في حركات سائق التكسي , الذي يسرع , ما ان يسمع زعيق هذه السيارات الضخمة الحديثة المليئة بالقوة " العنفوان " صفة لا تناسبهم أظن :) , الى خفض السرعة و التنحي عن وسط الشارع و التوقف الى جانبه أما ما يقوله هذا السائق , و سائق آخر , و اخرين . أعتدت الجلوس الى جانبهم – حين اروم التنقل من مكان الى آخر في بغداد : فهمهمات , و الهمهمة نوعٌ من الاحتجاج الصامت , التي لا يريد صاحبها أن يفصح عن مكنوناته أمام غريب لا يعرف شيئا عنه.
همهمات سواق التكسي هؤلاء , تشي بالكثير , أكتفي بها و لا اسأل السائق رأيه فيما يجري .
لا ينتقل مسؤولو بغداد عن بطر , فهم ليسو في نزهة . انهم ينتقلون لأمور لها علاقة بأمن البلاد , براحة المواطنين , و من أجل ذلك تفسح السيارات لهم في المكان لتسهييل عبورهم , مثلما يهرب المشاة من أمامهم و تفر عربات الحمل .
لا يستطيع المسؤول ان يصلح حال البلاد و العباد , من غير أن توقف قوته المسلحة نبض الحياة للحظة , لساعة , لاأكثر , لا احد يدري . كل ما يعرفه الناس أن هنالك قوة تتحرك , وان عليهم التوقف عن العمل , و ربما عن التفكير لزمن يجهلون طوله , الى أن تمر هذه القوة السائرة لأصلاح شؤونهم ..
في ظهيرة يوم حار , في مكان ما من بغداد , تلاقت قوتان مسلحتان من جهتين معاكستين لا توجد قوانين للسير في بغداد . بغداد – بغياب الكهرباء – تستعمل نظام الفلك في تقاطعات الطرق الرباعية . و حين تهجم السيارات بالعشرات من كل جانب لتشق لها طريقا , يهرب من المكان حتى شرطي المرور المكلف بتنظيم السير .
كيف تشق تلك القوتان المسلحتان لنفسيهما طريقا وسط اشتباك السيارات الهاجمة بالعشرات و الذي يشبه اشتباك دبابات في معركة .في تلك اللحظة وانا اسمع صوت الرصاص يتعالى في الجو , ينطلق في آن واحد من سيارات القوتيين المسلحتين تتهم الاخرى بحالة الانسداد . ترجلت مثل الاخرين من السيارة , و يممتُ وجهي شطر سوق الشورجة تاركاً خلفي أزيز الرصاص يتصارع في سماء بغداد .
كم وزير في بغداد , كم عضو برلمان , كم مدير عام , كم ضابط كبير , كم نائب لرئيس البلاد , و كم هي الدائره الاستشارية الملحقة بمكتبي رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء . هذه كلها مناصب رفيعة تحتاج الى حماية تتحرك على شكل مواكب مدججة بالسلاح و بالزعيق .
استطيع القول من خلال تكرر المشاهد : بأن أخلاء الشوارع من السيارت دلالة على ان الموكب الذي سيمر يعود لرئيس الجمهورية أو لرئيس الوزراء . أما مواكب الوزراء – و قد حظيت بمشاهدة اخداهما , فتتكون من عدد كبير من سيارات الفورد الضخمة , المحملة بما لا اعرف تسميته من الاسلحة , تتبعها سيارات لاندكروز بيض فارهة غاصة بعدد من جنود الحماية , الذين انتشرو بسرعة فائقة , و توزعوا في أركان و زوايا المكان بسياراتهم , قاطعين الطرق من الاربع جهات , قبل ان يترجل الوزير محاطا بدائرة من جنود الحماية , وهو يدلف باب مكتبه .
هالني المنظر – سيما و أنني رأيت هذا الوزير يتحدث في لقاء متلفز حديثا هادئا , قارنت بين حديثه و بين هذه القوة العنيفة التي تحيطه , فتأكد لي ذلك القانون الخفي الذي ينظم حركة المسؤولين في بغداد .
كم تمنيت مشاهدة موكب وزير الداخلية أو وزير الدفاع . لم يحالفني الحظ , اذ انني اتحرك بعفوية و من غير تخطيط . استحضار كل هذه القوة بحجة حماية المسؤول غير مقنعة . اذْ يستطيع الكثير من المسؤولين تحقيق هذه الغاية – و الكثير منهم يعرف ذلك – بطريقة أفضل من هذه الطريقة التي تشير اليهم و تدل عليهم . ان المسألة – برأيي – تتعدى تلك الغاية بكثير , و تدخل في صميم لعبة صراع القوى في بغداد . فمواكب القوة المتحركة تعكس بشفافية قانونا للصراع ينظم حركة الدولة برمتها . فهذه القوى المتحركة التي توقف نبض الحياة في مرورها , و تقمع حرية انسيابها هي مواكب لسادة منحوا لأنفسهم امتيازا فريداً : أن يكونوا فوق القانون و ان لا يخضعوا لأي قانون . فأنا لا أصدق أن مسؤولا لايخضع لسلطة قوانين المرور في الشارع " و هي قوانين عادلة " يخضع لسلطة القانون في مكتبة , و يعمل في ضوء منه , و يسترشد به !
و غالبا ما يكون المسؤول – صاحب الحماية – زعيما لحزب , أو واحد من قيادييه المتنفذين . وحين يجلس هذا المسؤول في مكتبه , فهو يشعر بأنه يدير ملكيته الخاصة , و صاحب المِلْكية لا يشعر بالمسؤولية امام بلاده , أو رموزها كرئيس الجمهورية و رئيس الوزراء . لقد منحت آلية المحاصصة هذه الوزارة لحزبه , أي له شخصياً , أليس هو صاحب الحزب أو مالكه ؟ فالوزارة , وزارته , و هي ملكيته الخاصة التي تبيح له التخطيط لها و ادارة اعمالها باستقلال عن كل مسؤول أعلى و برفض لكل رقابة ..
قوى تتصارع على المرور في الشارع , وتطلق الرصاص في سماء بغداد لأخافة بعضها البعض , هو المظهر الذي يمنحك تصورا عما هي عليه مؤسسات الدولة من حال . و هو بالنسبة لي المفتاح الذي يفتح لي الطريق الى الجواب عن سر استشراء الفساد , وعن سر الهدر العظيم للمال العام , وعن سر تردي الحياة السياسية ..
في قانون الصراع الذي ينتظم حركة المسؤولين في الدولة , تلوح بغداد غائبة عن الوعي , تتخبط في دياجير محنة البحث عن هويتها , مقطوعة الصلة بعصرها , الذي تصبح فيه المدن موبوءة بالشغب و القلاقل السياسية و بالفساد , ان لم تعلن بوضوح انتسابها اليه . و انتساب المدن الى عصرها يتضح من مظاهر حياتها اليومية , ومن رموزها الثقافية المبثوثة في الاماكن البارزة و من طريقة حضور الدوله في تصريف الشؤون العامة , و جماع ذلك كله هو ما يمنح السائح انطباعاته و تصوراته الأولى . و بما أنني لستُ سائحاً , فأنا لا أكتفي بسطوح الظواهر و الاشياء و الرموز , اذ تؤهلني معرفتي بتاريخ بلادي , لأن أنفذ الى ما ورائها , فعلى سبيل المثال يفتقد السائح ( وليس كل سائح : رولان بارت نجح في قراءة حاضر اليابان من شبكة رموزه الكثيفة ) لموهبة (الحسجسة) أي ادراك البلاغة الكامنة في لغة التخاطب اليومي , و الكشف عن المستوى العميق المدفون تحت سطح كلمات التخاطب و الحوار الماثلة في الاستعارة و الكناية التي يحفل بها الخطاب الشعبي مثلما تحفل بها تعابير الوجوه و طريقة الحكي . فمثلا ماذا تعني صورة بارزة لرجل معمم ملتَحٍ ؟ بالتأكيد سيتوقف السائح عند إيحاءاتها الدينية , ولا يستطيع النفاذ الى دلالاتها الاخرى المضمرة , وهي دلالات سياسية , خاصة اذا كان السائح من بلاد لا يسمح دستورها للسادة بتوظيف الدين . و قد يتبادر الى ذهنه , المعنى نفسه الذي ينطوي عليه تمثال في مكان بارز من عاصمة بلاده : رمز حاز يوماً على أجماع وطني و هو تعبير عن ضمير أمة . أما صورة المعمم بالنسبة لكل عراقي خاصة بعد 2003 فتعني رمزاً لجماعة دينية , هي جزء من الأمة و ليست كل الأمة . قد لا يصدق السائح هذه القراءة لأنه يزور بلاداً تتحدث عن الديمقراطية و حقوق الانسان و أحترام الكرامة الانسانية . وهذه الصورة الكبيرة لمعمم ملتح لابد و أن تكون رمزاً للأمة كلها و ليست رمزاً لملة أو طائفة دينية و يزداد استغراب السائح , حين نميط اللثام عن الدلالة المُضْمرة في فعل نصب التمثال أو تعليق الصورة , و المتمثلة ببهجة أعلان الأنتصار و تأكيد الأرادة ... لو كان تعليق الصور أو نصب التماثيل في مكان خاص بتلك الجماعة الدينية , لجاء الامر طبيعيا و منسجما أما و المكان (اي بغداد ) مشترك يضم طائفتين : الشيعة و السنة , ويضم المسلمين و المسيحين و غيرهم من الديانات الاخرى , فأن عملية نقل الصور و الرموز الدينية من أماكنها الخاصة كالجوامع و الحسينيات الى الأماكن العامة المختلطة , تتضمن بعداً سياسياً , مثلما تتضمن أعلاناً عن فوز أرادة بعد حرب , أرادة جماعة واحدة من الجماعات الاسلامية المتصارعة.
يتكامل اعلان الانتصار هذا باحتلال فضائية الدولة ( التي يُفترض فيها ان تقف على الحياد ) – في عاشوراء , ببرامج دينية ذات بعد طائفي ( أي تنطلق من المقولات الاساسية للطائفة في مقاربتها) و مقولات الطائفة – اي طائفة – مقولات حرب لا سلام , اذ تعلن هذه المقولات بوضوح حيازتها و بالتالي حيازة طائفتها للمواقف الصحيحة في التاريخ و للتأويل الصحيح للمقدس , وصولاً الى الأعلان بأنها هي (و لا فرقة اسلامية سواها من الفرق الدينية الاسلامية) الفرقة الناجية و باقي الفرق الاسلامية على ضلاله ...
هكذا تعيش بغداد بوجهين , و تنطق بخطابين : خطاب يتحدث عن الديمقراطية و حقوق الانسان , و خطاب آخر مضمر في المظاهر الجديدة لحياتها اليومية مضمونة : العنف و نفي الآخر .
-6-
لا تفوتني في كل مدينة عراقية ازورها زيارة سوق الجملة فيها , فهذه الاسواق تفضح –بما تعرضه من سلع وبضائع- عن النسبة المئوية التي يشارك بها الانتاج الصناعي الوطني فيها, كما وتنبئ عن مستوى مشاركة البلد في انتاج احتياجاته من السلع والبضائع .
انا هنا لا اتحدث عن ضرورة الاكتفاء الذاتي في عصر العولمة بل عن رغبه في تكحيل العين بما هو معروض من انتاج وطني ولا عجب في ذلك فأنا اعيش في عالم يقاس تقدم الامم فيه بمقدار انتاجها وبقوة انتاجيتها , مثلما يقاس بمجمال انتاجها القومي وبميزانها التجاري اي بنسبة صادراتها الى وارداتها.
في حالة العراق بنسبة صادراته التصنيعية وليست النفطية , وبالاستراتيجية العليا لتعليمه وكذلك بقدرة هذه الاستراتيجة على تلبية احتياجات حركة ونمو اقتصاده .
وحكومة البلد –اي بلد- معنية اساسا بالمراقبه الدقيقى لحركة اقتصادها عن طريق البحوث والدراسات ومن خلال هذه المراقبه يتم الكشف عن قدرت البلد في المنافسة في اسواق العالم المفتوحة . وتزداد اهميه المراقبة في البلدان الديموقراطية –ومنها العراق كما هو معلن- لان الناخب في هذه البلدان يعطي صوته للبرامج التنموية والتحديثية (وليس للأشخاص لابن الطائفة او قبيلة او محلة معينة) التي تعنى بالكيفية التي تجعل من اقتصادها ذي منتوج اكثر جودة وأكفأ في الاستعمال واخفض سعرأ لكي تمنح لأقتصادها قدرة عالية على المنافسة فيزداد الطلب على منتوجاته .
قوة الامم اليوم ترتبط بقوة اقتصادها وأية أمه بلا اقتصاد متطور فهي بالمعنى الحديث أمه ضعيفة ومتخلفة وفقيرة وذات ثقافة محلية رثة وغير قادرة هي الاخرى على منافسة ثقافه الحداثة . وحين لا اجد بضاعة عراقية معروضة الى جانب البضائع الاخرى المستوردة يصبح لدي كل الحق بالقول : بأن استراتيجة الدولة الاساسية ومعظم نشاط قادتها ينصب على قائمة ياتي التصنيع بمعناه الحديث الذي يهدف الى تنوع مصادر الدخل في ذيل هذة القائمة .
اوحت لي البضائع المستوردة والمعروضة بوفرة وبأشكال متعددة شيئين هما :
ان الحكومة العراقية تضخ سيولة نقدية كبيرة .
ان الشركات التجارية العراقية والموردة لهذه التشكيلة العريضة من السلع والبضائع ذات صلة وئيقة بمراكز القوى المتصارعة وبالأجهزة الامنية والمخابراتية ذات العلاقة .
اذ انه من غير المقبول ان تنساب كل هذه الكمية الضخمة من المنتوجات المستوردة من غير ان تثير شهية تلك القوى (ومن يفهم الظروف والطرق التي تم بها تجميع عناصر هاتين المؤسستين يفهم جيدا المغزى ) وتدفعها لفرض شروطها قبل ان تضع توقيعها على الاذونات والتراخيص واجازات الاستيراد وكل ما الى ذلك . في بعض الاحيان يلجئ التاجر لمنح عروض مغرية للمسوؤل -بعد تكاثر التجار والطلبات- لكي يتم منح الاجازة للتاجر او التعاقد مع المقاول صاحب العروض الاكثر اغراءا .
تكاثرت هذه الظاهرة – الشراكة بين التاجر والمسؤول- في الدولة بعد أن طفرت اسعار النفط عام 1973 واستشرت عربيا بتوظيف الدين الاسلامي في الحروب الباردة (مثل افغانستان ) والدعم الهائل الدي تلقته الجماعات الاسلامية في امريكا وبعض الدول العربية وتصاعدت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وبروز ظاهرة المتاجرة بتكنلوجيا السلاح النووي . كما ولعب مبدأ الحرب بالنيابة الذي مارسته بعض الدول العربية دورا كبيرا فيها .
افتتح ياسين الهاشمي الذي كان رئيسا لوزراء العراق في نهاية عشرينيات القرن الماضي باب استغلال السلطة اوالموقع الوظيفي من اجل الاثراء وتبعه في ذلك ساسة عراقيون كثر بلغت ذروة تلك الظاهرة في عهد صدام حسين والذي تحول –وافراد عائلته- الى مالكين لثروات العراق .
تعزز الارقام المدهشة لحساباته وافراد عائلته البنكية خارج العراق ما ذكرته عن امتلاكه الفعلي لثروات العراق كما وتلقي بالمزيد من الضوء على ظاهرة النزوح الجماعي للمسؤولين –اثر انقلاب عسكري ناجح- مصحوبين بالفئات الاجتماعية التي كانت تدير اعمالهم .
لا يمكن لفرصة حقيقة لنمو البرجوازية الوطنية الصناعية(وفئة الصناعيين العراقية التي كانت الفئة الاكثر تضررا من حدث الحرب والاحتلال وما تلاهما من احداث ) ان تنمو في ظروف مشابهة البته , حيث تتصارع الجماعات السياسية –راكبين مطية المؤسسة العسكرية – من اجل الحصول على اكبر كمية من ريع النفط .
لا تختلف فترة ما بعد العام 2003 عما سبقها من انظمة في نظرتها الى الاقتصاد . ففي كل الفترات السابقة كان الهاجس الامني هو الوسواس المتسلط على عقول النخب السياسية الحاكمة . ولهذا كان الستراتيج الاساسي لكل تلك السلطات الدكتاتورية التي وصلت الى الحكم عن طريق انقلابات عسكرية مبني على تحقيق امن انظمتها وكانت التنمية تأتي على ذيل قائمة اولوياتها وبما ان الوفرة المالية التي يهيؤها النفط سنويا لهذه النخب يغنيها عن البحث عن مصادر تمويلية اخرى زراعية ام صناعية كانت لتطبيق خططها الامنية وبذلك يصبح دافع اهمال التنمية معروف.
كان تحقيق الامن في العراق يتم بأذرع حديدية لدولة مركزية , حطمت حرب 2003 تلك الاذرع , فبرزت الى الوجود تجمعات و تيارات واحزاب ومليشيات ذات قِوى لا يستهان بها , حازت لنفسها - تماشيا مع مبدأ المحاصصة - حظوراً في الدولة وبالتالي في صياغة القرار مما جعل مهمة تحقيق الامن - نتيجة لصراعتها- عملية شائكة .
وتزداد هذه المهمة صعوبة , اذا عادت دول الجوار الى العمل بمبدأ الحرب بالنيابة كون الكثير من هذه الاحزاب ممولة ومدعومة منها . وستلقي نتائج الصراع الدموي على السلطة في ايران - حزيران 2009- بظلال قوية على الوضع الامني في العراق وخاصة الوضع الامني , وستزداد الازمة سوءا في حال فشل مبادرة الرئيس اوباما في تحقيق حل الدولتين فيما يخص الصراع الفلسطيني الاسرائيلي . ومن الطبيعي ان تكون اولويات حكومة منتخبة مختلفة عن اولويات حكومات جاءت عن طريق الانقلابات العسكرية .
واذا كانت تلك الحكومات قد وضعت العربة امام الحصان وتسببت للقطر بأنتكاسات وكوارث فأن مهمة الحكومة المنتخبة - بعد ان تحققت نسبه عالية من الامن - وضع الامور في نصابها الصحيح بان يصبح الامن لا اولوية اولى بل جزء من خطة تنموية شاملة.
-7-
رددت ما ان دخلت البصرة ابياتا من قصيدة انشودة المطر :
" وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
ما مر عام والعراق ليس به جوع "
كانت البصرة وما زالت كائنأ متعدد المواهب. وعاشت في ذاكره الاجيال عطائا متواصلا . اطعمت الوافدين من جزيرة العرب ايام الفتوحات الذين تمركزت جيوشهم فيها , الحنطة والتمر والاسماك والطيور , ومنحتهم ظلاً وارفاًً , ورفدت - بعد حين - الثقافة العربية بقوانين اشتغال لغتها (النحو والصرف) ثم استخرجت ايقاعات الشعر العربي واوزانه .كانت البصرة الى جانب الكوفه اشهر حاضرتين اسلاميتين في العصر الاموي وشطرأ من العصر العباسي ثم قاسمتهما بغداد الشهرة بعد ان تم بنائها . تبلورت فيهما ملامح الفرق الدينية واصول العلوم والدراسات الاسلامية : الفقه وعلم الكلام , وزادتا على ذلك بأن احتضنتا اول الترجمات الى اللغة العربية (على يد ابن المقفع) قبل ان تصبح الترجمه فنأ وعلمأ وطريقا من طرق التلاقح الثقافي بين الامم في عصر المأمون. تجاور في جوامعهما عالم الكلام والفقيه والمؤرخ والاديب والاخباري وقريبا من جوامعهما شقت الثقافة لها اسواقأ خاصة بها (اسواق الوراقين ) وحين اصبحت البصرة جزءا من العراق الحديث تواصل عطاءها فبدر شاكر السياب ومحمود البريكان بعضا من مواهبها الشعرية المعاصرة وتبلورت فيها ملامح قصة قصيرة وشكلت ظاهرة عربية واكاد اقول عالمية على يد المبدع الكبير محمد خضير ومن تلاه من اجيال شابة .
وفيما يتعلق بالجانب السياسي كان للبصرة حضورها الوطني فقد ولد يوسف سلمان مؤسس الحزب الشيوعي العراقي في احضانها وليس بعيدا عن البصرة ولد فؤاد الركابي الذي تزعم اول تنظيم لحزب البعث العربي الاشتراكي , هذان الحزبان لا يمكن لاي مورخ سياسي ان يتجاوز حضورهما الملفت ودورهما في صناعة الاحداث بداءا من اربعينيات القرن الماضي.
وفيما يخص النهضة والاعمار كان حضور البصرة وما يزال حضورا اساسيا في تموين نهضة المدنية العراقية اي المدارس والمستشفيات والجامعات والطرق المعبدة وشبكات الماء والكهرباء وما شابه ذلك . كل ما بني للعراق كان للبصرة نصيب الاسد في تموينه وما خاضته هذه الجيوش من معارك كانت البصرة بثرواتها النفطية حاضرة بها .
وكل الذين غادرو العراق من ساسة العهود المختلفة غادروه وهم يجرون معهم حقائب مليئة بدولارات نفط البصرة . كان كرم البصرة على العراق لا تجاريها به اي مدينة عراقيه اخرى . فالنفط نفطها والتمر تمرها والاسماك والروبيان والصبور اسماكها . كما ان البردي والخريط وطيور الهور والقصب هو بعض من نتاج ارضها الكريمة . في الوقت الذي لم يكن هنالك صناعات في العراق كانت البصرة ام الصناعات المحلية فقد كانت نتتج الخشب ( العمران ) والبواري والحصران فتمون حركة البناء بما يتناسب مع بيئه العراق الريفية .
وكانت (الدوب) و(البلام) و(المشاحيف) تمخر عباب نهري دجلة والفرات الى كل مدن العراق وهي محملة بشتى انواع التمور البصرية وبكل ما يقطر ويرشح من هذه التمور ويتجمع في قاع هذه البواخر المائية البدائية من دبس طبيعي.
لكن سله العراق الغذائية احتكر عطاءها رجال السياسة وظلو يتهادنها فيما بينهم , واما سلتها الاخرى الدولارية فقد اختصت بسرقتها العصابات والميليشيات والجنرالات وكل هذه عناوين لما يسمى في عراق اليوم "احزاب".
ما ان حاذيت شط العرب بدأت اشم ما نسميه بالمعجون برائحة التمر والماء حتى تذكرت مرة اخرى بدر شاكر السياب وقصيدته "غريب على الخليج " وهو يفكر في حال البصرة والخليج شعريا –اي بالصورة- قابضا على جمرة التناقض لارض تهب اللؤلؤ والمحار ,اي الحياة, ولكن عطائها يتحول الى ردى الموت الزئام :
يا خليج..
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى ....
يختصر السياب في فاجعة حياته ومأساتها .حيث مات وحيدا ومعزولا 1964 في احدى مستشفيات الكويت , ولم تنفعه شمس بلاده التي مجدها على انها اجمل الشموس , حياه البصرة والبصريين ورغم كل هذا الكرم البصري يشكو اهاليها من شحة مياه الشرب وتشكو الطفولة فيها معاناتها وسط صراع الميليشيات مثلما تشكو نسائها من افتراس البداوة لحياتهم.
حتى أواسط عام 2008 , ظلت نسبة كبيرة من نفط البصرة نهباً لشتى العصابات و الميليشيات و التجمعات الحزبية . و تحتفل الذاكرة البصرية بشتى القصص عن عمليات التهريب و تجارة السوق السوداء للنفط في البصرة .
أطاحت الحرب العراقية - الايرانية برؤوس الالاف من نخيلها , فعلى أرضها دارت أشرس المعارك .. و منظر الالاف النخيل الواقفة بلا سعف و بلا رؤوس , يشير الى كارثة انسانية و بيئية استمرت لثمان سنوات , من تلوث بيئتها الذي سيدوم , كما يقول الخبراء , لعشرات السنين . تعرضت البصرة - بعد عام 2003 - لغزو استخباراتي منظم من قبل دول الجوار , أسهم في أيجاد و دعم عصابات و مليشيات , مهمتها التمهيد لجعل البصرة حديقة خلفية لهذه الدول " تحلب نفوطها و تسرق كنوزها , و تعطي الفتات منه لهذه العصابات و المليشيات . كوفئت البصرة قبل و بعد 2003 بأهمال شط العرب و عدم كريِه , أي تنظيفه , لأستعادة الانسياب الطبيعي لحركة المد و الجزر المصدر الاساسي في ري بساتين نخيلها .
و كوفئت البصرة أيضاً بطريقة استثمار الدولة لواردات نفوطها , قبل و بعد سنة الحرب و الاحتلال , و التي قادت بوضوح شديد لا لبس فيه , الى استعباد الشعب العراقي , وشده بقيود من حديد الى عبودية من نوع جديد . تعطلت فيها فعاليته الانسانية ( و هل تعني الفعالية الانسانية في عصرنا شيئاً آخر غير الابداع و الاختراع و الانتاج ؟ ) فتحول الى عبد مربوط لوظيفة محددة - في حركة الاقتصاد العالمي - وظيفته العمل على تصريف منتوجات الدول الاخرى .
ما هي السمة الأساسية لدورة الأقتصاد العراقي ؟ يبدأ الاقتصاد العراقي دورته من آبار البترول . تبتلع الخطة الأمنية : أعادة بناء العسكر و الشرطة و المخابرات و قوى الامن الداخلي الاخرى , حصة ضخمة منه , لا تتناسب ابدا و حالة مجتمع تفوق فيه نسبة الفقراء على نسبة متوسطي الحال . كما و تبتلع الرئاسات الثلاث : الجمهورية و الوزراء و البرلمان , بما تضمه من مكاتب و مستشارين و حمايات , حصة غير معقولة بما وضعته لنفسها من رواتب و امتيازات لا تتناسب ابدا مع ضعف الاداء , و انعدام الكفاءة في اداء المهام و الواجبات : داخلياً و خارجياً ..
لم يكن المجتمع العراقي - و لا اي مجتمع آخر من مجتمعات الشرق الأوسط - بحاجة الى النفط , يوم بدأ أقتصاد مجتمعات أخرى بالبحث عن طاقة أخرى بديلة لطاقة الفحم في تسيير قطاراته و سياراته و مصانعه , ووجدت تلك المجتمعات حاجتها الى الطاقة البديلة كامنة في مكامن تربتنا . فأسهم النفط - نفطنا- في انجاز أول ثورة عظيمة في تاريخ المواصلات , زادت من قوة تلك المجتمعات و عمقت من ضعفنا و تخلفنا , فأحتلوا أراضينا في الحرب العالمية الاولى و ما بعدها ...تولت شركات تلك الاقتصادات –بدلا منا – عمليات البحث و الاستخراج و التصدير و قرروا لنا نسبة ريعه من وارداته . كان ذلك قبل التأميم أما بعد التأميم 1973 فأصبح وارد البترول بنسبة 100% يدخل في خزينة الدولة . فهل أسهمت مليارات الدولارات الواردة من مبيعات النفط , في تحرير المواطن العراقي , أم زادت من استعباده و عبوديته ؟
ذلك هو السؤال الاساسي الذي يجب أن تتكفل الحكومة الحالية بالأجابة عليه , وفي ضوء اجابتها – و قد أجابت – يمكن قراءة مستقبلنا .
