|
الرواية 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2978 - 2010 / 4 / 17 - 01:32
المحور:
الادب والفن
" احذر ، يا صديقي ، أن تغفوَ على هناءة الفوز ، طالما أنّ قرينكَ لا يهدأ لهُ بالٌ " كذلك همسَ لي كبيرُ العمارة ، وهوَ يقرّبُ من أنفه ، مُشتمّاً ، الصحنَ الخزفيّ ، الصينيّ الصنعة ، المُتخمَ بمنتخبات من أطايب المائدة ، العامرَة . لم أعرْ تلك الكلمة ، المُحذرَة ، اهتماماً ما ، ما دامت همّتي قد شرعتِْ ، بدورها ، في انتقاء ما تيسّر من الطعام ، الشهيّ ، لوجبَة الغداء ؛ وهيَ الوجبَة ، التي تأخرتْ إلى ما بعد صلاة العصر ، بسبب انشغالنا بدفن موتانا . وإذاً فقد كنا ، في واقع الحال ، على مائدة العزاء ، المنذورة لأرواح أولئك الحراس ، المُتفانين ، من فتيَة الحيّ ، الذين وقعوا صرعى معركة الأمس ؛ وكان عددهم ثلاثة ، علاوة على الوصيف . ولكنّ الدارَ ، بالمقابل ، كسبَتْ عودة خدَمها ، الذين كانوا قد تفرقوا ، فراراً فرقاً ، خلال الواقعة . على ذلك ، ما كان بالغريب أن تفترَق مائدة الغداء ، السخية ، عن ضرتها ، مائدة الفطور ، المُبتسرَة . ها هنا ، تحلّق أركانُ المجلس ، الستة ، حول طاولة حجرة السفرَة ، الدائرية الشكل ، التي تراصفَ فوقها ضروبُ الطير ، المطبوخة مع البطاطس والجزر ، إلى جانب شواء الضأن ، المطمورة بتلّ فضيّ ، ناصع ، من الأرز المسلوق بسَمن البَداوة ، الأصيل . لقد تغيّب الدالي باش عن الوليمة ، بعدما اعتذرَ من " مضيفه " بضرورة ذهابه إلى مقرّ الأورطات ، الكائن خارج السور . ولكن ، ها هيَ تمتمة الشيخ القبان ، المسموعة ، لآية الذكر الحكيم ، تتوافق مع هَمْس دواخلنا لها . لفحة الحرّ ، الدخيلة على ربيعنا ، جعلت كلّ من الحضورَ يهمل ما بيديه من أطايب ، لكي ينشغل بترطيب جوفه بماء الورد ، المبرّد . " لتكن الفاتحة ، على روح أخينا ، آغا أميني ، هيَ حسنُ ختام غدائنا " ، توجّه إلينا الشيخُ أخيراً . عندئذ أضحى التوجّسُ مرجعَاً ، مشتركاً ، لأفراد هذا المَجْمع ، المُختار .
" ماتَ آغا أميني ، مسموماً " يا له من أمر عَجَب ، أن يتفقَ التفوّهُ بهذا القول ، على لسان القوّاص ، مع آخر كلمات الدالي باش : " كناشٌ ، كأنما حبرُهُ سمّ زعافٌ " . كذلكَ كنتُ أتفكر ، في وهلة الصمت تلك ، التي خلفتها دعوة الفاتحة على روح آمر القابيقول . رحتُ إذاك أمَرّرُ نظرة مُختلسَة ، على كلّ من الأخوة ، الحضور ، مُتسائلاُ في سرّي عمن يمكنُ أن يكونَ منهم ، لا قدّرَ الله ، ذاكَ القاتل الخفيّ ، الذي دسّ السمّ للرجل : أيّ من هؤلاء ، في حقيقة الأمر ، لم يكنْ يكنّ المودّة لآغا أميني ، بل واجتبه معه في وقت ما ، قريب أو بعيد . إلا أنّ ذلك ، بعد كل شيء ، ليسَ سبباً موجباً وكافياً لسرقة روح إنسان ؛ بله روح شخص وجيه ، في مقام آمر القابيقول . من ناحيَة أخرى ، فإنّ ضباط الوجاق ، زعموا أنّ عارض التسمّم ، كان جلياً على ملامح قائدهم ليلة البارحة ، وأنه كان آنئذ قد شرَعَ بشتم المجلس وكبيره : لو كانَ الأمرُ صحيحاً ، أما كان حرياً بالمحتضر ، وهوَ قابَ خطوة من أبواب الآخرة ، أن يُشير بالاسم لمن يعتقد أنه غريمه ، بدلاً عن تشتيت التهمَة على ستة أشخاص . " ولكن ماذا عن الوصيف ذاكَ ، المرحوم ؟ " ، قلتُ في نفسي ، حينما أطلّ على حين فجأة وَجهُ الرجل ، المسكين ، على صفحة الذاكرة . إنه آخرُ من اقتربَ من آمر القابيقول ليلة أمس ، حينما أضافَ إلى فنجانه ، الفارغ ، مزيداً من القهوة المرّة . وإذاً ، ها هنا اسمٌ آخر ، إضافيّ ، كان عليه أن يكملَ رقم " سبعة " المُلغز ، المبارك . إذا كانَ حاجبُ الشاملي هذا ، هوَ المتورّط ، وليغفر الربّ لي ، فإنّ موتََ آغا أميني ربما يبقى سراً ، أبدياً . آه ، ولكنه بنفسه ، الحاجبُ ، من وقع صريعَ طعنة خنجر ، ثمة قربَ باب حجرة المؤن ؛ أين كان وقتئذ يخفرُ ابنة سيّده : أتكونُ تلك الطعنة ُ ، بدورها ، مَجهولة َ المصدر ؟
" إنّ الأمرَ يتعلقُ بكتاب " هذا القولُ ، سبقَ للدالي باش أن فجأني به ، حينما شئتُ سؤاله ، عن دافع الوزير من وراء أمره الدالاتية باقتحام منزل كبير الأعيان ؛ وبالتالي ، التساؤل عن أولى أسرار ليلة أمس ، المَهولة . إذا كانَ آغا يقيني تكلم الصدقَ ولم يخدعني ، لغاية ما في نفسه ، فإنّ ذلك يَمْحي تماماً أثرَ فرضيّة الشاملي ، بأنّ ثمة خيانة ، تأمّرتْ على المجلس من طرف القلعة . وإذ رفضَ كبيرُ الأعيان ، اتهامَ آغا أميني بأنه من أبلغ " أحدهم " بمكان وزمن خلوتنا ، إلى أنه كان في سبيله فعلاً لتسميَة سيّده ؛ ذلك الشخص : " الماكر والدسّاس ، الذي لديه الكثيرُ من الأسباب لكي يحاول الخلاص من المجلس " . إلا أنّ كلمتي ، المُباغتة ، شاءت أن تقطعَ أوصال كلمة الشاملي ، عندما هتفتُ دونما وعي : " سعادة القبجي " . نعم ، لقد فكرتُ قبلئذ ملياً في شبهة بعض الأسماء ، وكانَ مبعوث السلطان أحدها . إلا أنني حينما نطقتُ اسمه ، كما لو كنتُ أجيب سؤال الكبير " هل عرفتموه ؟ " ، فلأمر آخر ولا ريب : كنتُ بصدد إعلام الحضور بنيّتي انتحال صفة القبجي ، حسب . وفي آخر المطاف ، فهذا الرجلُ ، " القرينُ " ، كان أحدَ أولئك المشبوهين ، في عُرف يقيني ، طالما أنني استقيتُ عنه أخباراً هامّة ، ذات مصداقية ، من لدن صديقي العريان : فالقبجي هوَ عدا عن كونه موظفاً خطيرَ المقام في القصر ، فإنه يطمح بخلافة الوزير في الولاية الشامية ، الغنية ، إذا ما تكللت مهمّته الحالية بالتوفيق . ويجب ألا ينسى المرءُ ، أنّ آغا أميني ، بالذات ، من سبقَ وأعلمَ المجلسَ ، في غيابي ، بوجود القبجي في الشام : فمن أينَ له أن يستقي هذا الخبر ، المحظور بتاتاً ، لولا أنه كان عندئذ على صلة بالرجل ؛ أو على الأقل ، بمضيفيه ؛ شمّو آغا أو القاروط ؟ نعم . بيْدَ أنه ، من جهة أخرى ، ينبغي التنبيه إلى حقيقة ، أنّ من دسّ السمّ لآغا أميني ، كان يجهلُ ولا مراءَ أنّ الوزيرَ ، المارقَ ، كانت قد انتابته ، في اليوم نفسه ، فكرة خرقاء ، لطالما مسّتْ دماغه ؛ أن يحوزَ ، وبأي ثمن ، على كناش الشيخ البرزنجي .
