سامية نوري كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 2978 - 2010 / 4 / 17 - 20:12
المحور:
حقوق الانسان
إن تكوين الشعب وصياغة التركيب الهيكلي للبناء البشري في الدولة لا يأتي بشكل تلقائي بل أن هناك ثمة دواعي ودوافع هي التي تجمع وتلملم الناس في تركيب اجتماعي هيكلي , ولا يكفل قوة هذا البناء البشري شئ أهم من تجانس وسلامة اللبنات التي يتكون منها هذا البناء , والعوامل التي جمعت الناس وشدت تداخلهم هي المصالح والروابط المشتركة كما أن الذي يعزز ويقوي هذه الروابط الاشتراك في الرصيد الثقافي والحضاري وفي النمط الحياتي , كل هذا من شانه أن يكفل وحدة في الفكر ووحدة في تطلع الشعب الواحد , وتكون الفكرة التي تجمع الناس وتصنع منهم شعبا هي من إفراز العوامل الطبيعية ذلك إن العوامل الطبيعية لا تتغير إلا على المدى الطويل أو على المدى الجيولوجي المتعاقب .
وتمثل الأقلية شريحة من البناء البشري في جميع الدول ويستوي في ذلك أن تتعايش في صحبة الأغلبية في البناء البشري البسيط أو في البناء البشري الملتئم , وقد تتعايش الأقلية مع أغلبية في قوم من مجموعة الأقوام المتداخلة في البناء البشري المركب , ويكفل السلام الاجتماعي الذي يخيم على الجميع التواصل والتعامل بين الأغلبية والأقلية المحافظة على سلامة البناء البشري ولا يكدر صفو هذا السلام الاجتماعي شئ غير معاناة الأقلية من الغبن أو تعرض الأقلية للاضطهاد , أو تضرر الأقلية من الحرمان من بعض الحقوق المدنية , وتتنوع الأقليات في المجتمعات فهناك الأقلية القومية أو الأقلية السلالية أو الأقلية الدينيه.
وهكذا فالأقلية هي مجموعة من سكان إقليم أو دولة تختلف عن الأغلبية في الانتماء ألاثني أو القومي أو الديني أو المذهبي , وقد وجدت الأقليات بين أكثر الشعوب والأمم لكنها في الغالب كانت تعاني من هيمنة وظلم الأكثرية بسبب عدم وجود ضمانات أو ضوابط تحميها من بطش الأغلبية , ولا يمكن للأقليات العيش بسلام في أي بلد دون قوانين تضمن حمايتها وحرياتها الدينية والثقافية ومساواتها مع الأكثرية في التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية , وقد وجدت هذه الضمانات طريقها إلى الدساتير الغربية منذ وقت مبكر وقبل نشوء فكرة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية فقد اصدر البريطانيون وثيقة المكناكارتا (العهد العظيم) عام 1215 التي اشتملت على ثلاث وستين مادة تضمن حقوق وحريات أفراد الشعب مهما اختلفت طبقته وتباينت درجته في المجتمع وقوميته .
ولقد ساهم في تطبيق المبادئ الديمقراطية والحقوق العامة صدور إعلانات ومواثيق واتفاقيات دولية تؤكد على احترام حقوق الإنسان وحماية الأقليات حيث إن من أهم الشروط الأخلاقية للديمقراطية هي حماية حقوق الإنسان.
حيث تضمن الدستور الأمريكي الذي صدر عام 1776 والذي يعتبر الأساس الأول لإعلانات حقوق الإنسان في التاريخ الحديث مواد تؤكد على حقوق الأقليات , وبعد الثورة الفرنسية عام 1789 اصدر الفرنسيون وثيقة حقوق الإنسان والمواطن التي تعتبر الانطلاقة الأولى لمبادئ إعلان حقوق الإنسان , كما تضمن الدستور الهولندي الصادر عام 1814 مواد تضمن حقوق وحريات جميع من يتواجد على الأراضي الهولندية وليس المواطنين الهولنديين فحسب فقد نصت مادته الأولى على انه يعامل كافة الموجودين في هولندا بالتساوي ويمنع التمييز العنصري بسبب الدين أو المعتقد أو الميول السياسية أو العرف أو الجنس أو أية خلفية أخرى , كما نصت مادته السادسة على انه لكل شخص الحق في ممارسة شعائره الدينية أو معتقداته بحرية كفرد أو ضمن جماعة ويتحمل كل شخص مسؤولية ذلك ضمن القانون.