نعم , اولوية الأمن مطلوبة , لكن اي نوع من الأمن ؟
هل يتحقق الأمن بأستعادة الخطة الامنية السابقة المبنية على سياسة تقفيص البشر ( من قفص ) في مدنهم و مراقبة حركاتهم و سكناتهم من قبل اجهزة الامن و الشرطة و المخابرات , ام بوضع خطة أمنية تحفز على الحياة , و تدفع باتجاه الانتاج و الابداع , و تشجيع الناس على البحث عن مصادر رزقهم ؟
ماذا لو واجهنا الناس بهذه الحقيقة المرة , حقيقة توقف آبار البترول عن الأنتاج بسبب من كارثة الحرب أو من كارثة طبيعية ؟
حين تمت عملية اكتشاف النفط في العراق , ودخلت وارداته مصدرا اساسيا من مصادر الدخل بدأ من خمسينيات القرن المنصرم , كانت تربة العراق أكثر خصوبة بعشرات المرات عما هي عليه الان و كانت المساحات المزروعة أكبر بما لا يقاس من المساحات المزروعة الان , و كانت مناسيب المياه في دجلة و الفرات أعلى بعشرات المرات من مناسيب مياهما الحالية . و كان عدد نفوس ساكنيه أقل بأربع مرات من عدد نفوسه الحالي , و كانت تربة العراق تغذي العراقيين , ويصدر فائض المنتوج النباتي و الحيواني , مثلما يصدر العراق التمور و الجلود و الصوف , وكانت ثمة صناعات عراقية محايدة تعتمد المنتوجات المحلية موادا خاما لصناعتها . ثم بدأت الدولة تتوسع كالأخطبوط و هي تبتلع الواردات .
ماذا تعني الديمقراطية في الوضع العياني و المحسوس للعراقيين اليوم ؟ انها تعني دفع الناس الى تشخيص المشكلات الاساسية التي تسببت بها الانظمة السابقة , و تدارك الكوارث التي اقترفتها والتي اضرت بتوازن الحياة .
اذن , اعادة التوازن لحياة العراقيين – التي اختلت اختلالا شديداً منذ عام 1980 ,هي المهمة التي يجب أن تتضمنها كل خطة أمنية و كل ستراتيجه . و في ذلك يتم تدارك هذا الأختلال الحياتي على المستوى التاريخي . اذا اننا مهددون تاريخياً - و ليس آنياً فقط في أمننا و لا مقومات مستقبيلية لنا :لا في الارض التي يزداد تصحرها و لا في كمية المياه التي تتناقص نسبتها سنوياً .
و لا في البيئة التي لوثتها الحروب . و لا حتى في مصدر دخلنا الاساس – النفط - بعد أن بدأ الرأي العام لحكومات الاقتصادات التي اكتشفت النفط -تضغط باتجاه الكشف عن مصادر بديلة للطاقة : طاقة صديقة للبيئة .
هل نستطيع الثبات على الارض و نحن بلا مقومات , و كيف سنرد أو سنقاوم ما يسميه الخطاب المحلي " السني و الشيعي , بالغزوات العسكرية و الثقافية و الفكرية و الاخلاقية .. الخ ؟ اذا كانت الخطة الامنية تقوم على آلية الاستيراد لسد احتياجاتنا .
اذا لم ترتبط الخطة الامنية للحكومة بمنظور مستقبلي , وبستراتيج تاريخي يركز على اعادة التوازن للحياة في العراق يتلافى من خلاله – كل الاختلالات التي صنعتها الحكومات السابقة , فسيظل منظورها مرتبطا بقانون الصراع الذي ينظم حركة الدولة , فتضطر هذه القوى المتصارعة الى التمسك بمنظور أمني , هو في التحليل الاخير منظور ذاتي ضيق , مبني على حسابات الكيفية التي يتم من خلالها تقوية الذات ( اي الحزب ) بمواجهة الذوات الاخرى ( القوى و الاحزاب المنافسة ) .
هل يوجد اقتصاد عراقي ذو شأن ويمكن ان يزاول نشاطه وينجح في هذا النشاط من غير الاعتماد - جزئيا - او كليأ على الدولة ؟ واذا كان الجواب سلبيا - ما عدا الزراعة - فمن اي باب يمكن ان نتحدث عن وجود مجتمع مدني وعن حياه مدنية؟ هل يستطيع المجتمع المدني-بما فيه من نقابات واتحادات واحزاب وصحافة- ان يستقل عن الدولة بوجوده او عن دعم دول الخارج له ؟
تقوم الحياه المدنية في العراق برمتها على آلية الاستيراد : استيراد سلع وبضائع مختلفة : ملابس , احذية ,سيارات , الكترونيات , مواد بناء , ادوية , ادوات احتياطية , فواكه وخضراوات, لحوم معلبة او مجمدة , اغذية مختلفة ومن ضمنها مفردات الحصة التمونية التي – عدا الشاي والسكر – ماكان العراق يستوردها بل يصدرها.
بحساب بسيط وبنظرة سريعة على محلات ودكاكين بيع المفرد والجملة تكتشف ان العراقيين لا ينتجون شيا مما يحتاجونه وحتى هذه الآليه البسيطة : آايه الاستيراد , غير مستقلة بنفسها عن الدولة بل تمازجت منذ البدء (2003) بالسياسة , فالكثير من الاحزاب تتولى شركاتها الخاصة تنفيد مقاولات خاصة بالدولة كما وتضم شركات اخرى ذات اساطيل للنقل البري او للسفر والسياحة , وهذه الاخيرة تشكل ركنأ من اركان شركات استيراد كبرى .
اذن , الدولة والخارج هم طرفا العملية الاقتصادية في العراق : الدولة بما تصدره من نفط وبما توقعه من اذونات وتراخيص واجازات استيراد والخارج كمصدر لكل السلع والبضائع المستوردة .
ان شراكة السياسي - الذي يدير الدولة - في هذه الدورة الاقتصادية واضح الحضور احزاباً وافراداً (وزير ام مدير عام او منفذ او اي تسميه اخرى) هذا هو المَعلم البارز من مَعالم الاقتصاد العراقي في هذه المرحلة : مَعلم السياسي الذي يدير الدولة ويتخذ القرار المانسب لصالح شركاته والتي تدير دورة الاقتصاد في العراق . يشكل هذا المَعلم امتدادا للمعلم البارز من معالم الاقتصاد العراقي في دولة ما قبل 2003 حين شجعت دولة صدام حسين التهريب والاستيراد بأسم كسر الحصار الاقتصادي , فتشكلت دوائر اجتماعية من المهربين عناصر الامن والمخابرات التي تشرف على المخافر الحدودية مثلت القاعدة الاجتما- سياسية لصعود فئات اجتماعية كانت هي الدرع الواقي للنظام في الوقت الذي انتجت فيه ثقافتها الخاصة التي شرعت بيع وتصدير وتهريب كل شي من النفط الى الاثار (سبقت فترة تهريب الاثار و فترة الحصار , اذا باشرت الاشراف على عمليات تهريبية دائرة ضيقة من حماية صدام حسين ) . تحت غطاء من شعار : كسر الحصار .
سألت تاجر جملة عما اذا كان ثمة امل بأزدهار صناعة وطنية ؟ اجابني وهو يشير الى ماركات مختلفة التي يغص بها متجره صينية وكورية وماليزيه وتركية وايرانية الخ ذات الاسعار المناسبة بالقول : الا اذا اتخذت الحكومة اجراءات لحماية الصناعة الوطنية لكن هذي احجاية ماتت (اي اجراء لن يتخذ ابدا ) .
هذا جواب يوجز ما جرى : ولادة شريحة اجتماعية مدعومة من مراكز القوى في الدولة ارتبطت مصالحها بحركة الاستيراد شكلت وتشكل مراكز الضغط بأتجاه منع اي توجه لاحياء المعامل القديمة او لايجاد صناعات بديلة . هل يفسر لنا هذا التوجه الاقتصا-سياسي السبب وراء اهمال مسألة الكهرباء في العراق او معنى التهديد الذي وصل الى رابطة السياحة : من يراجع الوزير حول مسأله السياح -خاصة الايرانيين - يقرأ على نفسه الفاتحة .
هذه ثقافة –وهي ثقافة عنف – نتجت عن دورة اقتصادية محددة تحولت فيها الدولة الى الرأسمالي الكبير والوحيد في البلد فحين تكون نسبه 95% من مصانع البلاد معطلة , كم يخسر البلد من وظائف وكم يخسر البلد من وظائف اخرى مع صناعات تكميلية تتطلبها عملية اعادة تشغيل المعامل؟ هنا تبدو الكارثة باجلى اشكالها حين تصبح الدولة هي الرأسمالي الكبير والوحيد وامام ابوابه يصطف العراقيون طوابير من اجل الفوز بوظيفة في عراق ما بعد 2003 معجزة لان على المتقدم للوظيفة ان (يورق) حيث ان العراقيين يطلقون على فئة 100$ ورقة و (تورق) تعنى باللهجة الشعبية الدارجة دفع الرشوة بالدولار-كم ؟ 600$ لتصبح شرطيا او جنديا و1400$ لوظائف الدولة المدنية وفي كل مدن العراق تجد من تخصص في اعداد قوائم الموظفين الجدد ولا ادري كيف يطمئن الاهالي لضابط الشرطة او للمعلم او للقاضي الذي ابتدأ نشاطه الوظيفي بدفع رشوة . وحين تصبح الرشوة ممارسة معممة ونشاط مقبول فذلك يعني انها اصبح بمنأى عن قبضة العادات والتقاليد الرافضة لها الشئ الذي يجعل هامش الدولة ضعيفا في المناورة امام توجهها للقضاء على الفساد ( في مؤسسة النزاهة يتراكم الغبار على الكثير من ملفات الفساد بسبب تدخل الساسة او مراكز القوى المعروفة ).
كلما استعيد منظر اسواق الجملة المزحومة بعربات الخشب والسيارات وبالبشر وبأكداس السلع كلما تخيلت العالم وقد انقسم الى مكانين او الى ورشتين : واحدة للانتاج واخرى للاستهلاك . ففي العراق لا يوجد احتلال واحد ..لقد رايت بلادي مكاننا مفتوحا لاحتلالات كثيرة هي عندي اخطر بما لا يقاس من الاحتلال العسكري الامريكي اذ يمكن طرد الاحتلال العسكري بوسيلة او بأخرى لكن بأي وسيلة يمكن طرد التخلف ؟ هل ثمه من يخطط لمقاومة هذا النوع من الاستعباد؟؟
وحين لا تملك خطة لطرد التخلف تكون مهمتنا الوحيدة في التأريخ هي تصريف منتوجات الدول الاخرى وربما يضيف الينا التاريخ في المستقبل المنظور مهمة اخرى - وسط بلاد تزداد تصحرا ويهجرها ساكنوها- مهمة دفن نفايات الورشات المنتجة ودفن قاذوراتها .
الـــجـــزء الـــثـــانــــي
-1-
ثمة سؤال نأتُ بحملهِ لسنوات , اناقشهُ الان ولا اقدم جواباً نهائياً لهٌ . عصر الاجوبة النهائيه ولى. وحل محلهُ عصر المقاربات , التي لم تثبت هي الاخرى براءتها من مصالحنا الذاتية , من مستوى وعينا وثقافتنا , من مخيالنا الذي يغذي توقنا كبشر لأن تغتني انسانيتنا : فنرتفع بها او ترتفع بنا... كان غيرنا قد سفحَ - في محاولة للأجابة على سؤال الكيفية التي يتم بها او من خلالها الحاق بالأخرين – مداداً على مدى اكثر من قرن .
هذا السؤال الذي تتضمن الاجابة عليه , اجابةً عن : لماذا سبقونا في ارساء اسس حظارة جديدة في التاريخ ؟ هو نفسهُ السؤال القديم الجديد (الذي يعني تكرار طرحهُ كل مائة عام , استمرارنا في المراوحة في مستنقع تخلفنا وأستمرارنا طوعاً وعن ارادة في تأبيد القيود التي تشدنا الى مستنقع التخلف) , سؤال تحدي الحضارة الصناعية ( التي لم تعد تماماً غربية بعد نهوض اليابان والصين والهند وماليزيا والخ...) بثوراتها التكنولوجية المتواصلة , وكيفية مواجهة ذالك التحدي والاجابة عليه . واجهني السؤال في حالة تختلف في الدرجة وليس في النوع عن الحالة التي واجه بها اكثر من جيل من مفكري العالم العربي , واجهني وبلادي تدخل حرباً فتهزم في هذه الحرب , ثم تصبح بلاداً محتلة , من قبل دولة اعيش لاجئاً على اراضيها وواجهني والامة العربية وكذالك الاسلامية – وليس العراق لوحدهِ – منقسمةَ على نفسها , وهو انقسام – وهذا هو الجديد – لبس لبوس الطائفية . أنا هنا لا اريد ان اكرر ما قلتهُ في :
كسر المألوف 2005
ماذا جرى ماذا يجري في العراق 2007
في ثقافة الفرقة الناجية 2007
الدولة و الكرد ةثقافة الفرقة الناجية 2009
انما اريد ان ابدأ مناقشتي بالقول : ان حالة الانشطار الطائفي في الموقف من الحرب مع الخارج لم تكن حديثة في التاريخ الاسلامي , وهي تحدث دائماً انطلاقاً من حسابات الربح والخسارة السياسية التي تجيدها زعامات الطوائف الدينية . هل يمنح حدث الحرب مع الخارج لهذهِ الزعامات فرصة الأستيلاء على السلطة السياسية , ام يمعن في طردها وأبعادها عنها ؟ في ضوءِ من ذالك تحدد زعامات الطوائف موقفها من الخارج.
لم يكن هذا التناقض بين الطوائف الاسلامية في الموقف من حدث الحرب مع الخارج من صنع الاجنبي او تأمره بل هو امتداد طبيعي للصراع الطائفي الذي عاشته الطوائف الاسلامية قرونأ , تمتد بأمتداد وجود دول اسلامية في التاريخ وجسدته الطوائف في مفاصل ومحطات هامة في التاريخ , ومن ابرز هذه المحطات :
الحروب الصليبية
سقوط بغداد وزوال الخلافة العباسية 1258م
سقوط الاندلس
وقانون الصراع الطائفي وتناقض مواقف الطوائف من الخارج , لم يكن قانونا اسلاميا خالصا , بل نجد امثلة له في ممارسات الطوائف المسيحية وهي تتحالف - في الحروب الصليبية وفي الحروب الداخلية في الاندلس – مع بعض الامارات الاسلامية .
يجد الصراع الطائفي في الاسلام جذوره في سقيفة بني ساعدة وفي الفتنة الكبرى ويمتاز الصراع الطائفي الاسلامي عن سواه بطول الزمن الذي استغرقة فأذا كانت الحرب بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت في اوربا , دامت 30 عاما (1618-1648) فأن حوليات بن كثير في البداية والنهاية وابن الاثير في الكامل في التاريخ تشير الى امتداد الصراع السني - الشيعي لاكثر من قرنين في بغداد أبان الخلافة العباسية كانت الحرب فيها سجالاً بين حي الكرخ الشيعي وحي باب البصرة السني .
ابتدأت ظاهرة حرب الاحياء بعد فترة وجيزة من دخول احمد بن بويه الديليمي بغداد عام 334هـ . وتجدد هذا الصراع في القرن السابع عشر –كانت بغداد مسرحا له – ببروز الدولة الصفوية في ايران الى الوجود وتصاعد في ايامنا على شكل حروب فتاوى ومواقع الكترونية مع تصاعد اسعار البترول .
رغم كل هذا التناقض بين مواقف الطائفتين وفي صراعهما الدائم عبر تبادل الشتائم وصولا الى التكفير المتبادل في الفتاوى واقوال ثابتة وموثقة لدى كل من الطائفتين (لسنا بصددها الان ) فأن المصدر الاساسي الذي تعود اليه الطوائف الاسلامية كلها هو القرأن الكريم .
الذي يحرم عليها بوضوح التعاون مع غير المسلمين فايات الفترة الثانية في المدينة المنورة –وهي ايات بناء الدولة- نسخت احكام ومضامين الايات المكية بما يخص العلاقة مع غير المسلمين (ايه السيف التي الغت مضامين الايات المكية مثل (لكم دينكم ولي ديني ) وجاءكم بالتي هي احسن ) انما خطاب (اي تأويل) رموز الطوائف حول تلك الايات وحول احداث بناء الدولة الاسلامية وما رافقها من ملابسات واستخراج الاحكام منها بما يلائم حساباتها السياسية في الربح والخسارة هو الذي يجدد موقفها النهائي من الحرب في الخارج .
يتراءى العدو في تأويل رموز الطوائف ذات الوجهين او مزدوج الهوية فهو صالح في حاله وطالح في اخرى . صالح اذا تحالف الخارج معها لاسقاط الطائفة الاخرى عن الة الدولة وطالح اذا ما تحالف مع الطائفة الاخى وساعدها على امتلاك اله الدولة . ولقد قدمت رموز الطائفتين الشيعية والسنية في العراق مثالا نموذجيا على ما نقول , ففي بحر ال100 سنة الاخيرة .تعرض العراق مرتين لغزو خارجي . في الغزو الاول الذي باشره البرطانيون عام 1914 , اتخذت رموز الطائفة السنيه موقفا ايجابيا مما حدث اذ انه تم تعيين عبد الرحمن الكيلاني –نقيب اشراف بغداد- اول رئيس وزراء عام 1920 قبل الاعلان الرسمي للدولة عام 1921 . في حين اتخذت رموز الطائفة الشيعية موقف المقاطع للدولة ولمؤسساتها (انطلاقا من تاويلات خاصة بمذهب الامامة الشيعي . ) اما في الغزو الامريكي للعراق عام 2003 فقد انقلبت الاية فقد غير رموز الطائفة الشيعية موقفهم من الدولة (بالمعنى العام لكلمة دولة ) جذريا , ورفضوا حالة الانتظار السلبي .
لدولة الامام الغائب ( المهدي المنتظر ) وباشروا في بناء دولة في ايران , انطلاقاً من نظرية ( ولاية الفقيه ) . لهذا هرعت رموزهم السياسية الى التحالف مع قوات الغزو قبل 2003 في مؤتمرات دولية معروفة . اما رموز الطائفة السنية الذين شعروا بضياع امتياز قيادتهم للدولة , فقد تمسكوا بموقف مناقض لمواقف رموزهم الطائفية في الغزو الربيطاني للعراق قبل وفي اثناء الحرب العالمية الاولى . ان تناقض مواقف رموز الطوائف الاسلامية حيال الخارج (في حالتي الحرب والاحتلال) – رغم وجود نصوص مقدسة واضحة تحرم التعاون والتحالف مع قادة في الممارسة الى : تحويل النص المقدس – عن طريق تأويلهُ بشتى الاعذار والحجج – الى خادم للموقف السياسي .لم يحدث مرة ان تعالت رموز الطوائف الدينية على مصالحها الذاتية , وأتخذت موقفاً موحاً من الخارج في كل الاحداث الجسام ذات المنعطفات التاريخية الهامة ( لكن علينا ان نشير الى ان ذالك يحدث فقط في حالات ضعف الدولة او تفككها او انهيارها - راجع دراستنا في مفهوم ثقافة الفرقة الناجية - ).
وأذا ما تجوزنا العداء التقليدي ألسني – الشيعي , الممتد عل طول التاريخ الاسلامي , واقتربنا من العصر الحديث فسنكتشف تعدد الملل و النحل داخل الطائفة الواحدة .
الى كم ملة او نحلة تشظت حركة الاخوان المسلمون في مصر ؟ و كم تباعدت الشقة بين الاخوان وبين الحركات الجهادية التي تسللت من عباءة سيد قطب التأويلية ؟ وكم تباعدت الشقة الان بين الحركات والاحزاب الدينية داخل الطائفة الواحدة في العراق ؟ وكيف اباحت هذهِ الحركات سفك دم – ليس اعظاء الطائفة الاخرى بل اعضاء الطائفة نفسها الذين اختلفوا معها في مواقفهم السياسية.
وهذا يفسر لنا الاصل السياسي لولادة الطوائف في التاريخ الاسلامي مثلما يؤكد لنا حقيقة تاريخية هامة تتمثل بأن الانقسام الطائفي يجيء بعد حصول حدث سياسي كبير ( كمثال احداث الفتنة الكبرى ) وأن البناء الفقهي والمذهبي الطوائف يجيء لاحقا للحدث وليس سابقا له . وان الطوائف الدينية تمثل في الماضي ما نطلق عليه في الاوان الذي نعيش فيه بالحزب السياسي وان تلك الطوائف مارست السياسة باسم الدين في عصر لا يمكن ان تولد فيه احزاب مستقلة عن مظلة الدين . وانا لا استطيع ان الزم نفسي بتبني مواقف سياسية لطوائف نحتت مقولاتها السياسية قبل قرون وفي ظل ظروف تاريخية مختلفة جذريا .
ان احترام الموروث بمجمله فعل من افعال الحرية , يتكامل بالرفض الثابت لتأويلات رموز الطوائف التي ذهبت بعيدا في تزييفه باعادة تأوليه مع كل حدث سياسي كبير بحيث اصبح لكل طائفة اسلامية موروثا فيه الكثير من التناقض .
ان احترام الموروث – كجزء اساسي من عملية تحرير الذات – تتم عندي لا بالتمسك الشديد والحرفي بالمفاهيم الاساسية لطائفة ما وانما بلاسترشاد بالعقلانية والتاريخية التي يمكن في ضوء منهما فهم المواقف المتناقضة لكل طائفة من حدث الحرب والاحتلال .يقوي من ارادة تمسكي بهذين المفهومين الكره الشديد الذي تكنه رموز الطوائف جميعا لكلا المفهومين .
ينطلق موقف رموز الطوائف الاسلامية في رفضه للعقلانية من نظرة خاصة للعلاقة بين المنقول والمعقول . يكون فيها المعقول (اي احكام العقل) تابعا للمنقول (القرأن والحديث النبوي ومواقف الصحابة من الاحداث الكبرى ) او بعبارة اخرى : يجب على المسلمين جميعا ايقاف عمل العقل لديهم على تأكيد صحة ما ورد في القرأن واحاديث الرسول , وعلى مطابقة مضامينهما لكل النظريات العلمية في كل العصور والتأكيد على ان احكامهما وما تتضمنه من تشريعات وقوانين , صالحة للمجتمعات المعقدة كالمجتمعات التي ولدت بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وتطورت بخطى حثيثة في القرنين التاسع عشر والعشرين صوب مجتمعات حديثة مرجعيتها الاساسية الحرية واحكام العق.
مثلما هي ( اي التشريعات والاحكام الواردة في القرأن واحاديث الرسول) كانت صالحة لمجتمعات بسيطة كمجتمع الجزيرة البدوي او مجتمعات المقايضة التجارية (التي لم يتسيد النقد فيها كوسيط وحيد في التعاملات التجارية) في مكة والطائف ويثرب والعمل على تزكية مواقف الصحابة جميعا حتى وهم يحزون رؤوس بعضهم البعض في معارك طاحنة وشرسة كالجمل وصفين في احداث الفتنة الكبرى .
وانا لا اجد من صحة في هذا القول تنطبق على تاريخ العلم او تاريخ تطور المجتمعات . فالعلم تطور عبر مسار ثابت من الثورات المستمرة على المفاهيم والانساق العلمية السائدة , ولم يتوقف ام يلزم نفسه الى ما لانهاية بما توصل اليه الفريق العلمي او النظرية العلمية السائدة . وتطورت المجتمعات عبر النقض المستمر للقوانين والتشريعات السابقة التي كانت تمنح امتيازات من نوع محدد للفئات التي شرعتها , وبأحلال تشريعات جديدة تحابي مصالح الجماعات الجديدة التي شرعتها , وهو ما يتطلب تنفيذا للتشريعات الجديدة , بناء مؤسسات جديدة للدولة على انقاض المؤسسات القديمة . وعملية التطور هذه على المستويين العلمي والاجتماعي لا يمكن قراءتهما من زاوية اخلاقية وتجريمهما كمسار انتهاكي لما قرره السلف لانهما (اي المعطيات النظرية والعلمية الجديدة مع القوانين والتشريعات الجديدة ) سيولدان ومعهما اخلاقهما الخاصة التي ستتحول مع مر السنين الى ثقافة عامة وموروث .
النظرة الاخلاقية في التاريخ لاي شعب ليست شيئا اخر غير احترام ما تم التعاقد عليه على انه التشريع الذي سينظم العلاقات الخاصة بين الجماعات والافراد وعلاقتهما جميعا مع الخارج. وسيتشرب وعي الناس هذا التعاقد التشريعي على مر السنين وسيتحول الى عادات وتقاليد واعراف ونظرة جديدة الى الحياة تنعكس في السلوك وفي طريقة التفكير . ولهذا يصبح من المستحيل فرض منظور اخلاقي للامة او لشعب ما على شعب اخر . هل يستطيع احد الادعاء بأن المنظور الاخلاقي للمجتمع الاميركي او الفرنسي على سبيل المثال يتقبل تعدد الزوجات كتشريع جديد , وانه سيتقبل قانونا للارث يعطي المرأة نصف ما يعطي لشقيقها من تركة الاب المتوفى او الابوين ؟ لا يمكن ذلك. لان نظرة اخلاقية جديدة تجذرت في تربة هذه المجتمعات , غدتها قوانين وتشريعات جديدة , لحمتها وسداها المساواة الجنسية والسياسية والمساواة امام القضاء . تلقفتها الاجيال من البيت والمدرسة والمحلة والاعلام على انها موروثها الثقافي والذي لا ترى موروثا ثقافيا اسمى منه .
ومثلما ينظر منظروا الطوائف عندنا للمجتمعات الغربية على انها مجتمعات بلا اخلاق (بالمعنى الديني لهذه الكلمة ) تبيح الدعارة والفسق والفجور ,تنظر هذه المجتمعات الينا من زاوية نظر اخلاقية خاصة بها فترى في مجتمعاتنا مجتمعات استبدادية تنبيح العبودية واللامساواة وتضطهد المرأه والطفل والاقليات . هم منحلون اخلاقيا وفاسدون , في عيوننا وهذا صحيح لانهم تحللو من قيود موروثهم وهتكوا حرمه السلف وتحرروا من ثقلها , وكسروا القيود التي كانت تسدهم اليها . ونحن المستبدين في عيونهم وهمجيين , وهذا صحيح لاننا لا نزال نعيد انتاج موروثنا بكل ما يتضمنه من لا مساواة ونؤكد تساميه على كل منظور اخلاقي او ثقافي اخر ...