وَجَدتني ، بعيد الغداء ، أجتازُ باحة الحَوْش ، التي أبلطتْ برخام فاخر ، متوجّهاً نحوَ منظرة الحديقة . قبعتُ هناك ، تحتَ ظلال القبّة الخشبيّة ، فوقَ أريكة مشغولة بأعواد قصب وخيزران ، نحيلة ومُتشابكة . في صباح هذا اليوم ، كان هنا شخصان ، حبيبان ، يبثان مناجاة مشتركة ، لا يكاد يعرف بسرّها سوى الأشجار والأزهار والخمائل والعرائش ، المنهملة بوداعة في رطوبة المكان . ولكنني ، بدوري ، أعرف نصف ذاك السرّ ، على الأقل ؛ أعرفُ ، يقيناً ، أنّ ابنة سيّد الدار على علاقة ، حميمة ، مع رجل ما ، غريب ومجهول . لقد انتهزا إذاً غيابَ خدم الدار ، لكي ينفردا معاً في هذا الموضع المتطرف من البيت ، مطمئنين لنوم الجميع ، بعد ما أصابهم من نصَب وتعَب الواقعة تلك ، الليلية . كذلك كنتُ أفكر ، لما نهضتُ ، بغتة ، من مكاني على الأريكة ، وفي نفسي ضيقٌ لا يُفسّر . راوحتُ قدميّ أمام فسقيّة دقيقة ، من مرمر زاه ، قد أغفت ونافورتها في قيلولة الظهيرة ، ثمّ تحركتُ بتمهّل نحوَ قاعة السلاملك . من ثمة ، من الجناح الفوقاني ، المخصص لحريم الدار ، بُعثَ صوتٌ ما لمصراع نافذة ، أو باب ربما . وكما لو أنني أرمي ببصري عفواً إلى السماء البيضاء ، المحفوفة بأطراف زرق لسُحب تائهة ، قنعتُ بلمحة من شبح متوار هناك ، خلف أحدى المشربيات الداخلية ، المطلة على الحديقة ومنظرتها . لتمتليء روحي ، من ثمّ ، بأريج ياسمين طاغ ، مُسكر .
" هل ترغب بتناول القهوة معنا ، في السلاملك ؟ " سألني المضيفُ ، حينما صادفني قربَ باب قاعة المكتبة ، وكنتُ متردداً في أمر اجتيازه . أجبته عندئذ وأنا أتمثل حالة الأرهاق الشديد : " اعذروني ، أيها الزعيم . كان بودي مشاركتكم ، والأخوان ، في هذه المَسرّة . ولكنني أشعر بالتعب من أثر الحرّ . " ، ثمّ أضفتُ بسرعة " أريد أن أستلقي هنا ، في هذه الحجرة . ولكنني أتمنى ، أيضاً ، أن تأذنَ لي بحظوة إلقاء نظرة ، عن قرب ، على خزين كتبكم ، الموفور . لقد تراءى جانبٌ منه لعينيّ ، حينما كنتُ ثمة ، في المنظرة " . فأجابني الزعيمُ بهزة من رأسه ، فعلقَ على ما طلبته متبسّماً : " وأتمنى من جهتي ، يا سعادة القبجي ، ألا تتوهّمَ أنّ مهنة الورّاق أكثر دراً للمال من مهنتكَ " . ضحكتُ بسرور لمزحته . إلا أنني ، كما في كلّ مرة مُشابهة ، وجدتُ في حديث الرجل علامة َ نبوءة : " فهل سأتقمّص ، يوماً ما ، صفة الكاتب ، المُعتكبَة بغبار المخطوطات ، الغابرَة ؟ " ، قلتُ لنفسي عندئذ . وعلى أيّ حال ، رأيتُ أنّ قاعة المكتبة ، الفارهة والمستطيلة الشكل ، كانت مقسومة إلى حجرتيْن : واحدة لعمل زعيم الحيّ ، الإداريّ ؛ والأخرى كخزين للكتب . فما كان مني إلا أن ولجتُ ، من فوري ، تلك الحجرة التي تهمّ مقصدي . إنّ خزائن عديدة ، خشبية ، كانت هنا مثبتة حذاء الجدران ، وقد نسّقتْ فوق رفوفها المجلدات والمخطوطات . فلبثتُ واقفاً إزاءها ، في حيرة بيّنة : إنّ كناشَ البرزنجي ، المطلوب ، لا يمكن أن يُعثرَ عليه في زحمة هذا الكمّ الكبير من الكتب . هذا ، لو افترضنا أنه ممكن أن يوجدَ هنا ، كتابٌ بهذه الخطورة ، وفي مكان يستقبل أحياناً ضيوفَ صاحب الدار . على أنّ فضولي ، شافهَ المسألة من وجه آخر : إنّ علامة ما ، في هذه المكتبة ، يمكن أن تكونَ بمثابَة بصيص نور إلى مسعايَ ؛ إلى الكتاب السّراني ، المُلغز ، الذي شاءَ مؤلفه الكيدَ لتاريخ السلطنة الهمايونية .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرواية : مَهوى
-
الأولى والآخرة : مَرقى 13
-
الأولى والآخرة : مَرقى 12
-
الأولى والآخرة : مَرقى 11
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
-
الأولى والآخرة : مَرقى 9
-
الأولى والآخرة : مَرقى 8
-
الأولى والآخرة : مَرقى 7
-
الأولى والآخرة : مَرقى 6
-
الأولى والآخرة : مَرقى 5
-
الأولى والآخرة : مَرقى 4
-
الأولى والآخرة : مَرقى 3
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|