|
حركة الوصفاء – نموذج التمرد الروحي والسياسي
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 2995 - 2010 / 5 / 4 - 17:50
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لقد مثلت وجسّدت حركة الوصفاء الأحرار في الكوفة عام 119 للهجرة البعد الجديد لحركة المختار. بمعنى أنها استعادت من حيث الجوهر الأفكار المركزية لحركة المختار، وبالأخص فكرة الحرية والمكونات الاجتماعية والغاية النهائية القائمة في تأسيس بديل نوعي للحكم الأموي. بمعنى أنها الحركة التي شكلت تناسخا جديدا للمختار جمعت في أعماقها رحيق التجربة التاريخية لنصف قرن من "الباطنية" المتراكمة في كيفية تأسيس ومواجهة الأموية. وانتقل هذا التأسيس بصورة تدريجية إلى آل البيت العلوي من خلال تراكم الحجة الروحية القائلة، بان الإمام هو ممثل الحق. وهي فكرة سياسية صرف حالما تبقى ضمن سياق الصراع السياسي. بمعنى أن حقيقة السلطة تقوم في تمثل فكرة الحق والحقوق. وان الإمام الحق هو إمام الفكرة الهادية صوب العدل والمساواة. فقد كانت هذه الفكرة تتراكم في الوعي الاجتماعي والأخلاقي، وعبرهما إلى الوعي السياسي. وبالتالي لم يكن تناسب السلطة والإمام، بما في ذلك في صيغة البدائل المثلى كما تمثلها التيار المناهض للأموية، بدأ من المختار وانتهاء في حركة الأحرار الوصفاء، سوى النفي الفكري والروحي لاستبداد الأفراد وخروجهم على قيم العدل والمساواة والحق والحرية. وهو تيار لم يكن معزولا من حيث توسيع قاعدته الاجتماعية ومرجعيته الروحية وقواعده الأخلاقية وإيديولوجيته السياسية عن تراكم العقل الوجداني في تأمل مأساة الحسين. فهي المأساة التي كانت تشحذ العقل والضمير بعد كل انتصار وهزيمة، وفوز وخسران، بالشكل الذي يجعلها قادرة على البحث عن بدائل واقعية وأخرى خيالية. وهما الخطان المتوازيان في كل تيارات الفكر السياسي الجماهيري بشكل عام والراديكالي بشكل خاص. من هنا لم تكن حركة الأحرار الوصفاء سوى الثمرة السياسية لتأثير هذين الخطين المتوازيين اللذين نعثر عليهما في حركة المختار. فهي الحركة التي جعلت من الثأر للحسين شعارها السياسي الأكبر، أي جعلت من الخط الروحي فعلا موازيا للسلوك السياسي، أو من السلوك السياسي فعلا ضروريا لإبراز قيمة الأبعاد الروحية فيما تسعى إليه. ولم تكن هذه العملية معزولة عن المساعي السياسية الكامنة في الإبداع الروحي والعلمي لائمة أهل البيت التي أخذت معالمها تبرز بوضوح، منذ عهد زين العابدين. فهو اللقب الذي استقطب في ذاته جمال وجلال الشخصية، أي زينة المظهر ومعنى العبادة. كما انه ارتباط يحتوي في ذاته على توازي السياسة والروح وتراكمهما التاريخي بوصفه الأسلوب الضروري لحشد الأتباع والأشياع. وقد أدرك القيمة الفعلية لهذه العملية وحاول توظيفها كل من محمد بن الحنفية (ت –81 للهجرة) وعلي السجاد (ت – 95 للهجرة) واستكملها محمد الباقر (ت- 114 للهجرة) وتممها جعفر الصادق (ت -148 للهجرة). اضافة لذلك أنها عملية تلقائية لنمط معين من الممارسة الفكرية والثقافية أخذت تشق لنفسها الطريق ضمن فرق الإسلام الآخذة في النشوء والتعدد مع توسع وتعمق الصراع الاجتماعي للإمبراطورية الأخذة في التكامل. فقد كانت انتفاضة الوصفاء بعد موت الباقر بسنوات معدودة، وفي زمن الصادق. كما أنها كانت تختمر في مجرى التطور السياسي للحركة الزيدية ومساعيها النظرية في توسيع وتعميق فكرة الخروج على السلطة الظالمة. وهي الحركة العامة التي كانت تعمل من حيث الجوهر على مستوى الفكر النظري، بما في ذلك السياسي، والمستوى العملي من خلال وضع تقاليد "المجالس" العلمية