|
نحن نخلق ألهتنا ( 6 ) - الله رازقا ً .
سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2986 - 2010 / 4 / 25 - 02:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تناولت فى مقال سابق أن الأديان تعبير عن مجتمعات عبودية الهوى والهوية ..ونتناول هنا بأنها لم تنشأ إلا لتمريروتأكيد وتوطين فكرة الملكية فى المجتمعات الإنسانية . أعتقد أن سبب إستمرار الأديان أنها تقدم مظلة وحماية دائمة لكل صور الملكية إبتداءا من مجتمع العبودية مرورا ً بالمجتمع الإقطاعى إلى المجتمعات البرجوازية والرأسمالية الحديثة ..فهى قادرة على توفير الحماية والمناخ والتعضيد للملكية على مر العصور .
دعونا نسأل أولا ً: ماهى الملكية ؟. الملكية هى تاريخ النهب والطمع الذى أ ُريد له أن يصبح ناموسا ً بشريا ً ..هى تجسيد للطمع والأنانية فى موجودات مادية .
إنهم يمررون علينا فكرة أن الملكيات هى حق طبيعى للإنسان ولا ندرى ما معنى حق طبيعى هذا ؟ فهل الإنسان يولد وله علاقة عضوية مع الموجودات المادية !!..أم أن هذه الموجودات تم إنسابها بشكل معنوى لهذا الإنسان . وهل الإنسان لا يستطيع الحياة بدون أن يملك عقارات وأراضى وذهب وفضة ؟ .
هل كانت هناك ملكيات منتسبة للبشر الأوائل الهائمون على وجهوهم فى بحثهم عن الغذاء ..ألم تكن الأرض كلها أمامهم ؟. فى البدايات الأولى للبشرية لم يكن هناك شئ إسمه أملاك وحيازات فمن أين نشأت الملكية .؟ نشأت عندما تكونت علاقات إنتاج وقام بعض البلطجية والمجرمون بالقفز على مجهود البؤساء والإستئثار بها ليترجموها فى موجودات مادية .
دعونا نذكر مثالاً يوضح بدايات تاريخ النهب والطمع والذى إرتدى لبوسا ً مقدسا ً .
ما سعر المتر المكعب للرمل ؟ ..فلنقل أنه 50 جنيها للمتر . هل الرمل فى الصحراء له قيمة أو سعر ..بالتأكيد ليس له أى قيمة فيمكنى أن أذهب هناك وأملأ جيوبى من الرمل دون أن أدفع شيئا ً . إذن لماذا تحول الرمل الملقى فى الصحراء إلى قيمة وسعر ؟ الذى جعل للرمال قيمة هو جهد العمال الذين ذهبوا إلى الصحراء وحفروا وعبأوا ونقلوا الرمل إلى مدينتنا . هنا تحول أى شئ ليس له قيمة إلى قيمة ..ويمكن قياس قيمة أى سلعة بحجم ساعات العمل المبذولة فى إنتاجها .
إذن تكون ال50 جنيها ثمن الرمل هى الحق الطبيعى للعمال المشاركين فى الحفر والتعبئة والنقل . يسقط على المشهد إنسان بلطجى يمتلك السطوة والقوة والأنانية أيضا ليصرخ فى العمال أن هذه الصحراء هى ملكه وأنه المتصرف الوحيد فى الرمال . هنا تدخل الطمع والقوة والسطوة لتفرض نفسها فى الوجود والتواجد ..ليطالب هذا الناهب العمال بالقيام بأعمالهم من حفر ونقل نظير أن يمنحهم بعض الجنيهات القليلة نظير أعمالهم ليحتفظ بالباقى فى بطنه . هنا تكون الملكية الأولى ذات فعل سطوة وبلطجة لتنمو وتتوحش على مص دماء المساكين والبائسين . فالقصة هى قصة طمع إنسانى من البدايات الأولى للبشرية حيث لم يكتفى الأمر على التنافس على مصادر الغذاء بل الرغبة فى الإستئثار على الكثير منه حتى ولو كان من أفواه الضعفاء والبؤساء . ويكون الإستئثار هو القفز على مجهود العمال والشغيلة تحت مظلة الملكية التى تتيح لهم الإستحواذ على الكل وإعطاء العامل الجزء الذى يسد جوعه بالكاد ليسمح أن يأتى للسخرة فى اليوم التالى .
هكذا تكون الملكية تاريخ طويل من الطمع والجشع ولا يصبح لها بقاء أو وجود إلا بسرقة جهود البشر .
يصبح هناك ملاك وعبيد فى صورتها الفجة بالمجتمعات العبودية الأولى لتتبدل قليلا ً فى المجتمع الإقطاعى ولتأخذ فى النهاية ملمح أكثر شياكة وأقل فجاجة فى المجتمعات البرجوازية ولكن تظل دائما ً صورة المالك والعبيد حاضرة .
