|
مصر والثقافة فى عصور مختلفة
نرمين خفاجى
الحوار المتمدن-العدد: 2995 - 2010 / 5 / 4 - 02:05
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
منظور اجتماعي – ثقافي (سياسي – ديني- ....الخ). ساعد إستقرار المجتمع الزراعى الذى عاش فيه المصريون منذ القدم على بناء حضارة زخرت بالعديد من الفنون، أهمها الموسيقى والغناء والرسم والنقش والنحت، والتى تراكمت وتطورت فى العصور المختلفة بداية من العصر الفرعونى مرورا بالأغريق والرومان ثم اثناء الحكم العربى الأسلامى وحتى العصر الحديث. وكان موقع مصر المتوسط سببا لتعرضها لموجات هجرة من الشعوب المحيطة، والتى جاءت محملة بفنونها الخاصة، وبمرور الزمن اندمجت بالمجتمع المصرى وتشربت بأفكاره وعاداته وديانته، ولا زال بعض من هذه الفنون حيا ومتداولا الى اليوم، خاصة تلك التى ظهرت فى فترة سقوط الخلافة العباسية على ايدى التتار، فقد مهدت الظروف الاجتماعية والاقتصادية فى تلك الفترة لظهور ونمو وازدهار العديد من الفنون والتى انطلقت فى الأساس من الأغلبية المهمشة التى أطلق عليها المؤرخون "الحرافيش و العامة والزعر" ،وهم بالتحديد الفقراء الذين تجمعوا على حدود المدن الإسلامية الكبرى فى القرن العاشر وحتى القرن الثالث عشر الميلادى (اى فى النصف الثانى من حكم الدولة العباسية وحتى سقوطها على يد التتار ) كنتيجة للضرائب الباهظة المفروضة على الأراضي الزراعية فهجر هؤلاء الزراعة واتجهوا الى المدن سعيا وراء الرزق ،حيث الانتعاش التجارى، ومع تفاقم المعاناة ولد عدد من الفنون الشعبية لتكون وسيلة للتسلية والإمتاع ، وأيضا وسيلة للتمرد على الوضع القائم. وقد اعتمدت هذه الفنون أساسا على الارتجال لذلك جاءت مزيجا من الجد والهزل والواقع والخيال،كما كانت أيضا محملة بالفحش والبذاءات. ومن أهم هذه الفنون التى استمر بعضها حتى الوقت الحاضر، الأراجوز، خيال الظل، الأغانى الشعبية، الحواديت، السيرة الهلالية، سيرة عنترة بن شداد، سيرة الظاهر بيبيرس، لذلك يمكن اعتبار فنون التراث الشعبي خلية من جسم الشعب تحمل روحه وموروثاته عبر العصور، فهى خليط من صور الرموز الفرعونية وأنغام الترانيم القبطية كما تبرز منها سيوف أبطال السير العربية الإسلامية ،لذلك كان الأهتمام ببحث واحياء تلك الفنون وسيلة هامة لقراءة التاريخ واستجلاء احداثه لأنها فى الحقيقة تمثل التاريخ فى صورة اغانى ورقصات وحكايات متوارثة وأيضا يمكن اعتبارها بصمة كل شعب المميزة . وقد ادى اختلاف الظروف الأجتماعية والسياسية والإقتصادية من عصر لأخر الى اختلاف المنتج الثقافى والفنى وبالتالى اختلاف الأدوات ايضا ،خاصة فى حالة توفر مناخ من الحرية يسمح بالأبداع فى كافة المجالات مما يؤدى الى تنوع الفنون التى تأتى هنا محملة بتفاصيل الحياة اليومية وبجماليات الطبيعة .
منظور تاريخي: السياسات والأدوات الثقافية.
تعاقب على مصر فى العصر الحديث نوعان من الأنظمة الحاكمة، واللذان اختلف كل منهما فى توجهاته وسياساته، مما أثر بشكل كبير فى البنية الثقافية والفنية لعقل ووجدان الشعب المصرى. النظام الأول هو النظام الملكى الذى أسسه محمد علي على ثلاثة ركائز متضافرة هى الإستقلال عن الدولة العثمانية ، والإستبداد، والتحديث، وبناءاً عليه انشئت فى تلك الحقبة معظم مؤسسات مصر الثقافية من متاحف واوبرا ومكتبات كما سيأتى ذكره . والنظام الثانى هو النظام العسكرى الذى بدأ بإستيلاء الجيش على السلطة فى يوليو 1952 والذى تبنى الخطاب الإشتراكى القومى خلال العشرون عام الأولى "الحقبة الناصرية" لترويج سياساته، وقد استخدم المؤسسات الثقافية الموجودة من العصر السابق عليه للدعاية له وترويج سياساته مع تطوير بعضها لتصل الى القرى فى أنحاء مصر .