اقول انني لم اجد ما يسند نظرية رموز الطوائف الدينية من صالحية مطلقة للنصوص الدينية في كل زمان ومكان, ومثلما لم اجد ما يؤيد نظريتها عن ضرورة تابعية العقل للنص , او المعقول المنقول , في نشاطها نفسه . ذلك لان النشاط الاساسي الذي تقوم به زعامات الطوائف الاسلاميه ويكاد يكون وظيفتها الوحيدة في الحياة هي : الفتوى . والفتوى نشاط عقلاني بأمتياز , يعتمد على التأويل الية له , اي اعادة قراءة النصوص المقدسة , واعادة قراءة اساب النزول , و واعادة قراءة احاديث الرسول ومواقف الصحابة , من احداث الدعوة الاسلامية في اطوارها الاولى , للخروج بفتوى وكل ذلك يتطلب نشاطا عقليا وجهدا فكريا لا علاقة له بالقياس ( قياس الحاضر على الماضي ) بل له علاقة قويه بالتوظيف : توظيف الماضي كله ومن ضمنه النصوص الدينية خدمة للموقف السياسي الذي تتضمنه الفتوى , خاصةً في الاحداث الكبرى كالحرب فتدعو للجهاد ضد الغزاة او للتحالف معهم .
لنأخذ امثلة من تاريخنا القريب,وليكن حدث احتلال الكويت وهو ابرز حدث في المنطقة في مستهل تسعينيات القرن المنصرم.
ألم تتحالف دول غير اسلامية في طليعتها الولايات المتحدة الامريكية مع دول اسلامية : مصر وسوريا والسعودية في حرب واحدة لأخراج قوات صدام حسين من الكويت؟ وسمى الكويتيون ذلك: تحريرا . ثم قاد هذا الحدث التاريخي الى ترتيب أمور هامة في طليعتها توقيع معاهدات تحالف ستراتيجي بين كل دول الخليج و بين الولايات المتحدة الاميريكية ثم السماح بأقامة قواعد عسكرية للولايات المتحدة الاميريكية في دولة البحرين و دولة قطر وفي غيرهما ... اليس التحالف الستراتيجي ومنح ارضا اسلامية للاجنبي يقيم عليها قواعد عسكرية مخالفا لتعاليم النص المقدس؟؟ فلماذا ينفجر بركان هائل من الفتاوى التكفيرية ضد شيعة العراق لان بعض رموزهم السياسية أطقوا على هزيمة صدام حسين في عام 2003: حرب تحرير؟؟.. مع انه لا يوجد فرق بين الحالتين :
في الحالة الاولى تم تحرير الكويتيين من استعباد صدام حسين..
في الحالة الثانية تم تحرير شيعة العراق من الاستعباد ذاته..
وفي الحالتين كان المحرر واحدا هو اميركا..
فلماذا تختلف المواقف وتختلف الفتاوى؟؟
لماذا يسمي رموز الطائفية السنية اخراج صدام حسين من الكويت تحريرا ويستكثرون ذلك على شيعة العراق فيسمونه غزوا؟؟
ولماذا يبحثون للعائلة المالكة في الكويت ولغيرها من العوائل الحاكمة في الخليج ان تقيم علاقة تعاون و تحالف ستراتيجي مع اميركا و يحرمون هذه العلاقة على شيعة العراق؟؟
احترام النصوص المقدسة وعدم توظيفها في خدمة المواقف السياسية هي الدافع وراء تمسكي بالعقلانية .
هل يصبح من الضروري كذات تسعى للتحرر من الركام الهائل من تأويلات رموز الوعي الطائفي وتناقضاتها – اتخاذ موقف مستقل عن فتاوى مشاييخ الطائفتين من مسائل الحرب والاحتلال؟
قبل مناقشة هذا السؤال اود طرح سؤال ثان يتضمن الكثير من الاجابة على السؤال الاول سؤال ; لماذا سبقونا .... , يمكن صياغة السؤال الثاني على الشكل التالي : ما نوع التصور الذي ترسب في ذاكرتنا الجمعية عن نوع العلاقة التي كانت سائدة بين الدولة الاسلامية وبين غيرها من الدول غير الاسلامية التي عاصرتها ؟ للاجابة على هذا السؤال لابد من العودة الى الفترتين المكية والمدينة اللتين فصل بينهما معلم هام من معالم حركو احداث الدعوة الاسلامية. يتمثل ذلك المعلم بهجرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة الى المدينة المنورة التي تحول فيها الاسلام من دين الى دولة . فمنذ لحظة وصول الرسول الى المدينة وحتى قبل ان يترجل من بعيره أمر مستقبليه بعدم تحديد اقامة واتجاه اناقة بالقول: ( دعوها فأنها مأمورة ). أي أنها في حلها و ترحالها تسير بأوامر تلهمها في حركاتها و سكنانها .وفهم المستقبلون ماذا تعني كلمة "مأمورة".. منذ تلك الحادثة تحول ما يقوله النبي الى أوامر على جماعة المسلمين الالتزام بها وتنفيذها , لانها ليست اوامره , بل اوامر الله الذي جعله وسيطاً بينه وبين مخلوقاته من البشر , يبلغهم بما يوحي به اليه . حدث عند هذا المفصل التاريخي الهام تحول في تعريف المسلم , وتحول في نوع العلاقة الت تربطه بالآخر:غير المسلم. لم تعد العلاقة يتوسطها الحوار والقول الحسن: " وجادلهم بالتي هي احسن" كما كانت عليه الفترة المكية . بل اصبحت العلاقة تتوسطها القوة , وتحول فيها الاخر بوضوح الى عدو من الضروري الاستعداد عسكريا له ( واعدلوهم ما استطعتم من قوة... ) في مرحلة ثم بلغت الاوج في مرحلة لاحقة خاصة بعد فتح مكة اصبح فيها قتل الاخر غير المسلم واجبا دينيا بلغت ذروتها في آية السيف ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم التي نسخت كل ما قبلها من آيات الحرب والقتال , وما تضمنتهُ من احكام .
اضافت هذه العلاقة الى المسلم واجبا جديدا:واجب القتال والتهيؤ له. اي ان تعريفه كمسلم يظل ناقصا من غير فعل الجهاد وفق تعليمات النبي محمد. والنقد الذي وجهته آيات كثيرة لبعض المسلمين خاصة بعد معركة احد ,واضح في دلالته على الفارق الكبير بين ((المتخلف)) عن القتال.. و(( المنافق)) الذي يثبط العزائم , ودين المجاهد الذي يضع نفسه طائفا (ويسلمها مع ما يمتلك) في خدمة دولة الدين او دين الدولة..لا فرق.وهنا يتوضح لنا مأزق رموز ما يسمى بالنهضة العربية بدء من نهاية القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين خاصة مع علي عبدالرزاق وكتابه (الاسلام واصول الحكم 1923م ) في لي حقائق التاريخ الاسلامي بجعل الفصل بين الدين والدولة حقيقة من حقائق احداث بناء الدولة الاسلامية . ولكننا نرى انه بدء من المرحلة المدينية اصبح التداخل أو بالأحرى التطابق بين الدين والدولة واضحاً . الدين – عبر احكامه وتشريعاته – يوجه ويصنع مؤسسات للدولة مثل كتائب المجاهدين توجهها الدولة لحمل الناس على التحول الى الدين الجديد والتقيد بوصاياه و أوامره ونواهيه والخضوع والتسليم لحكم النبي .
بهذا التطابق بين الدين والدولة تم استقلال الامة (الجماعة المؤمنة) ودولتها ( اي مجموعة الاحكام والتشريعات) عما يحيطها من كفر ونجاسة والحفاظ على الذات من شرور ودنس الآخر القريب (خاصة يهود المدينة وبعض النصارى) والبعيد (قريش والقبائل المتوزعة في شبه الجزيرة) .
وفي هذا الفضاء , الجديد على الامة (الجماعة المسلمة ) التهيؤ واعداد العدة وتجمع القوة لغزو تلك التجمعات من أجل التخلص من امكانية غدرها اولا:((واعدوا لهم...)). وهدايتها ثانية , بسؤالهم اولا ودعوتهم للدين الجديد , ثم بالقوة ان رفضوا التقيد بأحكامه .
انتظمت هذه الفترة – فترة التأسيس – حروبا معاهدات وخلفت احكاما حول كيفية توزيع غنائم الحرب ((الغزوات والسرايا)) ومسالك صرفها .
تكاملت هذه المرحلة بفتح مكة وانتهت بغزوة حنين والطائف التي وحدت شبه الجزيرة .
السمه الاساسية في العلاقة بلاخر ,في هذه المرحلة , تمثلت يسعى الجماعة الاسلامية – عبر دولته ا- لفرض احكامها وتشريعاتها على الاخر القريب , في كل شبه الجزيرة .. ونجحت في ذلك ايما نجاح . ولم تفرض احكامها وتشريعاتها مرة واحدة و بل تدرجت في ذلك بتدرج وتنامي قوتها عبر حركة متصلة عبر عنها النص المقدس في ما تم الاتفاق على تسميته بالناسخ والمنسوخ , هذا المصطلح الذي يتكامل معناه مع اسباب النزول , كمفهوم يشير الى التشابك بين النص المقدس , وبين الواقع اليومي للجماعة المسلمة وما كان يشتجر فيها من مشاكل وما تخلفة من اسئلة و كان النص المقدس (عبر ايه او مجموعة ايات) يتبرع بلاجابة عليها.
كانت الية الناسخ والمنسوخ مع اسباب النزول هو ما يشكل عندي مرتكزا للتاريخية في المرحلة الثانية التي توجهت فيها الجماعة المسلمة – عبر دولتها – الى خارج شبه الجزيرة و عبر سلسلة من حروب الفتح ولدت مقولات جديدة كانت في غالبيتها تدور حول الموقف في الارض الجديدة المفتوحة . لقد واجه بدو الجزيرة نمطا انتاجيا تتركز وتدور حوله كل الفعاليات الاجتماعية , انه نمط الانتاج الزراعي الذي مارسته شعوب العراق وسوريا ومصر لالاف خلت من السنوات . وكتب مثل الاموال والخراج والمغازي والخطط والفتوح , ناقشت العلاقة الجدية بين الارض وبين الدولة الاسلامية , من حيث الموقف منها وكان الراي الذي استقرت عليه تلك العلاقة هي علاقة : الخراج , اي ضريبة سنوية يدفع عنها المتصرف الفعلي بها , وتظل الارض في هذه العلاقة (رقبه الدولة )
فاقت واردات الدولة الاسلامية من الخراج بلاف المرات وارداتها البسيطة في المرحلة الاولى المتحصلة لها من الغزوات والسرايا وانعكست هذه الواردات الضخمة على بنية وعلى اليات اشتغال الدولة الاسلامية التي بدأت تدقع رواتبا ثابتة لمقاتليها .
لم تعد واردات المقاتل بل نسبة لما يجنية من الغنيمة كما هي الحال في المرحلة الاولى , بل واصبح له راتبا ثابتا في اوان معروف (ابتدأها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الديوان ) لقد تدخل المحيط الجديد بما يدره من واردات ضخمة –في تغيير وتطوير بنية الدولة وفي اضافة مسائل جديدة, كمسألة الارض-وكيفية جباية ضريبتها- كان على الفقه وعلم الكلام الاجابة عليها .
في ضوء هذه الحقيقة (حقيقة ان الخراج المتحقق من الارض , وليس الغنيمة المتحققة من الرسيه او الغزوة –هو صانع الغنى و القوة للدولة الاسلامية ولغيرها من الدول التي عاصرتها) بدأت تعمل الدولة . لقد فرضت هذه الحقيقة قانونها على الدولة الاسلامية فكلما زادت واردات الخراج كلما زادت الدولة قوة وغنى . وهذا ما الهب الشهية لمزيد ومزيد من الفتوحات , فتحولت الدولة الى امبراطورية تمتد على مساحة شاسعة من الاراضين وذلك ما تطلب تعبئة وتشيد ضخمين لحمايه الدولة , ولاستثمار الارض – المصدر الاساسي للدخل – بزراعتها .
باشرت الدولة هذه المهمة عبر دعاتها ( فقهاء , علماء كلام , قضاه تعليم ) وهم دعاة ينتمون الى مذاهب مختلفة (معتزلة , مرجئة , شيعة , خوارج) الا انهم (ونحن نتحدث عن الصدر الاول للاسلام الذي كانت الدوله فيه قوية, وحين تكون الدولة قوية تتراجع تناقضات الطوائف في الموقف من الخارج الى الوراء ) جميعا كانو متفقين على الهدف : هدف الجهاد والفتوحات , الذي اصبح يمثل المحور الحضاري للدولة الاسلامية. احتلت الارض المزروعة اذن , التي تجلب الثروات والقوة , موقعا اساسيا – لا في تصور الحضارة الاسلامية لوحدها عن العالم – بل في تصور كل الحضارات القديمة . وهذا ما جعل الامراطوريات القديمة تزحف على شريط محدد من الارض المزروعة , وتتلافى في فتوحاتها التوغل الى ما ورائها (شمال افريقيا نموذجا) . عكس ذلك التصور القيمة العليا للارض لدى الحضارات وامبراطورياتها القديمة فقسمت العالم الى دارين : دار حرب, ودار سلام . دار الحرب وهي دار الاخر الموجود . خارج حدود الدولة الاسلامية وهي دار تنطوي على غايات شريرة و هدفها الاطاحة بدار السلام التي هي دارنا , دار مدينة الله, ومكان تطبيق شريعته . نلاحظ هنا شمولية هذا التصور وما يتضمنه من تهديد مبطن موجه للداخل والى شعوب الامبراطورية الاسلامية , حاثا اياها على التوجه الى دار الحرب , ذلك المحيط الشرير, الذي اذا لم تنتزع انياب قوته , فأن التهديد بزوال ما نحن عليه يظل امكانيه قائمة (الضربة الاستباقية) وهذا التصور عن علاقة دارنا (دار السلام) بالدار الاخرى (دار الحرب ) يتحدد سهم الاتجاه صوب الخارج فيتم بناء الثغور على حدود العالم الخارجي كمعسكرات للدفاع عن (بيضة الاسلام) , وكـ(مثابات) ونقاط انطلاق لاحتياج الدار الاخرى اذ ان الحرب والمعارك والقتال يجب بالضرورة ان تدور على الارض الاخرى لتحريرها بضمها الى اراضي الامبراطورية الاسلامية ذلك التحرير الذي لا يتكامل من غير تحرير اهلها مما يخوضون فيه من غواية وجهل .
هذا التصور الذي يجعلني وجها لوجه امام دوله دينية يتدامج فيها بعد الجهاد – لهداية الامم الاخرى – بضم المزيد من اراضيها لا يمكن لي استعادته الان , وبعد ان تتراجع قيمة الارض كصانعة وحيدة للثروة والقوة بعد ان دخلت البشرية في طور حضاري جديد اثر قيام التورة الصناعية عام 1750 م . ومن الطبيعي ان تتراجع كل الاحكام والقوانين والتشريعات التي حتم ولادتها نمط الانتاج الزراعي الذي كانت فيه الارض هي المصدر الاساسي للثروة والقوة . بل أن خصوبة الارض نفسها ومقدار انتاجيتها اصبحت تعتمد على ما يزودها الانتاج الصناعي به من سماد وكيمياويات .. الخ , والانكى من ذلك ان حراس القدامى , فقدوا الكثير من قيمتهم التقليدية حين فشلو في صد الفاكس والفضائيات والانترنيت عبر مخاوفهم الحدودية .
أذن هذا التبدل الجذري في مصدر القوة والثروة بولادة محور حضاري جديد . وانا اعني هنا بالمحور الحضاري : النشاط الاساسي الذي تزاوله مجموعة بشرية ما والغاية منه عبر اشراف وتوجيه دوله ,تشعر تلك المجموعة البشرية بالرضا عنها : الرضا في تشريعاتها , الرضا في اليات تطبيقها . تتحول الدولة في هذه العلاقة الى رمز كبير للهويه وللاصالة . رمز حامل لطموحاتها ومركد لشخصيتها المستقلة عما سواها بتشريعات محددة تمثل خلاصة فلسفتها الحقوقية والاخلاقية والجمالية وموقفها النهائي من الكون والحياه. والمحور الحضاري لايه دولة يختلف بأختلاف اساليب العيش الذي كانت تزاوله الاقوام المؤسسة للدولة وبأختلاف ثقافاتها ز فالمحور الحضاري لنوع من الدول كدويلات – المدن السومرية – التي كانت تشرف وتدير عملية الانتاج الزراعي يختلف جذريا عن الامبراطورية الاتي وحّدتها , مثلما يختلف عن دول كانت الاقوام المؤسسة لها تتألف من قبائل بدوية غير مستقرة ولا تزاول الزراعة اسلوبأ للعيش .
وحين ينطفئ المحور الحضاري , اي الدولة , التي يتركز في تشريعاتها وفي مؤسساتها وفي اليات اشتغال تلك المؤسسات , الغاية الكبرى من النشاط الانساني لمجموعة بشرية ما – تنطفئ الحضارة . وانطفاء الحضارات في التاريخ لا يتعلق بتوقف الممارسة الابداعية فالسومريون لم يتوقف ابداعهم ولا انتاجهم الزراعي بعد احتلالهم من قبل الاكاديين . بل يتعلق الامر بانطفاء الغاية الكبرى من النشاط وفقدان الهدف من كليه النشاط الانساني : المادي والفكري , والذي سيتم توجيهه كوقود لتغدية اليات اشتغال الدولة او الامبراطورية التي ضمتهم الى حدودها .
وفي حالة الدولة الاسلامية كان ابداع البشر , اي جماع نتاجهم المادي والفكري يأخذ معناه من تنظيم الدولة له وتوجيهه لصالح محورها الحضاري : محور الجهاد والفتوحات . هكذا استولت الدولة الاسلامية على الارض في العراق والشام , وجعلت البشر (العلوج) ينتجون لصالح ديمومة اشتغال محورها الحضاري في مواصلة الفتوح , الشي الذي مارسة البويهيون والسلاجقة من داخل الدولة الاسلامية قبل ان يجيء طوفان المغول القاهر .
ما يتخلف عن الحضارات التي انطفأت يدخل باب الثقافة التي ستظل فاعلة في ظمائر والوجدان وفي السلوك والتقاليد وفي نظرة افرادها الى الكون والحياة ومن ضمنها نظرتهم الى اسباب سقوط الدولة وقيامها في التاريخ .
التبدل الجذري في مصدر الثروة والقوة وتبدل بنية الدولة من حيث التشريعات والتنظيمات فرض تبدلا في معنى السلطة وفي معنى الدولة وفي معنى العلاقات الدولية وتبدلت النظرة الى الانسان- المواطن- الذي يعيش ضمن حدود دولة , وحلت علاقة جديدة بين الدولة وبين مواطنيها. فبدلا من العلاقة القديمة التي كان الانسان فيها متهما بالقصور : يمنع من حق التشريع ومن حق مساءلة الحاكم , اصبح المواطن في العلاقة الجديدة مصدرا للتشريع والمتحكم الفعلي بما يجب ان تكون عليه الدولة من حيث بنيتها ومن حيث اليات اشتغال مؤسساتها . حصل هذا التبدل الجذري في بنية الدولة وفي العلاقات , بعد ولادة فئات وطبقات اجتماعية جديدة في التاريخ كالبرجوازية والعمال والمهندسين والبيروقراطية والفنانين , ما كان يمكن للدولة القديمة تصور وجودهم ولا لحضارتها توليدهم ... لهذا يصبح من الصعب على الانسان تقبل التصور القديم – في تقسيم العالم الى دارين – الذي تحتل فية الارض – كونها مصدر الثروة والقوة – الرؤية المركزية , في الوقت الذي اصبحت فيه مصادر الثروة والقوة ترتبط بأسلوب جديد في الانتاج : هو الاسلوب الانتاج الصناعي , واصبحت مصادر الثروة والقوة تربتط لا بلرموز القديمة للحضارات الافلة ( الفقهاء , ملاك الاراضي , عسكر ...الخ ) التي اشترطت وجودها الارض كمصدر رئيس للثروة في نمط الانتاج الزراعي بل برموز حديثة كالبرجوازية والعمال والمخترعين والمهندسين ...الخ والذين اشترط وجودهم نمط الانتاج الصناعي , والذين لا يتكامل وجودهم وكذلك عطائهم الابداعي من غير توفر مبادئ اساسية كحقهم في التشريع لحياتهم وحقهم في انتخاب حكامهم وهي مبادئ لم تقرها الدولة القديمة لساكنيها اذ لم يسمح فضائها الحضاري بتوليدها . ونظرة سريعة على كل المصنفات الفقهية والفلسفية والمذهبية التي خلفتها لنا الحضارة الاسلامية في عصورها الذهبية , تجدها خالية من اي باب يشتمل على تلك المبادئ . فأنت لا تجد في تلك المصنفات ابوابا تحت عناوين : حق البشر في التشريع , او حقهم في انتخاب حكامهم .
ان وعي هذه الحقائق الجديدة في التاريخ يفرض علي اتخاذ موقف مستقل عن مواقف وقرارات رموز الطوائف ( والطوائف عندي ليست اكثر من احزاب ذات مقولات سياسية مستله من فضاء الحضاري القديم ) من مسألة الحرب والاحتلال .
هل اكون ضمنا قد اجبت على سؤال : لماذا سبقونا ؟ .
اذ اننا ونحن نتمسك بهذا التقسيم الجغرافي الحاد للعالم , نكون من ناحية الوعي قد رفضنا التاريخية التي تملي علينا الاعتراف بحقيقة الانقلاب الذي حدث في التاريخ , والذي بدأ مع ولادة نمط انتاجي جديد هو النمط الصناعي , وما جاء به من قوانين وتشريعات خاصة , فرض من خلالها مؤسسات لدولة جديدة في التاريخ . ولكي نلحق او نلتحق بلاخرين , ما امامنا من طريق غير طريق العقلانية اداة لدراسة هذه الضاهرة الجديدة في التاريخ , والبحث العقلاني في ارض الواقع : واقعنا , عن المرتكزات الاساسية التي يمكن الانطلاق منها في التحديث الشامل الذي تدخل مسالة تحديث بنية الدولة من حيث القوانين والتشريعات , في الصلب منها لكي يجيئ التحديث متوازنا , او لكي يتم بعيدا عن الاختلالات والهزات والزوابع الاجتماعية .
دون ذلك يضل الخارج يزورنا كل فترة زمنية واخرى ( برطانيا 1914 , امريكا2003) ويفرض علينا مع كل زيارة الطريقة التي نبني بها بيتنا وندير امورنا ... دورية الانتخابات مثلا كألية ضرورية وكخطوة متقدمة على الطريق الصعب , طريق بناء دولة ديمقراطية في العراق عجزنا عن اكتشافها او التوافق الاجتماعي عليها . ولولا حرب 2003 لما كان بامكاننا كعراقيين انتزاع هذا الحق التاريخي : حق الانتخاب الذي وضعنا على مفترق طريق :اما ان نصعد منه لنيل حق التشريع واستكمال بناء دولة ديمقراطية , او ننحدر منه الى هاوية اعادة انتاج التخلف مع كل دورة انتخابية, واعادة انتاج استعبادنا للخارج .
-2-
اظن انه من الضروي استباق الصفحات القادمة بتوضيح بعض الافكار التي اسهمت احداث تاريخنا الحديث في انتاجها فهي نتاج واقع لا نظريات او –تلافيا لاي نقاش بيزنطي- سأسميها قناعات شخصية تسللت اولى هذه القناعات من شعور فردي ساورني بعد سماعي لخبر احتلال الكويت ثم تحول ذلك الشعور الى قناعة مفادها : موتنا في التاريخ او موت تاريخنا ذلك لانني نظرت الى الطريقة التي نفذت بها قوات صدام حسين تلك الضربة السريعة لا على انها (كما اسهبت الكثير من التحليلات وقتها) دلالة على قوة وفاعلية حركة الجيش الصدامي واستفادتهُ تكتيكيا واستراتيجيا من الجيش الاسرائيلي في حروبه مع الدول العربية ( ذلك لانني لا أفصل الاستراتيجية ولا التكتيك والمناورة عن عموم اليات اشتغال مؤسسات الدولة التي كانت جميعها تشتغل لغايه واحدة : حماية النظام والاعلاء من عظمة وعبقرية القائد الاستراتيجية ) بل على انها – وانسجاما مع المناخ العام الذي نمطت به الدولة علاقتها بمجتمعها وبالخارج التي صاغتها وفرضتها ذهنية رجل واحد- ليست اكثر من غزوة . والغزوة عندي هي التعبير الصحيح عن ذلك الحدث الذي لم تذهب فيه عساكر صدام حسين لنجدت (ثورة) – لان الثورات في التاريخ لا تحتاج لدعم خارجي- بل لتمارس غزوا على طريقة القبائل العربية قبل الاسلام وبعده ... كانت غزوات القبائل تشترطها ضرورات حياتية – بغياب الزراعة – كما وتشترطها ضرورات الثأر , مثلما تشترطها الثقافة السائدة المتمثلة بمفهوم البطولة – كواحد من المفاهيم الاساسية في الثقافة العربية - كطريقة من طرق الفخر والاعلان عن الذات . وكانت غزوة صدام حسين للكويت ضرورة فرضها منهج محدد في الحكم , وفرضها وعي متخلف – لا عبقرية قائد – لم ينتخب خياله سواها وسيلة لفك طوق الازمات الاقتصادية والماليه والاجتماعية والسياسية , بعد حرب ضروس طويلة مع ايران ...
قبل الغزوة , يحدد شيخ القبيلة وملأه (الذي يتشاور معهم , ولكنه لا يلزم نفسه بمقترحاتهم) القبيلة – العدو , والفرسان , وخطة الغزو , تسميه القائد الذي عادة ما يكون الشيخ نفسه وانا اشك في ان رئيس قبيلة العراق شاور ملئه ( الذين كان يكن لهم صدام حسين الكثير من الاحتقار ) وقد امرهم بتنفيذ الغزوة ...
ان نعيش نحن في العراق ونحن في العقد الاخير من القرن العشرين تحت وصاية شيخ قبيلة الذي (اذا عزم توكل) فذلك يعني اننا نعيش خارج مسار التاريخ وخارج منطقه تهربا من وعي قوانينه وهروبا من التزاماته .
تلك كانت قناعه اولى نتجت عن غزو الكويت , الهمتني بالشعور بموتنا في التاريخ , او موت تاريخنا .
القناعة الثانية , تسللت من مسألة الحصار 1991-2003م اذ كنت دائم التساؤل عن السر الذي يجعل حضارة – تشابك فيها الاقتصاد العالمي خاصة بعد تجذر ظاهرة العولمة – تمد بأسباب الحصار , لان المسألة عندي لا تتعلق فقط بالمجتمع الدولي الذي وضع العراق تحت البند السابع ,بل تتعلق بلاقتصاد العالمي الذي عند نقطة محددة من تطورة , سيتخذ قراره برفع الحصار عن العراق بهذه الوسيلة او تلك .
لا تستطيع الحضارة الحديثة التي حوى تاريخها صفحات متعددة من الثورات التكنلوجية – ان تسمح بعزل اي بقعة من بقاع الارض , فكيف بسرة الارض اقصد منطقة الشرق الاوسط وبقعتها المميزة : العراق .
