|
الأولى والآخرة : صراط 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3015 - 2010 / 5 / 26 - 15:39
المحور:
الادب والفن
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " هكذا ردّدتُ بصوتٍ مَسموع ، بعدما تناهى لسمعي ثلاث نقراتٍ مُتتابعَة ، خفيفة المَحْمَل . قلتها ، رغمَ أنني على علم ، مُسبقٍ ، بأنه كانَ على المَملوك ، الروميّ ، أن يوقظني من سباتي . فلقد ذكرني ذلك ، وعلى حين غرّة ، بمنام الفاروق عمر ( ر ) ؛ برؤيته لديكٍ ، مغرور ، ينقره ثلاث مرات بمنقاره . فكانَ أن قتلَ الخليفة الراشديّ ، في اليوم التالي على الأثر ، بخنجر أبي لؤلؤة ، المَجوسيّ ؛ وبالعدد نفسه من الطعنات : الديكُ ، بلغة الرّمز ، العربية ، هوَ رجلٌ أعجميّ ، شرير . وعلى كلّ حال ، فلم يَحتج المملوك ، في وقوفه أمامي ، إلى أيّ نأمةٍ . ففي اللحظة نفسها ، إرتفعَ صوتُ المؤذن ، المَلحون العبارة ، يَدعو " المؤمنين " لصلاة الفجر . وتشديدي على تلك المفردة ، المُبوّبة الطرفين ، إنما لكون نداء مؤذن جامع المدرسة ، سيُلبّى من قبل جمهرة المؤمنات حَسْب ؛ من حافظات ومدرّسات ودارسات . إلا أننا ، معشر الذكور ، علينا أن نتوجّه للمكان المخصص لنا هنا ، في الدار . على ذلك ، قمتُ من فراشي لأرافق المملوك إلى المَصلى ، مُتيقناً بأنّ كبيرَ الأعيان ، قد سبقنا إلى حُرْمَة المكان . إلا أنّ الكبيرَ ، على دهشتي ، لم يَظهر حتى لما ختمنا السورة الأخيرة ، الكريمة ، من الصلاة . " أأنتَ مُتأكدٌ بأنّ نرجس ، هيَ من كانَ عليها أن توقظ سيّدكَ ؟ " ، سألتُ الروميّ عند باب المَصلى . فهزّ رأسه مُوافقا ، مُبدياً بدوره شعورَ الحيرة . ولكنني ، لما هممتُ بالتوجّه نحوَ حجرة الشاملي ، فإنّ القلقَ في ملامح المملوك ما لبثَ أن أزاحَ أيّ شعور آخر . وقلتُ بسرّي : " لا بدّ أنّ ثمة تدبيراً ما ، بين الروميّ وسيّدته " . فلم أشأ أن أكونَ سبباً ، مُحتملاً ، لنقمَة نرجس على مملوكها هذا ، المسكين . ولكي أختبرُ حَدَسي ، عدتُ أطرحُ سؤالاً آخر عليه : " وإذاً ، فعلى الأرجح أنّ سنة النوم ، العميق ، قد استغرقتْ سيّدتكَ ؟ " . فأجابني إثرَ هنيهة تردد : " ربما أيقظتْ والدها ، ثمّ ذهبتْ بعدئذٍ إلى المسجد ، لأداء الصلاة ؛ فرجع هوَ للنوم سهواً منه " . إذاك ، علمتُ أنّ المملوكَ يَكذب : فالشاملي ، لا يمكنُ بحال أن يفوّت وقتَ الصلاة .