ولقد أصدرت الأمم المتحدة في18/12/1992 إعلانا يتضمن حقوق الأقليات الاثنية أو الدينية أو اللغوية ونصت المادة الأولى منه على أن تقوم الدول كل في إقليمها بحماية وجود الأقليات وهويتهم الثقافية والدينية واللغوية وتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهوية وان تعتمد الدول التدابير التشريعية الملائمة لتحقيق تلك الغايات , كما أكد الإعلان عن حق الأقلية في التمتع بثقافتها الخاصة وممارسة دينها وعقائدها وطقوسها واستخدام لغتها بحرية والمشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية العامة مشاركة فعلية .
ومن هنا وجدت من واجبي باعتباري عراقية في المقام الأول ومن الأقلية المسيحية في المقام الثاني أن أتطرق إلى حقوق الأقليات في العراق والتي شهدت انتهاكا صارخا لكل القوانين الدولية والإنسانية التي تفرض على جميع الدول احترامها , وان المسؤولية الأخلاقية والإنسانية تتحملها الحكومة العراقية ضمن المواثيق والقوانين الدولية.
ومن واجب النظام العراقي الجديد والذي يدعي الديمقراطية حماية الأقليات من الاضطهاد لان ذلك من أبجديات الديمقراطية ومن شروطها الأخلاقية والتزاما بكل المواثيق التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي هي ملزمة بها باعتبار العراق عضوا في المنظمة الدولية.
والذي يجري في العراق الآن ضد الأقليات الدينية هو تطهير عرقي وديني بامتياز , والذي يبعث على الاستغراب انه يجري تحت أنظار الحكومة العراقية وتحت حماية قواتها الأمنية , والدليل على ذلك أنها لم تتخذ أية خطوة جادة لإيقاف تلك المجازر التي تنفذ ضد الأقلية المسيحية ومنذ عدة سنوات وخاصة في المنطقة الشمالية وبالتحديد في مدينة الموصل مما يعطي الانطباع بتواطؤ الأجهزة الأمنية والسلطة مع القتلة والمجرمين , حيث تمت في مدينة الموصل عمليات ممنهجة لتفريغ المدينة من المسيحيين الذين هم بالأصل سكان مدينة الموصل الأصليين من العرب الاقحاح والذين استوطنوا فيها واعتنقوا الديانة المسيحية عند بداية انتشارها على يد رسل السيد المسيح قبل الفتح الإسلامي للعراق , والسؤال الذي اطرحه على المسؤولين وذوي الشأن هو ألا يكفي ما تم على يد الأسلاف من مجازر في الماضي ليكمل الخلف الغير صالح المأساة مندفعين تحت شعارات غيبت عقولهم للوصول إلى الجنة الموعودة التي قد تعوضهم عن ما حرمتهم منه الأرض من متع وامتيازات , ويستمر سؤالي إلى متى تبقى هذه الشريحة من المجتمع التي يشهد لها الجميع بحبها للخير والسلام وعدم اعتدائها على كائن من كان منطلقة من أسس ديانتها القائمة على حب الآخر مهما اختلفت معه ومهما تلقت منه من إساءات مضطهدة , ومتى ستستيقظ الضمائر وتنبري للدفاع عن هذه الشريحة وتعريف العالم بتراثها ودورها في بناء العراق قديما وحديثا . وعلى الرغم من بعض البحوث الخجولة التي تطرقت إلى تراث المسيحية في العراق والتي امتازت مع الأسف في اغلبها بافتقارها للشفافية والوضوح , لازال الكثير منه يرقد في صفحات الكتب والمخطوطات التي صودرت أو غيبت عن عمد , إن كشف هذه الحقيقة تقع على عاتق الباحثين في التاريخ والتراث العربي مع التأكيد على أن إبراز هذه الحقيقة تقتضيها الأمانة العلمية من المختصين والأكاديميين وذلك لإظهار الحقائق التاريخية المدفونة في ثنايا كتب التاريخ المسكوت عنه وعرض الحقائق التاريخية عن كل ما أصاب المسيحيين في العراق بصورة عامة وفي مدينة الموصل بصورة خاصة من مسلسل القتل والتهجير وإجبار الناس على ترك ديانتهم بمختلف الوسائل , وعمليات الإقصاء وإلغاء دورهم الثقافي والفكري والتعتيم المؤدلج على معاناتهم وتغييب التاريخ الحقيقي للمجازر التي ارتكبت بحقهم عبر العصور .
