نجاة تميم
الحوار المتمدن-العدد: 2998 - 2010 / 5 / 7 - 15:06
المحور:
الادب والفن
من خلال قراءتنا لقصص الكاتب والباحث المغربي أحمد المديني، يمكننا أن نصنف قصة " الصورة والوجه" في مجموعته القصصية "حروف الزين" ضمن الأدب ألعجائبي الداخلي. لكننا نجد كذلك بعض ملامح الفانتاستيك الخارجي ويتجلى ذلك في المكان المسكون؛ بحيث يقوم الراوي بضمير الغائب بسرد حكاية البطل- الشخصية الرئيسة وزوجته وأن زائرا اقتحم عنوة نومهما وسمعا ليلا أن « حركة خفيفة لشيء تزحزح من مكانه». (ص99) يصمم بطل القصة أن يمعن الإنصات إلى مصدر الصوت. بدأ الشك يتسرب إلى داخله. أحس أن الصالون أصبح أطول، واكتشف أن « هذه الاستطالة مفترضة أكثر منها حقيقية.»( ص102) يتساءل عن من يحدث هذا الصوت : " أهو شخص أم شيء يجول في البيت كأن البيت بيته وليس بيتي". (ص100) ويعود الشك يراود الشخصية الرئيسة ؛ فيستطرد:« ربما يكون الصوت نابع من داخله هو، خارجا من رأسه.» ( ص102) لكن إصراره على معرفة الصوت جعله يمر بفترات ذعر وتردد ويكتشف أخيرا أن المصدر هو صورته مع الحاكم العام للمدينة المعلقة على الجدار في صدر الصالون. كانت المفاجئة أشد عندما شاهد « أن وجهه يغادر الصورة المعلقة في صدارة الجدار تتقدم نحوه ... ومن اتجاه آخر رأى وجهاﱟ يعرفه ولا يعرفه يدخل إلى الصورة. أراد أن يسأله: من أنت؟ لكنه أحس بالحرج. بين الوجهين رأى من يشبهه ومن لا يشبهه؛» ( ص111 ) ... استيقظت زوجته وذهبت تتفقده. « وحين تواجٙها ورأته أمامها ... وقبل أن تهوي في مكانها سمعت صوتها يسأل بين الرهبة والاستنكار: من أنت؟» ( ص112)
يلعب دور القرين دورا مهما في هذه القصة. فالسارد يروي قصة بطل يبحث عن نفسه وربما وجدها أخيرا في بديله. لكن هذه المرة تمثل القرين في صورته المعلقة في الصالون والتي تحمل كل همومه وتردداته وأحلامه وتخبطه مع نفسه. هنا القرين ليس شخصا وإنما صورة. حسب كوامار وستراغياتي، "يمكن أن يستبدل القرين كإنسان "بشيء انتقالي" كلوحة أو تمثال". وهذا ما وجدناه في هذه القصة وما سنلاحظه أيضا في قصة الكاتب والقاص العراقي إبراهيم احمد تحت عنوان" قطة بدون شعر" من مجموعته القصصية " لارا....زهرة البراري". فقصتا المديني وإبراهيم أحمد تعبران عن واقع معاش وتعكسان هوية سردية التي من المفترض أن يتسم بها كل متن سردي "كلقاء القاص بمجتمعه" (حسب عبارة محمد خضير سلطان) والتعبير عن ما يحدث حوله. لكن قصص إدغار بو لا تحمل هوية معينة. يعرف عن إدغار بو أنه كان صحفيا وشاعرا وناقدا وقاصا. لكن قصصه لا تحمل هويته الأمريكية بل تعتبر قصصا كونية بما تحمله من تخبط وتردد وجنون ورغم ذلك فهي التي منحته الشهرة بأوروبا وفي العالم أجمع ومازال، إلى يومنا هذا، تأثيرها واضحا على الأدب بشكل عام ( الرواية البوليسية مثلا).
"وربما الجنون هو الخطاب السامي" ،حسب عبارة تودوروف ؛ وبعبارة مشابهة، "أليس الجنون ذروة العقلانية"؛ هكذا يستهل بو قصته "إليونرٙ" التي سبق أن ذكرناها وهي شخصية كأغلب شخصيات بو التي لا نعرف شيئا لا عن أصلها ولا عن فصلها. أما بطلة قصة إبراهيم أحمد " قطة بدون شعر"، من مجموعته القصصية " لارا...زهرة البراري"، فتدعى كذلك إلينور. لكن هذه الأخيرة لها هوية؛ فهي رسامة سويدية لا تستطيع امتلاك قطة لفرط حساسية زوجها من شعر القطط. فهنا الراوي يسرد لنا الأحداث بالضمير الشخصي الأول "أنا". يتوجه الراوي-الشخصية الرئيسة إلى مدينة يون شوبنك للقاء أصدقاء له ولاجئين مثله. ويتوجب عليه أن يتوقف مرتين ليغير قطاره: محطتا قطار فرعيتان تعني مرحلتين في مسار السرد القصصي. في محطة القطار الأولى أو بالأحرى محطة السرد الأول؛ وعند استقبال إليونر له، كان الراوي يتساءل « إذا ما (كان) في حلم أم أن قطارا حقيقيا قد ألقى (به) في هذه البلدة. » (ص82) زار الراوي البطل معرض لوحات لنفس القطة للرسامة إليونر وطلبت منه طلبا غريبا أيقظت فيه نار الحساسية والغيرية عنده : مساعدتها لإيجاد قطة بدون شعر. ماذا تظنه؟ مع ذلك وعدها بذلك واستقل القطار وأفكار كثيرة في رأسه تتضارب حول ماهيته و بعد انطلاق القطار متوجها إلى المحطة الثانية وجد نفسه مرة ثانية يسير في الشارع الرئيسي لبلدة هرلنكة. هذه المرة استقبلته قطة جميلة بملابس مزركشة وأبلغته أن السيدة إليونر تنتظره بمفاجأة. لاحظ وهو في طريقه إليها أن شجرة التفاح قد تعافت وتعالت أغصانها بعدما كانت مريضة في زيارته الأولى. يبدو أن دمعته « دمعة غريب حزين» التي سالت من عينيه أثناء زيارته السابقة هي السبب في شفائها (وإعادة الحياة لها) تقول له القطة الرشيقة. هذه الأخيرة رافقته إلى معرض إلينور. أصيب بالدهشة عندما رأى أن «السيدة رسمت القطة الهاجعة في ( أعماقه) كحلم عظيم يأبى أن يتحقق. وها هي أنامل السيدة إلينور تلتقطها من أدغال( روحه) التي غزاها الشوك والهوام.» (ص96) لقد استطاعت أن ترى قطته الحزينة التي تطل من عينيه. تمنى أن تعطيه هذه اللوحة. لكنها امتنعت. فهي رسمت آلاف القطط ولحد الآن لم تستطيع أن ترسم قطتها الحقيقية «المنتظرة». (ص84) فما باله وقطته. إن السيدة إلينور ترفق بقططها وتسمح لهن بالخروج من لوحاتها والتجول على الأرض أو السقف. نهضت الشخصية الرئيسة لاحتضان قطته الجميلة غير مبال بدقات القطار ووصول محطة يون شوبنك. وإذا بمئات القطط تنحدر من جدران المرسم تتهاوى وتتطاير وتحلق معا في الأعالي وعندما نزل من القطار رأى قطته الفاتنة وهي تزهو بملابس السباحة وبينما يحاول أن يتبعها تصدى له رجل متجهم الوجه على ذراعه شارة حارس الشواطئ ونهره لكي يعود أدراجه قائلا: « لا تقترب..هنا تبدل الفتيات ملابسهن.» (ص100)
نلاحظ أن كتاب قصص الفانتاستيك غالبا ما يستعملون ضمير المتكلم "أنا" أو راو عليم وذلك لتمكين القارئ من أن يتماهى بسهولة أكثر مع السارد المتحدث بالضمير الشخصي" أنا". ففي قصص إدغار بو، السارد "أنا" راو طبيعي يحكي حدثا عاديا وقع له. ومع تسلسل الأحداث يبدو أن شيئا فوق الطبيعي خرق القوانين الطبيعية ويجب أن نجد له تفسيرا عقلانيا لكي نستطيع أن نتقبله. الشخصيات النسائية في قصص بو مثقفة ورائعة الجمال. السارد "أنا" لا يحتمل الفراق حتى بعد محاولته متابعة حياته الطبيعية والزواج مرة ثانية. وللتكفير عن الإحساس بالذنب وعن عدم الوفاء للحبيبة يحاول بعث روحها في جسم آخر لإعادتها إلى الحياة مجددا. أما الشخصيات الرئيسة في قصص أحمد المديني وإبراهيم أحمد فإنها منشغلة بالبحث عن ذاتها. فبطل قصة "الصورة والوجه" بحث عن نفسه في صورته فاختلطت عليه الأشياء، رأى وجها، ربما وجهه يدخل إلى الصورة المعلقة على الحائط. يبدو أنه فقد نفسه إلى الأبد، والدليل على ذلك أن زوجته لم تتعرف عليه.
أما الراوي "أنا" في قصة إبراهيم أحمد، كما السيدة إلينور فلم يجدا أنفسهما بعد حتى بعد محاولة رسم القطة الحبيسة بداخل البطل ورسم القطة الحقيقية المنتظرة للسيدة إلينور. هكذا بقيت النهاية مفتوحة لمحاولات أخرى.
وختاما، إن أساس الأدب العجائبي، حسب تزيفتان تودوروف، هو تردد القارئ الذي يتماهى مع الشخصية الرئيسة فيما يخص طبيعة وضعية غريبة. التردد الذي يمكن معالجته إما بتقبلنا الوضعية الغريبة كواقع أو أن نقرر أنها ثمرة خيال أو نتيجة وهم، بمعنى آخر، يمكننا أن نقرﱠ، بأنفسنا، بوجود الوضعية أو عدم وجودها.
المصادر:
1. Charles Beaudelaire, Nouvelles Extraordinaires par Edgar Poe, Calmann Lévy, Paris, 1896, pp.423-433
2. Franz Hellens, Le double et d’autres contes choisis, Editions Luc Pire, 2009.
3. Franz Hellens, Styles et caractères, la Rennaissance du livre, Bruxelles, 1956.
4. Franz Hellens, Le Fantastique réel, SODI, Bruxelles, 1967.
5. Jacques Goimard et Roland Stragliati, Histoires de doubles, «La grande anthologie du fantastique», Presses Pocket, 1977.
6. Roger Forclaz, Le Monde d’Edgar Poe, Herbert Lang, Berne, 1974.
7. Tzvetan Todorov, Introduction à la littérature fantastique, poétique/Seuil, Paris, 1970.
- ابراهيم أحمد، لارا...زهرة البراري، دار المنفى، السويد، 2001، ص 81-100 8
- احمد المديني، حروف الزين، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2002, ص 95- 112 9
10-محمد خضير سلطان،" لقاء القاص بمجتمعه: تصحيح السرد القصصي العراقي"، الثقافة
الجديدة، العدد 331، 2009، ص. 126-130.
#نجاة_تميم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