ان التمدد الخارجي وعبور اسوار وحدود الدول الاخرى , الية ثابتة من اليات اشتغال الحضارة الصناعية , بدءا من انطلاقتها الاولى في برطانيا . فالحصار الدولي على العراق – الذي انهك الشعب- ليس في صالح حركة الاقتصاد العالمي .
رفع الحصار عن العراق , اذن , هو قرار تابع لحركة الاقتصاد العالمي الرأسمالي , وما بوش وادارته الا ادوات تنفيذ ذلك القرار . كان قرار الحرب على العراق قرار اقتصاد دولي قبل ان يكون قرار الادارة الامريكي في الرد على 11 سبتمبر , ولا يستطيع احد الوقوف بوجه هذا القرار الذي تشبه قوته قوة الطوفان .
ان وعي هذه الحقيقة يقلل من مصداقية بعض الاحزاب السياسية التي ادعت بان جهودها في اقناع الادارة الامريكية , هو الذي دفع تلك الادارة لاتخاذ قرار الحرب , كما ويقلل من مصداقيته اندفاع الولايات المتحدة الامريكية لتنفيذ قرار الحرب حتى قبل ان تستكمل الشرعية المطلوبة من الامم المتحدة .
لا فضل لاحد على احد في التغيير الذي اوجدته حرب 2003 , والذي اوجد فضاء للحرية في العراق – هذا الفضاء الضروري – الذي تكرر حدوثه في كل التجارب التاريخية للامم والشعوب التي نالت فرصتها في بناء دولها الحديثة . ولذا فأن الشيء الاساسي عندي – وفقا لهذه القناعة – لا يتمثل بالعودة الى الوراء ... ان العودة الى الوراء والدفاع عن نظام استبدادي سابق , لم يصمد في المواجهة التاريخية كالأمبراطوربة العثمانية او كنظام صدام حسين يقودنا الى تبرير الاستبداد , وتسويغ موتنا في التاريخ .
ان الشيء الاساسي عندي يتمثل بالكيفية التي نتصرف بها في فضاء الحرية الذي تحقق نتيجة حرب لا ثورة .هل نستطيع استغلاله استغلالاً تاريخيا ناجحاً , بحيث لا نفرط به كفرصة تاريخية , لا يتكرر حضورها في التاريخ الا قليلا .
-3-
بلهفة الباحث عن الجديد في عناوين الكتب التي تطالعني بها مكتبه افترشت رصيفا في شارع الحبوبي في مدينة الناصرية الجنوبية رأيت كتابا جديدا للاستاذ حسن العلوي اسمه (شيعة السلطة وشيعة العراق ) صادر عن دار الزوراء – لندن 2009
سينجح هذا الكتاب في ابعادي عن الغرق في التفاصيل الكثيرة التي حوتها يومياتي اثناء زيارتي للعراق فالكتاب (عين كاميرا) نجح الى حد كبير في مسح الخارطة السياسية للمكان , والقت من خلال هذا المسح ضوءا كاشفا على المشكلات الاساسية التي تعصف بالمكان من خلال الاستعانة بأرشيف ضخم من المعلومات عن الاحزاب والشخصيات الاسلامية والسياسية التي كانت معارضة (بكسر الراء) والتي تدير دفه الحكم الان رابطا بين مواقفها السياسية قبل 2003 ومواقفها وهي في السلطة الان .
يوحي متن الكتاب بأن الاستاذ حسن العلوي كان قريبا من الحركات الاسلامية الشيعية وكانت قريبه منه ولكنه قرب المكان والمشورة لا التفاعل والتاثير المتبادل وايه ذلك تسمك هذه الحركات بطروحات كتابه (الشيعة والدولة والقومية ) اذ عدته باب نجاة لشعارها( مظلومية الطائفة الشيعية) ورفضت هظم وتمثل طروحاته الاخرى التي دافع بها – بلادلة التاريخية الدامغة عن عروبة شيعة العراق ضد سلطة صدام حسين التي كانت تربط القومية العربية في العراق بطائفة السنة وتفني عن رحمتها لا الطائفة الشيعية وحدها- كما يرى الاستاذ حسن العلوي – بل وكل الطوائف والملل والمذاهب الاسلامية الاخرى كما نرى في الكتاب الجديد (شيعة السلطة وشيعة العراق ) نرى الكاتب يدافع هذه المرة عن عروبة شيعة العراق لا ضد ( سنه السلطة ) كما في مرحلة صدام حسين بل ضد (شيعة السلطة) التي قفزت الى السلطة بأسم مظلومية الشيعة ولكنها ارتدت على الشيعة وبدأت (تصادر هوية ناخبيها الى امه اخرى وتستثمر فوزها بأصوات الاغلبية العربية لبناء قوة تستخدمها لالغاء هوية ناخبيها العرب(ص67 من كتاب شيعة السلطة) .
اذا كان كتاب (شيعة السلطة وشيعة العراق) وثيقة تاريخية بما حواه من معلومات فأن منهج الكتاب يقدم شهادة هي الاخرى تاريخية عن العذاب الذي يتسبب به ذلك المنهج المحدد في التفكير لمفكر ما يزال يعيش في المنفى منذ ثلاثين عاما وقلمة يقارع الاستبداد والزيف.
انطلاقا من ايمان الكاتب العميق بالاصول المشتركة للقبائل العربية السنية والشيعية وانطلاقا من نظرته المتوازنة لعرب العراق العابرة للانتماء الطائفي غلب في نظرته هذه الوئام القومي على الصراع الطائفي وذهب في تحليلة مذهب التغطية على كل صراع اجتماعي ايا كان اسمه فهو يعود دائمأ الى الماضي مستهلا منه الشواهد التاريخية التي تشير الى ما يزخر به الواقع القريب والبعيد عن سلام اجتماعي اما ظواهر الصراع ومنها الصراع الطائفي فليست اكثر من عرض طارئ على جوهر خالد من الوئام والانسجام لكأن العرب العراقيين لا صله لهم بموروثهم السياسي الشاخص في اليات قيام وسقوط الدول في التاريخ الاسلامي حيث قامت في اشهر نماذجها ( الاموية والعباسية والعثمانية ) على اسس ومفاهيم طائفية وكانت معارضتها المسلحة – على الجانب الاخر – قد نحجت في بناء دولها على اساس من المفاهيم الطائفية واشهرها الدولة الفاطمية وحين ينشط الاسلاميون (شيعة وسنه) في الاوان الذي نعيش لاستعادة دولة الاسلام في التاريخ فأن نشاطهم هذا , لايخرج عن الاطار الطائفي , اي بناء دولة الطائفة وليس الاسلام .
هل كان حزب الدعوة يدعو الاسلام انطلاقا من مذهب الخوارج ؟ ام ان القاعدة تدعو للاسلام من خلال مذهب المعتزلة ؟ ام ان حسن البنا بنى حركتة السياسية مستلهما نظرية الشيعة في الامامة ؟ وفي القرن العشرين قامت المملكة العربية السعودية على اسس من المذهب الوهابي مثلما قامت دولة الثورة في ايران على اسس من المذهب الشيعي .
-4-
مما يلفت الانتباه لدى البعض من مثقفي العراق تمكن مقولة التكفير من وعيهم وهم يصنفون مواقف المثقفين العراقيين من حدث الحرب والاحتلال.
هذه الظاهرة لفتت انتباهي حين قرات في بعض الاعمدة الصحافية وسمعت شفاها , حديثأ جارحا عن موقف الشاعر والمناضل سعدي يوسف... وسعدي يوسف - لمن يجهل تاريخه من القراء العرب - عاش محنة الغربة منذ سبعينات القرن المنصرم معارضا .
دمج سعدي يوسف في شعره وهو في ذلك قريب الشبه من محمود درويش - توقهُ الشخصي الى الحرية بقضية الوطن في شعره بحيث حل فيهما او حلتا فيه (بالتعبير الصوتي) وبحيث لا نسطيع ان تعزل سعدي يوسف في سلوكه اليومي كأنسان عن قضيته الوطنية كما يراها وكما يفلسفها (راجع ديوانه : الشيوعي الاخير).
والتكفير مصطلح ديني يحمل برهانا تاريخيا على رفض المعارضة كمفهوم في موروث الطوائف الاسلامية ورفضها كممارسة لدى كل الدول التي انتجتها او بنتها الطوائف الاسلامية . قاد مفهوم التكفير في ممارسة الى عقوبة التحريق بالنار لجماعة اتهموا بالغلو في الصدر الاول من الاسلام , او بالقتل صبرا (ابن المقفع,الحلاج) او بلأعدام الرمزي للكاتب عن طريق اشعال النار بكتبة (التوحيدي, أبن رشد ) وسعدي يوسف الغائب عن بغداد يمثّل به رمزيا بتشنيع موقفة السياسي وتشويه سمعته كمتسكع في دول اللجوء . الطعن نفسه الذي كان يوجهه اعلام صدام حسين للمعارضة . كل ذلك لانه اختار موقفا من حدث رأه منكرا , فأنكرَ على نفسهِ ان ينضم الى جهاز اعلام تبريرهِ و تسويغهِ ... وفي تاريخنا الحديث الكثير من الشواهد التي انتجت ما يشبه القانون الثابت في العلاقة بين السلطة السياسية وبين معارضيها السياسيين. ابتدأت هذه العلاقة بنفي قادة ثورة العشرين ومنهم العلم الوطني جعفر ابو التمن , من قبل اول سلطة سياسية في العهد الملكي , ثم بدأ هذا القانون يؤكد نفسه في العهود اللاحقة وبلغ الذورة في عهد صدام حسين وحين يكفر الاعلام الرسمي للسلطة السياسية موقفا سياسيا مختلفا وينال من سمعة شاعر ومناضل كبير كسعدي يوسف فأن ذلك يعني بداية الطريق للتنكر المقصود لذاكرة وطنية مليئة بأفعال البطولة في مقارعة الاستبداد والدكتاتورية .
اليس تناقضا ان نتحدث عن الثورات والانتفاضات والوثبات التي يضمها تاريخ العراق الحديث بالتعظيم ونفخر برموز وطنية بارزة في السياسة والادب والفكر ونغمط من حق واحد من جيل البطولة في تأسيس ثقافة عراقية حديثة لانه اختار موقفا سياسيا مختلفا ؟.
وحين يموت سعدي يوسف ويدفن في المنفى , وحين تلف المقبرة السيدة زينب في دمشق جثمان حسن العلوي , الى جانب شقيقة هادي العلوي فماذا يعني ذلك ؟ الا يعني ذلك ان الديمقراطية المعلنة في العراق مازالت مجرد شعارات طافية على سطوح الظواهر ولم تتمكن بعد من العمق وتصبح جزءا من اللاوعي الجمعي ؟.
-5-
ينتمي المفكر العراقي حسن العلوي وشقيقه الراحل هادي العلوي الى جيل المفكرين والادباء العراقيين الذين توزعوا –انتماءا لا ولاءا فكريا- على تيارين اساسين احدهما يسمى خطأ بالتيار القومي اذ انني اميل الى تسميته بالتيار الوحدوي وتيار ماركسي ضم شيوعيين اي المنتمين الى الحزب الشيوعي ومستقلين عن الحزب الشيوعي . وما بين هذين التيارين الاساسيين يوجد تيار اخر : ديمقراطي او ليبرالي اضافة الى استمرار وجود مقولات الثقافة الموروثة فاعلة في كتابات اسلاميين نالت شهرة وانتشار.
مهد التياران الاساسيان بما اشاعاه من مقولات ومفاهيم جديدة – الارضية لولادة ثقافة سياسية جديدة في العراق حققت الى حد كبير انفصالا عن مقولات ومفاهيم الموروث السياسي كانت تتجاوب – تأثرا وتاثيرا- مع الثقافة السياسية والفكرية الطالعة من عواصم عربية اخرى كالقاهرة وبيروت ودمشق ومثلما ارهصت ثقافة العواصم العربية بولادة الجديد على مستوى الخطاب الفلسفي والفكري والسياسي والادبي والصحافي على يد رموز ثقافية معروفة ارهصت الثقافة في العراق الى جانب ذلك الخطاب بولادة اول حركة احتجاج ناحجة في عمود الشعر اي على زاوية نظر ذات نظرة جمالية متوراثة عمرها اكثر من الف عام وكسرته ولولا نجاح المقولات السياسية الجديدة للتيارين الوحدوي والماركسي في تخليق ثقافة جديدة ذات وعي سياسي انزاح قليلا او كثيرا عن الوعي السياسي الموروث لما استطاع ثلاثي السياب-نازك-البياتي من اجتراح معجزة كسر عمود الشعر وفتح الابواب امام ذائقة جمالية جديدة لان الشعر العمودي كان يمثل جوهر الثقافة العربية وفيه تتمثل رؤيتها المركزية التي اباحت للشاعر (ان يلبس الحق ثياب الباطل والباطل ثياب الحق) كما يقول التعريف المتوارث للبلاغة منذ عبد القاهر الجرجاني كسر عمود الشعر يعني كسرا للمنظور الرؤيوي لثقافة عمرها اكثر من الف عام ينتمي حسن العلوي وسعدي يوسف الى ذلك الجيل الوطني جيل البطولة الذي رحلت غالبية رموزه ولم يتبق منه سوى افراد قلائل يقف المناضلان الوطنيان: حسن العلوي وسعدي يوسف شامخين في الخط الاول منهم.
اول مقولات هذا الجيل السياسية : الرفض القاطع لاي تغيير مصدره الخارج يتساوى في ذلك الوحدويون والشيوعيون والديمقراطيون والاسلاميون. تشترط التغيير عندهم , ضرورات الداخل لا الخارج . ومنها ,اي من الضرورات الداخلية , ياخذ التغيير شرعيته , شرط ان تكون وسيلته داخلية هي الاخرى . انطلاقا من هذه الرؤية مد ذلك الجيل يد العون لكل الانظمة الوطنية بدا من ثورة 14تموز 1958 والتي تحالف في دعمها الشيوعيون والوحوديون والديمقراطيون (جبهة الاتحاد الوطني 1957) ثم انشطر هذا الجيل في موقفه من السلطة السياسية قبل وبعد انقلاب 14 رمضان الدموي الذي قاده تيار من تيارات النشاط الوحدوي . بعد ذلك عاش معظم افراد جيل بطولة التأسيس لشقاف عراقية عربية جديدة في الخارج. ومع ذلك نتاجاته الفكرية والادبية و الفنية , على احتلاف انتمائاته السياسية : عراقية الطابع تشير بوضوح الى مكان والى ما يضمه المكان من صراعات .في محنته الغربة والمنفى , قدم لنا ذلك الجيل اشكالية الهوية و الوطنية بوضوح . وعندي ان هذه الاشكالية ستظل ممتدة لأجيال . ولن يرسم الاجابة عليها جيل بعيشه . انه لمن الخطأ القاء المسؤولية امتداد اشكالية الهوية مجتمع فشل في بناء دولة حديثة ...
تأخذ الهوية تعريفها من بنية الدولة التي تدير فعاليات المجتمع الاساسية انطلاقاً من ثقافة المجتمع السياسية الاساسية , ولا تأخذ الهوية تعريفها من اي عنصر من عناصر اللغة او العرق او الدين او الجغرافيا التاريخ المشترك.
كل تلك العناصر ضرورية لتأجيج الشعور بالانتماء المشترك , وتوليد شحنات من الحب و الولاء , اسهمت في عصرنا الحديث في صناعة الشعور الوطني او القومي و الشعور بالأنتماء ال امة والى تكريس والى تكريس الولاء لها وحدها . ولكنها لا تكفي لوحدها وفي وقف التناقضات مثلما لا تستطيع لوحدها وضع حد للصراعات الاجتماعية التي غالباً ما تأخذ شكلاً دموياً ولذا لا يمكن – في عصرنا الحديث – تعريف الهوية بمنعزل عن بنية الدولة القائمة . وبنية الدولة في نماذجها الارقى قامت على التقاعد على تشريعاتها وقوانينها وعلى اليات تنفيذها من قبل المجتمع . ومن غير فعل التعاقد لا توجد هوية.
ما هوية الشعب العراقي في هذهِ المرحلة , عربية, كردية, تركمانية, شورية, ازدية, سنية, شيعية, صابئية ...,الخ ؟ وهل الصراع الدموي وغير الدموي الجاري في العراق الان يتضمن في بعض ابعاده صراعاَ على الهوية ؟ الجواب نعم , لاكن هل يمنح العرب الرضا للجماعات الاخرى لو فرضوا اسمهم على الدولة ؟ الجواب : كلا , وسيكون الجواب كلا بالنسبةِ للجماعات الاخرى .
الهويه هي جماع المكونات التي تظل في حالة اصطراع وأحتراب أن لم تنجح على التعاقد على بنية محددة للدولة تمثل الجميع وتمنح الرضا للجميع ولاتخسر طرفاً من أطرافها حتى لو شكل ذلك الطرف نسبة لاتذكر من مجموع سكانها .
ولذا فأن البحث عن الهويه يجب بالضروره أن يترابط مع البحث عن المفاهيم السياسيه الصالحه لتحقيق هذا الرضا الجماعي وجعلها جزأً اساسيا من اجزاء بنية الدولة.
أنني أستخدم هنا تعبير الدوله مسبوقا بكلمة: بنية ,أذ يفرض علي العصر الذي أعيش فيهِ مثلما تفرض عليّ تجارب أممه وشعوبه أستخدام كلمة بنية , فليست كل دوله صالحه لأن تمنح الرضا والهويه لمجموع سكانها .
لم يتعاقد العراقيون على دولتهم عام 1921 , بل فرضها الاستعمار الانكليزي فكان الانشطار عريضا في تعريف الهويه بين السلطه الملكية وبين الشعب ممثلا بقواه الوطنية وقتذاك وفي الطليعةِ منها جبهة الاتحاد الوطني 1957 . وحين تحول انقلاب 14 تموز 1958 الى ثورة ونال تأييد غالبية الشعب العراقي - عبر مظاهرات ضخمة ومسيرات مليونية تأييداً للأصلاح الزراعي واخراج العملة العراقية من منطقة الاسترليني , واستعادت الدولة لسيادتها على اراضيها من شركات النفط العالمية في القانون رقم 80 , – حتى قام نوع من انواع التعاقد الاجتماعي , الا انه تم على طريقة انظمة مجالس قيادة الثورات العربية , طريقة المسيرات الجماهيرية التي لم تعد كافية في منح الشرعية للدولة . لقد انتج هذا النوع من التعاقد - بعد مرور فترة زمنية – نوعاً من الانفصال بين الدولة وبين المجتمع . حدث ذالك في كل سلطات هذا النوع من الحكم , وأدى خاصةً في العراق و سوريا – نتيجة تكرار الانقلابات العسكرية – الى ربط الهوية و الوطنية بالمؤوسسة العسكرية التي كانت تعيد تعريف الوطنية والهوية انطلاقاً من الولاء لسلطاتها السياسية , مما ادى الى انشطار المجتمع وتعدد مواقف المثقف العراقي حيال شرعية هذا النوع من السلطات , وحيال تعريف الشرعية نفسها .
وكل ذالك يشير الى ان المجتمع العراقي لم يبلغ بعد الدرجة المطلوبة من الوعي السياسي التي ينجز فيها تعريفاً محدداً لهويتهِ , يمنحها اطارها القانوني والتعاقدي في شكل محددٍ لدولة يختارها , تتكثف في مؤوسساتها وفي اليات اشتغالها معنى هويتهِ .
ان هوية المجتمع تكمن في بنية دولتهِ , والدولة تقدم هذه الهوية من خلال قانونها الاساسي (دستورها) الذي اودعهُ مجتمع خلاصة نضرتهِ الحقوقية والفلسفية و الجمالية و السياسية . وحين يكون للدولة دستوراً مؤقتاً , او يصرح احد قادة الكتل الاساسية في العراق بظرورة تغيرهِ فذلك يعني بجلاء ان التعاقب الاجتماعي لم يكن منجزاً ولا نهائياً , وان الهوية ما زالت تدور في سلسلة من التعريفات ولم يتم التوصل الى اتفاق محدد حولها .
انطلاقاً من هذا المعنى فأن النقد الموجه لسعدي يوسف , او سواه من جيل البطولة في التأسيس لثقافة عراقية فيه خلط كبير – في المعنى – بين السلطة السياسية وبين الدولة لأن سعدي يوسف لم ينتقد دولة وبالتالي هوية ما زال التعاقد عليها لم ينجز مراحلهُ النهائية بعد.
الـــجــزء الـــثــالــث
-1-
البحث عن جواب السؤال طرحته على نفسي :عما اذا كان الهدف المعلن في بغداد وواشنطن والتممثل في سعيهما الحثيث لبناء دولة ديمقراطية في العراق يتطابق مع وسائلهما في البناء ام لا هو واحد من دوافعي لزيارة العراق . وهو دافع شخصي مقترن باللهفة الى المعرفة والسعي المعرفي لا يكتفي بالخطاب السياسي الملون دائما بالمصالح الذاتية للجماعات المتصارعة بل يسعى لمقارنة ما يجري على ارض الواقع بالخطاب السياسي المعلن ولا يهمني بعد ذلك اجاءات استنتاجاتي مرضية ام غير مرضيه للاحزاب السياسية العاملة في العراق ذلك لان الكتابه عندي تمرين في الحرية وتجربة في الانعتاق . باشرت هذه التجربة في الكتابة مع كتابي (تشريح الاستبداد: النظام العراقي نموذجا ,بيروت ط1 1999 ) الذي يعود لتجربة خاصة في التحليل والاستنتاج ولم يعتمد البتة على اي شعار جاهز او نظرية سابقة . كانت مادة الكتاب عراقية وقد استخدمت تلك المادة استخداما مزدوجا فهي الشاهد (كوقائع) وهي النص (اي الاستنتاج الراشح عن مشاهدة الواقعة) ولذا خلا الكتاب من الاستشهاد بايه نصوص . ووقتها اعتقدت - وما ازال- بأن الخطوة الاولى على درب الحرية الطويل تبدأ بالتحرر من سلطة النصوص .
لم يحدث هذا النفور الشخصي من سلطة النصوص من تأمل معزول عن تجاربي الشخصية . مَثّلت النصوص في وعيي سلطة فاقت في حضورها القمعي حضور الاب ,او (شقاوة) المحلة , او معلم المدرسة , او شرطي السلطات الرسمية . كانت النصوص في حديث الاب عصاه الاخرى التي تضع اقدامنا على السكة الصحيحة التي لو انحرفنا عنها لنالنا العقاب , وكانت عصا المعلم تعلو ظهورنا لو لم نستظهر نصوص واجبتنا البيتية .
كان الاب يخيفنا مثلما كانت عصا المعلم . وكان يمكن تحاشي عقابهما , لكن كيف يمكن تحاشي عقاب لست مسؤولا عن اسبابه؟ هنا يبدأ الرعب الذي تخلفه سلطة النصوص على وعي فتى غر سُمِح له بأن يخرج ليلا ويشارك الاخرين حسن الاستماع الى (الخطيب) في ليالي عاشوراء ورمضان .
كانت هاله الوقار التي تحيط الخطيب – وهو يصعد المنبر ويعلونا جميعا نحن الجالسين على ارضية الجامع او الحسينية – ساحرة , ثم يبدأ سحر خطابه يفيض علينا من طبقات صوته ومن نسيج كلماته ومن حركاته المرافقة لكلماته . كنا نشنف الاسماع وعيوننا مشدودة الى شفتيه , الى تلك النافورة التي ترشنا بالنور والامن والسلام , قبل ان تتحول الى هدير يمطرنا بكلمات التقريع على تقاعسنا عن نصرة رجال الحق والدين , الذين نالتهم سيوف الغدر والخيانة . عند هذه النقطة يصعد صوته ليبغ الذورة ويكتظ بنشيج اخاذ – نشاركه البكاء- يبكي الجميع بحرارة بعد ان تطفأ شبكة الانارة . ابكي وابكي في هذا الجوف الدامس , ثم انتبه الى عودة صوت الخطيب الى حالته الطبيعية وهو يترحم على ال البيت . تشتغل المصابيح مجددا مع كلمات الخطيب المترحمة . يشهق الجميع معه بالدعاء والرحمه وهم يمسحون وجهوههم بباطن اكفهم : الرحمة على ال البيت ومحبيهم الى يوم الدين.
اعود الى البيت مع وخز في الضمير وفي الوجدان اشعر بالهزيمة والاحباط , بالخيبة . واشعر بشيء ما اتنزع مني في غفلة عني . اتحسس شعر رأسي ووجهي واطرافي كما لو لم تكن مني . لقد شطرتني الخطبة وجعلتني اشعر بالعار , فأنا لاهٍ في حياة من غير معرفة انها حياة نجسة , منحطة , منحرفة . انها ليست الحياة الصحيحة تلك التي اشارت اليها نصوص خطبة الخطيب . لقد زرعت الخطبة فيّ رفضاً قاطعا لما هو قائم وحنينا طاغيا لاستعادة الحياة الصحيحة , واستعادة الانسجام بين حياتنا و بين النص التي من دونها لا تستقيم الحياة . لم تكن خطبة الخطيب من انشائه تماما . وهذا ما اكتشفته لاحقا , فنهالك كتب معدة لهذا الميدان . كان على الخطيب استظهارها , ووعي معاني كلماتها , ونطقها نطقا فصيحا , والا حل به ما يحل بنا – نحن التلاميذ – من عقاب عدم الاستظهار , اذ سينفر منه القيمون على مراسم عاشوراء او رمضان , ولن يستدعونه من النجف او كربلاء في العام القادم , فتكون خسارته المالية فادحة .
وظيفة الخطبة المعدة سلفا : تقريعنا ووظيفة الخطيب رفع الحواجز والموانع امام هذا التقرير , ودفعنا الى تبخيس ذواتناوتعنيفها على ما هي عليه من غوايه وضلالة . والخطيب المفوّه هو من يزعزع دفاعاتنا الطبيعية التي ننطوي عليها جميعاً ضد النقد , ويسحبنا الى المشاركة الجماعية في البكاء . فالبكاء الجماعي دلالة على ان الخطيب بلغ المراد : هدم حصوننا الداخلية وهزمنا , وجعلنا نشعر بالندم ...
مرعبة هي سلطة النصوص التي تجعلك تشعر بالعار من حياتك , وتزداد رعبا حين تقرأ في الكتاب المدرسي ان اولئك الشخوص الذين اتهمتهم الخطبة بأغتصاب الحق : ابطالاً تاريخيين هزموا الاعداء, وفتحو البلدان واقاموا حضارة كما لو ان الكتب المدرسية تقول : اذا لم تطابق حياتنا الحاضرة ذلك المثال البطولي الفذ , فلا حياة لنا .
