|
السجن ، و الولادة الإبداعية .. قراءة في رواية الجوفار ل مروة متولي
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2986 - 2010 / 4 / 25 - 22:03
المحور:
الادب والفن
في نصها الروائي / الجوفار – الصادر عن الدار العربية للعلوم ببيروت مع منشورات الاختلاف 2010 – تؤول مروة متولي آلام الإنسان ، و سجونه الطبيعية ، و الذاتية من خلال الضخامة المجازية للمكان / الجوفار . و يجمع الجوفار – في النص – بين دائرية الخواء ، و العبث ، و الأحاسيس العدمية ، و الثراء الإبداعي المحتمل في استشراف هوية فردية قيد التشكل دائما . إنه قراءة للحظة التحرر في اشتباكها الحتمي مع هيمنة الغياب ، و أصالته غير المكتملة ؛ إذ إنه معلق دائما في كونه محاكاة للموت ، أو في انفتاحه على الأبواب السرية للوجود الإنساني الفردي ، و حلمها المتكرر بالخروج . تشير مادة ( جفر ) في المعجم إلى انقطاع فعل الحب ، أو تأكيد الغياب ، و يعزز نص مروة متولي من المدلول السلبي للمكان ، و امتداد أسواره داخل الذات ، و خارجها ؛ إذ يعلق الوجود البشري ، و صيرورته ، و أحلامه ، و يقصيه في سياق انتظار الموت . و لا يمكن تحديد ملامح الجوفار في النص بحيث تشكل بنية مادية ، أو شعرية ، أو زمكانية ، و إنما نراه مشتبكا بالروح الإنسانية ، و ممثلا في مجموعة من الجدران اللانهائية المحيطة بالبطلة ، و أصوات المجموع . إنه مكان يقع فيما وراء المكان ؛ لأنه يفسر قهر الحتميات ، و الآلام ، و الرغبة الإنسانية في التحقق ، أو الخروج ، و هو يتجلى كمكان مادي مهيمن أيضا ، و لكن هيمنته تقع بين الأخيلة الإبداعية ، و الواقع الخارجي للشخوص ؛ مما يفكك أي إطار مركزي لهذا المكان . و بهذا الصدد يرى جاستون باشلار أن المكان المتناهي في الكبر يقع بداخلنا ؛ إذ يتصل بنوع من تمدد الوجود الذي تكبحه الحياة ، و يمنعه الحذر ، و هو حركة الإنسان الساكن ، أو الوحيد ( راجع / باشلار / جماليات المكان / ترجمة غالب هلسا / المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر ببيروت / ط 4 / سنة 1996 ص 171 ) . الجوفار إذن يتسع من داخل الوعي ، و يمزج الألم بالضخامة ، و الخروج ، و كأنه حلم الكائن / الفرد بالاندماج الكوني ، و الاتصال المباشر باللاوعي ، في مواجهة تضاعف حدوده النفسية ، و الثقافية ، و البيئية ؛ و في هذا السياق ينتصر المكان ؛ فيصير الفرد تابعا لفاعليته ، و سجينا لعملية نقص مستمرة لهويته ، و صوته المتسع . لقد انبثق الجوفار من وعي الساردة كي يفجر تلك الطفرة الخيالية الدفينة داخل الوعي الإنساني ، و هي التوحد باللامتناهي ، و ما يصيبها دائما من هدم ، و ضخامة مضادة من آلام ، و مخاوف ، و أسوار مادية ، و غير مادية . * صوت المجموع / تناوبت الساردة ولوج صوت المجموع الإنساني / نحن ، و صوت البطلة في بحثها عن الحرية ، و الخروج . و يجسد صوت المجموع الآلية المعرفية ، أو السلوكية التابعة للروح السلبية للمكان ؛ فهي تجمد كل شيء ، و تعلقه في فراغ مضاد للفعل الفردي ، أو النهايات الحاسمة ؛ و من ثم تظل التساؤلات دائرية ، دون إجابة ، و تبقى الأبواب بديلا افتراضيا عن الجدران في الوعي ، و اللاوعي . تقول الساردة على لسان المجموع : " هل سنألف الجوفار ، و يستقر حالنا به ؟ هل سنظل في تلك النقطة التي نحن بها الآن ؟ نسعى نحو البداية يوما ، و يوما نسعى نحو النهاية ... تلك الأبواب الضخمة العصية ، تلك الأبواب التي لا نراها " . الجوفار يخترق الصوت ، و يختزل الأنا في المجموع ، و يؤكد سمة التكرار ؛ كي يوحي بالهيمنة المطلقة ، و لكن الوعي يبحث عما وراء المكان ، و ما يتجاوز هذه الشمولية الزائفة ، و يقرأ السور من خلال أخيلة الأبواب المفتوحة ، أو الأبواب من داخل صلابة السور ، و قابليته للتفكك بواسطة الأخيلة ، و التساؤلات المحتملة . الجوفار يشبه الطوطم البدائي في اللاوعي الجمعي ؛ لأنه يحارب المدلول الإنساني العام ، المادة البشرية نفسها ، بعيدا عن الروح الفردية ؛ و لهذا جاء الصوت إنسانيا ؛ ليواجه الحتميات الطبيعية ، و المتخيلة ، و من ثم الذاتية التي خلفها المكان في امتصاصه للوجود الفردي . و أرى أن الوظيفة السردية الأكثر تكرارا في النص هي تأسيس الجوفار لفكرة الوعي بالموت ، و هو وعي دائري ملح على الشخصيات ؛ كي يحدد مساحة الأداء في انتظار الموت ، و مساحة المعرفة في التساؤلات اللامعقولة أحادية الجانب ؛ إنه يكبح الصيرورة في كل ما يحيط بالإنسان من سجون مادية ، و طبيعية ، و روحية . * أصالة الحزن / في رحلة بحثها عن ملامح الجوفار ، و سبل الخروج من ثقله الداخلي ، أو الخارجي تلتقي البطلة برجل مسن يخبرها عن الحزن الملازم للمكان منذ بداياته ، و لكنه في الماضي كان مجانيا مثل الصبر ، و عندما مات أحست البطلة برغبة في الاقتراب من قبره . هل كانت أصالة الحزن قراءة تأويلية للجوفار ؟ أم أنها قراءة للوجود البشري ؟ إنها الحدود العليا للألم الإنساني ، و قد اتخذ مظهرا خياليا وحشيا ، و غير مرئي في آن ؛ و هو الكيان الضخم للمكان في علاقته الغامضة بكل من الموت ، و الألم . لقد كان موت العجوز إغواء تصويريا بالخروج من استمرارية الحزن ؛ فقد حول وعي البطلة القبر إلى دائرة متوهجة مضادة لعتمة الأسوار ، و الانتظار المتكرر للألم . الدائرة ولادة للفراغ الإبداعي المحتمل ، و هي النهاية المجازية للوعي الحاد بالموت ، و الحزن . * اتساع مضاد / تتسع أخيلة الدائرة في لاوعي البطلة ؛ لتتحد بدال البحر ، و هو بديل شعري أكثر رحابة ، و أصالة من الدائرة ، بحيث يوضع في تعارض ظاهري مع الجوفار نفسه ، و من ثم يقوم بتفكيكه ، أو استبداله . بدا ذلك التصور الحلمي واضحا عند دفن الرجل لجثة فتاة ، و قد تحولت المقابر إلى بحر مظلم ، ثم اختفائه في البحر . هل كان البحر اتساعا إبداعيا للجوفار ؟ أم أن عنصر الخروج يكمن بداخله مثل حركة البحر المناهضة لسكونه الظاهر ؟ لقد التحم اللاوعي بالاتساع الأول للوجود في لقائه الأول بالعناصر الكونية ، و تناقضاتها . و كأن الجوفار استثناء لذلك الحلم ، أو وسيط بين حضورين للاتساع الكوني ، أو الحلمي . * المعرفة ، و الأداء / يحدث المكان انشطارا بين المعرفة ، و الأداء في النص ؛ فالصوت يقرر عملية النقص المستمرة في المعرفة ؛ و من ثم حتمية الأداء باتجاه الداخل لا الخارج . أما الأداء فيعلق المعرفة ، و في الوقت نفسه يفقد الإيجابية إلا في حالات الخروج الاستعاري من سطوة المكان . تقول الساردة بصوت المجموع : " حياتنا كلها صدف ... لا نعلم شيئا ، لا ندري عن شيء ، لا يقين ثابت ، لا نملك سر الحياة ... نملك فراغ العقل ، نملك السخف ... حياة معزولة " . و نلمح في المقطع السابق نوعا من نوستالجيا المعرفة ، و كأنها أكثر أصالة من عبثية المكان ، و آليته الأدائية المحدودة . الأداء هنا محاط بضخامة مادية صلبة ، أو فراع ساكن يتجه نحو سلب الهوية ، و لكن هذا الوعي الحاد بالسلب يؤسس اتساعا هوائيا محتملا في دوال بناء الهوية ، و أطياف الحب ، و الحرية ، و الخروج . * متواليات السجن ، و الولادة الإبداعية / تتشكل رواية الجوفار لمروة متولي من متواليتين سرديتين كبيرتين ، تتفرع منهما متواليات مزدوجة دائرية بين عنصري السجن ، و الولادة الإبداعية للذات ، و نستطيع أن ندلل على الازدواجية المتواترة للمتواليتين من خلال تناظر مجموعات بعينها من الأحداث ، و الوحدات الصغيرة . في سياق حب البطلة للشاب تزدوج قبلاتهما ، و بحثهما عن الأبواب المحتملة في المكان بتكاثر الجثث ، و أكوام الموتى ، و تحول الجوفار إلى قبر مفتوح ، و يذكرنا هذا القبر بالأماكن القاسية في الأدب العالمي ، و العربي مثل فضاءات كافكا ، و بيكيت ، و سيارة أبي الخيزران في رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني ، و إن كانت مروة متولي تميل إلى تداخل الخروج ، و القسوة دون حسم . لقد ازدوج مستوي الحب ، و أبوابه الحلمية ، بمستوى النهايات المعلقة ، و من ثم تؤدي الأبواب إلى سجون الوعي مرة أخرى داخل تلك الدائرة المجازية المعتمة للقبر / الجوفار . و في سياق آخر تتلاحق وحدات الخروج ، و السجن ، و كأن طفرة الكينونة ترتبط ارتباطا حتميا بهيمنة الظلمة . تقول الساردة : " هل نقلع عن السفر ؟ ... لا مكان لنا .. من أغلق كل هذه الأبواب ؟ متى نعلن وجودنا ؟ " . يظل البحث عن الوجود الفردي محتملا و معلقا ، مثلما تتواتر ولادة الهوية داخل تعالي الجوفار ، و سلبيته ، و ليست خارج أبوابه أبدا . لقد جمعت مروة متولي بين التجسد الخيالي للمكان ، و ما يحتمله من تقاطعات تأويلية عديدة داخل النص ، و خارجه . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوفرة الإبداعية للشخصية .. قراءة في رواية لم تكتب بعد ل فرج
...
-
دائرية الإيماءات ، و الصور .. قراءة في تجربة علاء عبد الهادي
-
الحكي ، و تجدد الحياة .. قراءة في مجموعة نصف ضوء ل عزة رشاد
-
الإيماءات الإبداعية للحكي .. قراءة في نوافذ صغيرة ل محمد الب
...
-
لعب التشبيهات ، و الأصوات .. قراءة في كأنها نهاية الأرض ل رف
...
-
نقطة الخروج في مسرح أوجين يونسكو
-
نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الد
...
-
الوعي المبدع يتجدد .. قراءة في كتاب المغني ، و الحكاء ل فاطم
...
-
انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم
...
-
الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي
-
الاندماج الأول بالعالم .. قراءة في تفاصيل ، و تفاصيل أخرى ل
...
-
سرد في نسيج الحجر .. تأملات في طبعات الأيدي القديمة
-
امتداد التجارب النسائية .. قراءة في نساء طروادة ل يوريبيدس
-
سياق شعري يشبه الحياة .. قراءة في تجربة فاطمة ناعوت
-
تأملات جمالية في الأنا الأعلى
-
تجاوز الذات التاريخية .. قراءة في أحب نورا .. أكره نورهان ل
...
-
العولمة ، و الاختلاف
-
شهوة الكتابة ، و نشوة الغياب .. قراءة في الرغام ل علاء عبد ا
...
-
الأنا ، و إيحاءات الأشياء الصغيرة .. قراءة في اسمي ليس صعبا
...
-
التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ
...
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|