تكون مشكلة الملاك هى الحفاظ على أملاكهم من تطلع البشرالذين إستغلوهم فينشأوا بوليسا ً أرضيا ً للحماية والأمان ولكن هذا الحل ليس كافيا ً أمام جمهور المحرومين والبؤساء . إذن فلنجعل الألهة هى الحافظة والضامنة لأملاكنا بتطويع فكرة الإله للقيام بدور البوليس السمائى الرادع لمن يحاول أن يقترب من أملاكنا . فلينتفض الإله غضبا ً لكل من يحاول أن يسرق من أملاك السادة فيسقط عليهم لعناته ومصائبه فى عالمه الأرضى مستغلين خوف وهلع الإنسان من الطبيعة وشرورها , ويتم ربط المصيبة التى تحل بالإنسان بالخطية المرتكبة بسرقة أموال المالك ..ولا عجب من ذلك فالإنسان الحديث حتى الأن يربط المصائب التى حلت على أولاده بأنه أطعمهم مالا ً حراما ً . ليس هناك مشكلة أيضا ً فى أن يجعلوا فكرة الله توصى بقطع أطراف السارق وتشويهه لأنه تجرأ على مد يده إلى أملاك السادة التى كونوها من عرق ودم الجدود المنهوبين الاوائل .! وفى مرحلة متقدمة يتم جعل القصاص إنتقامى وبشكل سادى فينتقل إلى السماء ليجعلوا إلههم يجهز محرقة هائلة لهؤلاء الذين تجرأوا على سرقة جزء من أملاكهم .! ومن الطرافة أن حساسية الملاك المرهفة جعلتهم ينتفضون من مجرد أى مشاعر خجولة تتمثل فى نظرات حاسدة للمعدمين والمهمشين ..فحتى المشاعر مزعجة للأغنياء إذن فليكن الإله هنا راصداً لها ومسجلا ً إياها فى دفاتره حتى يحاسب هؤلاء الملاعين على مشاعرهم الحبيسة .
ولكن لتحصين الفكرة أكثر ومنحها أيدلوجية وفكر تُيسر كثيرا ً من تمريرها وتوفر فى الوقت ذاته مناخ حافظ وأمن يكون فعله وتأثيره أكثرً تواجدا ً وحضورا ً , ظهرت فكرة الإله الرازق الذى يجلس فى سمائه ليقسم الأرزاق بمزاجه الخاص فيمنح هذا سعة فى النعم والأملاك ويحرم ذاك لحكمة ما ...لتكون الحكمة المدعاة أن ينعم ويتلذذ الناهبين ويبقى المنهوبين على حالهم فهى إرادة إلهية ليس لأحد أن يعترض عليها.
وتحاط الفكرة بالقسوة أيضا ً حتى يكون لها الفعل وذلك بتمرير بأن التمرد على إرادة الله وحكمته وتوزيعه للأرزاق هو الكفر بعينه وأن هذا سيجلب العذاب الأبدى فى محرقته ولا مانع أيضا ً من أن تفصل رأسى عن جسدى كعقاب لى على كفرى بالأرزاق الموزعة .!!
المصيبة أن فكرة الله الرازق تتسلل فى نفوس الملاك والعبيد ..فيتصور المالك أن ما يحوزه من أملاك هى نعم الله عليه وأنه يحظى بمحبة ومودة خاصة من الإله وينسى تماما ً أن أملاكه هى نتاج السطو والنهب على جهد البشر ومص دمائهم . وتكون المصيبة الأكبر أن البؤساء والمعدمين يقتنعوا أن أرزاقهم البائسة هى تقدير و أرادة الله لهم ..فتتخدر عقولهم ويزدادوا إنسحاقاً أمام ناهبيهم ويكتمل المشهد بلمح كوميدى عندما يرفع البائس يده إلى السماء ليدعو لناهبيه أن يزيدهم الله ويوسع فى أرزاقهم .
فكرة الإله الرازق هنا هى الحصن المعنوى القوى الذى يضمن إستمرار عمليات النهب المنظم والذى إكتسى إحتراماً وتقديرا ً من الناهب والمنهوب .!
* أغطية مزيفة .
تتداعى إلى أذاننا دعوات إلى تقديم يد العون للمعوزين والمحتاجين تحت دعوى تقديم الزكاة أو العشور ..ليتسائل المرء هل هو تصحيح لقصور فى عملية الأرزاق الموزعة والمقسمة ..أم أن رزق الفقير مقدر أن يأخذه من إحسان الغنى . لماذا يحظى البعض على رزق الله الوفير بينما يضن عن الأخرين كل الرزق ليعيشوا على الحاجة ومد أيدى ذليلة وعيون منكسرة فى طلب المدد من أصحاب الرزق الوفير
تستحضرنى أقوال كنت أرددها من زمن فائت ..حيث كنت أقول أن الأديان كإبداعات إنسانية منحت البشرية بعض القيم النبيلة كالدعوة للتكافل الإجتماعى ومساعدة الفقراء والترفق بهم .! أعترف وأقر أننى كنت مخدوعا ً ومخطئا ً فى هذه الرؤية .!!!