والفقهية والأدبية. وقد اقترنت هذه التقاليد بشخصية الإمام محمد الباقر. واقترن هذا اللقب باسمه، بوصفه "باقر" العلوم. ومن خلالها استطاع توسيع التأثير السياسي. فقد كانت هذه "المجالس" مدارس فكرية، وبالتالي سياسية. وذلك لما فيها من إمكانية على تداول الأفكار وتوسيع مداها النظري. وهي الخطوة الضرورية لكل فعل سياسي كبير. واستطاع الإمام جعفر الصادق أن يرتقي بهذا "الإرث" إلى مصاف المنظومة النظرية والعملية. ومن ثم يؤسس لنموذج قوي وفعال دون لغط وإثارة. بمعنى انه أسس للتيار الفكري النظري والعملي الذي استطاع تذليل حدة الوجدان الراديكالي المميزة للقوى التي واجهت نزوع الأموية صوب الاستبداد وانعدام الشرعية. غير أننا نعرف مدى صعوبة مسك التيارات الاجتماعية والسياسية في ظل ظروف الإمبراطورية المحكومة بإرادة الخلفاء وليس القانون. من هنا كانت المرحلة الأموية هي مرحلة المخاض التاريخي العنيف للأفكار والقيم، للروح والجسد الفردي والاجتماعي. لهذا لم تؤد كل محاولاتها الشديدة لاستعمال العنف إلا على توسيع مداه الباطني وتخزينه في الأفكار والقيم الجديدة. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى انتفاضة الوصفاء على أنها استمرار لحركة المختار ولكن من خلال تأثرها بالتقاليد الفكرية الجديدة التي أرساها الباقر والصادق. وليس مصادفة أن يدعوها أبو فرج الأصفهاني بالحركة الجعفرية. ووجد هذا الارتباط انعكاسه فيما تورده الروايات التاريخية عن أن شعار الحركة وهتاف الجمهور كان "لبيك يا جعفر". ومن الممكن رؤية ملامح هذا الارتباط في تلك الرؤوس العديدة والكبيرة التي ستتفرع منها في وقت لاحق. لكنها رؤوس كانت تتعقل وتمتلئ في حياة الصادق، بوصفه المثقف الأكبر والفيلسوف الباطني الأول للحركات الاجتماعية والسياسية المناهضة لمنظومة الاستبداد. من هنا ضمها لشخصيات لامعة مثل المغيرة بن سعيد البجلي، وبُنان بن سمعان، وجابر بن يزيد الجعفي، وأبو منصور العجلي، وميمون القداح، وكثير غيرهم ممن اقترن به في وقت لاحق ظهور حركات متميزة. كما انه التيار الذي تفرعت منه وتراكمت على ضفافه شخصيات مؤثرة في تاريخ الاحتجاج الاجتماعي والفكري مثل عبد الله بن معاوية الجعفري، وأبو الخطاب الأسدي، والمفضل الجعفي، وعبد الله بن ميمون القداح. فقد تمثلت هذه الشخصيات تجارب الإخفاق العسكري الذي لحقت بالمختار والأحرار الوصفاء وزيد بن علي وابنه يحيى بن زيد. إننا نقف أمام ظاهرة التنوع والإبداع المجتهد. فقد أنتجت حركة المعارضة السياسية والفكرية شخصياتها ومدارسها الكبيرة والهائلة في غضون فترة وجيزة. ويشير ذلك إلى ظاهرة التنوع الحر في مراحل الانتقال العاصفة وصعود القوى الاجتماعية الساعية لتأسيس فكرة الحق عبر منظومة الأفكار والحقائق. على عكس قوى السلطة التقليدية التي تكتفي بالماضي وأساليب قوله وفعله. بمعنى افتقادها للإبداع الحر، وفقدانها لروح الاجتهاد بسبب مطابقتها فكرة الحق مع حقوقها فقط. بينما حقيقة الحق هو جهاد متواصل في العقل والروح والجسد والقلب والضمير والهواجس والنوايا والوساوس! وهو السبب الذي يفسر ظهور فكرة وعبارة وتسمية "الوصفاء الأحرار" أمام تركيز السلطة على فكرة السنّة والسلف، التي كانت تعني بالنسبة لها ليست سنّة الوجود الحق، ولا أسلاف الفضيلة، بل جمود الأشياء المتوافقة مع مزاج السلطة، والقيم المناسبة لذوقها! وفي هذا أيضا يكمن سر الصعود السريع لحركة الوصفاء بوصفها القوة الاجتماعية الجديدة التي تمثلت تجارب الانتفاض والاحتجاج الشعبي ضد القهر الاجتماعي والسياسي للاستبداد الأموي و"أشرافه"، ونماذجه