اذن , هنالك نصان , لا نص واحد , وكلاهما يدعواننا الى النسج على منوالهما . الاول منحنا يوما وجودا في التاريخ : دولة وفتوحات استخدمت ما تيسر لها – اي ما تجاوب وحاجاتها- من علوم الاولين في الادارة والضرائب والري وسك النقود والطب والرياضيات , وطورتهما وابدعت لنفسها علوما خاصة بها , دارت حول النص المؤسس اي القرأن . فأبدعت علما للكلام واخر للفقه وثالث للتحقق من صحة الاحاديث المنسوبة الى الرسول . لكن كل ذلك اصبح جزءا من الموروث الانساني ولا يحمل جديداً – على المستوى الابداعي – لا لنا ولا للاخرين . لكن النص – المدرسي منه خاصة – يدعونني الى احيائه من غير ان يجيبني على سؤال : ماذا تبقى صالحا منه ؟ ان على مستوى مؤسسات دولته , او مفاهيمهما الاساسية , او انجازاتها العسكرية وهي تستخدم خططاً واسلحة وتعبئة عفّى عليها الزمان , او على مستوى مناهج علمائه او الذائقة الجمالية لادبائه .
اما الخطاب الاخر للطائفة الاخرى التي انتمي اليها فهو خطاب رفض بالمطلق لكل ذلك الموروث , طالما ولد تحت زعامة لاشرعية لها كما يرى هذا الخطاب .
تتفرع من هذا الخطاب خطابات فرعية اخرى , تستخدم اللهجة العنيفة نفسها: لهجة الهُجاء اي هجاء الحاضر صعودا الى الماضي . والحق ان الهجاء والمديح مفهومان اصيلان ينتظمان ايقاع الثقافة العربية الاسلامية برمتها . فعلى مستوى الشعر , يفوق ماتم انتاجه من بابيهما بعشرات المرات ما تم انتاجه في الميادين الاخرى كالوصف والغزل والفلسفة والتصوف . وينطلق هذان المفهومان من خلفية ثقافية تدور حول مفهوم البطولة بمعنييه البدوي قبل الاسلام وبمعناه الاسلامي المؤول وفقا لمنطق كل طائفة او ملة . فقتيل الخوارج مثلا شهيد وبطل في رأي جماعتهِ , وهو ضال و منحرف لدى قاتليه في معركة النهروان , وهكذا في كل الحروب الشهيرة مثل الجمل وصفين . فالطوائف الاسلامية التي تتخلل ثقافتها جميعا ثقافة الفرقة الناجية تهجو غيرها بالتكفير , وتمدح أمامها او مؤسسها لكونه منحها التاويل الصحيح الذي ستفوز من خلاله بالجنة .
لا يختلف منطق الطوائف عن المنطق الشعري لدى الشعراء فكلاهما يتوجهان الى اشخاص . الشاعر الى ممدوحه او مهجوه , والطائفي الى امامه او مؤسسه ملتهِ الدينية . الاولوية لدى اي منظومة فكرية طائفية , هي اولوية رجال لا احكام دينية . شرعية الرجال (الحكام) اولاً , ثم شرعية الاحكام . لان الموروث الطائفي يدخل الاختلاف في الاحكام في باب الاجتهاد , ولكنه يُدخل الحكم على الاشخاص في باب التكفير . ففي احداث الفتنة الكبرى –الاحداث التي شكلت القاعدة لانطلاق الطوائف والملل والنحل في الاسلام – مارس خليفتان الفعل نفسه : سكت عثمان عن عُبيد الله ولم يحاكمه , حين سارع الى قتل الرجل الذي طعن والده , وهي واحد من الطعون التي توجه بها الثوار الى الخليفة عثمان .
وتكرر الشيء نفسه مع الامام علي حين اصبح خليفة بعد مقتل عثمان , ولم يحاكم محمد بن ابي بكر على قتله للخليفة عثمان . ولم يسألهُ اعوانهُ من الثوار .
انها ثقافة الولاء للاشخاص لا للاحكام , وهذه الثقافة لا يختص بها الموروث الاسلامي لوحده . انها ثقافة خاصة بمرحلة تاريخية طويلة عاشتها البشرية قبل بزوغ الدولة الحديثة التي منحت البشرية فرصة تكوين الاحكام بعيدا عن الولاءات الشخصية , وتعمقت هذه الثقافة بولادة المؤسسات التي تعمل من غير الارتباط بشخص بعينه . فالتداول السلمي للسلطة لا يربط الدولة بشخص بعينه او بعائلة تزول بزوالها . الدولة باقية في الوقت الذي تتغير فيه الوجوه والبرامج والاحزاب دوريا .
منطق الولاء الشخصي كمنطق شعري يتميز بالتحول لا الثبات , كما هو الحال مع مؤسسات الدول الحديثة . يستطيع الشعر او الشاعر ان يرفع احدهم في لحظة (هي لحظة القاء القصيدة ) الى الذرى , مثلما يستطيع الشاعر الاطاحة به من عليائه في لحظة اخرى . هذا ما فعله فحل فحول شعراء العربية بكافور الاخشيدي , فالمتنبي الذي صيّر من امير متواضع المواهب , في امارة متواضعة القوة , بطلا اسطوريا , عاد مرة اخرى بعد ان يأس من العطاء الذي كان يامله من سيف الدولة الحمداني ليجعل من مغتصب للسلطة – بحسب المعايير السائدة – بطلا , ثم عاد في لحظة اخرى ليهجوه . والخطا بان الاساسيان اللذان يدعواننا دعاتهما الى اعادة نسج الحياة على منواليهما , هما ايظاً خطابان في المديح والهجاء . مديح رجال وهجاء رجال . وهكذا فأنك لا يمكن ان تناقش الشعر العربي بمعزل عن المفاهيم الاساسية للثقافة السائدة , مثلما لا يمكنك ان تحاكم ما تسلل الينا من موروث الطوائف من غير ربطهِ بالشعر العربي . فالخيط الاساسي الذي تنتظم فيه فروع الثقافة هذه هو خيط البطولة او النذالة والغدر المرتبطة بالرجال . ان البطولة والشرف وما يتفرع عنهما من مفاهيم الكرم ونبل المحتد والصدق والامانة , هي الخلفية الفلسفية للثقافة العربية الاسلامية , وهي ثقافة ذكورية تستخدم فيها المرأهُ كرمز للضعف والجين وقلة الخبرة وعدم اكتمال العقل . ولهذا لا توجد فرقة او ملة اسلامية اباحت للمراة ان تؤم الرجال في الصلاة , او ان تكون اميرة الجماعة المسلمة او خليفتها .
تتحول مفاهيم البطولة والنذالة في لغة الخطاب الديني (الفقه خاصة ) الى لغة الرحمان والشيطان . وينتمي الخطابان الاساسيان للفرقتين الاسلاميتين الاساسييتين : السنة والشيعة في بنيتهما الى اللغة الدينية : لغة الرحمن والشيطان ويستغيران لاستكمال التحشية لغة الخطاب الثقافي السائد , لغة البطولة والغدر .
يقول خطيب الطائفة الاسلامية الشيعية , وهو ينتقي من الاحداث ما يشاء , ويعيد ترتيبها كما يشاء : بوقوع تآمر او فعل شيطاني يرقى الى حياة الرسول . حين بدأ اعداء الدين يدخلونه لا عن ايمان , ولكن لكي يركبوا الموجة ويتولوا زمام القيادة . ويقول خطيب الطائفة الرئيسية الاخرى ان فعل التآمر لم يكن داخليا بل خارجيا , ولم يحدث في حياة الرسول بل حدث بعد فترة طويلة من وفاته تقارب الستة قرون ويمكن عد سقوط بغداد 1258 م بدايته . فقبل هذا السقوط كان المجتمع يعيش حالة تطابق مع نفسه بشهادة كبار الفقهاء الذين عاشو في الفترة العباسية ولم يكفروا الخلفاء .
الخطيبان يتفقان اتفاقا جوهريا على ربط شرعية الحكم في الاسلام بأشخاص وبعوائل بعينها . فحكم هذه العوائل التي خرج منها الخلفاء شرعية اذا ما تأكد نسبها الى قريش , وتسقط عنها الشرعية حتى لو كانت من العوائل الاولى التي آمنت بلأسلام . ان شرط الانتماء الى قريش واحد من الشروط الاساسية التي يجب ان يتوفر عليها الخليفة . اما خطيب طائفتي الاقل عددا من الطائفة الاولى , فهو يتشدد في منح الشرعية ويضيّق الدائرة حاصرا اياها في عائلة واحدة من عوائل قريش , هي العائلة الهاشمية التي ينتسب اليها النبي وابن عمه علي بن ابي طالب .
هذا الخلاف حول الانتساب العائلي لعب دورا اساسيا في اشعال حروب الفتنة الكبرى , وشكل القاعدة التي انطلقت منها الطوائف في الاسلام , ولكن هذا الخلاف مضى عليه وقت طويل , مئات السنين , واستعادته الان من قبل خطيب طائفتي , وتحمس خطيب الطائفة الاخرى في الرد عليه مؤكدا على شرعية وقداسة من تولى الخلافة بعد الرسول لم يعد مستساغاً . فقد خضع جميع اؤلئك الذين يختلف الخطيبان حول شرعيتهما , لمنطق عصرهم الذي تضافر عامِلا قوة السيف وقوة الموروث الثقافي على تشكيلهِ , ولم يخلفو ورائهم مؤسسة جديدة اختلفت نوعيا عن مؤسسات الدول التي عاصرتهم . فاشهر دولتين : البيزنطية والفارسية (التي قضى عليها الفتح الاسلامي العربي) كانتا ذوات مؤسسات مشابهة وكان شرط الانتساب لعائلة بعينها اوليا واساسيا في منح الشرعية للحاكم ....
شكوى انحراف التاريخ , او الانحراف عن النصوص المؤسسِّة ليست جديدة ولم تكن ابدا مقصورة على المسلمين . هتف بتلك الشكوى دائماً وعلى امتداد التاريخ خاصة في منعطفاته الحادة : اولئك الذين نبذتهم حركة الاحداث من تصدر واجهة المشهد الثوري . قالوها وهم على اعواد المشانق او والسيوف تطيح برؤسهم.
والدولة الاسلامية – ككل الدول التي تهيكلت يوحي من نص مؤسس – لم تتكامل خطوطها العامة وتاخذ ملامحها النهائية الا لاحقا . فمؤسسة الخراج لو تكن مؤسسة متكاملة الملامح في عهد الرسول , ومثلها مؤسسة الجيش المحترف التي وضع لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الديوان قواعدها , ثم المؤسسة الاهم : مؤسسة الوراثة . اما القضاء فلم يكن مستقرا نتيجة الولائات الطائفية , ومثل القضاء كانت مؤسسات الحسبة والشرطة تتاثر تأثرا قويا بالصراعات الطائفية .الا انه بلأمكان القول ان ملامح الدولة الاسلامية في خطوطها العامة وهيكلية مؤسساتها وطرائق اشتغال الياتها تجد في الدولة الاموية في الشام نموذجها النهائي الذي نسجت على منواله كل الدول الاسلامية لاحقا أكانت سنيه كالعباسية والعثمانية ام تنتمي لفرع من فروع الشيعة كالفاطمية في مصر .
وشبيه هذا الذي جرى للدولة الاسلامية , جرى للدول الاخرى التي استرشدت هي الاخرى بنص مؤسس , واشهر نماذجها في عصورنا الحديثة : الدولة الفرنسية بعد ثورة عام 1789 , والدولة السوفيتية بعد ثورة عام 1917.
مرت دولة النص المؤسسة الفرنسية ( يمكن عد فلسفة الانوار في خلاصتها الفكرية عند ديدرو , مونتسيكو , فولتير وخاصة جان جاك روسو نصأ مؤسسا) بتحولات عنيفة وفي كل تحول يتم حصد روؤوس قادة المرحلة السابقة , الى ان جاءت الفترة النابليونية التي اضطرها حوار القوة ( سلسلة الحروب الاوربية التي باشرها نابليون) الى العودة الى محاورة الموروث الثقافي ولكنه الحوار الذي جعل من الدولة الجديدة فالتاريخ حقيقة نهائية , نالت اعتراف البابا في روما , من غير ان يتنازل نابليون عن فلسفة الثورة وعن مفاهيمها الاساسية كمفهوم الشعب الذي اصبح المصدر الاساسي للتشريع , لم يتنازل نابليون عن هذا المبدا الاساسي الذي حمله ثوار عام 1789م وجعلوه حقيقة سياسية وثقافية وتشريعية لاول مرة في التاريخ العالمي (سبقتها بسنتين تشريعات الدستور الامريكي ) وهو يحاور الباب ويدخل في صلح معه . وبعدم تنازله عن هذا المبدا اصبح حق الانسان في التشريع لحياته بعيدا عن رقابة الماضي الذي حرمه من هذا الحق للالاف السنين – مؤسسة جديدة من مؤسسات الدولة الحديثة . لقد منح نابليون للدولة الجديدة في التاريخ ملامحها النهائية , لا فقط فيما ارساه من دعائم تنظيمات للدولة في فرنسا وفي الدول التي فتحها في اوربا وفيما خلفته من كود قانوني شهير , بل وايضا في رفضة العودة عن قرار الثورة التي اتخذت بأسم الشعب قرارها في مصادرة املاك الكنيسة .
ومثل ذلك حدث للثورة الروسية 1917 التي حاولت التأسيس لدولة جدية في التاريخ بالاسترشاد بنص مؤسس . الا ان هذه الدولة انهارت بعد ميلادها بسبعين عاما , وصدى انهيارها يتكرر في كتابات كثيرة حاولت تعليل ما جرى . وبعيدا عن الهوى الايدلوجي في التعليل نرى : بأن الدولة الجديدة في التاريخ لا بد وان تكون دولة نموذج مصحوبة بمؤسسات جديدة لتنفيذ تشريعاتها الجديدة التي تتركز فيها رؤيتها الجديدة عن الكون والحياة . هكذا كان الحال مع دويلات المدن في نشاتها الاولىفي سومر ومصر والصين والهند قبل اكثر من ستة الالاف عام . فهذه الدول-المدن اشرفت على ادارة انتاج ثورة غير مسبوقة في التاريخ هي الثورة الزراعية , نقلت البشرية من مرحلة جمع الغذاء , الى مرحلة انتاجة بكميات كبيرة . تكامل هذا النموذج بمؤسسات خاصة به كالمؤسسة الكهنوتية ومؤسسة الملك ذي الاصل الالهي , ومرجعية هذه الدول كان الدين ذي الالهة المتعددة . تميزَ هذا النوع الاولي من الدول بفلسفة دفاعية لان عناصر الانتاج الاساسية كالمناخ والتربة والمياه والبذور مع الخبرة متوفرة في الداخل , اي انها محلية ولا توجد في الخارج الذي ما يزال (بربريا) وغير مستقر .
الدول التي جاءت بعد دويلات المدن كانت تنويعا في مؤسساتها على مؤسستي الكهنوت والملك الاساسيتين , تدخل في ذالكَ الامبراطوريات التي اندفعت لاحتواء دويلات المدن مع دين جديد غالبا ما يكون توحيديا (لم تشذ عن هذا المسار الامبراطوريتين : الرومانية والمغولية في فترة لاحقة من تاريخيهما) .
تمثلت في مؤسستي الكهنوت والملك ذي الاصل الالهي جوهر نظرة المجموعة البشرية للكون والحياة , وحملتا بوضوح فلسفتهما السياسية والاخلاقية والحقوقية والجمالية . استمر هذا النوع من الدول ما يقارب الستة الآف عاما الى ان جاءت العصور الحديثة بثورة جديدة هي الثورة الصناعية التي تزامنت مع ثورة ثقافية وجهت نقدا قاسيا لمؤسستي الكهنوت والملك , انطلاقا من الحقوق الطبيعية للبشر . احدث ذلك النقد شرخا في الوعي السيا-ثقافي السائد نتجت عنه مفاهيم سياسية جديدة ونظرة جديدة للكون والحياة . من اهم المفاهيم الحديثة : مفهوم الشعب الذي تطلب تنفيذه ولادة مؤسسة جديدة هي المؤسسة التشريعية التي يزاول من خلالها الشعب حضوره كقوة بديلة عن القوتين السابقتين في التشريع للحياة . ومن المعلوم ان حضور الشعب يعني شيئا واحدا : حرية التشريع لحياته . تلك الحرية التي حرمته منها مؤسستا الكهنوت والملك . دولة السوفيات بعد ثورة 1917 جاءت بتشريعات جديدة وبمؤسسات جديدة لتنفيذ هذه التشريعات هي مؤسسة السوفيتات اي المجالس . وهنا جاء اسم الدولة الجديدة وارتبط بها (الاتحاد السوفياتي) وقد منح لنين (الذي كان يمثل المرجعية الشرعية الوحيدة للموروث الماركسي في نظر اعضاء حزبه ) لهذه المؤسسة شرعيتها في كتابه (الدولة والثورة) .
كل تاريخ الدولة السوفياتية هو تاريخ صراع بين المؤسسة التشريعية الجديدة (اي السوفيتات ) كمفهوم جديد عن الشعب , ينطلق في التشريع للحياة من ادنى صعودا الى المركز –وبين مؤسسة الحزب البلشفي , المؤسسة التشريعية الثانية الني جاءت بها الثورة وهي المؤسسة الجديدة ايضا التي ساعدت البلاشفة على الامساك بقبضة الدولة بعد الثورة .
مؤسسة الحزب مؤسسة للتشريع من فوق ينحصر فيها حق التشريع واتخاذ القرار بمجموعة قليلة من البشر . هذا هو الصراع الاساسي الذي واجهته الدولة ذات التشريعات الجديدة في التاريخ : صراع الشعب عبر مؤسسته التشريعية الجديدة (السوفيتات) التي تفوق حرية التشريع فيها حرية التشريع في مؤسسة البرلمان – مع مؤسسة الحزب التي تضيق فيها فسحة حرية التشريع عن مؤسسة البرلمان . وبأنتصار الحزب –بعد موت لنين- افرغت المؤسسة الجديدة من محتواها الحقيقي .
نجح في نموذج الدولتين السابقتين : الكهنوتية والبرجوازية مؤسسو الرؤية الجديدة للكون والحياة , او اصحاب النص المؤسس , في ان يمسكوا بدفة مؤسساتهم التشريعية . امسك الكهان - على اختلاف تسمياتهم في اللغات المختلفة - بقبضة التشريع لألاف السنوات , ثم جاء نموذج الدولة الحديثة فأمسكت البرجواية او ممثلوها بقبضة التشريع بأسم الشعب منذ اكثر من قرنين , وجعلت تداول السلطة سلميا بين شرائحها المختلفة , حقيقة من حقائق السياسة بعد ان كان بناء الدول في المرحلة الكهنوتية يتم من خلال السيف .
كان التشريع الكهنوتي تشريعا سماويا تنوب فيه مؤسسة الكهنوت عن السماء , وكان التشريع البرجوازي – عبر البرلمان - تشريعا ارضياً تنوب فيه البرجوازية عن الشعب , كمفهوم جديد تتركز فيه رؤيتها الجديدة عن الكون والحياة . ثم جاءت ثورة عام 1917 بالسوفيتات او المجالس كتنظيم يباشر عبرهُ الشعب بشكل مباشر التشريع لحياته من غير ان ينوب عنه احد . الا ان الحضور الايدلوجي الكثيف للحزب البلشفي كمرجعية للدولة - بعد ان نجح في الاستيلاء على الة الدولة - رشحه في وعي غالبية اعضاءه لان يكون المؤسسة التشريعية الوحيدة . فضاقت بهذا الاجراء مساحة الحرية التي لا يمكن الا ان تتسع في اي دولة – نموذج جديد بديل عن دولة النموذج البرجوازي , كما تم القضاء فيها على امكانية التداول السلمي للسلطة : الخطوة التاريخية الجبارة التي جاءت بها دولة النموذج البرجوازي .
اما على الجانب الاخر : جانب عالمنا العربي , فقد لعبت ثقافة المجتمع الموروثة منذ قرون دورا كبيرا في التحكم بنوعية الدول التي قامت بعد عام 1952 اثر انقلابات عسكرية وثورات من حيث بنيتها التشريعية ومن حيث نوعية المؤسسات واليات اشتغالها . والفترة المحصورة ما بين 1952-1979 التي قامت فيها نماذج لدول خاصة دللت بلا لبس وبالكثير من الوضوح على ما للموروث العربي الاسلامي من دور حاسم في تشكيل بنية هذه الدول وقد اكدت الثورة الايرانية 1979 هذا الدور العظيم للموروث في صياغة وتشكيل الوعي السياسي الغالبية العظمى من الامة التي اعلنت – في استفتاءات شعبية – انحيازها لمقولات طائفتها السياسية الموروثة وصوتت لصالح بناء دولة انطلاقا من نظرية ( ولاية الفقيه) .
تاريخ مباشرة الثورة الايرانية في بناء مؤسسات دولتها انطلاقاً من مقولات سيا-ثقافية موروثة هو بالضبط تاريخ الاعلان عن نهاية مرحلة من التجريب السياسي جسدتها انظمة مجالس قيادة الثورات العربية ذات الشعار الملتبس : تركيب المعاصرة على الاصالة , المرفوض من المعاصرة ( المنظومة الفكرية للدول الحديثة والتي لا يمكن تجزءتها) ومن الاصالة (المنظومة الفكرية الموروثة ورموزها الاحزاب السياسية الدينية والثورة الايرانية ) . الا ان انظمة مجالس قيادة الثورات العربية هي في التحليل الاخير - من حيث بنيتها ومن حيث اشتغال اليات مؤسساتها - امتداد للموروث السياسي ولمقولاته السياسية . ففي العراق مثلا لم تستطع ثورة 14 تموز 1958 حتى وهي في ذروة لحظاتها الثورية حيث الشعارات الثورية التي تقطر حداثة تطوف شوارع المدن صباح-مساء , من تشريع قانون جديد للاحوال الشخصية يمنح المرأة حقا مساويا للرجل في مسألة الارث مثلا . الامر نفسه ينطبق على كل دول مجالس قيادة الثورات العربية .
لم تشذ بنية دولة ما بعد 2003 في العراق عن هذا القانون . فلقد انعكست ثقافة المجتمع السائدة بقوة على بنية هذه الدولة التشريعية . ومواد الدستور العراقي الجديد جاءت تتويجا لهذا الانعكاس ... وعودة الى السؤال الذي افتتحنا به هذا القسم من المقال : هل ثمه تطابق بين الهدف المعلن: بناء دولة ديمقراطية وبين ادوات هذا البناء؟.
للاجابة على هذا السؤال اقول بوضوح ان العقبة الكأداة امام انجاز هذا المشروع التاريخي العظيم تتمثل بأدوات البناء نفسها . اي في الاحزاب الدينية . ذلك لان الدولة الديمقراطية –كما هي في الامثلة التاريخية المعطاة – قامت على اكتاف احزاب ذات منظومة فكرية حديثة . في حين تفقر الاحزاب الدينية التي تصدت لهذه المهمة في العراق لهذه المنظومة الفكرية مثلما يفتقر لها الواقع الثقافي .
بعض المفاهيم الحديثة كالشعب والامة والقومية والتحديث والحرية والاشتراكية والوحدة ...الخ ضلت طافيةٌ في الاعلام الرسمي وفي خطب الزعماء ولم تكن يوما تعبيرا عن ممارسة سيا-اجتماعية فعلية او افراز لها , بل كانت جزءا من فلسفة سياسية هجينة لأنظمة مجالس قيادات الثورة العربية , تلك الفلسفة المختصرة في شعار : تركيب المعاصرة على الاصالة . ولقد سوقت تلك الانظمة هذه المفاهيم منفصلة عن الممارسة , على انها هي المعاصرة .
تشير وقائع تاريخ العرب منذ نكسة حزيران 1976 الى التراجع الحاد في هذه المفاهيم بعد تراجع صورة الانظمة التي سوقتها اثر انتكاسات تلك الانظمة العسكرية المتكررة وفساد ادارتها وبيروقراطية تخطيطها وفشل ذلك التخطيط في انجاز اي تنمية حقيقة اقتصادية او اجتماعية او ثقافية , وحلت محلها في الوعي السيا-ثقافي العام مفاهيم ومقولات اخرى كالطائفة والولاء والبراء والشريعة والحاكمية والبيعة وامير الجماعة وولاية الفقيه والشفاعة والتقية والامامة وقرب ساعة خروج المهدي المنتظر وقيام الساعة ...الخ , وكلها مفاهيم تهيئ الفرد والجماعة للاخرة في حين ان جوهر المنظومة الفكرية الحديثة يشير الى انها مشروع دنيوي يهيئ الفرد والجماعة للحياة لا للموت .
بغياب الاداة الحزبية ذات المقولات السيا-ثقافية الحديثة, وبغياب شبه كامل لوعي ديمقراطي في الوسط الاجتماعي , ستنحصر مهمة الاحزاب في العراق – لبناء دولة ديمقراطية - على الاطار , اي على دورية الانتخابات , ولن تتعداها الى حرية اعضاء البرلمان (ممثلوا الشعب) في التشريع . ذالك لأنَ دورية الانتخابات الية يمكن استعارتها وتعلمها (مثل السياقة والسباحة) لكن لا يمكن استعارة الديمقراطية أبداً كمنهج حياتي شامل اقتصادي واجتماعي وثقافي ينطلق من خلفية فلسفية خاصة . وقد استطاعت بعض الدول استعارة الية دورية الانتخابات , ولكن هذهِ الالية لم تسهم في تحويلها الى دولة ديمقراطية , فظلت المسألة محصورة بتجديد الكوادر والوجوه , وليس بتداول فعلي للسلطة .
تداول السلطة يجب ان يكون سلميا , لانه يتم في فضاء مفتوح من الحريات , تجد الدولة الديمقراطية فيه مرجعيتها , ولا توجد مرجعية اخرى تحول دون السلطة التشريعية (البرلمان) ودون التشريع . المرجعيات الخارجية كالدين والفكرة القومية التي تراقب السلطة التشريعية وتنقض تشريعاتها , توجد في دولة غير ديمقراطية , مرجعيتها ليست الحرية بل الدين او الفكرة القومية. والدستور الحديث للدول الحديثة يوضح ما اقول . انه القانون الاساسي الذي يشير الى ان مصدر التشريع هو الشعب وليس الدين . فأذا كان الشعب هو مصدر التشريع الاساسي فستلزم مؤسسات الدولة كالجيش وقوى الامن الحياد في حالة انتقال السلطة الى قوى المعارضة , لانها اتيةٌ من صفوف الشعب ولا يمكن اتهامها بتهمة العمالة للخارج من قبل السلطة القائمة . اما في حالة ان يكون الدين هو مصدر التشريع فأن المؤسسات العسكرية والامنية لا تقف على الحياد في حالة فوز قوى ديمقراطية بالاغلبية في الانتخابات . ففي انتخابات الرئاسة الاخيرة في ايران 2009 خرجت المؤسسات العسكرية والامنية عن حيادها , وتوعدت بسحق العملاء اي الموسوي وخاتمي وكروبي , رغم ان هؤلاء لم يرفعوا شعار تغيير مرجعية الدولة الدينية (ولاية الفقيه) .