فليس هناك أى رحمة مهداة ولا أى مشاعر نبيلة مقدمة للفقراء والمعدمين ..!! نعم هى رؤية ذكية وخبيثة من الملاك والأغنياء لإطفاء درجة من التوازن..هى محاولة من جانبهم لرفع الغطاء عن القدر قليلا ً حتى لا ينفجر فى وجهوهم .! ذكاء الأغنياء جعلهم يسطروا أيات التكافل الإجتماعى بأيديهم هم حتى يحافظوا على ممتلكاتهم مصانة كما هى ..وفى نفس الوقت يحافظوا على وجود الفقراء فى العالم كما هم ليستمتعوا بسادية الثراء والغنى والتمايز الطبقى عليهم .!!
الإنسان المحاصر من كل الجهات ولا يسمح له بأى منفذ للخروج سيكون كالوحش الكاسر فى مقاومته ..لأن ليس له أى وسيلة للنجاة سوى المقاومة بكل ما يمتلكه من قوة وعزيمة . والإنسان الجائع المحروم عندما تسد أمامه أى إمكانية للحصول على ما يسد به جوعه ليصبح وجوده مهددا ً بالموت ..فلن يتوانى حينها أن يصبح كالنمر الشرس ينزع اللقمة ليأكل ولن يحوله فى ذلك أى قوة أو محاذير بل سيقذف بكل الكتب المقدسة فى الهواء وسيضع كل الشعارات التى كان يرددها تحت قدمه .
هنا ذكاء وخبث الأغنياء والأسياد والذين تمكنوا من أن يصيغوا الشرائع والمعتقدات لتخدم مصالحهم وأنانيتهم ..لتكون أيات التكافل والرحمة هى للتنفيس عن القهر الذى يمارسوه على البؤساء ..لتمنحهم الفتات بما يبقيهم أحياء وإلا عرفوا طريق المقاومة والتمرد ..وعندما يتمرد المحروم فمن الصعب أن يرجع ثانية إلى قمقمه .
ليست رحمة ولا رأفة ولا إنسانية ما تدعو الأديان له من مد يد المساعدة للجائع ..بل هى أيات تكرس الفقر والإستغلال وتتقى ثورة المظلوم والجائع بتقديم بعض الفتات له . أى إنسان ..له مشاعر وأحاسيس ..له قلب ومعدة ورئة كالأسياد .. من حقه أن يعيش الحياة بكرامة وحرية وشبع ..من حقه أن يأكل بدون أن يمد يده لأحد ..من حقه أن يعيش بدون أن يكون ممنون لمستغليه عندما يرموا له بعض الفتات . من حقه أن يعيش فى خانة إنسان وليس فقير معدم يتلذذ الأثرياء أنه موجود فى الحياة حتى يحسوا بمتعة الثراء والتمايز الطبقى .
الملاك خلقوا فكرة الإله الرازق لتكون بمثابة المظلة التى تحمى جشعهم وأنانيتهم المفرطة ..لتكون بمثابة المخدر الذى يقدموه للمعدمين والبؤساء ليتجرعوه فيسلموا جهدهم ودمائهم للسادة الملاك خاضعين ..وليزداد الأغنياء جشعا ً ويزداد الفقراء بؤسا ً .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات فى الإنسان والحيوان والبرغوث .
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 4 )
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 3 )
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 2 ) .
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 1 ) .
-
الأديان كتعبير عن مجتمعات عبودية الهوى والهوية .
-
الجنه ليست حلم إنسان صحراوى بائس فحسب .. بل حلم مخرب ومدمر .
...
-
سأحكى لكم قصة - شادى - .
-
بوس إيد أبونا .!!
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 7) _ فليدفعوا صاغرون .
-
ضيقوا عليهم الطرق .
-
فلنناضل أن يظل حسن ومرقص فى المشهد دائماً .
-
نحن نخلق ألهتنا (5) _ الله مالكا ً وسيدا ً .
-
ثقافة الطاعة والإذعان .
-
خواطر فى الوجود والإنسان والله _ ما الجدوى ؟!
-
نحن نخلق ألهتنا (4) _ الله باعثا ً
-
خواطر فى الوجود والإنسان والله _ الأرض حبة رمال تافهة .
-
نحن نخلق ألهتنا (3) _ الله عادلا ً .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا (6 ) _ أشلاء إنسان .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا (5) _ إغتصاب الطفولة .
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|