|
سقوط الشعارات الثقافية في سورية
قيس مصطفى
الحوار المتمدن-العدد: 3005 - 2010 / 5 / 15 - 16:21
المحور:
الادب والفن
لا يأتي الشعار أول ما يأتي من الثقافيّ، وربما كان الشعار آخر ما يصل إلى الثقافة، ولا أحد يعرف، مَن على وجه التحديد أطلق الشعار الثقافي الأول في حياتنا العائمة فوق قشور الحياة العصرية الجديدة. والشعار يتّسق مع الشائعة «ألسنا مجتمعات تحبُّ الفضيحة حتى العظم؟».. نتَّفق على مقولة، فتذهب مثلاً، ثم يصير المثل أيقونة، ويصير للأيقونة قداستها المفترضة، ثم نقطع يدي كلّ مَن تسوِّل له نفسه العبث في تلك المقولة التي قد يطلقها ربما عابث أو شخص مصاب بالضجر على طاولة في مقهى. يبدأ الشعار غالباً مع حالمين أو واهمين أو مدَّعين، أو مع أصحاب مشاريع. ثم ينتقل الشعار ليصير عنوان الثقافة ومتنها الأساس.
كثير من مثّقفي الألفية الجديدة لا يختلفون أبداً عن باعة السلع التجارية (مع الاحترام الشديد لمهنهم)؛ فكثير منهم يكتبون على واجهة محلاتهم: «لسنا الوحيدين، ولكننا الأفضل». وهذه المقولة الإلغائية، وما يضارعها، تنتقل إلى الثقافة بسلاسة منقطعة النظير، ليمارسها المثقفون والمشتغلون في الثقافة، وإن كانوا لا يصرِّحون بها جهاراً. ولكن ثقافة شطب الآخرين موجودة، وليس في وسع أحد إنكارها، لأنَّ «السيوف لا تستقيم إلا بقتل أحد»، فكيف إذا كانت القتيلة فكرة!. ربما جاءت الشعارات من السياسة؛ أحلام التحرير والثورة جلبت معها الشعارات، ثم حملها مثقّفو الأحزاب على أكتافهم، وناطحوا بها وجه السحاب، وعندما أخفقت الأحلام، وأُجهضت المشاريع، ظلَّ الشعار يمارس سلطته على الثقافة، وظلَّ «الشعاراتيون» يمارسون غيّهم اللاواعي على كلِّ مَن تسوِّل له نفسه طرح فكرة جديدة.. هكذا يرى المفكِّر اللبناني، علي حرب، صاحب كتاب «حديث النهايات»، أنه «ليس الإنسان ما يعلنه، ولا هو كما يقدِّم نفسه. ربما هو ما يستبعده من نطاق التفكير والوعي».. والشعار يختلف جذرياً عن الإعلان «المانفيستو».. أعلن محمد الماغوط نفسه- على سبيل المثال- ثورة حقيقية على شعرية راكدة. وكذلك فعل نزار قباني، عندما تجاوز القيم السائدة. مع أنَّ كليهما انخرطا في بعض أشكال الشعارات. (راجع مسرح الماغوط وبعض نثرياته، وراجع أيضاً قصائد نزار قباني السياسية). ليس هناك «شعاراتي» مثل مظفر النواب، ولكنه هيمن على أجيال لاحقة لا تزال ترى فيه نموذجاً معيارياً جمالياً. وما فعله محمود درويش، أنه أسقط «الشعاراتي» من كتاباته الشعرية، عندما تخلَّى عن مجموعته الشعرية الأولى «أوراق الزيتون» من أعماله الكاملة. في حين ظلَّ الجمهور يطالبه حتى أيامه الاخيرة بـ»سجّل أنا عربي».
¶ ليس كلُّ شعار واهياً.. شعارات تودي إلى جهنم
الروائي نبيل سليمان، صاحب «مدارات الشرق»، ينبِّه إلى شيء أساس في النقاش عن ثقافة الشعار: «لستُ مع القول بانتهاء الأحلام السياسية والثقافية، وإنما انتهى نمط منها وشكل من أشكالها، وبعض تلك الأحلام مازالت تعيش حتى الآن، وليس كلُّ شعار ثقافي شعاراً سياسياً، فالسياسة ليست كلها تحرير فلسطين وسقوط الاتحاد السوفييتي».. ويضيف نبيل سليمان: «على المستوى الثقافي، هناك إنتاج ثقافي وأدبي شبابي، هائل ومتفرّد، وهو يتجاوز أيَّ شعار جامد، كما أنَّ هذا الإنتاج يشكِّل إضافة ثقافية حقيقية على الرغم من كلِّ الزبد الطافي على السطح، وهذا مؤشِّر إلى أحلام ثقافية جديدة، وهو ما يصلح للرهان عليه في المستقبل».. وليس بعيداً عن ذلك، يرى القاص إبراهيم صموئيل، أنَّ هناك كثيراً من الشعارات التي تقف حيال حقيقة الأشياء. يقول صموئيل: «انظر إلى شعار من نوع «قتل الأب»، واسأل مِن أين جاء هذا المفهوم؟ فحتى اللقطاء لهم آباء وأمهات. وتحت شعارات الحرية يصير لدينا درجة عالية من التدمير والفوضى. مثلما تنطوي بعض شعارات القائلين والقائلات بتحرُّر المرأة على تحلُّل من كلِّ قيمة»..
