|
البحث عن الذات
نضال الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 2975 - 2010 / 4 / 14 - 11:39
المحور:
الادب والفن
لم يعرف أمير أنه مختلف إلا حين دخل المدرسة وبدأ يسمع ملاحظات زملاءه. لقد فتح عينيه على حنان أم محبة وأب ودود، قاما على رعايته منذ ولادته بالحب والعطف والحنان. أمه أرضعته مع حليبها حنان الأم وحبها ورعايتها، ووالده رعاه بكل الحب و العطف والحنو. كان بالنسبة إليهما بؤبؤ العين ونور الشمس وضوء القمر. كان لهما مصدر بهجة وفرح، وحتى عندما جاءت أخته الصغيرة وجذبت إنتباه جميع أفراد العائلة، بقي هو المدلل والحبيب الأول. في أول أيام المدرسة سمع تلميحات بعض الطلاب والطالبات،" أسود". ذهب راكضا إلى البيت ووقف أمام المرآة وبدأ يتفحص لون جلده ولأول مرة إكتشف أنه أسمر اللون، قابل للسواد وشعره أسود مجعد. لأول مرة لاحظ الفرق بين لونه ولون أمه وأبيه وأخته الصغيرة ومن حوله من أقاربه وأصدقائهم. ذهب إلى أمه وفاجأها بالسؤال: " لمذا أنا أسمر وأنتم بيض يا أمي؟" نظرت أمه إليه وكانت تنتظر اليوم الذي سياتيها بهذا السؤال، قالت والإبتسامة على شفتيها:" لأنك أجملنا، أنظر إلى الناس كيف يجلسون الساعات عراة تحت الشمس من أجل أن يحصلوا على لونك، ولكن الله هباك بهذا اللون لأنه يحبك. أثر مشاكسة بينه وبين زميل له أثناء اللعب شتمه زميله بكلمة لم يسمعها من قبل ولم يعرف معناها، " نجر" فذهب إلى والده يسأله عن معنى الكلمة وإن كان فعلا هو " نجر"، فأجابه والده: لا تستمع لمثل هذا الصبي لأنه يحسدك فأنت أمير. أجاب أمير والده: أنا إسمي أمير ولكنني لست فعلا أميرا على أحد." أجابه والده: أنت يا بني أميرنا وهذا يكفي." وهكذا مرت الأيام وكبر أمير ولم تعد تلميحات بعض زملائه عن لونه تعنيه، ولم يعد إختلاف لونه يشكل له مشكلة، فكلما كبر زاد فتنة مما دفع الفتيات الجميلات لملاحقته، وسبب ذلك في إثارة الحسد عند بعض زملائه. حتى تلميحاتهم على إختلاف لونه بدأت مع الأيام تخف وتتلاشى إلا ما ندر. كان عائدا من المدرسة على دراجته عندما أشارت له إمرأة عجوز، تعيش وحيدة في بيت ليس بعيدا عن بيتهم، بالوقوف ومساعدتها في تصليح سياج حديقتها، فلقد عرف بالدماثة والميل لمساعدة الآخرين. نزل عن دراجته وقام بما طلبت منه العجوز.أحضرت له شاكرة كوبا من الشراب ووقفت تدردش معه، فلقد كانت وحيدة، تلتقط الأخبار والأقاويل من الجيران وتسعى لإيقاف المارة للحديث معهم. بينما كان يشرب كوب الشراب، سألته سؤالا غريبا لم يستطع أن يفهمه، سألته إن كان زوج أمه يعامله معاملة جيدة. نظر إليها بتعجب وسألها عن أي زوج أم تتحدثين؟ قالت: زوج أمك، من غيره. فسألها أتقصدين أبي؟ ضحكت وقالت: " أنت لا تعرف أنه ليس والدك وإنما هو زوج أمك؟ والدك الحقيقي أفريقي." لم يسمع أمير بقية كلامها، ألقى بكوب الشراب على الأرض، ركب دراجته وأسرع إلى البيت. دفع باب البيت ودخل صارخا:" أمي، أمي!" فجائت أمة راكضة إليه وعلامات الإستفهام على وجهها. صاح: " هل أنت أمي حقيقة؟ فأجابته: طبعا أنا أمك وما داعي لهذا السؤال السمج؟ فسألها مرة ثانية والدموع تسيل من عينيه: " هل أنت أمي الحقيقية، هل أنت حملت بي وولدتني؟ أخذته بين أحضانها وقالت وهي تجهش بالبكاء وكانت تشعر بما هو آت: " أنا أمك يا حبيبي، أنا حملت بك وولدتك وربيتك، فلماذا بربك هذا السؤال؟ سألها السؤال الذي كانت تنتظره وتخشاه منذ ولدته: " وأبي، هل هو أبي الحقيقي، العجوز هلينكا قالت لي أنه ليس أبي وأن أبي الحقيقي أفريقي. شعرت بالرعشة في ساقيها ولم تعد قادرة على الوقوف فجلست. مسكت بيده، قبلتها وأجلسته بجانبها وأخذت تقص عليه قصتها وقصته. كانت طالبة في كلية الصيدلة عندما إلتقت بشاب من غانا يدرس الإقتصاد والسياسة. أحبا بعضهما وقررا الزواج. طلب منه المسؤولون شهادة بأنه ليس متزوجا في بلده فوعد بإحضارها. سافر إلى غانا بحجة إحضار الوثيقة ولكنه لم يعد وتركها حامل به. ومنذ ذلك اليوم فقدت كل إتصال به ولا تعلم عنه شيئا. بعد أشهر تزوجت من زميلها الذي كان يحبها وإعتبر طفلها طفله وأعطاه إسمه ورباه ورعاه بكل الحب والحنان. منذ ذلك اليوم تغيرت حياة أمير، إنعزل على نفسه وبدأت عنده حمى البحث عن والده الأفريقي. لم يترك طريقة إلا وطرقها، جلس ساعات على الإنترنت، إتصل بالسفارات الغانية في البلدان المجاورة، سأل بعض الطلاب الغانيين في براتسلافا، راسل الدوائر الحكومية االغانية، إتصل بالصليب الأحمر. كان يأتي من المدرسة ويدخل غرفته ويغلق الباب خلفه. كانت أمه دائمة البكاء وكان والده يتألم وهو يرى إبنه الذي أحبه ورعاه يضيع من بين يديه. لقد حاول وزوجته المستحيل لطمأنة أمير بأنه إبنهما الذي يحبانه وأن لا شيء في الدنيا يقلل من حبهما له. ولكن، لم تنفع جميع محاولاتهما ولا محاولات أخته التي كان يحبها ومستعد لإفداءها بروحه. كان البحث عن والده الأفريقي يأخذ كل شيئ منه، وقته وعواطفه وإحساسه. لقد إستمر البحث أكثر من عام عندما جاءه الخبر اليقين. والده الأفريقي عمل لعدة سنين في البعثة الغانية لهيئة الأمم، ثم تركها وهو يعمل مدرسا في جامعة شيكاغو الأمريكية، متزوج وله ثلات أطفال، ولدين وبنت. بدأ يجهز نفسه للسفر إلى الولايات المتحدة. حصل على الفيزا الأمريكية، إشترى له والده تذكرة الطائرة، ذهابا وإيابا، حجز له في الفندق، زوده بالنقود اللازمة وببطاقة بنكية دولية. لقد إقتنع أنه إذا لم يرد أن يخسر إبنه،فعليه مساعدته في محنته في البحث عن الذات. ودعوه على المطار، بكى وبكت أمه وأخته وبكى والده. عانقوه وتمنوا له سفرا مريحا وعودة سالمة وراحة البال. طارت الطائرة وشعروا أن قلبهم طار معها. وصل إلى الفندق في شيكاغو مزودا بكافة المعلومات عن والده الأفريقي، إسمه، عنوان مكتبه ورقم تلفونه. إتصل به وأخبره أنه سائح من سلوفاكيا يحمل له هدية من أصدقاءه في سلوفاكيا وأنه يريد مقابلته. أوقف تاكسيا، أعطى السائق العنوان وتحرك التكسي مسرعا إلى لقاء والده الأفريقي وهو يفكر في ما سيقوله له وماذا بعد كل هذا الجهد في البحث عنه. دخل مكتبه، صافحه وجلس متفحصا هذا الرجل الذي شغل فكره وهز حياته لأكثر من عام. كان متوسط القامة، أسود اللون، مجعد الشعر ذو أنف مسطح. نظر الرجل الجالس خلف الطاولة إليه وسأله بماذا يمكنه أن يخدمه. أخرج أمير من جيبه صورة لهذا الرجل ووالدته أيام كانا معا ووضدعها على الطاولة أمامه سائلا:" هل هذا أنت؟" نظر الرجل إلى الصورة وقال:" نعم، من أين اتيت بها؟" لم يجبه أمير وإنما سأله إن كان يتذكر الفتاة الواقفة بجانبه. نظر الرجل إلى الصورة مرة ثانية ثم قال: " يا إلهي! طبعا أعرفها، لقد كنا نحب بعض، ما أخبارها؟. أجابه أمير:" هذه أمي وأنا إبنك." بان الإمتعاض على وجه الرجل وقال:" لم أكن اعرف أنها حبلى، وماذا تريد مني بعد هذه السنين؟ أجابه أمير بحدة:" هي لا تريد منك شيئا وقبل عام لم أكن أعلم بوجودك، جئت فقط للتعرف عليك وعلى أخوتي، هذا كل ما في الأمر." نظر إليه الرجل وقال:" أنا متأسف، لقد فاجأتني. أعطني مهلة يومين أو ثلاثة حتى أحضر زوجتي والأولاد لهذه المفاجأة." أخرج من جيبة بطاقة وقدمها إلى أمير وتابع: " هذا عنوان بيتي، خذ تكسي وتعال يوم الأحد الساعة الواحدة بعد الظهر لتشاركنا الغداء وسأقدمك إلى العائلة." سأله بعض الأسئلة عن والدته وأخبارها ومن تزوجت ثم صافحه وقال مودعا:" سنراك يوم الأحد." الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم الأحد كان أمير واقفا أمام باب البيت يرن جرسهم و دقات قلبه تتسارع عندما سمع خطوات القادم لفتح الباب. إستقبلته العائلة بكاملها. الزوجة إستقبلته بأدب ولكن بجفاء، كأنما تقول له أنه ليس مرحبا به. الزوج إستقبله كما يستقبل الغريب ضيفا، أما الأولاد فلقد كانوا متحمسين لمعرفة أخاهم الجديد، كان الأمر بالنسبة إليه مثير. جلسوا إلى طاولة الغداء وأكلوا بصمت والأولاد ينظرون إلى أخيهم الجديد ويتهامسون. الزوجة شكت من وضعهم المادي وقسوة الحياة والديون البنكية المتراكمة عليهم. كانت رسالة واضحة له بأنه إن جاء يطلب المساعدة المادية فلن يجدها عندهم. رد عليها بدبلوماسية أنه غير محتاج لشيء، وأن والداه لا يقصرا في شيء في سبيل راحته، وأنه جاء فقط ليتعرف على والده وأخوته الصغار بصفته الأخ الكبير. أجابته الزوجة بخبث أنه ليس الأخ الأكبر فهناك أخت تكبره وأن والده كان متزوجا في غانا وله بنت عندما عرف أمه. كان خبر الأخت الكبرى صدمة قوية له كتمها في صدره. خرجوا لتوديعه أمام باب التكسي الذي أقله إلى الفندق. لم يجر الحديث عن إمكانية لقاء آخر. وصل غرفته في الفندق واتصل بالمطار يسأل عن رحلات إلى سلوفاكيا. وجد رحلة من شيكاغو إلى فرانكفرت وبعد ساعات من فراكفورت إلى براغ فحجز عليهما. وضع ملابسه في حقيبته، حاسب الفندق وطلب تكسي إلى المطار، بعد ساعات قليلة سيطير إلى فرانكفرت. في المطار إتصل بوالده في سلوفكيا، رن جرس الهاتف طويلا ثم سمع والده يقول له ألو، إبني، أمير. أجابه أمير: " والدي حبيبي". أخذ يبكي وبين الشهقة والأخرى أخبره أنه عائد إلى البيت.قال:" سأطير بعد ساعة إلى فراكفورت وبعدها إلى براغ ومن براغ سأحضر إلى براتسلافا في القطار." فرد عليه والده: لا يا حبيبي، سنحضر جميعنا لمقابلتك في المطار، وسنعود معا في السيارة." صاح أمير:" أبي، أبي، أنا آسف يا أبي على ما سببته لك من الألم، كم أحبك يا أبي كم أحبك، قبل والدتي وأختى عني، أنا مشتاق لكم ." أجابه أبوه:" وأنا أحبك يا بني، كلنا نحبك ونحن مشتاقون لك." بدأت الطيارة في التحرك ثم أخذت تعلو إلى السماء متوجهة نحو فرانكفورت. ألقى أمير رأسه إلى الخلف، أغمض عينيه وبدأ يحلم باللقاء القريب مع أمه وأبيه وأخته وتمتم: " أنا عائد إلى بيتنا، أنا عائد."
#نضال_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصتي مع جابر بن حيان
-
كيف تتكون الهالة حول الجسم وما علاقتها بصحته
-
اليهود الخزر
-
وحدة المخابرات العربية
-
المرأة والجنس في الديانة اليهودية
-
المتقاعد
-
الإسلام والمسيحية، صراع عقائد أم مصالح؟
-
رقة الغزل وعفة السلوك
-
ذئاب بلحية ومسبحة
-
جنَ الفلم فاحترقا
-
دفاعا عن الحائط
-
هل ماتت الإشتراكية وإلى الأبد؟
-
طوشة الموارس
-
الجدل العقيم: ديني أفضل أم دينك؟
-
رسائل وردود
-
رسالة إلى المقاتلين بإسم الله
-
قارئة الفنجان
-
الجنس بين العيب والحرام والإحتكار الذكوري
-
ضائعة بين عالمين
-
رسالة إلى المرحومة أمي عادت لخطأ في العنوان
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|