وتقدم تركيا نموذجا اخر عن تسلط مرجعية خارجية اخرى هي فكرة سيادة القومية التركية , وربط فضاء الحرية بهذه السيادة , فتتحول دورية الانتخابات الى مجرد الية لتجديد الوجوه , اذ ما ان تشعر المؤسسة العسكرية التركية بأن القادمين الجدد – بعد دورة انتخابية جديدة – يلوحون بواحد من الشعارات المحرمة كمنح القوميات الاخرى بعض حقوقها مثلا , حتى تنقض على السلطة بأنقلاب عسكري وتعطل السلطة التشريعية كما حدث مرارا .
مرجعية الدولة في العراق " الديمقراطي " هي الدين , كما يشير دستور الدولة المكتوب بعد حرب 2003 . فهل يمكن لقوى اخرى ديمقراطية او علمانية او ليبرالية – بعد فوزها في الانتخابات – اقتراح تشريع يتعارض مع الدين الاسلامي , المرجعية التي لا يجوز تشريع قانون يتعارض مع احكامها . هل يستطيع مجلس النواب العراقي اليوم – لضرورات تراها الدولة مثلا – ان يفترح تشريعا يتضمن عدم قبول اي عراقي في البرلمان اذا كان متزوجا بأكثر من امراة ؟ وهو اقتراح لا يسقط حق الرجل الممنوح له من السماء في ان يتزوج بأربع , اضافة الى ما تملكه يمينه , اي حقه الثاني الممنوح هذه المرة له من قدرته المالية على شراء الجواري الحسان والتمتع بجمالهن .
وكما مارست انظمة مجالس قيادة الثورات العربية تزييفا للوعي السياسي لدى غالبية افراد الامة العربية , حين قرنت في التطبيق بين مفاهيم سياسية حديثة كالشعب والامة والقومية – وبين الاستبداد والدكتاتورية , كذلك تمارس الزعامات السياسية في العراق التزييف ذاتهُ , وهي تشير الى ان دورية الانتخابات هي الديمقراطية , من غير تنوير الناس بحقيقة ان الديمقراطية تقاس بمدى الحرية الذي تسمح به مرجعية الدولة المنصوص عليها في الدستور-للبرلمان في التشريع . وفي بلد متخلف كالعراق توقفت دولته عند حدود دورية الانتخابات ولم تتجاوزه الى حرية التشريع ستصبح دورية الانتخابات ليست اكثر من اطار يعمل على اعادة انتاج رموز هذا الواقع المتخلف : الطائفية والقبلية مع كل دورة انتخابية . وستتعمق هذه السيرورة – بوجود النظام الانتخابي الحالي والمبني على روحية المحاصصة , وسيقود تاكتيك الاحزاب – في بحثها الدائب عن الاصوات الانتخابية – الى تعميق العلاقة بهذه الرموز والتنويه بأهميتها التاريخية والستراتيجية ( ومجالس الاسناد جنوب العراق لا تخرج عن اطار هذا التاكتيك ) لما للانتماء الطائفي والعشائري من تأثير قوي على توجهات الناخب العراقي في هذهِ المرحلة ...
الجزء الربع
-1-
الطريقة التي اعتمدتها في سبر أغوار اتجاهات الرأي العام العراقي , لم تتطلب مني اعداد أسئلة – على طريقة غالوب – بل حسن استماع لحوارات الاناس اليومية : في المقاهي , في المناسبات الاجتماعية , في الـ ( ديوانيات) حيث يجتمع بعض الاصدقاء أو بعض من رجال المحلة ليلاُ , في الزيارات العائلية ..الخ ,
تعطي هذه الطريقة ثمارها اذا ما اقترنت بالاحترام العالي لأوضاع الناس و لخياراتهم السياسية , و تكون فاعلة اذا اقترنت بعدم التطفل على وعيهم , وعلى عفويتيهم , و على الطريقة التي اعتادوا التفكير بها , فهي في الاخير مشاكلهم التي لا يستطيع أحد التفكير نيابة عنهم في حلها .
المسائل التي أحببتُ أن أستشف موقف الجمهور منها و معرفة رأيهِ فيها هي :
1- الموقف من حرب 2003 و تداعياتها
2- الموقف من وجود قوات الاحتلال
3- الموقف من بناء دولة حديثة ذات بنى و آليات لم يعهدها تاريخ المنطقة من قبل .
هذه المسائل مترابطة و ذات أهمية قصوى في حياة الشعوب .
انها محطات تاريخية اذ على نتائجها و على طريقة الاستجابة لها , يتوقف مستقبل الشعوب , فمثلا , شكلت هزيمة الدويلات الألمانية , امام جيوش نابليون حافزاً عظيماً للألمان للبحث عن الوسائل التي تمكنهم من الأنتفاض على حالة الضعف و التخلف و التجزئة . و في نصف قرن لا أكثر , حقق الألمان تفوقهم الاقتصادي و التكنلوجي و بالتلي العسكري الذي قاد الى توحيدهم عام 1871 . في حين شكل نابليون بالنسبة للعالم العربي : صدمة , هزت فقهاء الدين الأزهريين , كما يقول الجبرتي مؤرخ المرحلة , و هم يشاهدون التجارب العلمية لفريق العلماء الذي كان يرافق حملة نابليون على مصر , و لم تنفذ الى أعماق المجتمع المصري .
و منذ ذلك الوقت , لم تنفصل نهضة العرب عن طموح شخص الى العظمة : ارتبط تحديث محمد علي باشا بطموحه في أن يكون وارث الأمبراطورية العثمانية , لا مصر وحدها . و لم يضع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر , مسافة بين الهدف العظيم الذي تبناه : هدف الوحدة العربية , و بين نزوعه الشخصي الى التسلط , فأمر السوريين بحل تنظيماتهم الحزبية و عين مصريا – هو شريكه في حكم مصر – رئيساً على سوريا .
و في هذين المثالين تتكشف لنا الفوارق في الأهداف من النهضة و التحديث التي ستنعكس آثارها على مسار و صيرورة التحديث نفسه , حيث تقود الى نتائج باهرة اذا كان الهدف منها نهضة أمة "المانيا + اليابان " و تقود الى كوارث و نكسات اذا كان الهدف منها نهضة الاعلاء من شأن شخص كما هو الحال مع العالم العربي " محمد علي باشا , صدام حسين " .
-2-
عادة ما يجعل العرب من سقوط بغداد 1258 , على يد المغول , نقطة البداية للتاريخ عصور ظلامهم , لكي يزكو تاريخهم السابق على عام السقوط من نواحي الضعف , و يبرؤا ثقافتهم من شوائب الصراع , فيتسنى لهم ألقاء مشاكلهم على الخارج المتآمر دائما على دولتهم و ثقافتهم و تاريخهم . في حين ان التردي الحقيقي سابق بمئات السنين على حادث سقوط بغداد فالسقوط عادةً ما يجيء تتويجاً لمرحلة طويلة من تراكم و اختمار عناصر السلب في التاريخ . الشيء نفسه حدث مع سقوط بغداد 2003 فالعالم العربي و الأسلامي إرتج من أقصاه الى أقصاه , و هو يرفع الشعارات المدوية , و يلقي الخطابات النارية عن التآمر الصهيوني الأمبريالي على الاسلام و العروبة , لكأن لحظة سقوط نظام صدام حسين بدأت عام 2003 , و ليس قبلها بسنوات , ربما من السنة نفسها التي أصبح فيها رئيساً , و التي باشر فيها ارتكاب كوارثه السياسية و اخطائه الاستراتيجية .
-3-
في هذا القسم من المقالة , دمجتُ الأفكار الأساسية لدى الغالبية من السكان , عازلا عنها رأي الأقلية التي تحتفظ بتفسير خاص لوقائع ما جرى , تنطلق فيه من فلسلفة سياسية تختلف عن الطريقة التي تفلسف بها الأغلبية وقائع ما جرى .. الأغلبية هي القوة السياسية الكبرى في الأنظمة ذات الانتخابات الدورية , فعلى أصواتهم تتوقف حظوظ الاحزاب في الحكم , و بالتالي سياساتها و برامجها في التطبيق . و لذا كان طبيعيا أن أربط الرأي العام بهم لا بسواهم , اذ هم من منح الفرصة في ثلاثة انتخابات للأحزاب الدينية ( شيعية - سنية ) للصعود السياسي . و بما ان الجمهور العريض من العراقيين صوت على اساس طائفي , فأن هذا الجمهور أدرك أم لم يدرك نتيجة تصويته – صنع حقيقة سياسية تتمثل في تصويته على تقسيم البلاد . جرى ذلك قبل أن يتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قراره غير الألزامي – بتقسيم العراق .
ذلك هو المأزق الخانق للوعي السياسي الذي يصر على استيراد مقولاته السياسية من الماضي فيعمي بصيرته عن ادراك نتائج خياراته السياسية . ذلك لأن الخارج : الأقليمي و الدولي , سيبني تصوراته و طريقة تعامله مع الداخل , وكذلك خياراته السياسية على الوجود الطائفي في العراق كحقيقة سياسية فرضت وجودها على نتائج الانتخابات , و لا أفضل من نتائج الانتخابات دلالة على اتجاهات الرأي العام العربي في العراق . و لا أتصور أن مجلس الشيوخ الامريكي يجرأ على أقتراح تقسيم التقسيم , لو جاء تصويت العرب في العراق مبينياً على أسس و منطلقات غير طائفية . و مع ذلك يستمر الحديث عن تآمر الخارج الذي يريد تقسيم العراق , وحين تحاول الايحاء الى مُحاوِركَ بتناقض موقفه بين الأصرار على وحدة العراق , وبين سلوكه السياسي المناقض لهذه الفكرة , اذ لا يمكن الفصل بين فكرة الوحدة الوطنية و بين الأداة السياسية التي تعكسها في فكرها و في وجودها التنظيمي – لا يقر بذلك .
-4-
يمثل الجمهور العربي في العراق , في هذه المرحلة , نموذجا للتناقض في وعيه السياسي , بين رغبته في العيش في وطن اسمه العراق بالحدود نفسها التي يعرفها عنه , وبين سلوكه السياسي في منح أصواته لأدوات سياسية ( الأحزاب الطائفية ) لا تستطيع تحقيق وحدة العراق .
من هنا تصبح الصعوبة واضحة في الحديث عن الهوية : هويتنا الوطنية أو هوية الوطن نفسه , اذا لم تتضمن في التعريف , وعي و أرادة سياسيتين واضحتين في توجههما الاستراتيجي لبناء أسس دولة حديثة في العراق .
هل هوية الناخب السنّي الذي صوت لصالح هذا الحزب الديني السنّي أو ذاك هوية عراقية ؟ أشك في ذلك كثيرا , مثلما أشك في أن الناخب الشيعي , الذي صوت لأحد الأحزاب الشيعية قد قدم مثالا واضحاً على الهوية مطابقاً للعِرقْ أو اللغة أو للجغرافيا أو الدين . لقد صوت الأثنان لهوية طائفية مطابقة لأمتداد جغرافي معروف , تأكدت جغرافيته في عمليات العنف الطائفي المتبادل , و في الترحيل الطائفي المتبادل . لقد غلّبَ الاثنان – في وعيهما و في خياراتهما السياسية – انتمائهما الطائفي , على العوامل المشتركة للغة و الدين و العْرق و الجغرافيا , التي تربطهما ببعضهما البعض .
الشيء نفسه ينطبق على الخيار الاستراتيجي الاخر : خيار المقاومة المسلحة التي ليس من العسير ادراك – من خلال شعاراتها : نحن نمثل أرادة الله على الأرض , و نحن من يمثل العراق ...الخ – سعيهم لمحاكاة دولة الاسلام في التاريخ ذات الشكل الامبراطوري الذي تسود فيه قومية واحدة – في الواقع عائلة واحدة – ترفع لواء طائفة دينية واحدة . و في ذلك لا يستطيع هذا الخيار المسلح أن يمنحني معنىً مقنعاً للهوية , و هو يطرح – في الممارسة – اشكالية أقلية ( أذ لم تستطع الحصول على شرعية اجماع وطني عليها ) تسعى من خلال العنف لأرهاب الأكثرية , وفرض أرادها و توجهاتها السياسية عليها , بعد أن اختارات الاكثرية ستراتيجاً آخر . و أذا ما قُيِّضَ لواحد من الخيارين : الطائفي أو المسلح , الانفراد بالسلطة في العراق , فأنه سيسهم في اعادة انتاج تلك الحقيقة المستمرة الوجود في تاريخ المشرق العربي و الشرق الأوسط : حقيقة صناعة الأزمات مع الخارج , " افغانستان طالبان , عراق صدام حسين , ايران , السودان ... الخ " و اللا استقرار في الداخل " لبنان , العراق , باكستان , افغانستان , اليمن , ... الخ " و كل ذلك يعكس تذرر الهوية الوطنية , و انفجارها , و توزعها الى مجموعة هويات , بسبب من فشل التنظيمات السياسية في جعل مفهوم المواطنة جزءاً من الثقافة السياسية العامة فأدى هذا الفشل التاريخي الى فشل الوعي العام في استيعاب و تفهم الدلالة التاريخية لبناء دولة حديثة .
-5-
و مثلما استقلت الهويات الطائفية – القبلية العربية في خيارها الانتخابي على مطابقة الذات مع امتداد جغرافي محدد – و هي تمنح اصوتها لأحزاب دينية لا تملك تنظيماً عابراً لجدران الطوائف - , إستقل الناخب الكردي – في خياره الانتخابي – على مطابقة الذات مع امتداد جغرافي محدد هو كردستان العراق , حين صوّت لصالح أحزابه الكردستانية .
يرفض الناخب العربي في العراق من كِلا الطائفتين هذا التوجه لدى الناخب الكردي , و يطالبه , بما لم يمارسه عمليا : يطالبهُ بالتصويت لصالح وحدة العراق , اذ ( أن شعارات الاحزاب التي صوّت لها الناخب الكردي معروفة في توجيهاتها الانفصالية .) ان عرب العراق يُغلّبون وعياً قومانيا ( اي يطابقون في وعيهم السياسي بين العراق بحدوده المعروفة و بين السيادة في هذا الوجود لقوميتهم ) في تصورهم للعلاقة مع القوميت الاخرى التي يضمها العراق . و لكنهم يغلبون وعياً طائفياً – اي تقسيمياً للمكان – في علاقتهم بالطائفة الدينية الاخرى .
و كلما استمر عرب العراق في التهرب من مواجهة حقيقة هويتهم , بالتهرب من استيعاب دلالة بناء دولة ذات مرجعيات حديثة , كلما اسهموا في تأبيد مشاكلهم الداخلية , و في الاستمرار في صناعة الأزمات الداخلة لأنفسهم و للكرد الذين يشاطرونهم سكن الوطن الواحد . أذ سيحتم عليهم هذا التهرب من مواجهة حقيقة هويتهم الى الدوران و من ثم اعادة الحل – الذي جربته قبلهم العهود السابقة – أي الحل العسكري .
-6-
لقد وعى أخيراً الناخب التركي هذه الحقيقة , وبدأ يكتشف معنى آخر لهويته يقع خارج أطار المعنى الذي حدده كمال أتاتورك للهوية و الذي يطابق في الوجود بين القومية التركية و بين حدود دولة تركيا , نافياً أي وجود للآخر القومي ( الكردي , العربي , ..الخ ) و حتى الطائفي ( الطائفة العلوية ) .
لا ضير في أن يشكل الآخر : ( أوربا بالنسبة لوعي الناخب التركي ) تفكيكاً للمعنى القديم للهوية , اذا كان هذا التعديل يصب لمصلحة تطوير الذات و تنمية وعيها السياسي . لقد شكل الطموح للأنتماء الى عضوية الوحدة الأوربية جزءً من الوعي السياسي العام التركي , دَفع بالناخب التركي الى أعادة انتخاب حزب العدالة و التنمية الذي يرفع صوته عالياً , و يجاهر بقبول – شروط كوبنهاكن – و تطبيقها للفوز بعضوية الوحدة الأوربية . تلك الشروط التي ستؤدي في التطبيق الى تحول كبير في بنية الدولة التركية , ربما سيدفعها بعيداً عن الثوابت الأتاتوركية و عبور الخطوط الحمر , و الاعلان عن ولادة دولة ديمقراطية .
تقدم لنا هذه التجربة الخاصة : تجربة تركيا كمال أتاتورك , شهادة تاريخية على أن العلمانية و دورية الانتخابات وحدهما لا يكفيان لبناء دولة حديثة , اذا لم يقترن ذلك البناء بالديمقراطية . اذن , لا يمكن لأية قومية شرق أوسطية أن تأخذ حصتها من الحياة : أي تعيش بسلام و تكرس جهودها للتنمية و التحديث , اذا لم يأخذ وعيها لهويتها بعداً عصرياً ذا شقين : ديمقراطي و علماني , يتمثلان على الأرض ببناء مؤسسات دولة حديثة , لا تكفل الوجود الثقافي للآخر المتشارك معهما في سكن الوطن الواحد , فحسب بل و تمنحه حق تقرير المصير .
-7-
يعتمد هذا من (الرحلة الى العراق) على حوارات الناس اليومية مصدراً لهُ , سنقرأ موقف الجمهور العراقي من مسائل الحرب و الأحتلال , و بناء الدولة , متداخلاً مع العوامل التي مارست تأثيراً مباشراً على اتجاهات الرأي العام كالفقيه و الأحزاب الدينية و مؤسسات الدولة .
اولاً :
موقف الوسط الشيعي
لا أتحدث هنا عن كتلة صماء واحدة . كان الكثير من شباب الطائفة الشيعية في العراق , مثلما هم شباب الطائفة السنية , أعضاءاً في /ووسطاً لأحزاب غير دينية معروفة , كما خرج من صفوفهما كتاب و مفكرون و أدباء و فنانون صنعوا لوحة زاهية للثقافة العربية في العراق , زحزحت بدرجات متفاوتة , مقولات و ثوابت الثقافة الموروثة على مستوى الفن التشكيلي و الموسيقى و الغناء و المسرح و الشعر و الصحافة , و في تعريق ( من عراق ) فن السرد ( لأنني لست ميّالاً للأخذ بالرأي الذي يقول بأن هذا النوع من الفن يشكل أمتداداً للمقامات , في تطور ذاتي مستقل عن تأثير الثقافة الغربية ) ... أنني اتحدث عن لحظة خاصة , لحظة راهنة , ساد فيها وعي سياسي محدد , إنحاز الى جانب الأحزاب الدينية الطائفية , و منحها فرصة الفوز في ثلاثة انتخابات .
يتميز الوعي السياسي لعام للوسط الشيعي – في هذه اللحظة الخاصة – باكتظاظه بمفهوم : مظلومية الطائفة الشيعية . لعب هذا المفهوم دوراً حاسماً في إعادة تأويل الموروث السيا – ثقافي , الديني , لصالح موقف محدد من الحرب و الأحتلال و بناء الدولة .
لم يكن مفهوم المظلومية جديداً . انه مفهوم قديم قدم المذهب الشيعي , و هو ركن اساسي من اركان التبشير بالمذهب الذي مارسه الدعاة في القرون الخوالي ضد الدولتين الاموية و العباسية . الاّ أنه توسع في دلالته التاريخية , متطوراً من دلالة على دائرة ضيقة من الظلومين , هي دئرة البيت العلوي , الني اغتصب الاخرون حقها الشرعي في الخلافة – كما يرى المذهب – الى دلالة تشير الى دائرة واسعة تضم كل اعضاء الطائفة الشيعية . و ليس من غير قصد ان يطلق عالم الدين اللبناني , موسى الصدر , اسم المحرومين على حركته السياسية الشيعية .
دخل مفهوم (المظلومية) دائرة النشاط السياسي في العراق مع ولادة احزاب الطائفة الشيعية ( اقدمها حزب الدعوة الاسلامي 1959) كمدخل لأنتزاع حقوقهم المحرومين منها : حقهم السياسي , كونهم يشكلون الأغلبية العددية من سكان العراق , و حقهم الديني في ممارسة طقوسهم في عاشوراء .
كيف يمكن للشيعة انتزاع هذه الحقوق , وقد ابعدتهم سلطة بوليسية ذات قبضة حديدية عن أي مركز من مراكز القوى في الدولة ؟ من هنا تنشأ الحاجة الى التأويل لتبرير موقف محدد من الحرب و الأحتلال و بناء الدولة , لعب فيه مفهوم المظلومية دوراً حاسماً , في تحويله الى تأويل مقبول , من الغالبية العظمى من اعضاء الطائفة الشيعية في العراق .
يحتكر فقيه الطائفة ( الذي تمنحه الطوائف الاسلامية جميعاً شرعية القيمومة على الموروث ) عملية التأويل , أو التخريج الفقهي المقبول لموقف ما . و حتى بعد يروز ظاهرة الأحزاب الدينية الشيعية , فأن هذه الأحزاب لا تستطيع اتخاذ موقف سياسي مناقض لموقف الفقيه , و تنسيق هذهِ الاحزاب العلني مع ادارة بوش " طبعا مع احزاب اخرى " لم يمر من غير موافقة الفقيه .
تراجعت – في تأويل الفقيه الشيعي – في الموقف من المسائل أعلاه – سلطة النص المقدس " قرآناً و أحاديث نبوية " الواضح في تحريمه للتعاون مع غير المسلم وجعله ولي الأمر في مسائل الحرب , أو التسليم بأحتلاله لارض الاسلام تحت اي ذريعة , كما تراجعت سلطة الذاكرة الوطنية " تورة العشرين التي قادها الفقيه الشيعي , و الانتفاضات و الوثبات و الثورات " التي رفضت أي شكل من أشكال الوجود البرطاني في العراق . و مع ذلك استطاع تأويل الفقيه أن يصنع موقفا محددا تقيدت به غالبية اعضاء الطائفة الشيعية . و في هذا يكون فقيه الطائفة الشيعية قد أدى الدور المطلوب منه : و الذي يراه ملائما لوضع طائفته , بنجاح . لأن مفهوم المظلومية الذي يعبر عن حالة استلاب و تهميش سياسي و اجتماعي و اقتصادي عاشتها الطائفة لقرون , قد فرض وجوده على وعي الفقيه , و هو يحاول التخريج للموقف الملائم لطائفته , كما فرضت امتدادات الطائفة الخارجية وجودها هي الاخرى – عبر فقهائها – في التأثير على الموقف " الفتوى أو التخريج الفقهي في الموقف من الحرب و الاحتلال و بناء الدولة " الذي سيتخذه فقيه الطائفة الموجود في العراق .
من يعرف العلاقة الخاصة التي تربط عضو الطائفة الشعية بالفقيه , المبنية على اساس مفهوم : التقليد , المنطلق من نظرية الأمامة لدى الشيعة , يدرك الكيفية التي يستجيب من خلالها العضو لتأويل الفقيه , و الذي يحتل "أي الفقيه " في وعي عضو الطائفة منزلة عالية من القداسة , كونه وكيل الأمام الغائب .
و لذا ستنحو استجابة عضو الطائفة لتأويل الفقيه منحى إضفاء القداسة على هذا التأويل لتصبح الحرب : حرب تحرير للشيعة من ظلم تاريخي طويل , أجرتهُ " قدرة ربانية " ألهمت الأدارة الأمريكية اتخاذ قرار الحرب على صدام حسين , لأن "عين الله ساهرة " .
و ]سهر عين الله [ – في وعي عضو الطائفة – سهر خاص لا عام , عين الله في هذا السهر معنية - بمراقبة وضع الطائفة الشيعية , طائفة الأمام علي و الأئمة أولاده , الذين ] أوجد الله الكون من أجلهم [ . و أذا ما طالت معاناتهم في التاريخ فأن ] الله يمهل و لا يهمل [ لأن تقدير ساعة خلاص الشيعة , محفوظ منذ الأزل , في اللوح المحفوظ . و أن كل شيء مما وضع في هذا الكون ]وضع بناموس [ و ] يجري لغاية [ و ما يجري الان من ] احداث و فيضانات و تغيرات مناخية و حروب و خاصة حدث اسقاط طالبان في افغانستان , و إسقاط نظام صدام حسين في العراق [ هي ]علامات و أشارات , ذكرها النبي و الأئمة من بعده [ تشير الى ] اقتراب ساعة خروج المهدي المنتظر [ الذي ] من الضروري استباق خروجه بجيش بجيش يكون طليعة جيوش الأمام في القضاء على دول الجور و الظلم , و بناء دولة العدل في التاريخ [ .
يُشكل هذا التأويل قناعة راسخة لدى نسبة عالية من الشباب , الذين عاشوا حرمانات مركبة في سنوات الحروب , و سنوات الحصار العجاف و تزداد لدى لنساء , و لكنها النسبة تقل – و هذا ما يسترعي الأنتباه – لدى كبار السن .
اذن , لم يمر هذا التأويل في الموقف من الحرب , من غير تأطيره في منهج وزاوية نظر , يتم من خلالهما تفسير ظواهر الاجتماع البشري و احداث التاريخ , على انها معجزة أو أعجاز . ان حرب عام 2003 , أو حرب تحرير شيعة العراق , تمت وفق منطق المعجزة . و المعجزة تتم خارج اشتراطات قوانين الطبيعة وسنن الاجتماع البشري . و يتأكد منطق المعجزة هذا في أداء طقس أربعينية الأمام الحسين , حيث يزحف الآلآف من كل مدن الشيعة صوب كربلاء مشياً على الأقدام . من هذه المسيرات المليونية التي تجري كل عام , يعود الكثيرون بقصص تبرهن على حصول المعجزات , قصص موثقة بافلام الكاميرات و الهواتف النقالة . و أكثر القصص رواية في عاشوراء , قصص المعجزات , و اكثرالصور و الأفلام التسجيلية تبادلاً – عبر الهواتف النقالة – هي صور و افلام : رجال و نساء مصابون بمختلف الأمراض و العاهات , ينهَضْنّ و ينهضون فجأة من كراسيهم المتحركة وسط هلالهل و زغاريد النساء و تكبير الرجال , و هم يتدافعون للحصول على بركاتهم , و بالحصول على قطعة من قماش ملابسهم . لقد نال هؤلاء المرضى " مرادهم " , و لهذا ترى عشرات الكراسي المتحركة لمرضى و مقعدين تسلك الطريق نفسه مع المشاة , و قلوبهم – و قلوب مساعديهم – عامرة بالأيمان بأن مساعدة الامام الحسين لهم – في الخلاص من منحة المرض العضال الذي ألَّم بهم , آتية لا محالة .
يتطلب هذا الطقس السنوي أماكن للأستراحة " و هكذا تنتشر حركة بناء الحسينيات من قبل الأهالي , على طول الطرق التي يسلكها المشاة " تعد فيها وجبات طعام ساخنة , و مَن يرافق المشاة , سيرى كيف أن المئات من الأبقار و الأغنام تذبح يومياً , مثلما يتم استهلاك العشرات من اكياس الطحين و الرز و السكر و الشاي و عشرات القناني من السمن و المعجون " لب الطماطم " , اضافة الى الفواكه و الخضراوات .