ومع احترامي الشديد لبعض الأقلام الأكاديمية الشريفة وفي مقدمتها وأبرزها حضرة الدكتور إبراهيم خليل العلاف مدير مركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل , والتي تعمل على أبراز الدور الثقافي للمسيحيين في مدينة الموصل عبر جهد متواصل وبأمانة علمية وأكاديمية , وبعض الكتاب ذوي الضمائر الحية , أجد أن هذه النخبة من القلة والندرة والتي أصبحت بمثابة الطير الذي يغرد خارج السرب - ذلك السرب الذي يعمل على طمس الحقائق والتعتيم على المسلمات التاريخية وإنكار الحقوق المتجذرة في صلب الواقع مدفوعا بأحقاد الماضي التي مهما حاول مزوري التاريخ إنكارها لابد لها من أن تظهر يوما وتثبت أصالتها - من الصعوبة بمكان القيام بجهد منفرد في مهمة تحتاج إلى العشرات من الأكاديميين الذين يتصفون بالأمانة العلمية والغير متلبسين بمفهوم الأنا والدائرين في فلك مصالحهم الشخصية وعقد حب الظهور وجنون العظمة والقبول بتزوير التاريخ والتراث , لإثبات الحقائق التاريخية كما حدثت وليس كما أريد لها أن تنشر وتؤرخ لان تراثنا في الإخفاء العمد والتجاهل المقصود ثقيل , ونحن بحاجة إلى جيل متجرد من التشويش التاريخي والخوف الأبدي من التقرب إلى التراث وإبراز الأحداث التاريخية الحقيقية كما حدثت وكشف المستور والمسكوت عنه عن عمد والاعتراف بشجاعة المؤمن بحقوق الآخرين , وإنصافهم بالعمل على كشف التاريخ الحقيقي للمسيحيين في العراق , وإبراز تراثهم ودورهم في بناء العراق في كل مراحله التاريخية , مع ضرورة اطلاع العالم على كل ما يعانون منه الآن من جرائم القتل على الهوية والتهجير ألقسري وإجبارهم على ترك ديانتهم وخطف رجالهم واغتصاب بناتهم , والبدعة التي تفتقت عنها عقول المجرمين والقتلة المريضة وهي فرض الجزية على المسيحيين والذي جعلني اشعر بان أهلنا في العراق لم يعودوا ينتمون إلى جيل القرن الواحد والعشرين وإنهم يعيشون خارج قياسات التاريخ والزمن , أعود مرة أخرى وأقول أننا بحاجة ماسة إلى إعادة كتابة تاريخنا وتنقيته مما دس فيه من أكاذيب ومن طمس للحقائق وقلب للأدوار وجعل الضحية في مكان الجلاد , إن ذلك يتطلب شجاعة الفرسان و صمود القديسين فهل سنجد يوما من يجازف ويؤرخ الحقائق التاريخية كما حدثت على ارض الواقع وليس من منظور الربح والخسارة وتزوير التاريخ وملئه بالمغالطات وتشويه الحقائق التاريخية جريا وراء عقل مغيب وأساطير ما انزل الله بها من سلطان .
#سامية_نوري_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