بوزيد عبد العزيز
الحوار المتمدن-العدد: 3017 - 2010 / 5 / 28 - 15:14
المحور:
الادب والفن
قصيدة المقرانية
حدثني ذات يوم شيخ طاعن في السن لعبت تجاعيد الدهر بوجهه وأكثر ما شدني إليه حديثه وهو يتلو على مسمعي أبيات من قصيدة المقرانية و هي
قصيدة لامرأة شاعرة ترثي فيها زوجها ولم تكن ذاكرة الشيخ بأحسن حال إذ لم تحتفظ بالكثير من أبياتها و قد أعجبت بالقصيدة مما
أثار فضولي إلى البحث عن معرفة المزيد, سألت القاصي و الداني و لم يشفي غليلي احد منهم إلى أن وجهني صديق إلى رجل ضرير يسمى
الشيخ السنوسي و قال لي انه يحفظ الكثير من الشعر الشعبي المحلي وقد يكون على علم بهذه القصيدة .
قصدت قرية بريزينة بولاية البيض لمقابلة الشيخ السنوسي على امل ان أجد عنده مقصدي و لكنني لم أجده , مرت أيام و أنا أبحث عنه إلى أن
صادفته ذات مرة على غير موعد,في مدينة البيض فأخذت الرجل إلى البيت و أكرمته وجلست إليه و طلبت منه أن يسمعني شيئا مما يحفظ وكم كانت
المفاجئة كبيرة لقد وجدت سيلا هادرا من الشعر, خاصة شعر محمد بالخير و الشلالي و عبد الله بن كريو و احمد بالخضر و غيرهم من
فطاحل الشعر في منطقة البيض.
, استمعت إليه بشغف كبير وكتبت عنه بعض أبيات قصيدة المقرانية, و من خلال ما جمعته من الشيخ السنوسي و بعض المصادر الأخرى استطيع
القول أنني نفضت الغبار عن بعض معالم قصيدة المقرانية . لقد ألفنا على العموم أن يرثي الرجل زوجته أو معشوقته غير أننا نصادف
في الشعر الشعبي حالة استثناء عن المألوف امرأة ترثي زوجها بقصيدة جميلة و اعتقد أن لو لا جمالها و روعتها و عفويتها ما استطاعت أن تقاوم
النسيان و الإهمال .
القصيدة بطبيعة الحال ليست كاملة وهي بعنوان المقرانية نسبة لصاحبتها و قد قيلت هذه القصيدة بالتقريب في زمن التواجد التركي
بالجزائر أو بعده بقليل إذ تذكر الشاعرة كلمة الباي مما يدل علىارتباط سلطة الباي و مكانته بذاكرتها .
صاحبة القصيدة شاعرة اسمها فاطمة شريف كما تنص بذلك في احد ابيات القصيدة و قد كانت زوجة لرجل اسمه احمد المقراني ولد العباسي و
منه لقبت زوجته بالمقرانية. .
ما يمكن استنباطه من خلال نص القصيدة يتبـيـن أن زوجها احمد المقراني كان يضعن مع قبيلته في ضواحي منطقـة شبكـة زيانة و تقول بعض
المصادر أن منطقة شبكة زيانة هي محاذية لحاسي بوزيد في جنوب صحراء واد صقر بنواحي قرية بريزينة غير ان احد شعراء التصوف
و هو ينتمي لمنطقة جبل العمور يذكر في احدى قصائده شبكة زيانة و ينسبها لشمال منطقة افلو.
في حين نجد الكثير من الرواة ينسبونها لمنطقة أولاد جلال و آخرون لمنطقة أولاد نائل وبين هذا و ذاك كان للملحمة مكان و زمان .
كان للرجل مكانة عظيمة بين قومه و عرف عنه انه كان فارسا مغوارا و شهما ثريا و يشهد له انه كان حاتميا في كرمه سخيا في عطائه.
تمر الأيام و يموت الرجل و تبقى المرأة وحيدة حزينة على فراق زوجها ومما زاد من حرقتها أنها لم تنجب من هذا الرجل إذ كانت عاقرا و
مع ذلك كان وفيا لها وبقيت زوجته الوحيدة.
عظم الرجل في نظرها وظلت تحمل في ذاكرتها عز الأيام الخوالي التي عاشتها معه بكل حب و صدق و إخلاص و قد ترك رحيله أثرا عميقا في
نفسها فكانت تبكيه و تتذكره في غدوها و رواحها بين الروابي و التلال التي كان يجوبها ذات يوم كالأسد الهصور.