" ها هيَ نرجس ، أخيراً " هتفَ الروميّ ، المُتألقٌ بثغره المُنمنم ، البسّام ، وهوَ يوميءُ إلى الناحيَة القبلية من صحن الدار. فما هيَ إلا لحظات والفتاة ترافقنا نحوَ مخرج المدرسة ، مُكتسيَة بملبس الدارسات ، المَعروف . بيْدَ أنني عجبتُ من سماكة نقاب الوجه ، الذي كانَ يَحجبُ تماماً قسماتِ نرجس ، حتى أني تساءلتُ عما يجعلها حذرة ً إلى هذا الحدّ . فمنذ سيطرة قوات المجلس على الحيّ ، لم يَعُد هناك من حاجة لحيطة نساء المسلمين ، أثناء خروجهنّ إلى الدرب . على المنقلب الآخر ، فإنّ مسلكَ جند الانكشارية ، الفظ ، في بقية أحياء المدينة ، القديمة ، شاءَ أن يحظى من أهليها بالسخط الشديد ، المتفاقم . وكنتُ أرجو ، من جهتي ، أن تحظى مهمّتي هذه ، الجديدة ، بالنجاح والتوفيق ، بغية التعجيل بخلاص الناس ؛ وهيَ المهمّة ، المُتعيّن عليها أن تصلَ مجلس العمومية بحاكم جبل لبنان ، القويّ . نعم . إنّ الأمير بشير ، كما هوَ معلومٌ ، كانَ الشخص الوحيد ، القادر على التأثير في مزاج القناصل الأجانب ، المُعتمَدين في الولايات الشاميّة . فإنّ كلمة منه ، والحالة هذه ، لقادرة على نثر آمال الطاغية الانكشاري ، آغا باقوني ، في فلوات اليأس والقنوط . " هل ودّعتِ أباكِ ، يا سيّدتي ، قبلَ الصلاة ؟ " ، سألتُ نرجسَ بصوت خافت . فأجابتني بإيماءة ايجاب من رأسها ، المُحتجَب جميعاً بالسدول ، الأسوَد . لم أعمَد لمخاطبتها بتكلّف حسب ، بل ورأيتني أيضاً أجلسُ من بعد قربَ الحوذي ، تاركاً إياها متفرّدة مع المملوك في مقعدَيْ الركاب الخلفييْن ، المتقابليْن . عندئذٍ ، سيط َ فرس العربة بهمّة ، من لدن صاحبه ، فسارَ بنا إلى جهة البحصة ، البرانية ، في الطريق لمنزل جدّ نرجس . ولكن ، في الهنيهة نفسها ، التي تحرّكتْ فيها الكرّوسَة ، خيّل إليّ وأنا ألتفتُ ورائي نحو مدخل المدرسة ، أنّ رجلاً ثمة كانَ قد نزل بدوره من عربته ، فراحَ يتطلع بحيرة في أثرنا .
ما أن تركنا وراءنا مذاهبَ العمران ، المُختلفة ، حتى تجلتْ أمامَ نواظرنا البساتينُ المُزدهرة ، المونقة بشمس الصباح ، المُبكر . لا غروَ أن يطلقَ الأقدمونَ نعتَ الجنة على هذه المنطقة الآسرة ، المُقتطعة من السماء ، والممتدّة عرضاً بإزاء السور حتى باب الفراديس : فاسم هذا الباب ، نفسه ، كانَ دلالة على النعت ذاك ؛ المُحيل للفردوس الربانيّ . وحينما أضحى جبلُ الصالحية ، المُبارك ، يتجسّمُ رويداً لعينيّ ، كانتْ عربة الكرّوسَة ، المُتهادية على الدرب الظليل ، قد اقتربَتْ من المَنزل ، المَنشود . على الأثر ، تركتْ العربة الدربَ الرئيس ، العريض ، لتغذ صعداً على وقع خبَب فرسها ، المَلول ، في الطريق الضيقة . هنا ، كانت الطريقُ عارية من الأشجار ، ومحفوفة بالمقابل بصفيْن من البيوت الصغيرة ، الإفرنجية الطراز ، علاوة على عدد من الحوانيت ، المنتمية أيضاً بعمارتها للطراز ذاته . ثمة ، في أعلى الحارَة ، كانَ يتسامقُ بيتٌ كبير ، مُنيفٌ ، منعزلٌ نوعاً عما حوله من بناء . ولكن ، إنه المملوك الآخر ، الصقليّ ، من كانَ يقف الآن على مدخل المنزل ذاك ، وهوَ يعقدُ يديه على صدره ، بحركة كيْدٍ ، صبيانية. للوهلة الأولى ، أعتقدتُ أنّ المنحوسَ كانَ يودّ ممازحة رفيقه ، الروميّ . ولكنّ الأمرَ ، كما سأتبيّنه عاجلاً بنفسي ، كانَ يُداور في حبكة مكر ، أبعد مراماً . " يا ربّ السموات العلى ، أليستْ هيَ نرجس ؛ تلكَ الفتاة ، التي تقف هناكَ ؛ خلف الصقليّ ؟ " ، ندّتْ عني بصوت مرتفع . وحينما التفتُّ ورائي ، لأعيد السؤال على مَسمع المملوك الآخر ، إذا بي أمامَ مفاجأةٍ أخرى ، أدهى : كانت الفتاة المُحتجبَة ، الجالسة في العربة بمقابل الروميّ ، قد كشفتْ اللحظة عن وجهها ؛ وكانت هيَ شمس ، المُشرفة ، وليست غيرها . " لا ، إنّ هذا ليسَ ببشارة خير " ، قلتُ بسرّي وأنا أغلي من الغضب وحتى الخزي . نعم . ففي تلك اللحظة ، أحسستُ بالاهانة لكوني خدعتُ بتلك الطريقة ، المُبتذلة . كما أنّ صورة الشاملي ، الصارمة النظرة ، راحتْ أيضاً ترتسمُ قدّامي : ويعلم الله ، فكرتُ مهموماً ، ماذا سيظنّ الرجلُ فيّ بعد قليل من الوقت ؛ حينما يفيقُ من نومه ويُبلّغ بحقيقة الأمر على لسان كبيرة أو غيرها ؟
" إنه حقا لشرَفٌ لي ، أن أتعرّف على جنابك ، يا آغا " خاطبني عبد اللطيف أفندي باحتفاء ، وهوَ يتفحّصُ بعينيه الكستنائيتيْن ملامحَ سحنتي . لقد لاحظ ، ولا ريب ، ما كانَ في ملامحي من خطوط الاستياء والريبة . وكانَ الرجلُ قد خرجَ بدوره إلى مدخل المنزل ، ليقف ثمة قرب حفيدته ومملوكها الماكر . ولدهشتي ، بدا الأفندي ، المُعتنق دين الإسلام ، وقد عادَ إلى ملبَس جماعته ، السابقة : كانَ يتزيى بصدرية ناصعة ، تحت بدلة طويلة سوداء ، خفيفة القماش ، وسروال قاتم اللون وقصير نوعاً ، لا يكادُ يغطي أسفلَ ساقيْه . كذلك فإنّ هذا السنيور ، الطليانيّ الأصل ، قد عمَدَ إلى دهن وجهه بمسحوق ما من شحوم التجميل ، الجديرة بالنساء وليسَ بالرجال . من ناخيتي ، كنتُ أيضاً مهندما ـ كعادتي ـ بملبس مُستحدثٍ ؛ إلا أنه ملبسٌ آخر ، أقلّ بهرجة ، أضحى شائعاً في مدن السلطنة ، العليّة . عندما توقفنا قدّام مدخل المنزل ، ما كانَ من شمس ، الخبيثة ، إلا المبادرة أولاً بمغادرة العربة . عندئذ اندفعتْ نحو صديقتها بحركةٍ طائشة ، غير مُحتشمة ، لكي تعانقها بحرارة . من جهتي ، حييتُ نرجس ببرود ، مُظهراً لها ولا غرو مدى سخطي وعتابي . فقابلتني هيَ بهيئة مماثلة ، وربما غير مُكترثة . من ناحية أخرى ، فلأقل هنا ، أنّ هيئة الفتاة ، المُستهترة ، كانت مُبهرة في ألق هذا الصباح الربيعيّ ، المُعين الملاحة . وضاعفَ من فتنة نرجس ، ما كانَ من تهندمها بملبس ٍ إفرنجيّ جميل ، وعلى الرغم من غرابة تفاصيله : فلم تكن مُتنقبة ، ولا حتى مُحتجبَة . كانَ على رأسها قبعة عريضة ، فاخرة ، ذات طرفيْن طويليْن ، مُنسدليْن للأسفل ، مُزيّنة بالريش والأشرطة . ومن عنق الفتاة ، كانت تتدلى حلية من الجوهر النفيس ، النادر ، تليق ببشرتها الناعمة ، الناصعة ـ كالمرمر . أما ملبَسها ، فكانَ عبارة عن مَخصَر زاهٍ ، ضيّق ، مشدود فوق تنورة واسعة من قماش قطنيّ ، خال من البريق . كما أنّ المملوكَ الماكر ، الصقليّ ، كانَ قد غادرَ هيئته السابقة ، ليعودَ إلى ملبَس قومه ، الأصليّ ؛ ولو أنه ، على أيّ حال ، كانَ ملبس الخدَم . وبدون حاجة لمعونة من أحد ، عرفتُ أنه يتعيّن على كلّ منا، نحنُ القادمين الجدد ، أن يغيّر أيضاً ملابسه ، المألوفة ، لكي ينسجم شكله مع هويّته المُستحدّثة ، المَزعومة . وكذا الأمر ، بالنسبة لموضوع المُشرفة ، فإنني حَزرتُ في ذهني كلّ تفاصيله ، المُحتملة ؛ فلم أحتج لشرح من أحدهم ، أو حتى تبرير .