¶ الاستعراض المجاني.. من أين جاء الشعار؟
يؤكِّد الفنان التشكيلي، سعد يكن، أنَّ شعارات كثيرة كانت تدفع الثقافة باتجاهات وآفاق خاصة: «كان هناك دائماً حركات فنية تتبنَّى الشعارات بشكل مباشر، من دون الرجوع إلى التمييز بين السياسة المرحلية والأيديولوجيا، وبين ماهية الفن ودوره في الحياة». ويذهب إبراهيم صموئيل إلى أنَّ: «الفشل السياسي للأحزاب والقوى المختلفة، جعل مثقفي الأحزاب يعوِّضون عجزهم في السياسة بانتصارات في الثقافة».. أما سعد يكن فيقول: «في مطلع السبعينات، كان توجُّه الثقافة نحو الشعارات التي تخدم وتوظِّف دور الفن في تطوير الحياة أيديولوجياً، ومن هنا كان مفهوم الفن للفن أو الفن للجمهور. هذا المفهوم المغلوط أدَّى إلى حالة من الرغبة في توعية العمال لأهمية ودور الفن في تغيير المجتمع، وكان العمال وقتها أميين بصرياً وثقافياً، ولذلك ذهب مجهود التوعية في الفراغ لأنَّ ذهاب الفنان إلى إقامة معرض في معمل، كان استعراضاً مجانياً ليس له أيُّ دور حقيقي». ¶ ديمومة الشعار.. لماذا استمرَّت الشعارات الواهية؟
تتمتَّع أيُّ بنية ثقافية بقدرة داخلية على إدامة نفسها؛ فالأشياء والمقولات البرَّاقة لا تلبث أن تحصد عدداً كبيراً من المعجبين الذين يصبحون مستعدِّين للدفاع عن الشعار، لأنَّ بقاء الشعار، حتى وإن كان خلَّبياً، هو بقاء لهم في المواقع والمناصب التي تقتضيها تلك البنية الثقافية. يقول المخرج نبيل المالح: «مثلما نحن مصابون بالشيزوفرينيا الشخصية، فإنَّ مشهدنا الثقافي يحمل حالة الفصام ذاتها، إنه انفصام شديد بين موقعنا الثقافي الحالي وبين مشروعنا الثقافي».. ويضيف: «الثقافة هي أهم تعبير عن الحرية، ولا نستطيع أن ندَّعي أنَّ المؤسسات الثقافية تقوم بدورها إلا تحت ظلِّ شعارات فقدت صدقيتها بالممارسة اليومية».. هكذا يرى صاحب فيلم «الفهد» أنَّ: «المؤسسات الثقافية أصبحت مجرد مراكز رقابية، ومقياس الثقافة الوطنية هم قرَّروا شكله وطوله وعرضه، ولم يُترَك للمثقف أن يكون معبِّراً عن ضمير الحياة اليومية».