مشهد الالوف المؤلفة , التي تسير و هي تغرس أقدامها بثبات في أرض رملية حارقة , أو تدوس على طرق معبدة ساخنة , تحت لهيب من شمس لا ترحم , بلا مشاكل , و لا محاكم , بلا حرس من الدولة , تظلهم غمامة من الدعة و الطمأنينة و الأمان , لا يمر بخلدهم خوف من تفجير , عاقدين النية و متوحدين على هدف واحد " هدف زيارة الأمام الحسين في أربعينيته , - في كربلاء – هذا المشهد قدم لي درساً على عظمة الدين في جعل الاخوة الانسانية حقيقة يومية معاشة .. لقد نظمت الجموع الغفيرة نفسها بنفسها من دون تدخل خارجي . و تطوع –من غير تعيين – الكثير من شبابها لأداء خدمات كثيرة تشتمل على ما يرفضه أي منهم وظيفة له في الحياة : ذلكم هو غسل بعض أقدام المشاة و هو واحد من أنبل و أصدق المشاهد التي رأيتها...
يستشعر عضو الطائفة الشيعية حريته في أداء الشعائر الحسينية , و الحرية هنا تعني ممارسة الدين , الذي لا يرى عضو الطائفة تكامل فروضه من غير اداء هذه الشعائر . ان عضو الطائفة الشيعية يتهيأ لشهر عاشوراء – و مثل ذلك يفعل في شهر رمضان – كما لو أنه يتهيأ للأغتسال من كل ما أقترفه من ذنوب على مدار السنة . و هو يعتقد عن قناعة راسخة , بشفاعة الأمام الحسين و آل البيت جميعاً , ولذا فأن المحبة الصادقة العميقة ( محبة آل البيت ) ركن أساسي آخر من أركان المذهب الشعي , فعلى مقدار صدقها و عمقها ( يتوقف حدوث المعجزة أو الكرامة لعضو الطائفة في الدنيا , و الشفاعة له في الاخرة ) و اذن , فأن قضايا الشعائر الحسينية , ليست قضايا شكلية يحق للحاكم أن يصدر أوامره بأيقاف ممارستها – كما فعل صدام حسين – الذي جعل معادلة الطائفة – الوطن , بهذا الأجراء , غائمة و مشوشة في وعي المواطن الشيعي , مما حدا بالمواطن الى تغليب وعيه الطائفي على وعيه الوطني , و التجاوب السريع مع فتوى الفقيه في التزام جانب الحياد في الحرب . لقد اكتشفت من خلال معايشتي للمسيرة الراجلة الى كربلاء : أن الأمر بمنع طقوس عاشوراء , يعادل الأمر بتعذييب الملايين سنوياً , و الاعتداء المقصود على وجدانهم و مشاعرهم كل عاشوراء , اذ لا يفصل الوجدان الجمعي الشيعي هذه الشعائر عن فرائض الدين , حتى لو جاءت في كتب فقهائه تحت باب المستحب لا الفرض .
كل ذلك يستحضره فقيه الطائفة لحظة التفكير باتخاذ موقف من الحرب . هل ستجيء نتيجة الحرب لصالح تحرير الطائفة من ظلم القرون الذي طال , و تمنحهم فرصة التحرر من التعذيب السنوي لهم , و الاعتداء الدائم على وجدانهم و مشاعرهم و كرامتهم " مظلومية الطائفة " ؟
من كل ذلك نفهم ان الفقيه ليس حراً الحرية كلها في قراره , أي الأنفراد بالنص و أهمال الواقع .
ان حاضر الطائفة يشكل ضغطا لا يستهان به عليه ...
و لقد اتخذ فقيه الطائفة الشيعية موقفه من الحرب و الأحتلال و بناء الدولة . و في ضوء هذا الموقف أمسك شيعة العراق بفرصة نادرة مارسوا فيها حريتهم بلا قيود .
الا – أن هذه المساحة الواسعة من الحرية لم تجيء من دون شروط . تسللت هذه الشروط على شكل منهج محدد في التفكير لون الثقافة العامة للغالبية من اعضاء الطائفة الشيعية , رابطاً حدث الحرب بالمعجزة الربانية , ورافضاً أي سبب أرضي لها . كما وعمق هذا المنهج الشعور بمفهوم الفرقة الناجية , الفرقة التي ( تراقبها عين الله الساهرة على حمايتها ) , دافعاً بالغالبية الى الاعتقاد العميق باستقلالها بميزات ذات معاني ما ورائية عن الطائفة السنية , فأنعكس ذلك عن المستوى السياسي بتأكيد عوامل الأنفصال لا الأتصال بين الطائفتين , و برفض الانطلاق في العمل السياسي من مشتركات اللغة و العِرق و السكن المشترك . في مثل هذه الاجواء الثقافية , تجد الأحزاب الدينية فرصتها في الفوز , و لقد استغلت هذه الأحزاب – هي الاخرى – مساحة الحرية المعطاة , بتعميق مفهوم الجبر , و التنكر لقدرة الانسان على الفعل و التغيير , و الهجوم على المفاهييم الحديثة كالديمقراطية و العلمانية حقوق الانسان و المساواة بين الجنسين , لا على انها مفاهيم مستوردة من حضارة أخرى فقط , بل و بالتأكيد على انها المفاهيم الأساسية في المنظومة الفكرية للألحاد . يحدث ذلك اثناء تثقيف الأحزاب لقواعدها في اجتماعاتهم الحزبية , أو اثناء الأحاديث العامة لكوادر هذه الأحزاب في المقاهي أو المناسبات الاجتماعية .
و في هذا تتضح أمام عيوننا صورة المفارقة الصارخة بين الهدف المعلن : هدف بناء دولة ديمقراطية , وبين أداوات بناء لا تطابق الهدف .
ثانياً:-
موقف الوسط السني :
لعب صدام حسين – بعد انتفاضة ربيع عام 1991م – بوضوح على المسألة الطائفية كآخر خطوطه الدفاعية , و كآخر درع واق من دروعه الأجتماعية التي يحتمي بها . و قد نجح في تكتيكه السياسي هذا الى حد كبير . و لقد عرف صدام حسين – بعد خبرة طويلة و مراس في الحكم الاستبدادي – كيف يعزف على الوتر الطائفي , و كيف – و الوقت وقت الحصار – يوحي للطائفة السنية بأن خيّرات العراق كلها لهم , ما أن ينتهي الحصار . فحرك بهذه الدعاية التي كانت تبثها مخابراته و اجهزته الأمنية , الحمية الطائفية لدى ألوية الحرس الجمهوري , التي لم يزج بها في الكويت , وظلت محافظة على هيكليتها التنظيمية و منظوماتها التسليحية و معها حرك ما تبقى من طائرات الهليكوبتر صوب مدن الشيعة و الاكراد , و أمطرها بوابل من القنابل من السماء ومن الارض .
اصبح الاحتلال واضحا لا مرية فيه : احتلال مدن الشيعة و الكرد من قبل ألأوية الحرس الجمهوري التي يتكون فادتها و ضباطها من مختلف العشائر السنية .
بهذا الصنيع الوحشي الخالي من أية ذرة من الأحساس بالمسؤولية الوطنية و التاريخية تجاه الملايين من الشيعة و الكرد , أعاد صدام حسين سيادته , وليست سيادة الدولة , التي لم تعد في وعي هؤلاء المواطنين : الشيعة و الاكراد دولتهم , في الوقت الذي نجح فيه من الأيحاء لعضو الطائفة السنية في العراق و في غيرها من البلاد العربية , بأن سلطته تعبير عن سيادة الخط العروبي السني ضد الخط الاخر : الشيعي ( الذي يتملكه هوىً فارسي ) و الكردي ( ذا النزوع الانفصالي ) . فمهد بهذا النوع من التكتيك الى تعطيل وعي المواطن السني عن امتلاك ناصية وعي وطني صحيح .
مستعيناً في ذلك بأيدلوجية حزبه , تلك الايدلوجية ترى بأن دماء السنة العرب وحدها التي تحمل صفاء العرق العربي كما وأستعان بتأويل محدد للموروث الديني عن طريق اصدار الاوامر الى مخابراته بتعيين شيوخ السلفية ائمة للجوامع وان تتولى المخابرات كتابة نصوص خطبة الجمعة على ان تتضمن تأويلاً محدداً للشروط الواجب توافرها في الحاكم والتي تقصي عن الحكم اي عضو لا ينتمي للطائفة السنية .
لقد مهد صدام حسين بهذه الاجرائات للفقيه السني السلفي من احتلال عقول الغالبية من المواطنين السنة , وبالتالي الاستيلاء على اجسادهم وتوجيهها... مع ذالك لا يستطيع عضو الطائفة السنية اقناع زائر مدينتهُ او قريتهُ بأن الدولة الغاربة كانت دولتهُ
. كان صدام هو الدولة , وكانت الدولة دولتهُ . ولم يكن رئيس (دولة الايمان والتقوى) كما اعلنها في التسعينيات , يسمح لأيٍ كان – حتى ولو كان القائل احداً من اولاده – بالقول : بأن الدولة دولتهُ .
لقد كانت الدولة دولة صدام , الذي لم تكن لهُ طائفة دينية محددة يمارس طقوس العبادة من خلال تعاليمها , فعبادتهُ كانت واحدة , تتمثل بعبادة كرسي الحكم , ولا شيء اخر . وأذا ما اضطرتهُ الظروف الى ان يغازل الطائفة السنية , فليسَ مرد ذالك الى ايمان ديني بل نزولاُ عند ضرورة سياسية في البحث عن مرتكزات اجتماعية للسلطة . لقد وزعت دولة صدام حسين الفقر والتخلف بالتساوي على محافظات العراق تقريباً , فصور مدن الفلوجة و سامراء و عانة – اذا ما تجاوزنا الاختلاف في طوبغرافية الارض – لا تختلف عن صورة مدن الجنوب في بؤسها وفي طينية منازل ريفها , وفي خلوها من اي عنصر من عناصر التحديث , فالمنع الذي فرضهُ صدام حسين على الفضائيات واستعمال الكومبيوتر والفاكس كان شاملاً .
حفرَ الوعي الطائفي لهُ وجوداً في العقول والضمائر على مدى زمني طويل حين اشتعلت الحرب , فسقط نظام صدام حسين , وحين يكون الوعي الطائفي غالباً ومسيطراً , يكون حظور الفقيه في المشورة والقيادة عالياً .
ومثلما لعب فقيه الشيعة دورهُ المطلوب منه بنجاح , لعب الفقيه السني دوره المطلوب بفعالية لا تقل نجاحاً عن نجاح الفقيه الشيعي.
يواظب عضو الطائفة السنية التأكيد على ] أمتلاكه للفهم الصحيح للدين [ و ان ] لا تناقض في هذا الفهم بين موقف طائفته و بين دلالة النص المقدس في الموقف من الحرب و الأحتلال . [ , و فقيهه يردد – مسنودا من الكثير من الفضائيات العربية – من ] انه الممثل الوحيد لأرادة الله على الأرض . [ أنه الاخر ] محروس بعناية من السماء [ و ] أن عين الله تنظر لموقفه بعين الرضا , و تمده بالاسباب التي تبعده عن تأثير الشيطان و أغراءات المال و السلطة التي تنأى به من الأمساك بناصية الفهم الصحيح للموروث [ و لأنه المالك الأوحد للفهم الصحيح للدين (1) فقد دعا الى تكفير كل المتعاونين مع الاحتلال ] كرد – شيعة – سنة [ .
كان رد فعل الفقيه السني سريعاً و عنيفاً في محاولة منه لأيقاف العنف السيرع لقوات الاحتلال وهي تطيح بآلة الدولة , او لأيقاف الصعود الصاروخي لأحزاب الكرد و الشيعة , و هي تعيد ناء الدولة , و تملأ – من خلال هذا البناء – مؤسسات الدولة الجديدة بكوادرها الحزبية .
من ناحية التاريخ السياسي للمواقف , تدخل فتوى الفقيه السني , التي قررت رفع السلاح بوجه المحتل , في باب الرفض و الأحتجاج : رفض ما جرى من تحطيم لدولة تصورها دولة طائفته , و احتجاج على احتلال مناصبها السيادية من قبل طوائف و قوميات اخرى , الشيء الذي لا يقره موروثه الطائفي . لقد تحكمت بموقفه من الحرب و الأحتلال عوامل التغيير في السلطة السياسية , لا سلطة النص المقدس . فعين الفقيه على الدولة , و سؤال : من يقودها هو ما يلوب في وعيه . و كان تعاونه مع الجهاديين الوافديين من الخارج مبنياً على أساس من تعديل موازيين القوى التي مالت لصالح الطائفة الاخرى . و هو مستعد للتعاون مع المحتل – كما فعل مع المحتل الانكليزي في الحرب العالمية الاولى – شرط أن يفك المحتل تحالفه مع الطائفة الاخرى , و يمنح قيادة الدولة له وحدهُ ( و هذا ما صرح به علناً كل قادة الفصائل المسلحة , شرط – كما قال الناطق الرسمي بكل فصيل – أن يعترف الامريكان بفصيلهِ الممثل الوحيد للعراق دون سائر الفصائل المسلحة الاخرى , مستلهمين تصريح القاعدة الموجه لأوربا و الداعي الى الدخول بمفاوضات معها شرط أن ينظر الأوربيون الى القاعدة على انها الممثل الوحيد للعالم الاسلامي ) .
هذا الطموح الاستراتيجي التوّاق الى انتزاع الاعتراف من المحتل بوجود فصيل مسلح ما , يمثل ارادة الامة جمعاء , يتطلب منهُ بداية ان يصنع حقيقته على الارض كقوة , تلتف من حولها الملايين بمختلف انتمائاتها العرقية و الطائفية , معبرة عن ذلك الألتفاف , بفعاليات سياسية مكملة للعمليات العسكرية , كالمظاهرات التي تطوف مدن الكرد و الشيعة و العصيانات المدنية , و ذلك ما لم يحدث , لان هذه الفصائل لم تحسب حساباً لمسألة الاجماع الوطني . كان مقتل المقاومة المسلحة في العراق ناتجا عن ضيق أفقها السياسي , المنطلق من مقولات طائفية و عرقية , و كانت النتيجة ان حصرت نفسها في رقعة ضيقة من الارض , و فشلت في أن تتحول الى مشروع وطني , فأضطرت – نتيجة فشلها في جر غالبية الامة من خلفها – الى ممارسة الارهاب الذي فشل هو الاخر في زحزحة وأبعاد قادة الكرد و الشيعة عن خياراتها السياسية .
و هذا هو الدرس الكبير الذي يمكن استخراجه من المقاومة المسلحة في العراق : تحوّل مُمارساتها – في أعين مواطنيها – الى أعمال تخريب و أرهاب , موجهة ضدهم أكثر مما هي موجة ضد المحتل .
هذه القناعة التي يواجهك بها بسطاء الناس في مدن الشيعة و الكرد و كذلك لدى قطاع عريض لدى مدن السنة بدأ يتسع , تستدعي منا التساؤل عما اذا كانت المقاومة المسلحة , قد باشرت انطلاقتها بعد ان اشبعت الاشكالية الطائفية في العراق درساً وتمحيصاً , ذالك لأننا نرى لأن مقولاتها السياسية – ضيقة الافق – هي التي تكمن وراءً عدم تحولها الى مشروع وطني يقود من خلفهِ الامةٌ كلها .
ومثلما تحكمت مفهوم ( مفهومية الطائفة ) في تقرير موقف الفقسه الشيعي من الحرب و الاحتلال , تحكّم بموقف الفقيه السني وضعٌ خاص , تمثل بفقدان طائفته لمظلة الدولة , فأمتشق سلاح النصر المقدس و الموروث دفاعا عن طائفة , انكشفت و هي تفقد المؤسسات القمعية التي كانت تتحكم بها , و تدير شأن العراق العام من خلالها , كالعسكر و الأمن و المخابرات .
و ستواجه الفقيه السني , و هو يتصدى لقيادة طائفته , بسلاح النصر المقدس و الموروث , حقيقة من الحقائق التي صنعتها حركة أحداث التاريخ بعد غلق باب الاجتهاد , وبعد سقوط بغداد عام 1258 , هي حقيقة وجود اوطان تضم أكثر من طائفة , لا وجود امبراطوريات تتحكم بها طائفة واحدة .
و ستقترن أجابة الفقيه السني – و أجابة كل فقيه من أي طائفة دينية كانت – بالتنكر لهذه الحقيقة . لان أستعادة لغة النصر المقدس و معها اقوال و مواقف السلف , تعني من الناحية العلمية , أستعادة موقف طائفته من الدولة , و أستعادة تعريفها المبني على الأحكام التي بلورها شيوخ الطائفة ( و هو يصح على جميع الطوائف ) قبل قرون . و فقط من خلال توفر هذه الأحكام تتكامل للدولة شرعيتها . و أهم هذه الأحكام : أن يكون الحاكم من أعضاء الطائفة , و في الغالب زعيمها الروحي و الدينوي , و الا سقط عن الدولة ركن اساسي من أركان شريعيتها . و بذلك يكون الفقيه السني – الذي أعتمد المقاومة المسلحة تخريجاته الفقهية – قد ربط استراتيجية مقاومة للاحتلال بالدفاع عن حالة ماضيةٍ , اي عن شكل محدد من اشكال الدولة في التاريخ : دولة أقصت من منهجها السياسي كل نوع من أنواع المعارضة . أن الخاصية الجوهرية التي يمكن من خلالها اكتشاف الفارق بين الدولة القديمة و الدولة الحديثة , تتمثل بالمعارضة كمفهوم و كممارسة ...
أقصت الدولة القديمة ( و هي الدولة الدينية , تأخذ شرعيتها من تأويل طائفتها التي تسميه : التفسير الصحيح للدين , الذي لا تملكه الطوائف الاخرى , المارقة , المرتدة و حكمها القتل بالسيف ) حضور الطوائف القديمة , فهي دولة بلا معارضات سياسية . الدولة الحديثة لا تأخذ شرعيتها من الدين , بل من الأمة و الشعب عبر مؤسسات ( الدستور , السلطات الثلاث , دورية الانتخابات , المحكمة الدستورية العليا ) تحمي الشعب و هو يمارس التداول السلمي للسلطة دورياً .
يتضمن مفهوم الشعب أو الأمة , وجود تعددية ثقافية و طبقية و عرقية , تعاقدت هذه التعددية على بناء دولة حديثة , لم يعد السيف فيها حكما في صراعات الطوائف و الاعراق و الثقافات , كما هو الحال في الدوةل القديمة , بل دورية الأنتخابات التي تتطلب وجود معارضة سياسية , فالدولة الحديثة لا يتكامل وجودها من غير معارضة ساسية فاعلة.
أن استعادة الفقيه السني للنص المقدس و لأقوال و أفعال السلف النافية للمعارضة و الحوار , و السابقة في الوجود لولادة الدولة الحديثة بألياتها و بمفاهيمها السياسية – يعني في الحالة الخاصة ( حالة العراق ) التي تواجه الفقيه السني – النفي العملي لوجود المعارضة المتمثلة بالوجودينَ الكردي و الشيعي .
كانت نتيجة الولاء المطلق لنصوص وأفعال الماضي من قبل الفقيه السني (2) ( مقابل موقف كردي تحرر الى حد في موقفهِ كبير من الحرب و الاحتلال – من سلطة نصوص الماضي , و أستعاض عنها بمفاهيم حديثة كالشعب , و الأمة و القومية , و موقف شيعي – لم يتحرر من سلطة نصوص الماضي – بل كانت له مرجعية اخرى في ذلك الماضي ) أن تفجرت الحرب الاهلية في العراق .
و مهما كانت الأسباب الكامنة وراء قيام الحروب الأهلية : أقتصادية , دينية , عرقية , ثقافية ... أو سواها , فأن الخوف و الذعر من الآتي من المجهول , من المستقبل الذي يمسك بخناق واحدة أو اكثر من الجماعات الاساسية في دولة ما , هو الجو النفسي المطلوب لقيام الحروب الأهلية و لأستمرارها .
هذا ما حدث في الحروب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية 1965- 1961 : الخوف مما سيقدم عليه ابراهيم لنكولن , الرئيس الامريكي الجديد , من تحرير للعبيد , و الذعر من ما سيتسبب به ذلك التحرير من خراب للزراعة .
الشيء الذي تكرر حدوثه في الحرب الأهلية في لبنان , في أوربا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي , في الصراع العرقي و القبيلي و الثقافي المستمر في افريقيا . اشاعة الخوف من المجهول و تضخيم وحشية العدو و تكبير صورته الشيطانية , في وعي الغالبية العظمى من الجماعات المتصارعة , هو المناخ المطلوب , الذي تتم في اجوائه عملية تحشيد الأتباع بسهولة و بناء المليشيات , دفاعا – و هنا تلعب الاشاعات او ما يسمى بالحرب الاعلامية و النفسية دورها – عن الذات المهددة في ثقافتها , في دينها , في أسلوب عيشها و مصادر رزقها .
الشيء نفسه حدث في العراق عقب سقوط الدولة : خوف و ذعر الغالبية من اعضاء الطائفة السنية من المجهول الذي يحمله التغيير العنف الذي حدث .
كذلك الخوف و الذعر الذي نشرته الاحزاب الدينية الشيعية من الغزو الوهابي لشيعة العراقي . و لقد استغل تنظيم القاعدة هذه الاجواء النفسية وراح يزيد من كثافتها في ستراتيج عسكري لا يرحم : تفخيخ الجسد البشري , و تفخيخ السيارات , و تفجيرهما في أماكن عامة ذات مردود أعلامي ضخم , على ، ان تصيب مقتلاً من رموز سياسية بارزة من الشيعة أو الكرد , ترافقهما عمليات خطف لشخصيات صحافية أو لعاملين في المنظمات الدولية , و هو الستراتيج الذي أهلها لأن تصبح – مع ردود أفعال الحكومة و المليشيات الشيعية – سيدة الموقف في الوسط السني و أن تصبح فتواها الدينية هي الفتوى المسيطرة , الشيء الذي دعم جماعة العنف لأن تصبح سيدة الموقف في الوسط الشيعي أيضاً .
الخوف مما جرى من تغيير , و الذعر من المجهول الذي عم الطائفة هو ما مهد لفتوى الفقيه السني من التسلل الى وعي و مشاعر افراد طائفته , وسط بلاد عمتها الفوضى , و ابتدأ ( صانع الفوضى الشيعي و الكردي و الاميركي ) يعيد ترتيب الأمور بطريقة كانت تعني بالنسبة لعضو الطائفة السني معادلة للنفي و الحرمان , خاصة بعد قرارات حل مؤسسات الدولة العسكرية و الأمنية و المخابراتية , التي رافقها سكوت مطلق (عما اذا كان من حق المنتسبين الحصول على رواتب تقاعدية ) , أو ( عدم تعرضهم لتصفية جسدية ) أو لما يضمن لهم أبعاد غائلة ( الجوع و العري ) عنهم .
في هذا الوسط المحروم من رؤية غَدهِ , الممنوع من معرفة ماذا سيجري له في الغد المذعور مما هو قادم , الخائف من المجهول , و الغاطس في دياجير الحيرة , الذي يجهل كيف يخطط و كيف يتصرف في غده , جاءت فتوى الفقيه السني لتبعد عنه شبح القلق , و تمنحه الأمان و تؤمنه على الحاضر يستطيع فيه التخطيط لغده ... لقد فتحت فتوى الفقيه أمامهُ أمكانية أن يرى معنى لحياته , و أن يعيش لغده و أن يمتلئ بحلم أمتلاك الغد .
صحيح أن هذه الفتوى كلفته تجشم عناء الكثير من المصاعب , و نزف الكثير من الدماء , الا أنه تقبل ثمنها الباهظ لكونها الأمكانية الوحيدة المفتوحة أمامه , بعد أن انهارت الدولة , و واضب القادمون الجدد على تطبيق شعار : أجتثاث البعث , و ما رافق تطبيقه من دوي أعلام , يوحي و كأن كلمة بعثي مطابقة لكلمة سنَّي .
وسط هذه الأجواء المشحونة بالخوف و العنف , بالفعل و رد الفعل , تم أقتلاع عضو الطائفة السنية من واقعه و سيق سوقاً وحشياً صوب ماضٍ ( الشيء نفسه الذي حدث لعضو الطائفة الشيعية خاصة بعد تفجير مراقد أئمة الشيعة في سامراء ) جسدته أمامه فتوى الفقيه على أنه الكمال و المثال , الذي تتطلب استعادته : التضحية , و الاستشهاد للخلاص من عالم ( شيطاني , نجس ) يريد أن يشرع له قوانين حياته ( هو المسلم الذي منَّ الله عليه بشريعة متكاملة ) و ( استخلفه في الارض من أجل تبليغ رسالته ) .
كيف يوافق على وجود دولة تحالف ( شيطان الخارج ) مع ( شياطين الداخل : الكرد و الشيعة ) على بنائها ....
غالبا ما يتدامج في وعي عضو الطائفة السنية بُعدا : العِرقّ و الطائفة , فزحزحته عن الحكم ثم الأطاحة به تعني بالنسبة إليه ( تكالب العناصر الغير عربية على آلة الدولة ) فهو كثيراً ما يربط وجود الشيعة بالوجود الفارسي و يختصر ذلك بوصفهم بـ ( الصفويين ) . أما الكرد اللذين يرفض حكاية قصفهم بالكيمياوي من قبل نظام صدام حسين , و يتهم إيران بأقتراف تلك الكارثة – فهم ( سوسة البلاء و التأمر ... ) . يشير عضو الطائفة السني بألم الى ( هجرة الالاف من ابناء الطائفة الى الخارج ) . انه يستشعر نصف وجود آمن و لكأنه يريد القول بوضوح إننا نحن – سنةُ العراق – نلج مرحلة جديدة من تاريخنا في العراق , هي مرحلة المظلومين .
ثالثاً
في الوسط الكردي
إستقلَّ الكرد عن سلطة صدام حسين بوجود سياسي خاص بهم 1991 , و في فترة وجيزة جرت انتخابات عامة جائت ببرلمان وبحكومة , و هو شيء لم يحدث في تاريخ العراق السياسي الحديث .
و اذا ما تجاوزنا الخلاف الكردي – الكردي الذي تصاعد الى ما يشبه الحرب الأهلية بين الحزبيين الرئيسيين في تسعينيات القرن المنصرم , نتيجة اسباب مختلفة , ادى في المقدمة منها تأخر نضج الوعي الصحيح للعلاقة بين الأحزاب و بين مؤسسات حكومة الأقليم , و هي اشكالية احتاجت من الكرد فترة طويلة من الزمن , للوصول الى ترسيم علاقة واضحة بين الأثنين , و ما زالت ذيول هذه الفترة تلقي بضلالها على حاضر الوجود السياسي الكردي , متمثلة بوجود بعض الوزارات المستقلة عن عملها عن الحكومة , التابعة لكل حزب من الحزبيين الاساسيين .