• الحقبة الخديوية
ترجع البدايات الأولى للسياسات الثقافية بمصر إلى عصر محمد علي (1805 – 1849) الذى إستقل بمصر عن تركيا بعد ثلاثة قرون من الحكم العثمانى عادت بمصر إلى الخلف فى كافة نواحى الحياة . وقد طمح محمد علي إلى تأسيس امبراطورية ترث املاك الدولة العثمانية، ولتحقيق طموحاته قام بتكوين جيش قوى من المصريين، وأسس معه اول حكومة نظامية مصرية، يتبعها عدد من الدواوين والإدارات وسن لها القوانين واللوائح لخدمة أغراضه العسكرية، وفى تلك الفترة ظهرت النواة الأولى للمنشآت الثقافية كنتاج للتحديث ومنها الدفترخانة لحفظ وثائق وسجلات الحكومة ، والمدارس المستقلة عن الأزهر بعد ان كان التعليم من قبل قاصرا على الكتاتيب والأزهر، كما ارسل البعثات التعليمية لتكون جسراً بين اوروبا بنهضتها وتعليمها الحديث وبين مصر التى بدأت تخطو أولى خطواتها للحداثة، ولم تقتصر البعثات على العلوم التطبيقية من علوم عسكرية وطب وهندسة فقط، بل أتم احد تلاميذ البعثة الأولى وهو حسن أفندى الوردانى دراسة الرسم والزخرفة والفنون الجميلة بفرنسا، واستمر إيفاد تلاميذ آخرين لدراسة الفنون الجميلة ومنهم حسين افندى المعمار واضع رسم ومقاسات جامع الرفاعى بالقاهرة .(1) وقد أسس محمد على المطبعة الأميرية سنة 1820 لطبع منشورات الحكومة والكتب العلمية والأدبية والفقهية والترجمات التى قام بها العائدون من البعثات، وكان محمد على يقدم المكافآت السخية للكتاب والمترجمين ويقوم بطبع أعمالهم على نفقة الحكومة . وكان من نتاج هذا الإتصال بين مصر واوروبا ظهور شخصيات لعبت دوراً هاما فى نشر التعليم والثقافة كرفاعة الطهطاوى الذى أنشأ مدرسة للترجمة (مدرسة الألسن) . كما صدرت صحيفة الوقائع المصرية فى 1828 ، والتى قام رفاعة الطهطاوى بعد ان ترأس تحريرها فى 1842 بتمصيرها حيث كانت تصدر بالتركية والعربية الركيكة، وجعل صفحاتها منبراً للمواد الأدبية والثقافية بشكل عام (2) . واستطاع الطهطاوى إقناع محمد على بإصدار فرمان يمنع تهريب الآثار المصرية والإتجار بها ، وأنشأ أول متحف للآثار المصرية بالأزبكية فى 1835، إلا أن الخديوى عباس الذى خلف محمد على قام بإهداء مجموعات كاملة من آثار متحف الأزبكية الى أحد الأمراء الأجانب(3) . وقد تكونت النواة الأولى لمصلحة الآثار فى 1858 أثناء حكم الخديوى سعيد حين أوكل أعمال التنقيب على الآثار الى مارييت باشا، وفى 1863 اثناء حكم الخديوى اسماعيل تم افتتاح متحف بولاق تحت اسم "دار العاديات". وقد أكمل الخديوى إسماعيل ما بدأه جده من تحديث، وساعده فى ذلك على باشا مبارك الذى عين وكيلاً لوزارة المعارف العمومية "ديوان المدارس" فعمل على النهوض بالتعليم بتحويل عدد من الكتاتيب إلى مدارس نظامية كما أنشأ العديد من المدارس فى القاهرة والأقاليم، وأصدر لائحة لتنظيم المدارس أقرها الخديوى