أما الفنان التشكيلي سعد يكن، فيرى أنَّ هناك الكثير من المفاهيم التي جاءت لتحمل جانباً كبيراً من الاستعراض المجاني، ولتكرِّس استمرارية الشعارات، أو لتقدِّم نفسها كشعارات أخرى وبالحرارة نفسها: «كالبحث عن التراث، والعولمة، ودور الفن في إظهار التراث، وعلاقة التراث بالمخزون الإنساني، وكلُّ هذه المفاهيم التي حرَّكت أنصاف الفنانين إلى توجُّهات مباشرة ليس لها أفق». ¶ الشعارات المخرِّبة للثقافة.. ما فعله الشعار؟
استطاعت الشعارات التي هيمنت على ثقافتنا العربية، أن تُحبط كلَّ مسعى إلى الاشتغال على الجمالي الذي يمكن أن نتقاطع به مع الإنسان في كلِّ مكان. فمن شأن الشعار الإغراق في محلية مقيتة تجعل فهمنا من قبل الآخر عملية مستعصية. كما مِن شأنه أيضاً أن يقدِّم صاحبه ضمن أطر جامدة غير قابلة للإزاحة، فيكوِّن حملة الشعارات أعتى أشكال المنغلقين والمنطوين على الذات. يرى إبراهيم صموئيل أنَّ: «فكرة الشعار فكرة جامدة (ستاتيكية)، يتمُّ من خلالها صرف النظر عن الواقع الحي، ويحدث، بالتالي، تنافر شديد بين الواقع والشعار، سواء كان الواقع يتحرَّك سلباً أم إيجاباً أم في أيِّ اتجاه آخر».. ويستفيض صموئيل فيقول: «أحياناً، وعند محاولاتنا إلغاء الشعار، نقوم من دون أن ننتبه بإلغاء القيمة والمرجعية. هناك الكثير من الكتّاب الذين يقولون بـ»إلغاء سلطة النص الادبي»، وهم بذلك يناقضون فكرة «إغناء» الجنس الأدبي بأجناس أخرى، وهذا يأتي من عجز في تطوير الجنس الأدبي ذاته».. وهكذا يختم إبراهيم صموئيل بالقول: «هناك خطورة شديدة في هذه الشعارات، تؤدِّي إلى انزلاقات في مفهوم عظيم كمفهوم الحرية الذي أصبح عند البعض يعني الانحلال». ومن جهته، يرى الفنان التشكيلي سعد يكن أنَّ: «ارتباط الفن بالشعارات الأيديولوجية، خرّب جوهر العمل الفني».. في حين يرى الفنان التشكيلي زهير حسيب أنَّ: «أيّ شعار أيديولوجي أو فكري يسقط العمل الفني».. ويكمل حسيب قائلاً: «نحن نشتغل فناً للإنسان، وأيُّ عمل فني فيه شيء مباشر لا يستمرُّ، وهذا ينسحب على كلِّ ميادين الثقافة؛ فاللوحة يجب أن تعيش للأجيال، وأن تتجاوز الزمان والمكان، وهذا ما يجب أن تكون عليه القصة والقصيدة والرواية.. إلخ». مستقبل الشعارات.. كلُّ الشعارات الكبرى إلى الحضيض
يرى الزميل والصحفي زيد قطريب أنه: «من الطبيعي أن يندحر الشعار تبعاً لتقهقر وفشل الإيديولوجيات التي أفرزته في مرحلة ما، وهذا شيء يتَّصل بطبيعة الذهنية العربية غير النقدية، ليس تجاه التاريخ فقط، وما يمكن تبنّيه من مشاريع سياسية ووطنية يتَّفق عليها معظم الناس.. اندحرت الشعارات في السياسة تبعاً لهُزال الأفكار التي أنتجت هذه الشعارات، وكان هذا شأناً طبيعياً، لكن غير الطبيعي، هو استمرار الشعار في الثقافة بالطريقة ذاتها، وهو أمر يستحقُّ الوقوف بالفعل.. فرغم ما يقال عن حالة الاستشراف والرؤيا بعيدة المدى للثقافة، فإنَّ إصرار البعض على تكرار الشعار في الفنون المختلفة يبدو مثيراً للضحك دون شك، ليس لأنَّ القضايا الكبيرة انتهت، بل لأنَّ استحداث الأساليب وتطويرها لم يصل إلى العديد ممن يكتبون القصة أو الرواية أو الشعر.. هكذا يمكننا الآن أن نعثر على الكثير من الكتابات الوطنية أو المغرقة بالهمّ المحلي، من دون حاجة إلى اللجوء للشعار المستهلك بالتكرار. ومَن يدقِّق بما يجري، يتأكَّد من أنَّ فلسطين- مثلاً- لا يمكن أن تنتهي من أجندة الثقافة العربية، بل إنَّ الثقافة تمتلك مشروعية استحداث أساليب التعبير والتناول.. هذه مسألة تفتح الباب على أحقية الأبوة بين السياسة والثقافة، وما هو واضح تاريخياً أنَّ الثقافة تعدّ أباً شرعياً للجميع!».. في حين يرى الفنان التشكيلي سعد يكن: «سنجد قريباً انعكاساً من السياسة ودور السياسة إلى الفن وأهمية الفن ودوره كحالة مستقلة تتبعه السياسة، وليس العكس. فالتفرُّد في عملية الإبداع هو حالة ريادية للفكر الإنساني، وما يشملها من ثقافة وعلوم وسياسة».. أما الفنان زهير حسيب، فيرى أنه: «ليس في وسعنا إلا أن نحلم أحلاماً إنسانية، وهذا هو الطريق الوحيد لإسقاط أيِّ شعار يعرقل مسيرة الفن والإنسانية».
#قيس_مصطفى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رهان على ذكاء المتلقي
المزيد.....
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|