|
فلسفتي في الحرية والمسؤولية
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن-العدد: 3010 - 2010 / 5 / 20 - 00:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هناك مقولة ليبرالية مفادها إن عالمنا الحديث قد غادر الإيديولوجيات، ولكن هذه المقولة وما يترتب عليها، هي بحد ذاتها لون من ألوان الأدلجة، كما إنه قديما قد قيل بأن نفي الفلسفة هو لون من ألوان التفلسف. ومن هنا لا بد للسياسي أن يمتلك قاعدة فلسفية أو قل فكرية يقوم عليها كل بنائه السياسي، فكرا وخطابا وموقفا وسلوكا سياسيا. وعندما أقول «فلسفتي»، فليس من قبيل ادعاء أني من أهل الاختصاص في الفلسفة، بقدر ما يعني ما يمثل فهمي للقضية التي تدور حولها ما أإسميه بـ«فلسفتي».
الحرية بمفهومها الليبرالي، بكل تأكيد لا تعني انفلاتا من الالتزامات الأخلاقية والإنسانية، ولا تخففا من القيم. فـ(الحرية) و(المسؤولية) عنصران أساسيان من عناصر إنسانية الإنسان، وهما المعبران عن المزاوجة بين نزعتيه (الفردية) و(الاجتماعية)، واللتين لا تنفكان عن الإنسان وفطرته. فإذا كانت الحرية تؤكد فرديته، تؤكد المسؤولية اجتماعيته، ومن هنا أقول بـ(الحرية المسؤولة)، ووجها الآخر هي (المسؤولية الحرة).
ولنتناول أهم مقيِّدات الحرية؛ وعندما نتكلم عن المقيدات، يعني ذلك الكلام عن نفي الحرية بنسبة ما، مما يعني أن الحرية تقريبا ككل القضايا في عالم الإنسان، إنما هي نسبية، لأن التقييد يعني أن هناك نسبة من اللاحرية، حتى لو كان أساس هذا التقييد هي الحرية نفسها، أي حرية الآخر التي تنتهي حريتي عند عتبة الباب المؤدي إلى حرمها، وهكذا تكون المسؤولية في مصطلح (الحرية المسؤولة) مقيدة للحرية، وكأنن نقول (الحرية المقيدة بقيد المسؤولية). لكن دعونا نتناول أهم مقديات الحرية، لنرى أي من القيود تقبله الفلسفة الليبرالية للحرية، وأيا منها ترفضه، وتعمل على كسره والتحرر منه.
مقيِّدات الحرية:
1. الدين: من غير شك أن للدين تحديداته وتقييداته لحرية الإنسان. ومن تقييدات الدين ما هي تقييدات مشتركة مع غيره من عوامل التقييد. ومن هذه العوامل عامل الإنسانية والأخلاق، ومنها عامل العقلانية والحكمة، أو عامل المسؤولية الاجتماعية. ولكن من تقييدات الدين ما هي حسب المصطلح الديني تعبدية، أي مما لا يدرك (المؤمن)، أي المؤمن بذلك الدين على وجه الخصوص، حكمة التشريع فيه، إلزاما أو تحريما أو ترخيصا، أي أمرا أو نهيا أو إباحة. لكن وبنظرة متجردة، أي بقطع النظر عن الإيمان بمدى إلهية التشريع؛ أو بشريته، أي بشريته تأسيسا، أو بشريته فهما واستنباطا وتفسيرا وتأويلا، فإذا كان التقييد الديني أو بعض تقييدات الدين تقييدا لـ(الحرية) في غير صالح (المسؤولية)، أي من نوع التقييد المبرر إنسانيا أو أخلاقيا أو اجتماعيا، فيبعد عن أن يكون تشريعا تقييديا إلهيا.
2. العرف: للعرف تقييداته لحرية الفرد، وغالبا ما يكون هذا التقييد حتى في حالة تقابل وتعارض مع الدين، أو في تعارض مع القانون، أو مع أسس العقلانية، أو مبادئ الإنسانية. وبعض التقييدات العرفية قد تكون مقبولة، ويمكن التعايش معها، حتى لو لم يجر الاقتناع بمبررات تلك التقييدات، بشرط ألا يتخذ إجراء قمعي تجاه مخالف العرف، الذي لا ينفع الالتزام به، ولا يضر تركه.
3. القانون: القانون الصالح غالبا ما يكون فيه بعد أخلاقي وإنساني، لأن القانون أصلا إنما يوجد لحفظ الصالح العام وحريات وحقوق الأفراد. ولذا فحتى عند الدينيين، أو بشكل أخص عند فقهاء الدين، لاسيما الفقهاء الذين يدركون وجوب أن تكون الشريعة ذات ديناميكية تمكنها من مواكبة العصر، يكون الالتزام بالقانون واجبا شرعيا، أي دينيا، ولو بالعنوان الثانوي.
4. الضمير: أي التقييد الذاتي للحرية. وهنا يكون ممارسة الحرية على أساس مبدأ (الحرية المسؤولة)، فالمسؤولية رقابة من الداخل، بينما القانون، كما العرف وحتى الدين في جانبه التشريعي لا التقوائي؛ كل ذلك يمثل ألوانا من مزاولة الرقابة من الخارج. وهناك علاقة بين مفهوم (الضمير) كرقابة ذاتية، وبين (التقوى) كمصطلح ديني، بمعنى ممارسة الرقابة الذاتية عبر استحضار رقابة الله للإنسان، وهذا ما ينعته العرفانيون استيحاءً من المفردات القرآنية بـ(النفس اللوامة) التي تمثل انتصارا على (النفس الأمارة بالسوء).