فى 1868 وأنشأ مدرسة دار العلوم لتخريج المدرسين، وكان الأنفتياتر"المدرج" آيضاً من أهم منجزات ذلك العصر وهو مدرج لإلقاء المحاضرات العامة لتثقيف الطلبة فى مختلف الفروع، كما أصدار مجلة روضة المدارس فى 1870 على نفقة وزارة المعارف، والتى عنيت بتثقيف الطلبة والدعوة لأهمية التعليم، والتى دعا رفاعة الطهطاوى على صفحاتها الى تعليم المرأة وافرد المقالات لذلك، وبالفعل تم إفتتاح اول مدرسة للبنات فى 1873 بقصر الأمير طاز، والتى انشأتها احدى زوجات الخديوى إسماعيل. ومن أهم إنجازات فترة حكم الخديوى اسماعيل هو انشاء الكتبخانة "دار الكتب" فى 1870 والتى تعد من أهم المؤسسات الثقافية حتى الآن وقد تم إنشائها على غرار كتبخانة باريس باءقتراح من على باشا مبارك الذى قام بجمع الكتب للدار وعمل لائحة لإدارتها وحفظ كتبها من الضياع . وقد تميز عصر الخديوى اسماعيل بشكل عام بإنشاء الجمعيات العلمية ومنها: • المجمع العلمى:وهو الهيئة العلمية التى قامت الحملة الفرنسية بتأسيسها فى 1798 ثم أُلغى بعد جلاء الحملة، وقام الخديوى سعيد بإحيائه مرة اخرى فى الأسكندرية 1859، وإزدهر اثناء حكم الخديوى إسماعيل خاصة فى نشر الأبحاث العلمية وكان له دورية ويتبع ادارياً وزارة الأشغال . • جمعية المعارف: تأسست فى 1868 وهى جمعية علمية لنشر الثقافة عن طريق التأليف والطباعة والنشر وقد زاد عدد اعضائها على 660 عضواً . • الجمعية الجغرافية الخديوية: تأسست فى 1875 لنشر الأبحاث الجغرافية والعلمية، ولها مجلة دورية لنشر الأبحاث والإكتشافات . • الجمعية الخيرية الإسلامية : تأسست فى الإسكندرية فى 1878 بجهود عبدالله النديم لمواجهة النفوذ الأجنبى، وقد قامت الجمعية بفتح المدارس لتعليم البنات والبنين، ونشر الدعوة لتهذيب الأخلاق، وإعانة الفقراء، والقاء المحاضرات والخطب، وكان لها لائحة، وكانت الحكومة تدفع لها إعانة سنوية، وكان لها فرع بالقاهرة وآخر بدمياط. إلا ان اهم ما ميز عصر الخديوى اسماعيل هو إنشاء المسرح الكوميدى بالأزبكية فى 1868 ثم دار الأوبرا فى 1869 ، وفى الأسكندرية أنشأ مسرح زيزينيا ومسرح الفيرى (4). ونتيجة لإنفتاح مصر على العالم وتحولها الى دولة كوزمبوليتانية وتفاعلها واستيعابها لثقافات وفنون شعوب اخرى، فقد انتقلت روح الحداثة آيضاً إلى الموسيقى والغناء فخرجت من ثوب التواشيح على يد عبده الحامولى الى اساليب وألحان اخرى جديدة . كما ازدهرت الصحافة وتعددت الوانها من صحافة علمية وادبية وحربية وفكاهية إلى سياسية ساهمت فى تأجيج الشعور القومى لدى المصريين ومهدت للثورة العرابية وكان من ابرز كتابها يعقوب صنوع وعبدالله النديم وجمال الدين الأفغانى وغيرهم من مصريين وشوام كسليم نقاش وأديب اسحق وفدوا الى مصر هربا من التصفية الطائفية التى دبرها الباب العالى فى لبنان وسوريا سنة 1860 (5).