ومثله العليا بدء من الإمام علي ومرورا بانتفاضة الحسين وانتهاء بالمختار الثقفي. فعندما سألوا المغيرة بن سعيد عن ماهية حب الإمام علي، فانه أجاب "في العظم والعصب والعروق!". ووجد هذا الحب انعكاسه في تمثل الأفكار والقيم الكبرى المتعلقة بفكرة الحق والعدالة والمساواة والحرية والإخاء الإنساني. وليس مصادفة أن تكون حركة الوصفاء الأحرار من حيث توجهها الاجتماعي صوب نفس القوى التي اجتاح الإمام علي قلبها وضميرها، وادمجها المختار في انتفاضته العارمة بحيث جعل من محاربتها لأسيادها ضمان حريتها وأسلوب تحقيقها الفعلي. ويمكن رؤية ملامح هذا التربط في كيفية استغلال الضائقة الاقتصادية وانعكاسها على أحوال المجتمع، والعوام منه بالأخص، كما هو جلي في الأشهر السابقة لانتفاضتهم عام 119. فقد أساءت السلطة معاملة الفلاحين والحرفين ومنعت بقرار من هشام بن عبد الملك، العطاء عن أهل الكوفة، الذي هو بمثابة الراتب السنوي التي تعتمد عليه الأسر والقبائل. ووجد هذا التعامل انعكاسه في حدة وقسوة المنتفضين تجاه السلطة والأشراف، عندما قام الجمهور بإشعال النار في بعض الممتلكات والضياع التابعة للخليفة وحاشيته. مما اكسب الحركة منذ البدء حرقة الثأر الدفين. واكسبها تعاطف الجمهور الذي سرعان ما وجد انعكاسه في التفاف الفلاحين حول حركة الوصفاء الأحرار. ونعثر على صدى هذا التعاطف العنيف في عنف السلطة ضد المشاركين في الانتفاضة حالما جرى قمعها. فقد قام الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري المعروف بقسوته شأن سابقيه ولاحقيه باتخاذ مختلف التدابير والإجراءات اللاحقة لكي "يقتلع" ما لا يمكن اقتلاعه! فقد اخذ بمعاقبة المشاركين في الانتفاضة، كما يورد الطبري، بطريقة غاية في الوحشية. إذ اخذ يربط احدهم بحزمة كبيرة من القصب ويصب عليها النفط ويحرقهم. لقد توجه الوصفاء أساسا صوب المجتمع وفئاته الاجتماعية العريضة. وادمجوا الموالي في حركتهم، كما انهم استنسخوا تجارب الإمام علي والمختار الثقفي. وهو استنساخ مبدع، لأنه محكوم بالغاية النبيلة وليس بالصورة الباهتة لاستنزاف القوى الاجتماعية من اجل أهداف جزئية وعابرة وضيقة. وسوف تظهر الملامح الفلسفية والسياسية الكبرى لهذه العملية في حركات القرامطة وإخوان الصفا وأمثالها التي رفعت هموم الوحدة الإنسانية والاجتماعية إلى مصاف رفيعة. كما ستجد تجسيدها في استغلال العباسيين لها في القضاء على الخلافة الأموية وإنشاء بديل لها. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شخصية ومصير - الزهري.
-
مفترق التطور أو التدهور العراقي
-
أوهام الزمن -المقدس- وأحلام التاريخ الفعلي في العراق
-
العراق وإشكالية الزمن والتاريخ
-
أموية الشعر والشاعر – جبرية وارتزاق(2-2)!
-
أموية الشعر والشاعر – جبرية وارتزاق(1-2)!
-
شخصية ومصير- محمد بن سيرين البصري.
-
التشيع وظاهرة السمو الروحي للشخصية العلوية (2-2)
-
التشيع وظاهرة السمو الروحي للشخصية العلوية (1-2)
-
الحلاج: فلسفة الفردانية المتسامية
-
النفرّي وفلسفة الموقف
-
المثال والحقيقة في الشخصية المحمدية – التاريخ والمقدس
-
المثال والحقيقة في الشخصية المحمدية – من الغزالي حتى المعاصر
...
-
الشخصية المحمدية في الفكر اللاهوتي والفلسفي الإسلامي
-
المثال والحقيقة في الشخصية المحمدية
-
المشروع الديمقراطي الاجتماعي وفلسفة البديل العراقي
-
شخصية ومصير- عامر الشعبي
-
شخصية ومصير- طاووس بن كيسان
-
شخصية ومصير - أيوب السختياني
-
شخصيات ومصائر – ثلاثة نماذج أموية
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|