5. الرقابة الاجتماعية: الرقابة الاجتماعية الفاعلة هي آلية مهمة في ضبط حركة الحرية، كي لا تكون حرية عدوانية. وغالبا ما نرى في معظم المجتمعات حالة من تعطيل لهذه الآلية، بحيث يتعامل الفرد مع الظواهر والسلوكيات السلبية، أي المضرة بمصالح المجتمع، أو بمصالح الأفراد الآخرين وحقوقهم وحرياتهم. الإسلام مثلا شرع ما أسماه بـ(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، لكنها مورست غالبا بالاتجاه السلبي، أي في التدخل في شؤون الأفراد وحرياتهم، بإلزامهم، أمرا أو نهيا، بما لا يعني إلا الأفراد أنفسهم، وهذا يعدّ وفق الفهم الليبرالي للحرية تدخلا في الشأن الشخصي الخاص، واعتداءً على حريات الأفراد. لكن لو مورست هذه الآلية ممارسة عقلانية، مقترنة بالإيمان بمبدأ (الحرية)، وإن كانت على نحو (الحرية المسؤولة)، لأدت دورا إيجابيا بناءً، ومن هنا كان قول علي بن أبي طالب «ليست أعمال البر كلها في مقابل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي». لكن تفعيل هذه الآلية بمعناها الديني أمر خطير، لأنه سيؤدي بكل تأكيد إلى التضييق غير المقبول ليبراليا على حريات الأفراد. ولنا مثال آخر للرقابة الاجتماعية، ذلك ما أسسه آدولف هتلر مثلا، حيث جعل كل فرد مسؤولا عن تصرفات الآخرين، وهذا ما كنا نلمسه في الستينات، حيث كان جيل هتلر ما زال موجودا ومتأثرا بالتربية النازية، فكان كبار السن من النساء والرجال، إذا ما رأوا سلوكا غير مرضي، يتدخلون، وإذا ما رأوا مخالفة قانونية سارعوا بإبلاغ الشرطة. في الواقع هذا النوع من الرقابة الاجتماعية إذا ما مورس ممارسة عقلانية ومعتدلة، دون المساس بحرية الأفراد فيما هي شؤونهم الخاصة، فيجري التدخل عند رؤية شخص يعتدي على شخص آخر، أو يرمي النفايات في الشارع، أو يؤذي حيوانا، أو يخالف قانونا شرع لحفظ الصالح العام، أو عند رؤية موظف يرتشي، أو معلم يستخدم العنف تجاه تلامذته، أو جار يزعج جيرانه، وهكذا، لاستطعنا أن نقاوم، بل ونستأصل الكثير من الظواهر السلبية في المجتمع.
إذن الحرية مبدأ أساسي ذو قيمة عليا، لا يجوز انتهاكها أو الانتقاص منها. ولكن الحرية بمعناها الليبرالي ليست انفلاتا، ولا هي حرية فوضوية، ولا تفككا من القيم، كما ولا تعني حرية الاعتداء، أو حرية الإضرار بالصالح العام، أو حرية الانتقاص من مبدأ الحرية نفسه، أو حرية العبث بمقدرات المجتمع؛ بل الحرية التي ندعو لها هي الحرية المسؤولة، وذلك ككفَّتَي ميزان متوازنتين تمام التوازن، فلا الحرية تعني أن تستخدم على نحو التخلي عن المسؤولية، ولا المسؤولية تستخدم كمبرر للتضييق غير المبرَّر للحرية.
18/05/2010
#ضياء_الشكرجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفتي في الوطنية والإنسانية
-
ماذا يعني توحيد (دولة القانون) و(الوطني)؟
-
وجهة نظر عراقية في الفيدرالية 2/2
-
وجهة نظر عراقية في الفيدرالية 1/2
-
شكر للقوى الشيعية والسنية لإنهائها الطائفية السياسية
-
مع الأستاذ الحراك والحوار حول المشروع الوطني الديمقراطي
-
الخطاب السياسي المغاير ما بين الدبلوماسية المفرطة والهجوم ال
...
-
العلمانية والديمقراطية والليبرالية بين الإسلام والإسلامسم 2/
-
لماذا نقدي المتواصل لتسييس الدين والمذهب والمرجعية
-
الملحدون الإلهيون والمرتدون المتدينون
-
ثورة إيران في ذكراها السابعة والعشرين
-
نداء تاريخي إلى الحزب الإسلامي العراقي وحزب الدعوة الإسلامية
المزيد.....
-
الرئيس المصري يتلقى دعوة لحضور احتفالات الذكرى الثمانين للنص
...
-
روبيو: علينا أن نمارس مزيدا من الضغط على إيران
-
روبيو: وكالة USAID تقوض عمل الحكومة الأمريكية
-
طلاب من جامعة كولومبيا يقاضون الإدارة بعد إيقافهم بسبب مظاهر
...
-
إعلان حالة التأهب الجوي في خمس مقاطعات أوكرانية
-
مصر.. تفاصيل حكم ببراءة نجل الداعية الشهير محمد حسان في قضية
...
-
خبير عسكري: القوات الأوكرانية تعاني من مشكلة على خط الجبهة و
...
-
روبيو: الولايات المتحدة تدرس فرض إجراءات إضافية ضد الصين
-
فون دير لاين: الاتحاد الأوروبي سيرد على واشنطن بشكل صارم في
...
-
فيتالي نعومكين: أجد صعوبة في تصديق أن إسرائيل ستتخلى عن ممار
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|