هذا الوجود الذي أستقل بحكم نفسه بنفسه , لم يستقل بقوانين خاصة به , ولا بدستور خاص , بل جرى العمل طوال سنوات 1991-2003 بالقوانين الاساسية التي كانت حكومة بغداد ( من خلالها تدير الشأن العام ) ظلت حكومة اقليم كردستان( من حيث القوانين و التشريعات امتدادا لتشريعت الدولة العراقية . أنطلاقا من هذه الحقيقة , لا استطيع الحديث عن دولة خاصة بالكرد حتى لو امتلك الاقليم الكردي جيشا خاصاً , و علماً و نشيداً خاصيين , و أبرم عقوداً نفطية و استضاف بعض القنصليات ومنع الحكومة المركزية من دخول هذه المدينة او تلك .. هذه امور تشير الى وجود قوة و الى وجود نفوذ داخل دولة العراق و ليس الا وجود دولة مستقلة.
والقوى والنفوذ خاضعة لعوامل متحركة وليست ثابتة , ومثلما فرض نفوذ الكرد وقوتهم هذه الامور , يمكن لقوة ونفوذ اخر داخل الدولة تعديلها , عن طريق الحوار المطلوب , والجميع امام اطار للدولة جديد على العراق , وعلى منطقة الشرق الاوسط . او عن طريق الحرب - وهي امكانية قائمة , وعن طريق وساطة خارجية : امريكية او اقليمية , وهي امكانية قائمة ايضا. وامام ذلك لا يمكن الحديث عن دولة خاصة للكرد , بل يمكن الحديث عن نفوذ للكرد داخل الدولة العراقية , كقوة اساسية من القوى التي منحها التغيير الذي حدث عام 2003 شرعية الوجود.
وفي هذه الحالة لا يمكن تجزئة الشرعية فنبيحها لقوة, ولا نبيحها لاخرى .
يمكن الحديث عن وجود دولة كردية في حالة واحدة : كتابة دستور , مستقل عن دستور بغداد , ولا يشكل امتداد له من حيث:
1- مرجعية الدولة .
2- الاحوال الشخصية.
ودستور حكومة اقليم كردستان , لم يشكل انفصالا في هذا الباب , بل اتصالا. والملاحضات التي قرأتها في الصحافة الالكترونية , عن الدستور الذي تزمع حكومة الاقليم باجراء استفتاء حوله – لانني لم اطلع على بنود الدستور- تدور كلها في باب الاتصال لا الانفصال,اي قابلة للنقاش والمراجعة من قبل الحكومة المركزية وحكومة اقلم كردستان.ولكن ما يستدعي الانتباه في هذه الملاحضات,تركيزها حول مسألة حدود الاقليم.
من حيث المبدأ, كان العراق مقسما الى محافظات لكل محافظة حدودها المحفوضة في بلديات المحافظات, ولكل قضاء وناحية داخل المحافظة حدودها المحفوظة في بلديات هذه الاقضية والنواحي, فما الضير في ان يكون للاقليم حدوده,بعد ان اصبحت الفيدرالية اظارا ناظمة للعلاقات؟
اما اذا كانت حكومة الاقليم قد ضمت في دستورها اراض لا تعترف بشرعية اضافيها القوى الاساسية الخرى في الدولة فسيظل ذلك جزءا من ايمانها الخاص بحقوقها التاريخية.
والحقوق التاريخية – كما تقول وقائع التاريخ الحديث – لا تمنح بسهولة حتى مع وجود الوثائق الدامغة . ولو كان الامر كذلك لتغيرت مناظق كثيرة في اوروبا, ولتغيرت خريطة منطقة الشرق الاوسط برمتها .
الحقوق التاريخية خاضعة لميزان القوى المتصارعة على عائدية هذه الحقوق , ولتنامي قواهما المرتبطة اشد الارتباط بالامكانيات التاريخية لكل طرف, وللكيفية التي يوظف بها كل طرف تلك الامكانيات التاريخية كالطاقة و المياه مثلا لنسج تحالفات دولية واسعة....
لم يمر الوسط الكردي بحرب اهلية بعد حرب 2003م, وهذه واحدة من حسنات استقلاله المبكر عن الدولة المركزية, اذ لو لم تكن ثمة مؤسسات واحزاب مستقرة في كردستان العراق لتوسعت مساعات الحرب الاهلية ولطال زمانها, وربما دخلت في مسارات وانفاق يصبح من الصعب اخراجها منه. كذلك من الخطأ وصف حكومة الاقيم بالعلمانية. لقد خضع اقليم كردستان مثله مثل باقي المحافظات العربية لدستور واحد , يمكن وصفه بلا ادنى تردد بانه دستور ديني, اذ منعت فقرته الاولى من تشريع اي قانون يتناقض مع الشريعة الاسلامية فقلصت مساحة التعبير , ووضعت مناطق حرام امام التفكير, محرمة مناقشة اي ظاهرة اجتماعية كان للاسلام فيها حكما.
في عراق ما بعد 2003 , دخلت الفضية الكردية في طور جديد من اطوارها, واصبح الكرد في هذا الطور الجديد, حقيقة من حقائق الوجود السياسي للعراق فرئيس الدولة كردي وكذلك وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء, وتوجد في التشكيلة الحكومية وزارات مخصصة للكرد. هذا كله الى جانب وجود اقليم خاص بالكرد و حكومة خاصة بالاقليم.
القومية الكردية قومية ناهضة. عاشت تاريخها الطويل في ظل الامبراطوريات المتلاحقة في الشرق الاوسط. صراعها الحديث صراع عميق ومتراكب للوشائج التاريخية والثقافية والدينية التي تربطها بالشعوب والدول التي تضمها وفي هذا تكمن مآساة الكرد, وربما مآساة القوميات التي تضم الكرد دولها كالعربية والفارسية والتركية.
فهذهِ القوميات يساور غالبية افرادها الامل في العودة مجددا الى المنطقة عبر بناء امبراطوري . علما ان تاريخ المنطقة لم يقدم لنا شهادة عن عودة اية امبراطوية مجددا بعد موتها. فلا الاكديون ولا الكلدانيون ولا الآشوريون ولا الميديون ولا اليونانيون ولا البيزنطيون ولا العرب ولا المغول ولا الترك , عادو مجددا. لقد ماتت تلك الامبراطوريات امام ضربات قوى جديدة ناهضة بتبشير أيدلوجي جديد, وقد حكم التاريخ على مثيلاتها في العصور الحديثة بالموت ايضا: النمساوية و الروسية والصنينة والهندية واليابانية , في مفصل تاريخي هام هو الحرب العالمية الاولى التي تعمم منها على المستوى العالمي نموذج جديد للدولة: هي الدولة الحديثة ذات المرجعيات الجديدة .
ومنذ حرب القرم 1853 , وربما قبل ذالك منذ الحصار الثاني الفاشل لفينَا عام 1683 , فقد الشرق الاوسط مكانته كقوة تستطيع تخليق احداثها وظواهرها كما فقدت آيدولوجياتها الكبرى التي انتجتها حضارته( ملاحم, اساطير,اديان) سحر استمرارهما في ان تشكل زاوية نظر شعوب كثيرة في العالم الى الكون والحياة وعملية الخلق , لقد تراجعت رؤيته الشعرية في صياغة موقف الانسان مما يدور حوله , أمام رؤية نثرية باردة (علم الاثار) زودتنا بوثائق دامغة اشارت الى وجود تاريخ آخر هو غير التاريخ الذي قصرت الصياغة الشعرية عن نقله الينا . و ليس من قبيل الصدفة أن تتزامن ولادة علم الاثار مع بدايات ظهور معالم الشيخوخة و الوهن على جسد الامبراطورية العثمانية , و تصاعد عمليات الاستشراق في البحث و التدقيق في دراسة تاريخ المنطقة , بكل معطياته , كجزء من فعالية شاملة لحضارة جديدة بدأت تقرأ لنا تاريخنا , و تقدم لنا تصوراً عن أنفسنا , من خلال التفسير الذي قدمته لأفعالنا في الماضي . و هذه خاصية جوهرية من خصائص الحضارات : أن تعيد قراءة الماضي في ضوء تصوراتها المركزية , أي من المقولات و المفاهيم الاساسية لحضارتها ... و كما قدمت حضارتنا القديمة تصوراً للآخر عن الاخلاق و الجمال و القانون و عن مركزية الارض في الكون و مركزية الانسان في هذا الكون و عن الغاية من وجوده على الارض , قدمت الحضارة الحديثة تصوراتها للأنسان الحديث , عبر نتاجها المادي و الفكري الخاص بها , و في حالة علم الاثار و الاستشراق : تصوراً للآخر عن نفسه في تاريخه .. فحرب القرم التي تدخل فيها الانكليز و الفرنسيين الى جانب الامبراطورية العثمانية ضد الامبراطورية الروسية , أعلنت عن تحول عظيم في عوامل صناعة قوة الدول , تلاشت فيها الزراعة و بالتالي ضريبة الخراج , و تراجع فيها الدين كعوامل اساسية من عوامل صناعة قوة الامبراطوريات القديمة , و بدأت تحل محلها عوامل جديدة في صناعة قوة الدول , ارتبطت بالتصنيع كأسلوب انتاج ,و بالتحديث كصيرورة فرضها هذا النمط الجديد من الانتاج , و بالحداثة كمنهج فكري تتولد عنه مقولات فلسفية و اجتماعية و سياسية و ثقافية محايثة لصيرورة التحديث .
إن التوقف عن التفكيرفي المستقبل و الرفض القاطع لمعاينة ميوله و اتجاهاته , في حاضر ظواهره الجديدة و تأثيرها القادم على صناعة معطيات جديدة , ستقود الى تغييرات كبرى في المنطقة , تشمل على تغيير في خرائطها الجيو سياسية القائمة , أن ذلك الرفض ينطلق من منهج فكري محدد , يرى ان المستقبل لا قيمة له من غير استعادة دولة الماضي , و في حالة العراق : سيتحقق حلم استعادة الماضي عبر الشكل الامبراطوري للدولة ,و أعادة تسويق هذا الشكل على انه التجسيد المثالي للروح الوطنية , و ان التمسك به هو معيار الوطنية .
و الشكل الامبراطوري للدولة لا يتحقق من غير مركزية شديدة و سيادة قومية واحدة على باقي القوميات التي يضمها الشكل الامبراطوري ... و في حالة العراق بعد 2003 , يتحقق الشكل الامبراطوري بسيادة طائفة دينية واحدة , و جر باقي التكوينات الاساسية التي تضمها الدولة , الى الاصطفاف خلف المقولات الاساسية للطائفة في العمل السياسي , و في المقدمة من مقولات العمل السياسي لدى كل الطوائف : اسلامية و غير اسلامية , مقولة : ضرورة تطابق مواقفها السياسية مع مواقف امتداداتها الطائفية الخارجية , ليصبح كل نشاطها الداخلي سعياً لتكييف الداخل بكل قواه السياسية – و حتى بامكاناته الاقتصادية – ليصب في صالح امتداداتها الخارجي , و مثال علاقة حزب الله بأيران نموذجا في هذا الباب . و كما أخطأ الوحدويون العرب في قراءة المفصل التاريخي للحرب العالمية الاولى , بأن نظروا اليه على انه مؤامرة على الامة و الدين فاضطرتهم هذهِ , القراءة الى بناء سترتيجية خاصة للرد على نتائج الحرب , قادتهم الى الدفاع عن شكل ماضوي للدولة في التاريخ – يخطئ الاسلاميون حين يستنتجون من فرائتهم لمفصل التسعينيات التاريخي , على أنه بداية مرحلتهم التاريخية التي سيعيدون فيها بناء امبراطوريتهم الاسلامية ( كما يحلم تنظيم القاعدة , و كما يحلم غيرها من رموز الطوائف الاسلامية الاخرى ) .
أن المفصل التاريخي الجديد , يجب بالضرورة قرائته انطلاقاً من قراءة كلية الحضارة التي أنتجته , و الظاهرة الجديدة لهذا المفصل التاريخي , أي العولمة , ظاهرة مبنية على ثورة تكنلوجية جديدة , لها لغتها العلمية الخاصة , التي لا تصلح لغة خطاب اخرى . مقاربتها و اكتشاف ميولها و اتجاهاتها , بسبب من كونه خطابا لا يستطيع قراءتها بمعزل عن تقييمها اخلاقيا " حسنة أو قبيحة " .
أسهم المفصل التاريخي الجديد – عبر ظاهرته الجديدة – في تعميم منظومته الفكرية عالمياً , و نجح في جعلها مقبولة من مختلف الشعوب و الثقافات , فاضطرت القوى الاسلامية , التي كانت في العقود السابقة لعقد التسعينيات , تهجو مفاهيم الديمقراطية و حقوق الانسان , الى تعديل خطابها السياسي بما يضمن له احتواء هذه المفاهيم , وزادت على ذلك بأن أدعت بأن أصول هذه المفاهيم كامنة في الأصول الاولى للأسلام و أن الحضارة الاسلامية بُنيت في ضوء منها .
ان المفصل التاريخي الجديد , مفصل تحريري , ولا بد و ان يجيء – في ما يحمل من وعود تحررية , امتداداً للمناخ الثقافي الذي أنتجه , مناخ : الحريات , و حقوق الانسان , و مفهوم المواطنة , ذلك المناخ الذي اعاد تسويق مبدأ " حق الامم في تقرير مصيرها " , هذا المبدأ الذي جاء تطبيقه بعد نهاية الحرب العالمية الاولى – لصالح القوميات الكبيرة في الشرق الاوسط , و تجاوز – في التطبيق – حقوق الأقليات الصغيرة – مما تسبب في حالة اللااستقرار الاجتماعي و السياسي , التي عاشتها دول المنطقة خاصة : العراق , و تركيا , و ايران .
بالنسبة للعراق – جاء تطبيق مبدأ حق الأمم ي تقرير مصيرها , متجاوباُ مع حاجة القومية العربية للتخلص من نير الأستعباد التركي , و لكنه لم يتجاوب مع طموح القومية الكردية في ادارة نفسها عبر دولة خاصة بها .
أنني لا اريد هنا استعادة ملابسات الوضع بين الاعوام 1917-1923 و لكنني ارى تجاوبا – مع السياق اعلاه – بأنه من الممكن للقوميات : العربية في العراق , و التركية في تركيا , و الفارسية في ايران – تجنب الكثير من حالات التفريط بالموارد و بالزمن , و تجنب الكثير من حالات الانتفاضات و الثورات , و الكثير من الانفاق العسكري على العمليات العسكرية ضد الكرد و ضد غيرهم من القوميات الصغيرة – لو ان الكرد استقلوا بدولة خاصة بهم .
لقد اقترفت دائرة المستعمرات البرطانية خطأ ستراتيجيا تحت ضغط من الثنائي كوكز- مس بيل , اللذين حكما العراق في الفترة أعلاه – و اقترحا ضم كردستان الجنوبية الى حدود الدولة الجديدة , من أجل خلق موازنة طائفية بين شيعة العراق " و هم الأغلبية " , وبين سنة العراق , كون الاكراد ينتمون في غالبيتهم للطائفة السنية . و هو ما سميته في كتابي " الدولة و الكرد و ثقافة الفرقة الناجية " : بقانون الموازنة الطائفية , ذلك القانون الذي ربط الكرد في العراق بمهمة محددة : تكثير عدد السنة العرب لموازنة عدد الشيعة , و هي مهمة تتطلب منهم التنازل عن وجودهم القومي لدعم وجود طائفي لقومية اخرى .
ان اللا استقرار السياسي الذي شهده و يشهده العراق , و كذلك تركيا و ايران – سببه كامن في بنية الدولة , التي تفرض في آليات عملها على الأقليات القومية مغادرة تكويناتها الطبيعية و ارتداء عباءة تكوين قومي آخر . لقد تولدّت عن بنية هذه الدول سياسات رسمية , تحولت مع مرور الزمن الى قناعات شعبية , تطابق في الوجود بين القومية المسيطرة على آلة الدولة و بين حدود الدولة , فالدولة في تركيا تركية , وفي ايران فارسية , و في العراق عربية , و اذن , لا وجود لأية اثنيات و قوميات أخرى , رغم ان هذه الدول تضم اكثر من قومية . هذا التطابق في الوعي السياسي بين حدود الدولة و بين الوجود السياسي لقومية واحدة , حصر شرعية القرارات , و خاصة في جانبها الأكثر تعبيرا عن السيادة , مثل قرارات الحرب و السلام , بيد القومية السائدة , و حرم منها القوميات الاخرى التي تشاركها سكن الوطن الواحد .
ان تجريد الاخر من أي حق من حقوق المشاركة السياسية , الذي مارسته هذه القوميات الثلاث : الفارسية و العربية و التركية – ليست حديثة , انها قديمة , قدم الوجود الامبراطوري الذي أسسته هذه القوميات في التاريخ , و الذي ارتبطت به ذاكرتها التاريخية و ما تنطوي عليه من أمجاد .
و الشكل الامبراطوري في التاريخ يتضمن علاقة قهر , باشرته أقوام أو قبائل , فرضت عبر الفتح , تصوراتها الدينية و السياسية على الأقوام التي فتحتها , و اجبرتهم على النظر اليها نظرة تقديس , عبر تحويلها الى قوانين تشتغل انطلاقا منها مؤسسات الامبراطورية .
لقد تسلل من هذه العلاقة : علاقة مركز – قائد باطراف خاضعة , و قومية سائدة بقوميات محكومة – وعي خاص , تحول مع مرور القرون , الى ما يشبه الرؤية المركزية التي تحملها كل قومية من هذه القوميات عن نفسها :
انها مَنْ يحكم , لأنها مَنْ وضع قواعد الحكم .
و هي من يقرر لأنها مَنْ سَنّ القوانين و وضع التشريعات .
و هي الوحيدة المكلفة بالقول , لأن السماء اختارتها لأداء رسالة على الأرض .
أنبعث هذا الوعي بقوة , بعد الحرب العالمية الأولى , حين شكلت هذه القوميات الثلاث الأكثرية في هياكل دولها الجديدة , و هذا ما ساعد على اتبعاث هذا الوعي المحدد المرتبط بمركزية الذات , اذْ ان هياكل دولها الجديدة تشبه الى حد كبير الشكل الامبراطوري , حتى لو كانت مساحات دولها اصغر من المساحات التي تمددت عليها الامبراطوريات الدينية – الزراعية الغابرة . فهذه الدول تضم مثل كل الامبراطوريات القديمة : قوميات و اعراق و لغات و طوائف و ديانات متعددة , شكلت فيها القوميات الثلاث : التركية و العربية و الفارسية ,
المركز الذي تدور من حوله الأقليات الاخرى , التي عليها أن تستمع الى القومية الكبيرة : الهادية و المرشدة ...
اصطدمت حقيقة هذه الدول الثلاث , بحقيقة مفصل تاريخي جديد , عممّ بصورة يومية متواصلة " فضائيات , انترنيت ( , مفاهيماً سياسية جديدة تنادي بكفالة الحريات , وبحق تقرير المصير . و من الطبيعي أن تلجأ الأقليات القومية و الدينية الى التمسك بهذه المفاهيم السياسية اذْ وجدت فيها وسيلة فعالة تساعدها على الانعتاق من الظلم التاريخي الواقع عليها من القوميات الثلاث , فتبدو المسألة كما لو أن تآمراً حيك في ليل – بين الخارج و بين الاقليات – من وراء ظهر القوميات الكبيرة . لقد فرض المفصل التاريخي الجديد , أكثر من أي وقت مضى , حواراً متصلاً
بين الداخل (داخل الدول , خاصةً في بلدان العالم الثالث ) وبين الخارج ( المتمثل بمنظومة القيم والمفاهيم السياسية الجديدة) .
في هذا الحوار التاريخي بين الداخل والخارج , يتعمق المسار الحداثي على مستوى الوعي السياسي للاقليات , في الوقت الذي تسلك فيه القوميات الكبيرة سلوكا محافظا . انطلاقا من هذا الحوار يفقد الداخل صورته ككتلة متراصة , كما كانت تعكسها الدولة عبر ممارساتها الامنية للسيادة , وتاخذ علاقة طرفية : القومية السائة والاقليات – بالخارج مسارين مختلفين . في هذين المسارين تتعمق اواصر التفاهم ولغة الحوار المشتركة بين الخارج وبين الاقليات , يقوده الى تاييد مطالبها في الانعتاق والتحرر , وتقل في المسار الاخر حظوظ التفاهم , وتزداد هوة الخلاف , وتتقطع سبل الوصل الى لغة تفاهم مشتركة , مما يدفع القوميات الكبيرة الى التمسك الشديد بالمركزية في اليات عمل الدولة , والى الارتداد الى الوراء والاحتماء بموروثها ( مركزية الذات ) على مستوى الوعي السياسي .
فقدت في هذا الصراع المركب بين الخارج وبين طرفي الداخل : اي القومية الكبيرة وما يدور في فلكها من اقليات عرقية ودينية , فقدت مفاهيم السيادة والوحدة الوطنية دلالاتها القديمة التي فرضتها القومية الكبيرة المتطابقة في الوجود مع كامل حدود الدولة واصبح لها معنى جديد مرتبط اشد الارتباط بالحريات , فعلى سبيك المثال استوحت الاقليات من مفاهيم الخارج السياسية , كمفهوم المواطنة مثلا , الذي لا يفرق بين المواطنين على اساس من العرق والدين والجنس , معنى لونت به معنى السيادة والوحدة الوطنية , المرتبطان في بلدان العالم الثالث بالامتياز التاريخي لسيادة قومية واحدة . الا ان القومية الكبيرة في العراق , في تركيا , وفي ايران , وفي سواها , وجدت في مفهوم المواطنة , الذي يجبرها عن التنازل عن امتيازاتها التاريخية في الانفراد بالحكم , شكلا من اشكال التامر على هويتها , وهوية الدولة ( اذ هي تطابق في الوعي وفي الممارسة بين وجودها ووجود الدولة ) فشجعت الجماعات التي تحارب هذه المفاهيم ( المستوردة ) على التصدي لها ( الجيش في حالة تركيا , والتيارات السياسية الطائفية في ايران والعراق ) وحين فشلت القوميات الكبيرة في ارساء اسس دولة ذات بنية جديدة ( لا بد وان تكون ديمقراطية , وفقا لمفهوم : " المواطنة " ) صعدت الاقليات من مطالبها , ودخلت - مع المفصل التاريخي الجديد - مرحلة البحث عن اطار للعلاقة مع القومية الكبيرة السائدة . اخذ مرة شكلا من اشكال الاستقلا السياسي لدى اكراد العراق
1991-2003 بمساعدة الخارج الذي فرض على نظام صدام حسين – بعد الهروب المليوني للكرد الى مخيمات اللجوء في تركيا – خطوطا حرم فيها على الحكومة المركزية تجاوزها . وارتبط – بعد 2003 – بشكل جديد للدولة سماه الدستور الجديد للعراق : الفيدرالية , التي تعني كما هي حال الفيدراليات في العالم ان تكون للكرد حكومة على ارض ذات حدود معروفة تفصل بينهم وبين القومية العربية , داخل اطار الدولة الفيدرالية الواحدة .
اذا , لم يعد مفهوم الامن القديم يلعب دورا محوريا في تحيق مفهوم السيادة , كما لم يعد لمفهوم السيادة القديم القدرة على منح الشرعية لاي اسلوب من اساليب تحقيق الامن . اصبحت حقوق الانسان داخلة في تعريف مفهوم الامن وجزءا لا يتجزأ من مفهوم السيادة , من دون تحقيقها يظل مفهوم السيادة ناقصا . وهذا هو المضمون الجوهري الجديد الذي حملته الى البشرية انعطافة التسعينيات : مضمون ان الامن لا يتكامل على ارض الواقع لاية دولة من الدول من غير كفالة الحريات . في منعطف تسعينيات القرن المنصرم ,وليس قبل ذلك تكامل هذا المعنى الجديد لمفهوم السيادة , فقبل التسعينيات كانت الحرب الباردة , وكان قطباها يعليان من شأن سيادة الدولة الواقعة تحت نفوذيهما , وكانا يعدان كل تمرد من اجل الحريات , في مناطق نفوذيهما , نوعا من انواع الشغب واثارة الفوضى , ولذا كانا يبيحان لحلفائهما من هذه الدول ارتكاب المجازر والتصفيات . وما ان عبر التاريخ البشري فترة الحرب الباردة بالطريقة المعروفة التي تحقق فيها ذلك العبور , حتى اكدت القوميات والشعوب التي كان يضمها الاتحاد السوفياتي السابق , لهفتها الى الاستقلال وممارسة حقها في تقرير مصيرها , وشاركتها اللهفة ذاتها اقليات العالم الثالث , التي قدمت شهادتها التاريخية على توقها الشديد , ونزوعها الجارف للتعبير عن ذاتها في كيانات سياسية خاصة بها , تدير من خلالها شؤونها العامة , باستقلال عن هيمنة واملاءات القوميات الكبيرة السائدة .
انفردت القومية الكردية في العراق باسبقية الخروج الى العلن من بين اقليات منطقة الشرق الأوسط , ومن بينها فروع القومية الكردية في تركيا وفي ايران , وقدمت شهادة تاريخية على عدم قصورها الذاتي في نجاحها في ادارة شأنها الداخلي 1991-2003 ثم 2003 .... , وشهادة اخرى على تجاوزها للشعور بمركب النقص – المستبد بوعي الأقليات – أمام حضور القوميات الكبيرة , فمارست تمردها التاريخي على الايدولوجية البطريركية : ايدولوجية القومية السائدة .
مارس الكرد خلال سنوات الاستقلال بوجود سياسي خاص بهم عن حكومة صدام حسين في بغداد طوال سنوات 1991 – 2003 , دورا طليعيا في رفد واحتضان تيارات المعارضة العراقية , وكانت تحالفاتهم السياسية تنطلق من مبدأ الاتفاق على بنية الدولة القادمة , وليس العمل على اسقاط نظام صدام حسين فقط . فشكل القبول بالفيدرالية , من قبل التيارات الاساسية في المعارضة العراقية نقلة نوعية في مسيرة تطور الوعي السياسي في العراق . والفيدرالية – كما تخبرنا وقائع التاريخ العالمي , من الولايات المتحدة الامريكية الى دولة الامارات العربية المتحدة – تقوم على اساس من تجميع القوى المبعثرة عن طريق الحوار وتقديم التنازلات المتبادلة ولا تدخل الحرب , وبأي شكل من الأشكال طرفا في عملية تجميع القوى واقامة الفيدرالية . اذ ما ان تذر الحرب بقرنها , حتى يتحول مسار بناء الدولة من سيرورة تجميع القوى عبر الحوار , الى عملية استيلاء قوة واحدة على القوى الاخرى .
كان موقف الكرد واضحا من مهمة بناء دولة فيدرالية جديدة في العراق , وما زالو يشكلون الضمانة الاكيدة لمنع اليات الدولة من استعادة مركزيتها القديمة , وبعث الشكل الامبراطوري للدولة ... لقد نجح الكرد عبر ادخال مفهوم الفيدرالية في مقولات الافق السياسي العراقي , في المساعدة على تطوير الفكر السياسي الحديث . وفضل الاقليات في تطوير الفكر العربي الحديث سيكون موضوع نقاشنا القادم .
الولايات المتحدة الامريكية
جامعة لويزيانا – لافاييت
20-7-2009
E- mail: [email protected]
Website : http://www.algaraf.com
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