أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال غبريال - - أثداء الصبار- قصة قصيرة















المزيد.....

- أثداء الصبار- قصة قصيرة


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 915 - 2004 / 8 / 4 - 12:27
المحور: الادب والفن
    


أشرعة الغاب المطوية على البر الغربي تغزوها الصفرة من شواشيها، رويداً، رويداً، تستكين أوراقها فتتشقق، يغيض من سراديبها الحنين، مرتحلاً إلى قاع أبدية عمياء، بشعة، ومبتورة الأطراف . . تتقصف لوطء نسائم تائهة، تضرب صفحة الزمن الناتئ كورم سرطاني، ومن الآن فصاعداً، تجتاز عتبات الغياب التتهادى ركائبه، وخط الماء الينحسر لمنتصف المجرى، وقد تعرت بعض أحجاره.
قلت: من يشارف المخاضة فليتدثر بالنزق.

قالت: يطير صواب أمي حين كان الجيران يرونني بجانبها في الشرفة . . تصيرين قريباً جدة . . تجرجرني من ضفيرتي إلى الداخل . تلكمني على ظهري . تدس رأسي في سحارة الملابس المخزونة، أعيد ترتيبها . لا أجد رغبة في البكاء . . ثدياك صارا كلبين يلهثان في الظل . أتوارى خجلا"، وإحساس رازح بالجرم . أما أبي، فلا حول له ولا قوة.

قلت: الحياة شمطاء مجنونة، لكنها تستفز صوامع الشبق الديونيزية، حتى آخر قطرة في خيط السائل كاب البياض، وآخر ارتعاشة في أشلاء أوزير، التي لم يكلف أحد نفسه عناء جمعها.

بين خط السكة الحديد، وسور مدرسة الإبراهيمية الابتدائية، أحراش صحراوية، وزهور ملونة، مدسوسة في أشواك مخادعة، تدمي أناملنا الصغيرة، ينتقي كل منا قوقعاً منفوخاً ومدملجاً، لنسير صفاً متكسراً، تتحسس أقدامنا البادئة الخطو طريقها بين شجيرات الصبارات الغرائبية، ولا ننتبه للصدى المكتوم، ونحن ننشد بحماس مقطع الأوصال:
طلع شنباتك لمراتك، وافتح الباب لعيالك . . طلع شنباتك . . . . . . . . . . . . .
نلهج طويلاً كنا بالنشيد.
قالت: تدمن على العوارض المقددة إهراق النوستالجيا.
قلت: بعد أربعين سنة، فكرت أن بعض قواقعنا لم تكن غير حصوات، وفكرت كم كنا مبهورين بطزاجة الصبح، ووحشية الأشواك البدائية، وكم نبغض صوت جرس طابور الصباح، والبحث عن حقائبنا الملقاة، مضمخة بنتح الزروع الشيطانية، وتنادينا مسرعين خارجاً، كيلا يكون أي منا آخر الناجين من مفازة الاخضرار الناضح بالشوك، المجهول، وعشرات الأساطير الصغيرة، نبرع في روايتها لمن لم يتجرأ مثلنا على ولوج المخاضة.

هل قالت: الحب صباحات طرية، لا تنفك تبعث نداءاتها حتى قبل حلول الظلام.
وقالت: عشقتك وأنت بأحشاء ديميتر، وقبل أن يضيق بروميثيوس بصلف الآلهة.
ساعتها قلت: الآلهة سرب من الخفافيش، والعشق شعلة تستبيح عيونها الكليلة.

في أحلامي، يتمثل الموت أنثى هائلة، أسبح بين فخذيها، ينهك خياشيمي ضوع حلكة غابتها الهمجية، ويدور بي جسدي، فأعب الماء حتى الثمالة، ولا يلبث موجها أن يرفعني، مرات ومرات، قرب النهاية أصارع الهلع الأسود والتيار . . قبيل أن يجرفني لغياهبها أكون قد استيقظت، ووسادتي منقوعة في عرق مثلج، وأسرع بجذب الغطاء، أواري به انتصاباً، وإحساسي الفادح بالافتضاح، وألفلف به صفيراً يطن في أذني، ولا ينتهي بي إلا بعيداً، بعيداً، في أغوار زمن مجهول.
قالت: تعشق الخواء في هياكلك الميتافيزيقية.
قالت: ستجـن.

في مدرسة الرمل الإعدادية بثروت باشا، والمدرس يسرع بإغلاق النوافذ، ليدرأ عنا زغاريد بنات التجارة الثانوية، المصبوبة ألسنة نيرانها عبر الشارع الضيق، كنت أضم ساقي بعنف واعتزاز، وأنزلق لعوالم ملونة، وأصوات كأنها من خفقات أجنحة ملائكية، مزق الفرح شرانق وقارها، عوالم مازالت رائحتها تداعب أنفاسي، رغم وطء وخامة الهزيع الأخير من سبتمبر.
أذكر كنا نلتزم صمتاً هشاً ومخاتلاً، مدركين في سرائرنا أن أدواتنا لم تكن مهيأة بعد لتبعات الربيع الذي داهم غفلتنا الغضة بالدهشة والتطلع، وما أن أعود للبيت، حتى أحكم إغلاق غرفتي، وأرتمي على وجهي فوق الفراش، إيذانا" للأخيلة العربيدة بالانطلاق، محاولاً إتقان فعل السباحة واللهاث.

قلت: تطلبين الحب في زمن الانكسار.
قالت: الحب نداء يجلدني، بل أسياخ محمية تشق طريقها بين اللحم والعظام.
قالت: الصمت نقاب، الصمت ركام، الصمت ضباب تتقلص في أهدابه كل عضلاتي المقموعة، المنسية.
قالت أيضاً: ليس بالقتل وحده يموت الإنسان.