• الإحتلال الإنجليزى بعد وقوع مصر فى قبضة الإحتلال الإنجليزى زادت وتيرة التحديث نتيجة لإدماج مصر بالكامل فى السوق الرأسمالى العالمى، فأنشئت شبكة ترام القاهرة فى 1896 الذى قام بربط أحياء القاهرة ببعضها البعض وسهل الإنتقال من مكان الى آخر فكثرت المسارح وصالات الرقص والغناء، كما إزداد عدد الجمعيات الأدبية والعلمية والدينية ومنها الجمعية الطبية المصرية، والجمعية الزراعية، وجعية شمس الإسلام فى 1898، وفى 1904 تشكلت جمعية احياء العلوم العربية، وتأسس نادى طلبة المدارس العليا سنة 1906 وجمعية زهرة الآداب فى 1909 وجمعية الشبان المسيحيين فى 1910 ونادى العمال 1912 وهكذا توالى ظهور مثل هذه الجمعيات والأندية وكانت تلقى فيها المحاضرات الأدبية والعلمية والدينية وتنشد فيها القصائد (6). وقد وضع حجر الأساس لدار الآثار المصرية "المتحف المصرى" فى 1897 وتم افتتاحه فى 1902 وفى نفس العام تم بناء دار الكتب ودار الآثار العربية "المتحف الإسلامى" بباب الخلق . كما تم فتح باب النقاش فيما يخص حقوق المرأة وتحررها مع صدور كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين فى 1899 فشغل الرأى العام لمدة طويلة . كما أتاح الترام لسكان العاصمة فرصة السهر خارج المنازل الى ساعة متأخرة من الليل ولم يكن هذا مألوفا من قبل، فأقبل الشباب على إرتياد المسارح وصالات الرقص والسينيما . ومن المسارح التى عرفت فى 1896 المسرح العربى لأبى خليل القبانى بشارع عبد العزيز، ودار التمثيل العربى لسلامة حجازى بشارع الباب البحرى لحديقة الأزبكية، ومسرح مصر العربى لإسكندر فرح، والمسرح العباسى، كما وفدت الى مصر فرق من الشام منها فى 1896 فرقة نقولا مصابنى المسرحية، كما تألفت العديد من الفرق منها فرقة السرور لميخائيل جرجس فى 1896 والتى قام الملحن الفذ سيد درويش بتمثيل العديد من الأدوار معها، وفى 1898 ألف سليمان قرداحى فرقة مسرحية وضم اليه المطربة ملك سرور، والممثلة لبيبة مللى اللتان سبقتا منيرة المهدية التى تعد أول ممثلة مسرح مصرية مسلمة(كان هناك نفور من فكرة عمل المرأة المسلمة بالفن) . وبعد ان مدت شركة الترام خط الساحل بدأت بعض المسارح تنتقل الى روض الفرج صيفا . ومع نشاط الحركة المسرحية نشطت بجانبها حركة التأليف للمسرح والترجمة والتمصير، ومن أشهر مسرحيات هذا العصر "العنا والقهر فى دخول نابليون مصر" لعبد الله فكرى، و"غانية الأندلس" لخليل كامل، و"عواقب الطيش" لحليم حلمى، و"الفتاة الشركسية" لزكريا نامق . ومن الأسماء التى اقترنت بحركة الترجمة والتعريب بديع عزوز، محمود مسعود، خليل نقاش، ميخائيل فرج، ديمترى نقولا، نجيب حداد . كما نشطت حركة النقد خاصة وأن العديد من الفرق إتهمت بتقديم عروض هزلية تدور حول الحب ومغامرات العشاق وتنتهى برقص مبتذل . وقد أدى وقوع مصر تحت الإحتلال إلى خلق مناخ مقاوم عكس نفسه فى عدة صور فنية وثقافية وفكرية، وكان التمثيل المسرحى احد أدواته، وقد تصدت سلطات الإحتلال لهذه العروض بإصدار لائحة التياترات فى (1907 – 1911) وضعت بمقتضاها المسارح تحت رقابة الشرطة وخولت اللائحة لرجال الشرطة حق اغلاق المسرح اذا عرض فيه ما يخالف النظام العام والآداب . كما نشطت المسارح، كثرت ايضا صالات الغناء ومن أشهر المغنيين عبده الحامولى (توفى فى 1901) الشيخ سلامة حجازى (توفى فى 1917) ، يوسف المنيلاوى، صالح عبد الحى، محمد عثمان، ملك سرور، صالح العربى، مريم مراد، والعظيم سيد درويش الذى جاء للعمل بتياترات القاهرة، وقد قام بدور كبير فى تطوير الموسيقى المصرية وإبتداع الأوبريت كشكل غنائى جديد . وكان نتيجة هذا الزخم الموسيقى ان ألفت العديد من الكتب عن الموسيقى والغناء اهمها :- • الموسيقى الشرقى لكامل الخلعى فى 1899 • نزهة الزمان عن ألحان عبده الحامولى ومحمد عثمان فى 1901 • مطرب الأكامل وتلحين الأفاضل لحسن فريد "جمع فيه احسن الأغانى المصرية" 1901 • الموسيقى والغناء لنقولا رزق شحاتة "شرح القواعد الصوتية والقوانين والعلامات الموسيقية والأدوار الشجية لتمرين الطلاب على الترتيل والتلحين الموسيقى" 1901 • نيل الإرب فى موسقى الإفرنج والعرب، أحمد أمين الديك 1902 • المغنى المصرى لمحمود حمدى البولاقى "يتضمن كثيرا من الأدوار والألحان مع بيان نغماتها وشرح قواعد فن الموسيقى" 1903 (7). ونتيجة لما وصلت له الموسيقى والغناء من مكانة لدى الغالبية العظمى من الشعب، تم افتتاح معهد الموسيقى الشرقية فى 1929، وفى 1932 نظمت مصر المؤتمر الموسيقى الأول برعاية الملك فؤاد، وقد شارك فيه فنانون من مصر والشام وتركيا وشمال أفريقيا وأوروبا وكان من الأحداث العظيمة التى إحتفت بها مصر والعالم . وساهم إفتتاح الجامعة المصرية فى 1907 فى إنضاج الإنتاج الفكرى والفلسفى والعلمى، وفى تغذية الحركة الوطنية المطالبة بالإستقلال . وبشكل عام تميزت الفترة من اواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين قبل إستيلاء الضباط الأحرارعلى السلطة بمساحة من الحرية فى الكتابة والتمثيل والصحافة والأغانى والأدب الشعبى حتى ان هناك بعض الفنون الصحفية الشعبية المصرية كالمجلات الفكاهية والوطنية (الخلاعة ، الصاعقة ،الدنيا الجديدة ،الديك،الأرغول...الخ) قد اندثرت الآن . وفى تلك الأجواء تربى أهم وأشهر مبدعى مصر إبتداءاً من سيد درويش وسلامة حجازى والسنباطى والقصبجى وأم كلثوم فى الموسيقى والغناء إلى طه حسين ولويس عوض ونجيب محفوظ فى الفكر والأدب، إضافة إلى جوقة من أهم المخرجين والممثلين والممثلات فى مجال المسرح والسنيما، وهذا لايعنى أن هذا العصر قد خلا من منغصات الرقابة والمصادرة، فقد صدر اول قرار لمصادرة كتاب ديانة الشرقيين سنة 1823 بناءًا على ما نقله قنصل إنجلترا "سولت" إلى محمد علي من ان الكتاب يدعو إلى الإلحاد والطعن في الدين الإسلامي وبمقتضى هذا القرار حظر على الأوربيين – دون المصريين – طبع أي كتاب في مطبعة بولاق إلا إذا استصدر مؤلفُه إذنًا خاصًّا بطبعه من الباشا(8) . وهناك كتاب "الاسلام وأصول الحكم" الصادر فى ابريل سنة 1925 والذى كتبه الشيخ على عبد الرازق، والذى صودر اثناء حكم الملك فؤاد لأسباب سياسية حيث طمح الملك فؤاد فى خلافة المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية على يد أتاتورك فى 1924، بينما ذكر الشيخ على ان الخلافة ليست نظاما دينيا أقرها القرآن . وفى 1926 صدر كتاب فى الشعر الجاهلى للدكتور طه حسين وتمت مصادرته وأتهم طه حسين بالطعن فى القرآن . إلا ان المصادرة اتخذت أبعاداً أخرى اكثر تعنتا فى العصور التالية بدءاً من الفترة الناصرية وحتى الآن.
