|
الفصل 18 من رواية تصبحون على غزة
حبيب هنا
الحوار المتمدن-العدد: 2984 - 2010 / 4 / 23 - 18:05
المحور:
الادب والفن
18 تطلع إبراهيم إلى الوراء ، إلى رنين الأعوام الماضية التي أضاءت حياته يوماً بعد يوم ، التي تعلم فيها كل ما يعرفه الآن حتى أصبح ما هو عليه ، تطالعه وجوه يتعرف على بعضها ولا يتعرف على بعضها الآخر ، وجوه بألوان وأشكال مختلفة : منها من أضفى حضوره الدائم، ومنها من تلاشى بعد لحظات ، في الوقت الذي فلتت البوصلة من بين يده ، فصار بلا اتجاه ، يزور الأماكن التي تعود عليها منذ كان طفلا ً، علّه يتمكن صياغة أفكاره وترتيب ذكرياته ، دون جدوى ، يلتقي معارفه القدامى في محاولة لتضميد جراحه فيزيدها غوراً واتساعاً ، يمر على وجوه ألفها وتآلف معها حتى يعيد لنفسه توازناتها فلا يقوى على رأب الصدع الذي يحدثه جراء الحديث المفرط عن الاقتداء بالوطن الجديد ألمانيا . وكان كلما خطا خطوة إلى الأمام ترك حفرة خلفه إلى أن تصدعت علاقاته مع الذين يودونه ويكن لهم احتراماً خاصاً . تشرخت المرايا وتشوهت نفسه ولم يعد يرى صورته بوضوح ، وأغلب الظن ، قرر الانغلاق إلى حين صفاء نفسه ومعرفة ماذا يريد من الآخرين ، فغدا لا يغادر البيت إلا من أجل شراء الضرورات والعودة سريعاً لائذاً بالصمت . ومن صمت إلى صمت ، تتسع الفجوة وتحط الكآبة على البيت . ومن حيث لا يدري كان يغرس في صدر والديه نصلاً حاداً أودعهما الحزن . الحزن على أيام خلت توسما فيها خيراً عندما أكمل تعليمه واقترن بريتا ، ريتا التي أصابها ما أصابهما فخشيت على إسماعيل من التداعيات وفقدان الأمان ، فأصبح إقامتها عند والديها مع إسماعيل أكثر من الإقامة في بيت أهل زوجها ، هروباً من احتمالات غدت تلوح في الأفق رغم كل المحاولات التي بذلتها بغية استبدال المرايا المهشمة بأخرى جديدة . في بيت والديها كانت الذكريات تجلو النفس من الرواسب . تستمع إلى عطوان، وتحلق في السماء كنجمة انفصلت عن مجموعتها حتى تراقبهم عن كثب ، نجمة أضاءت ما تبقى من حياة والديها، وأخرجت إسماعيل من احتمال الانغماس بالظلمات، والانطواء على الذات، وما ينتج عنه من نسيج الخيال المرعب الذي لا يستوي معه العقل . وكلما استمعت إلى قصة جديدة أخذت تفكك كلماتها ومعانيها، وتعاود صياغتها تبعاً لقدرة فهم الطفل واستيعابه ، مما زاد إسماعيل تعلقاً بها يوماً بعد يوم ، في وقت كانت فيه حريصة على ألا تنقطع عن بيت أهل زوجها كي تستمر على تماس بما يحدث، وما تؤول إليه الأمور ، إضافة إلى بقاء إسماعيل قريباً من والده بنفس مقار المسافة التي يقترب منها . وذات مساء ، ذهب عطوان وصفية مع ابنتهما وإسماعيل للسهر والتسامر عند أبي إبراهيم وزوجته ، فانفتحت الذكريات بينهما على مصراعيها وتدفقت كنهر لا ينضب ، أعادت الأجواء إلى طبيعتها . جلت نفس إبراهيم من الكآبة وأعادت إليها التوازن ، فانصب على نفسه باللائمة : أين كان عقلي عندما أوشكت أن أدمر كل ما بناه أبي جراء لحظة حزن وغضب غير محسوبة ؟. وفي لحظات ما قبل النوم سمع إسماعيل أمه وهي تقول : - كدت تدفع بنا إلى ذلك المصير القاتل الذي كان من الممكن أن يكون ، بالإضافة إلينا ، مصير كل الذين أحببناهم لولا تدخل العوامل الصدفية ، ولولا ذلك ، لمضوا عرايا دون شيء سوى ملابسهم ، كأني بك تجبرنا على فعل ما لم نفعله سابقا ، كأني بك ، تحاول إنقاذ حياة من لا يستحق الحياة . لماذا يا إبراهيم ؟ وكان إسماعيل قد غط في نوم عميق، فلم يسمع إجابة أبيه . الآن يستذكر بوضوح ، كيف انجلت تلك الترسبات ؟ وكيف استمر نهر الحياة بالتدفق ؟ يستذكر تلك اللحظات التي وقف فيها أمام المرآة، ورأى صورته واضحة فقال لنفسه : ثمة دائماً شيء وقعه أقوى وآلامه أشد، ولا يكرر نفسه بذات الهوية . يستذكر كيف صحا في الصباح علي يد ناعمة طفولية وهي تداعبه ؟ وكيف رأى وجه أبيه مضيئاً في ذلك اليوم كأنه عاد إلى بيته الأول ؟ واستمرت الحياة في كلا الحالتين دون توقف ، لم يختل ميزان الكون ، ولم يتوقف طلوع الشمس ومغيبها . كان يكفي أن يرى الابتسامة العريضة على شفتي زوجته حتى يرى الدنيا بعيون مختلفة ، يرى أبيه بأعوامه الثمانين منتصب القامة ، شاباً قوياً لا يختلف عن ابن الثلاثين إلا من حيث كثرة التجاعيد على الوجه وأسفل الرقبة ، عضلات مجدولة قوية لا ينقصها سوى إبريق الزيت ومرفقاته . أما أمه ، تلك المرأة العجوز الصبية ، التي التزمت الحياد منذ اللحظات الأولى التي حطت فيه الكآبة على البيت ، لم يفتها الانحياز لخيار البهجة والفرح ، فأضفت عليهما من روحها ما يؤكد وجوب التمسك بحبال الأمل المدلاة من أطراف لحظة لا تعرف السكون مهما كانت الأجواء عاصفة والرياح شديدة السرعة ، فكان منها أن أعدت مع ريتا وأمها بعد أن أسرت في أذن مريم بعض الكلمات التي لم يعرف أحد مضمونها إلا بعد أن صار القول فعلا ً: بعض المعجنات التراثية التي لم يتناول إبراهيم وريتا مثلها منذ أن حطت أقدامهما أرض مطار ألمانيا . معجنات بألوان وأشكال مختلفة ، بالزيت والزعتر ، باللحمة والسماق ، بالجبن والفلفل الأحمر الحار ، بالبيض والفلفل الأسمر ، بالسكر والقرفة والزبيب ، بالسمن البلدي ومربى القراصيا ... الخ .. الأمر الذي أضفى مزيداً من السرور، وأعاد للأطفال طفولتهم، وللكبار ذكريات مضت . في تلك اللحظات بالذات ، غرق إبراهيم في تفكير عميق بدا الخروج منه أصعب من الاستمرار فيه . حدث نفسه قائلا : لو قيض لي الآن أن أهدم حياتي السابقة وأبني حياة جديدة لعملت جاهداً أن تكون على النحو التالي .. أب وأم ، زوجة وابن ، لن استبدلهم بكل كنوز الدنيا ، بيت كهذا ، مرتع الطفولة والصبا ، لا يعوضه قصر في أجمل مناطق الكون ، جيران ومدينة مسكونة بالهدوء ليس لها مثيل على الإطلاق ، مناخات طبيعية تلائم الإنسان على مدار فصول السنة، بنية مجتمعية تفتقر للقانون وتتمرد على السائد مهما كان ملائماً. إذن ، ما الذي ينبغي تغييره ؟ وكان ما زال يحدث نفسه ، هل هي الفترة الممتدة من الثانوية العامة وحتى الآن ؟ هل ينبغي اعتماد أسلوب شطب مراحل، واستبدالها بأخرى ؟ هل تدمير القديم تماماً ، أو على الأقل ، منذ جثم الاحتلال على صدورنا ، يضفي هامشاً من الحرية في بناء الجديد ؟ وكان الاستمرار على هذا النحو يفضي إلى تقويض أهم اللحظات التاريخية في حياته ، فاختار اقصر الطرق وأسهلها ، تدمير مرحلة وجود الاحتلال وما ترافق معه من قمع وحشي وتشويه نفسي ومجتمعي أدى إلى البقاء أسرى التفكير كيف ينبغي التخلص منه . إنه الاحتلال البغيض الذي يصادر الهواء ويزودنا بالغاز المسيل للدموع . إنه الاحتلال سبب الأمراض المزمنة كلها وباني جبال الأحقاد والكراهية ، يأكل أكلنا ويشرب ماءنا ، ويتنفس هواءنا ، ويحلق في سمائنا ، ويسيطر على بحرنا ، ويحرمنا من الاستجمام على شواطئنا . فكيف لنا أن نبقي على شيء من ارثه ؟ وطفت لحظة المفارقة فوق سطح الأشياء ، طوافاً لا يشبه بأي حال لحظة ما قبل الغرق في بحر لا قرار له ، ولا كذلك ، لحظة طواف قشة فوق سطح ماء متدفق تقاوم التيار من الانجراف بانتظار حواف اليابسة كي ترسو عليها وتتشبث بها . إنها لحظة من ذلك الطراز الذي لا يعرف الارتداد أو المراوحة ، حادة ، باترة ، سريعة ، لا تقبل الوساطة أو تأجيل الحسم ، فكان القرار قاطعاً : يجب أن أصفي أعمالي في ألمانيا بغية العودة إلى الوطن والاستقرار فيه . انفرجت أساريره بعد أن اتخذ قراره في وقت كان الأب يرقب الأمر عن كثب ، فعرف من فوره أن إبراهيم قرر بناء حياة جديدة من مخلفات الماضي لا تخضع لقوانين التجديد أو إعادة الترميم ، حياة تزاوج بعقلانية بين قاعدة المثلث وارتفاعه ، دون أن يغفل المساحة حتى يصمد البناء وينهض عالياً . ونهض من نومه نهوضاً مفاجئاً كسر رتابة التوقعات، احتضن إسماعيل بين ذراعيه وأشبعه تقبيلاً، فيما كان الأب يتابع بنظراته ما يحدث عله يكتشف شيئاً ، وكان إسماعيل فرحاً بشكل لا يوصف ، ذلك أنه منذ قدم إلى أرض الوطن لم يحظ باحتضان حميمي كهذا . تقدم إبراهيم صوب أبيه وعندما وقف أمامه ، كان الأب قد نهض واقفاً ، فأصبحا وجهاً لوجه ، شخصان يقفان في عراء اللحظة، ينظران إلى بعضهما البعض كي يتنفسا بشكل طبيعي بعيداً عن الكآبة ومضاعفاتها التي حطت على البيت قبل أيام . تقدم إبراهيم خطوة إضافية وهو ما يزال ينظر في عيني أبيه ، ما لبث بعدها أن مد ذراعيه محتضناً إياه في لحظة لا تقبل الفكاك فأضحيا كعمود خيمة وسط دهاليز لا تنتهي من التراجيدية . تعالى صوت إسماعيل بشكل متواصل : - أماه .. أماه .. أماه.. ! جاءت ريتا مسرعة فزعة . سألت : - ماذا بك ؟ أشار إلى الأبوين بيده، وهو يقول : - عندما أصبح كبيراً سأحتضن أبي على هذا النحو .. نظرت صوب إشارته .. سمعت إبراهيم يقول لأبيه : - لقد قررت تصفية أعمالي في ألمانيا والعودة إلى الوطن . جاء رد الأب واثقاً ،قوياً، متماسكاً لا يقبل المراوغة : - كنت على يقين من ذلك ! اقتربت ريتا منهما بخطى ثابتة . نظرت إليهما، وهي تقول : - هنا أصلنا ومصيرنا، ولن نقبل عنهما بديلاً .
#حبيب_هنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل 17 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 15 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 14 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 13 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 12 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 11 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 10 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 9 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 8 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 7من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 6 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 5من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 4 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل3 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل2 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل1 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل16 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 31 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل 23 من رواية تصبحون على غزة
-
الفصل22 من رواية تصبحون على غزة
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|