أدركت أبعاد كارثتي وشمس يوليو تلفح جمجمتي، فأدور وأدور، لا منفذ من كل تلك الإشارات الحمراء . ممنوع الدخول . والوقوف . الانتظار . والسير في هذا الاتجاه . ممنوع حتى استخدام آلة التنبيه . ممنوع أيضاً الدوران . . امرأة هي من أشجار التوابل . . من ورق الرند والقرفة وظهر الفلفل وذر الورد والحبهان والمستكة والقرنفل، جسدها الحوشي . حريفة، شهية، ولاذعة، كطعم جنون الصبا في العقد الخامس . . أرفل في عرقي الملحي، أرتعد كطفل على شاطئ عينيها . . وهي تبتسم بمرارة، كنت أقول لها، أنني قررت عزل الإله، لأدس رأسي بين ثدييها، تماماً كالطفل الإلهي حورس . . . . . . هل لاحظت أن صوتي يخرج من بئر مستباحة جدرانها للطحالب والشروخ، وأن بحار عينيها تجلدني أمواجها، وأن لعنة الآلهة ستطاردني حتى القبر؟!

قالت: كل يوم كنت أطرز فستاناً جديداً، لعروستي الشقراء، ذات حبتي الخرز الزرقاوين، والخصر النحيل . . أنفق الساعات في اللمسات التي يسمونها أخيرة . . أظنها كانت ترقبني بشغف، ونفاذ صبر، أو هذا ما كنت وقتها أدعي، ومتى اكتمل، أحسها تضيق به . . يقبض بجهامة على قدها الرقيق، بالكاد أقوى على التنفس، أمزق الباترون الورقي أولاً، ثم أنزع الفستان ذاته عنها، ألقي به في صندوقها الخاص، لتبيت عارية في حضني . . بعد فترة، لم أعد قادرة على تجاهل حقيقة أنها وحيدة ومستوحشة . هل كانت ترتجف؟

قالت: أمس لعنة جاثمة في رحم الغد.

أدوناي . أدوناي . يا أضغاث العجز الأزلي . كلمة السر لترياق التلاشي دون ما جلبة . . ثمة خيوط بين السماء وأبراج الفجيعة في أسفل سافلين . . أدوناي يا ابن المراثي والأوجاع، وحشرجات الخاسئين على نواصي الشوارع، وفي كن الطرقات الضيقة، التي يستوطنها الذباب والرمد، ملتصقة ظهورهم لجدران طالما بال عليها الكلاب . . يشكرون الآلهة على كل حال وفي كل حال ومن أجل كل حال . . دمي مسفوك قرباناً لمجدك . دمي بركة حناء لأظافر قدميك الهائلة بلا أدنى مبرر . . حين يجوس في لحمي وشيش الريح، وهي تغزل مؤامرة كبرى، ويتواطأ الصمت عبر مكبرات الصوت، أطرقع أصابع كفي وأنا أحكم رتاج النوافذ، وأصر ألا أجهش بالبكاء . . أدوناي، يا خدراً لازوردياً على صفحات المرايا الضاحكة، كم من أصداء تتعملق لرنين نحاسي لا يسمن، ولا يشبع من جوع؟ هنا أو هناك، لا، بل هنا بالتحديد، عند مبكى كل العيون التي اصطنعت القهقهة نقاباً، والتراتيل حبلاً طويلاً، يصلح تماماً كمشنقة، هنا قبر وحيد بلا شاهد، ولا حتى لوحة تذكارية، أسمع في أحشائه نداء، وينسال من خوائه في عروقي حنين، وإصرار، ورضى.

هل قلت: جسدك مراع شاهقة الاخضرار، ولموجك جلال لا تتجاسر عليه النوارس.
كنت قد قلت: أحبك.
قالت: العمر رحلة قطار الموت إلى محطة النهاية.

قالت: في طريقنا إلى مدرسة العطارين الابتدائية، نعرج على جبلاية الإسعاف . . نبكي مع الباكيات على باب المشرحة، مبهورات بما يفعلن، فقد كان ذلك اكتشافاً مثيراً ورائعاً، أن نراهن وهن يلطمن الخدود، يهلن ما يجدن من تراب على رؤوسهن المنكوشة، كن ينكشنها، ثم يهلن عليها التراب، كنت أتمنى أن أشاطرهن هذا الحماس الفائق، أجلس على الأرض، أخبطها بكفي، أصيح ملء حلقي، دون حاجز أو رادع . . بعضهن كن ينخرطن في الصراخ والعويل بلا دموع، بدا لي هذا عجيباً، ربما حسبته ممتعاً . . أحياناً نتسلق الربوة إلى شجيرات التين الشوكي، وتتسلل أكفنا الضئيلة إلى زهورها القرمزية . . لعدة أيام أخر، كنت أعاني الشوك في كل كفي وساعدي، أما اللون الأحمر الدموي الذي لا يبارح راحتي من ملمس تلك الزهور، فمازال يراودني في أحلامي عبر كل تلك السنين.

قلت: أحضر نيقوديموس، ويوسف الذي من الرامة، أطياباً وحنوطاً لجسد الرب المسجى، على حجر المريمات.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خربشات على جدار مفترض - كتابة عبر النوعية
- الشيخ وهالة الصبح - قصة قصيرة
- مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 3/3
- مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 2/3
- مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 1/3
- نحن وأمريكا الجزء الثالث
- نحن وأمريكا الجزء الثاني
- نحن وأمريكا الجزء الأول
- الفاشيون الجدد والاقتداء بمقتدى


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال غبريال - - أثداء الصبار- قصة قصيرة