• الحقبة الناصرية بعد إستيلاء الجيش فى يوليو 1952 على الحكم وإعلان الجمهورية وإسقاط النظام الملكى إرتبطت السياسات الثقافية والمؤسسات الثقافية بمصر إرتباطا وثيقا بنظام الحكم العسكرى، الذى سعى الى التأكيد على هوية مصر العربية، كما سعى للسيطرة على كافة المؤسسات بما فيها المؤسسات الثقافية، والصحف التى تم تأميمها، وقد اخذ النظام الجديد على عاتقه خلق حاله دعائية باستخدام الفن والثقافة وذلك عن طريق إنشاء وزارة الإرشاد القومى، أما أول وزارة للثقافة فأنشئت عام 1958 باسم وزارة الثقافة والإرشاد القومى، وفى عام 1959 بدأ النظام الجديد فى إنشاء قصور وبيوت للثقافة فى المحافظات . وقد ارتكزت الثقافة الجماهيرية فى الفترة الناصرية على إستراتيجية تقوم علي الترويج لمنجزات يوليو من إستقلال وإصلاح زراعى وتنمية، والتأكيد على انحياز النظام الجديد للفقراء، وإنطلاقا من مبدأ أن الثقافة للجميع، توجهت إلي جماهير الشعب في الريف والمدن، وساهمت فى تنمية المواهب واكتشافها، وكانت تلك هى الفترة الذهبية فى تاريخ الثقافة الجماهيرية . وقد إهتمت هيئة الثقافة الجماهيرية ( كانت تسمى الجامعة الشعبية فى العصر الملكى ونشأت فى 1945) بجمع وتهذيب التراث الشعبى، و تنمية الفنون الشعبية فولدت فرقة رضا للفنون الشعبية. وإتسم نظام الحكم فى الحقبة الناصرية بالمركزية الشديدة، فقد صاحب الإصلاحات الإقتصادية التى ظهرت نتائجها على الطبقة الوسطى، حالة من القمع والسيطرة على كافة المؤسسات فاختفت الصحف الخاصة وانتشر الضباط فى اروقة كافة المؤسسات فعين صلاح سالم أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة نقيبا للصحفيين، ووصل الأمر ان تولى المشير عبد الحكيم عامر رئاسة الطرق الصوفية (9). ولعل "ميثاق المثقفين"، الذى طرحته نشرة "الاشتراكى" عام 1965 يلخص بأوضح صورة الأوضاع القائمة، قرر الميثاق المقترح أن الثقافة "ليست ميداناً لتوظيف الأموال" وإنما "خدمة تؤديها الدولة الإشتراكية للمواطنين نظير ما يدفعون من ضرائب"، مثلما كانت الصحافة رسالة فى قول عبد الناصر، والهدف منها هو "إنجاح الثورة وتدعيمها" على أساس أن "الرواية الثورية والمسرحية الثورية والفيلم الثورى تدفع الجماهير إلى المعركة وتوقظها، وترغمها على الاتحاد، وتلهمها أن تأخذ مصيرها بيدها". وذلك على أساس أن "الفن فى جوهره دعوة لشىء ما". وقال أن على الدولة الاشتراكية أن تراقب الأعمال الفنية، واقترح أن يكون معيارها فى الرقابة: "هل هو [:العمل الفنى] يخدم المصالح الشعبية؟"، على أن يكون "الموقف من الأعمال الفنية ذات المضامين المتخلفة أو الرجعية"، عرضها "على نطاق ضيق"، متنازلا عن المطالبة بحظرها، مقابل "الاحتفاء بكل عمل فنى يناصر الاشتراكية والعمل على نشره بين الناس وزيادة جمهوره" (10). وقد لعب الدكتور ثروت عكاشة دورا كبيرا فى انقاذ آثار النوبة وفى انشاء اكاديمية الفنون فى 1969 وقد عين وزيرا للثقافة والإرشاد القومى فى 1958 حتى 1961 ثم حين انفصلت الثقافة عن الإرشاد القومى فى 1966 وظل وزيرا للثقافة حتى 1970 .
• انور السادات (1970 – 1981) بعد إنتهاء الحقبة الناصرية وتولى السادات ظهرت مستجدات على الساحة السياسية والأقتصادية أدت بدورها الى حدوث متغيرات عميقة فى المجتمع المصرى وانعكست على الواقع الثقافى. حيث صدر دستور 1971 والذى نص على (مادة(2): الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع). لتدخل مصر تحت جنح السيطرة الدينية، التى شملت على الإعلام والتعليم والثقافة ووصلت الى ذروتها فى التسعينات، وبداية من تلك الفترة حدث تدهور واضح لأوضاع قصور الثقافة، والمتاحف، والمسارح، مع السماح بإنشاء دور نشر خاصة مما سهل طبع ونشر وترويج الكتب الدينية الرخيصة، ومع أواخر السبعينات ارتفعت وتيرة النبرة الطائفية التى اسفرت عن نفسها فى احداث الزاوية الحمرا*، وأصبح المتربعون على عرش الثقافة الشعبية هم رجال الدين وساهم فى دعم افكارهم إنفتاح مصر على السعودية ودول الخليج التى كانت تسمى فى الحقبة الناصرية بدول الرجعية . وفى سبتمبر 81 انفصلت وزارة الثقافة عن التعليم والأعلام، وقد تزامن ذلك وتنامى التنظيمات الدينية المسلحة وعلى رأسها الجهاد الأسلامى الذى قام باغتيال السادات فى 6 اكتوبر 1981.