عندئذ ، زالتْ غشاوة الكدَر عن سحنتي ، كما تبيّنته من اختلاف نظرة حمو الزعيم . إذ راحَ الآنَ يتطلع نحوي بمودّة ، وكأنما لم يجدَّ بالمرّة شيءٌ غير عاديّ . ثمّ ما عتمَ الرجلُ أن تأبط ساعدي بألفة صديق ، وسحبني برفق باتجاه باب بيته ؛ المَشغول على الطريقة المحلية . بيْدَ أنّ الضيفَ ، الزائرَ ، لن يلبث هنا أن يلاحظ ، فوراً ، أنه انتقل من الشام إلى البندقية : إنّ كلاً من عمارة المنزل ، الخارجية ، كما وتلبيسه ، الداخليّ ، لا يكادُ يمتّ بصلة للأسلوب العثمانيّ ، الوطنيّ . وبالرغم من الطراز ، المُستحدَث ، فإنني ألممتُ بشواردَ من النمط الغابر ، الغارق في القدم ؛ والذي سيقدّر لي أن أعاينه عن قرب وبكثرة ، في جزيرة الأروام هذه ؛ أينَ أعيشُ الآنَ منفياً . على أنّ مُضيفنا ، اللطيف الاسم والخلق ، كانَ عليه ، قبل ذلك ، أن يُجيبَ على أسئلة فضولي ، المُسدّدة نحوَ تفاصيل المناظر ، المُترائية لعينيّ ، المَبهورتيْن . أجل ، لقد سبقَ وزرتُ بعض الوكلاء ، العاملين بخدمة القناصل الإفرنج ، وكانت منازلهم لا تقلّ رفعة عن منزل جدّ نرجس . إلا أني اليومَ ، والحق يُقال ، كنتُ أمام إحدى معجزات العمارة ، المُجدَّدة ؛ التي كانَ من شيمتها خلط الأسلوبيْن المُتمايزيْن ؛ العتيق والمُبتكر . " إنّ الرومانَ ، كما لا يَخفى على علمكم يا سيّدي ، حكموا ساحل البحر المتوسط برمّته ، الغربيّ والشرقيّ . وفضلاً عن ذلك ، فإنهم أسلافنا ؛ نحنُ البنادقة . لذلك ، فإنكَ تلحظ ولا ريب ، كيفَ يتداخلُ النمط الرومانيّ ، القديم ، في عمارة منزلي كما وفي تفاصيله الداخلية ؛ وخصوصاً ، لجهة استخدام الأشكال الهندسية ، الميسورة ، في النوافذ والفتحات والأفاريز ـ كالتربيع والتثليث والتدوير . علاوة طبعاً ، على النمط الأوروبي ، المُتجدد ، الذي يفضلُ الأشكالَ المُنحنية والمُحلزنة " ، شرَحَ لي عبد اللطيف أفندي ما أراه ، خلال تجوالنا في أقسام المنزل ، البرانية. وقلتُ له بلهجة إعجاب ، واضحة : " كلّ شيءٍ في منزلكم ، يا سيّدي ، بغاية الروعة " . وكدتُّ أن أضيفَ " والكمال " ، حينما همزني داخلي ؛ بأنّ الكمالَ لله عز وجلّ . ثمّ استأنفتُ كلامي ، ملاحظاً : " إلا أنكَ يا أفندي ، لوَ سَمَحتَ لي ، لم تنسَ أنكَ مسلمٌ ؛ وتعيشُ في الشام الشريف . فبغض النظر عن عمارة منزلكم ، الحجرية بالكامل ، إلا أني أبصرُ الكثيرَ من تفاصيل التلبيس الدمشقي ،المُستخدم فيه مواد انشائية أخرى ـ كالطين والخشب والجصّ والصّدف والمرمر والعاج ، وحتى الذهب والفضة " " يَسرّني بطبيعة الحال ، أن تلاحظ ذلك . ولعلمكم أيضاً ، يا آغا ، فقد استغنيتُ منذ مدّة طويلة عن التصاوير المُجسّدة أشكال البشر والحيوان ، مُستعيضاً عنها بزخارف نباتية وهندسية ؛ مُنسجمة مع عقيدة هذه البلاد وتقاليدها . إلا أنني احتفظتُ بالعمارة الخارجية ، الأوروبية الطراز ، فلم أغيّر فيها شيئاً يُذكر . وبهذه الحالة ، فلا يرى المرءُ هنا حَرَمْلك ، مثلاً ؛ أنا من يعيشُ أرملَ منذ وفاة زوجتي قبل عقدٍ من الأعوام ، تقريباً ، ولم أهتمّ مُطلقاً باستحواذ الجواري والسراري " . حينما أنهى الرجلُ كلامه ، وجدتني أهزّ رأسي تلقائياً ، فيما التفكير كانَ يُشغلني . فلقد طرأ عليّ خاطرُ مُلاحظتيْن ، في حديث هذا الأفندي ، المُهذب ، فأثارتا تساؤلي : أولهما ، أنه قالَ " عقيدة هذه البلاد " ، عوضاً عن " عقيدتنا " ؛ بما أنّ كلا منا على دين الإسلام ، والحمد لله .. ؟ والملاحظة الثانية ، أنه قالَ " زوجتي " ، فيما تقاليدنا لا تبيح تسمية الحريم سوى بكلمة عمومية ؛ من قبيل " أهلي " أو " عيالي " .. ؟