و ذات صباح وهي تتفقد إبلها تقدم لها خادم زوجها وراعي إبله و طلب يدها للزواج فتفاجأت من طلبه لم تجبه في أول الأمر ووقفت طويلا
ونظرت إليه مـتأملة وقد سال دمعها بكاء وفي ملمحها نظرة المتبسم المستهزئ .
تنحت عنه قليلا و التفتت إليه و قالت اذهب لترعى ابل سيدك و في الغد سأجمع مشائخ القبيلة وسأشاورهم في هذا الأمر.
انصرف الراعي يتبع قطيع الإبل ملوحا بعصاه وهو يتبختر منتشيا و يشدوه الأمل ان يتحقق طلبه بينما عادت المرأة متثاقلة باكية كسيرة
حزينة على قدرها الذي ساقها إلى حد أن يتجرأ الراعي و يطلب يدها مخدشا بذلك كرامتها و جارحا كبريائها وهي التي كانت بالأمس سيدته
تأمره و تنهاه , حرة عزيزة النفس, رفيعة الهمة بين قومها وكل ذلك لم يشفع لها أمام عجرفة وغلظة الراعي .
باتت ليلتها تبكي على نفسها الكسيرة الجريحة و في قلبها حرقة و في حلقها غصة و كان عزاؤها الصبر و تحمل حتمية مواجهة أمواج القدر
المتلاطمة.
و في وسط هذا المخاض بين حرقة الحزن على زوجها وفيض الغيض من كلام الراعي تنفست المرأة شعرا وفاض وجدانها بقصيدة و لا أروع
مما سمعت و قرأت في الشعر الشعبي.
و في الغد اجتمع شيوخ القبيلة و فرسانها بطلب منها ليستمعوا لما تريد أن تقول فجلست على استحياء وفي احتشام كبير وأنشدتهم من وراء
ستار خيمتها قصيدة شعرية و التي كانت بمثابة رد على طلب الراعي ففهم الجميع مقصدها و اثنوا على همتها وعزة نفسهـا.
القصيدة
يا محايني بالتمحـانـة *** واش يصبر و ينـسي
من فراق طرشــون هدانا *** طمعت الشمـايت في راسي
كيــتي و تكــويت إلا أنـا *** من فراق حبيب قلبي و ونيـسي
يا محــايني بالتمحـانــة *** ما نصيب مثله في ناســي
زايـخ العرب بــو قــرانة *** شايــع كي الباي بلا كـرسي
يسمع الحديث و يتغــانى *** ما يهلـكه شي إلا حســي
يحط في البلاد العريــانة *** من بعيــد بايـن قنطاســي
يعرفوه عرب الحنـــانـة *** يعرفــوه بزنــاده قاســي
يا عقاب شبكة زيانـــة *** يا مهـلك العقـــد الــراسي
سهمنا راقــد في الجبانة *** ما يجيــه ضيــف ولا ساسي
ما نقول خاطر و نسانا *** ما نقـول راقــد بنعــاسي
راح غرب سافر بكفانا *** في تخــوم ارض الرمــاسي
الزين في قبره يتعــانى *** خيــــــــــر من حـــــياة اللي منسي
يا الشيخ مولى مليـــانة *** دير قسمــــــته فـــــي الفــــردوسي
في ظلول جنة رضوان *** بين حمــــــــــــزة و العــــــــباسي
هذه القصيدة تعكس و بدون شك صورة من صور الإبـاء في المجتمع البدوي هذه العجينة الإنسانية الطيبة البسيطة التي لا زالت تنطوي على
خامات وخصال و قيم تنبعث من أصالة و عمق الإنسان البدوي الذي أبت أخلاقه شرفا أن تموت فيه فضائل النخوة و المروءة و الإخلاص و توارثت
فيه جيل بعد جيل.
ولعل اصدق تعبير عن ذلك موقف المرأة التي أبت عزة نفسها أن تنكسر وان يسقط من ذاكرتها خيال ذلك الرجل الهمام وقد جسدت بذلك أروع مواقف
الوفاء و أشرف صور لإخلاص.
من خلال نص القصيدة نلاحظ أن هناك بعض المفردات لم تعد في اغلبها متداولة في التخاطب و تداول الحديث بين الناس في الوقت الحالي و بدون
الإشارة إلى معناها قد يصعب على القارئ أن يعي مفهوم البيت و لذلك حاولت تقديم شرحها لتخفيف معانات القارئ في البحث عن المعنى.
هذه إذن بعض البيات من قصيدة المقرانية و لازلت بصدد البحث عن المزيد من اجل إكمال القصيدة و ستنشر كاملة أن شاء الله لاحقا ......
#بوزيد_عبد_العزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