• مبارك منذ 1981 والى الآن منذ أواخر 81 وحتى الآن دخلت مصر بشكل واضح إلى عصر الخصخصة والليبيرالية الجديدة، والذى حول الثقافة والتعليم وكافة الخدمات الأساسية الى سلع مسعرة، مع تراجع واضح فى دور مؤسسات الدولة المختلفة فى تقديم الخدمات الأساسية وعلى رأسها المؤسسات الثقافية، مع تضخم المؤسسة العسكرية الداخلية "الأمن المركزى" لحماية نظام الحكم على حساب المؤسسات الخدمية، مع هذا التدهور إستمرت تنظيمات الغضب الأسلامى فى النمو حتى وصلت الى الذروة فى بداية التسعينات فتعرض نجيب محفوظ لمحاولة إغتيال بسبب رواية اولاد حارتنا، وأغتيل الكاتب فرج فودة بسبب كتاباته الليبيرالية وعلى رأسها كتاب الفريضة الغائبة، هذا غير رفع قضايا الحسبة والتى كان اشهرها قضية الكتور نصر حامد أبو زيد بالتفريق بينه وبين زوجته، واستمرت النبرة الطائفية فى الأرتفاع لتسفر عن اشتباكات دموية فى أماكن عديدة وعلى فترات مختلفة (الكشح – العديسات – ملوى – الإسكندرية ). ومع دخول مصر عصر الليبيرالية الجديدة بدأ ظهور الجمعيات الثقافية المستقلة عن الدولة وعلى الرغم من القوانين المكبلة للحريات إضافة الى قانون الطوارئ المطبق منذ أكثر من ربع قرن إلا أن هذه المؤسسات لها أجندة وسياسات تحاول بهم سد الفراغ الناجم عن تحلل المؤسسات الثقافية الحكومية .
المراجع 1-عصر محمد على – ج3 عبد الرحمن الرافعى 2- تاريخ الفكر المصرى الحديث – الدكتور / لويس عوض 3- عصر اسماعيل – ج2 ، عبد الرحمن الرافعى 4-المرجع السابق 5- تاريخ الفكر المصرى الحديث – ج2 لويس عوض 6 - ترام القاهرة – محمد سيد كيلانى 7- المرجع السابق 8-من تقرير حول حرية الفكر والإبداع 2009 –مؤسسة حرية الفكر والتعبير 9- هموم مثقف فى وطن مرتبك – عبد الخالق فاروق 10- الزحف المقدس – شريف يونس * حى شعبى بالقاهرة بدأت منه احداث الفتنة الطائفية ضد الأقباط فى يونيو 1981 واستمرت لعدة ايام وكان سببها النزاع على قطعة ارض ثم تحولت الى مذبحة راح ضحيتها حسب تصريحات الحكومة 81 قبطى بخلاف حرق المنازل والمحلات ..
#نرمين_خفاجى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اساطير مستحدثة
-
انها الحرب
-
ظهور العدرا ومواسم الهجرة الى الشمال
-
المرأة ما بين حقوق الحيوان وحقوق الانسان
-
التراث الشعبي بصمة شعب
-
المسرح الفرعونى
-
الأقباط والاضطهاد والمواطنة والدستور
-
ثورة القاهرة الاولى
-
تعاليم السيد جمال الدين فى وجوب اصلاح الدنيا والدين
-
منظمة ثورة مصر واجواء الثمانينات
-
شعوذات حكام بأمرهم
-
الثورة الفرنسية وملحمة الحرافيش
-
على هامش الاحتفال بيوم المرأة المصرية ..قراءة فى دفتر احواله
...
-
انا وطنى وبنشد وبطنطن
-
على مقهى التهييس السياسي
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|