نفياً لصفتي الحقيقية ، العثمانية ، وجدتني أعمدُ بدوري للارتقاء ، مرتبة فمرتبة ، في مدارج صفة الإفرنج ، المُزيّفة . ولو كانَ عليّ أن أكتبَ تذكرة حياتي هذه ، في تلك الآونة نفسها ، لعبّرتُ عن الحال بطريقة مُعاكسة ، بكل تأكيد ؛ لكنتُ قلبتُ الإرتقاءَ إنحداراً . وكانَ خادمٌ متوسط العمر ، حبشيّ المنبت ، قد رافقني ببساطة إلى القسم العلويّ من الدار ، لكي أبدّل ملبسي ، المألوف ، بملبس آخر ، ينتمي للغرابة ولا شكّ ـ كما هوَ حالُ ملابس الأفندي والمملوكيْن . حينما قلتُ آنفاً ، " ببساطة " ؛ فلأني لم أعتد قبلاً على الصعود إلى الدور الفوقاني ، المُخصص لمعيشة أهل الدار ، دونما اجراءات عديدة ، متحرّزة . ولكن ، لا بأس . فالمُضيف قد صرّحَ بنفسه ، قبل قليل ، بأنه أرملَ ولا محظيات لديه ؛ فما هيَ المشكلة ، إذاً . وعلى كلّ حال ، فها أنا ذا هنا ، في حجرة نوم صاحبنا ، الأفندي ؛ أقفُ مندهشاً أمامَ خزانة ثيابه ، الهائلة الحجم ، والتي يكسو خشبها الصقيل ، من جهة الوسط ، مرآة رائعة ، مستطيلة الشكل ، مزخرفة الإطار بتذهيبٍ متقن الصنعة . الخادمُ الحبشي ، الطيّب الملامح واللسان ، أجزى لي مساعدته ، الضرورية ، حينما كنتُ أنتقي هذه أو تلك من قطع الملابس . وأعترفُ ، بأني حيّرتُ الرجلَ ؛ طالما أنّ هدفي لم يكن اختيار هيئة تروق للذائقة الإفرنجية ، بقدر ما تكون كذلك بالنسبة لذوقنا ، المَشرقي . فما أنّ إطمأنّ الرجل ، بعد جهدٍ حقيق بالتذمّر ، إلى مظهري ، الرضيّ ، حتى قفلَ عائداً إلى البيت التحتاني ، إثر نداء أحدهم باسمه . وكنتُ في الهنيهة التالية ، مُنشغلاً بارتداء الملابس الجديدة ، حينما فجأني الخادمُ بظهوره ، مرة أخرى ، لكي يطلبَ مني أن أتعجّل بالنزول إلى قاعة الضيافة ؛ لأنه ثمة من يودّ رؤيتي بإلحاح . " أرجو أن تتمالكَ نفسكَ ، يا آغا . فإني أحملُ معي خبراً غير سار ، بل ومشئوماً " ، خاطبني كبيرُ الأعيان ، بعدما فرغنا من شؤون المصافحة والمجاملة . وكنتُ عند دخولي الصالة ، قد تسمّرتُ على مدخلها مذهولاً بمرأى الشاملي ؛ وهوَ مجالسٌ حموه في أريكة واحدة ، فارهة ، مركونة في صدر المكان . فحينما نطقَ الضيفُ مُبتدأ جملته تلك ، فإني شعرتُ بخفق فؤادي ، الذي أخذ يقرع صدري بقوّة . إذاك ، فقد ذهبَ فكري بشبهته نحوَ جهة واحدة : اليرلي باشي ، المبخوس الفأل . وما لبثَ الشاملي أن أيّد حَدَسي ، عندما استأنفَ القولَ بنبرة حزينة ، متهدّجة ، مُضيفاً الخبرَ لجملته تلك : " لقد ماتَ قوّاص آغا ، مَسموماً ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : صراط
-
الفصل الثالث : مَنأى 9
-
الفصل الثالث : مَنأى 8
-
الفصل الثالث : مَنأى 7
-
الفصل الثالث : مَنأى 6
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
-
الفصل الثالث : مَنأى 4
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
-
الرواية 2
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|