أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - (الدريع)(*)















المزيد.....

(الدريع)(*)


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 2970 - 2010 / 4 / 9 - 08:20
المحور: الادب والفن
    


لست أدري لم جيء بي لأقف بعيدا مربوطا إلى شجرة كاليبتوس قديمة وإلى خطّ ثلاثة لا أعرف منهم إلا (أبو حرب) كنت انظر طوال الوقت إلى الجمع المدجج بالبنادق وأصرخ : آني شنو جايبيني؟ لكن تلك الكلمات ما كانت تزيد الواقفين إلا حنقا متزايدا. ثم ردّ عليّ رئيس الجمهورية بنفسه : معقولة متدري ليش جايبينك هنا؟ والله ما ادري والعقيدة! ما أدري والعقيدة.. ربما كنت أرى (أبو حرب) يضحك مني.. اجل هو يضحك.
لم يكن يرى أبو حرب ما يفعله شيئا مشينا. كان يعده واجبا حزبيا مقدسا. لاشيء أقدس من الحزب في هذا العالم. حتى ذلك الموقف في مواجهة فوهات البنادق. لذلك لم يحلف (بالعقيدة) إلا مرات قليلة في حياته وتحت ضغوط كبيرة, رغم أن مفهوم العقيدة لم يكن واضحا لديه بما فيه الكفاية. وطالما تسأل : يعني شنو عقيدة؟ محمد جاء بعقيدة للعرب ونحن جئنا بعقيدة. لا فرق. وهو لم يحرك في داخله شيء آخر غير ما تدرب عليه مذ كان طالبا مغمورا في معهد التكنولوجيا.. كان الحزب ملاذه الأول والأخير, والغاية من وجوده أيضا. إييييييهه عالم!
العالم بفقره المدقع هو من جاء بي إلى مواجهة فرقة الإعدام هذه. أنا كنت أعمل فرانا مساء في البتاوين لتوفير مصروفي وإيجار الفندق – شجابني أعمل مراسلا لأبي حرب؟- وما يتطلبه ربع عرق مسيّح في آخر الليل. لم أعد أفكر بالانتحار. حدث كلّ شيء بسرعة مذهلة. لم اخطط لذلك من قبل. كانت أمي تطلق عليّ صفة (الدريع) دائما حتى بعد أن كبرت بقيت تناديني الدريع أبو رأس. ولم أكن أفهم وصفها إلا بعد أن قتلت خلال أقل من شهر بعد مدة التدريب مباشرة سبعة أكراد وثلاثة من الشيعة وآخر(سكوتي) مجهول الهوية تحت التعذيب. لم نأخذ من ذلك ألسكوتي حقا ولا باطلا حتى أسمه كان مزورا. مات واخذ كلّ أسراره معه. أعجب بي أبو حرب وجعلني مراسله الخاص. ثم أصبحت احتسي نصف عرق وأحيانا ثلاثة أرباع قنينة. المهم كان راتبي جيدا, والمكافآت التي يمنحها لي الأستاذ أبو حرب مفيدة لأسرتي.
- ولك أنت ابن جراده الدريع شجابك عليه؟
- الزمن سيدي!
- وما أجيت إلا على درب أبو حرب..؟
- دم لحم عمي دم لحم!
- زين. أنت مخلص إلي ولك دريع؟
- للوحة. جربني.
- شنو رأيك بالتكارته دريع؟
- الرأي رأيك والشوره شورتك عمي أبو حرب!
- التكارته مسيطرين على الحكم
- مسيطرين.
- واحنه الشروكيه صفر
- صفر.
تغيّرت حياتي وأصبح بإمكاني أن أرسل دنانير زرق إلى أسرتي في عمق هور العمارة. كم كانت الدراسة في الجامعة مضحكة. كانت أمي تحلم أن أكون مدرسا وبعين كبيرة. وينك يما تعالي شوفي ابنك يهرس الناس هرس. لكني لازلت أشعر كوني صفرا. وكل الفضل لأم نظارات. كانت الأخيرة تجلس في نادي الطلبة, وحدها, دائما, على طاولة نظيفة دأب العامل المصري على مسحها بشدة حتى حجزت لها. ممنوع حتى يفكر بالجلوس عليها احد الطلبة أو الطالبات. ترتدي فستانا مشجرا وتضع قليلا من الماكياج: شعر أسود طويل ونظارتان سوداوان كبيرتان. لم يكن ثمة احد يجرؤ على محاسبتها في عدم ارتداء الزي الموحد طبعا. وحينما تقدمت منها حدجني (الحماية) متحسسا مسدسه.
- صباح الخير!
- شتريد؟
- أنا ابن حجي طارش..
- طارش منو؟
- ابن عم السيد الوالد من بعيد.
- أنت من "البزون"؟
- كلهم يسلمون..
- أكعد..
جلست بمسافة عنها كتلميذ مطيع. لم أر عينيها قط. ربما كنت الطالب الوحيد الذي يجلس إلى الطاولة خلال أشهر. ثم شرحت لها ظروفي المادية الصعبة وكيف إني أعمل فرانا في المساء. وقلة الدنانير العشر التي تمنحها لي الجامعة كلّ شهر بعد الوقوف في طابور طويل وهي لا تكفي مصرف أسبوع واحد.
- ليش أبوك ميدزلك فلوس؟
- أبوي مات..
- وهسه شتريد..؟
- أترك الجامعة واشتغل بالحكومة.
- ويه الأستاذ؟
- بلكي أطلع من الصفر..
ناولتني عشرة دنانير مصمت وكتبت أسمي الثلاثي وعنواني في دفترها، ثم أمرتني بالانصراف.. كانت تشبه أخاها أبو حرب كثيرا. حدّقت فيه من جديد كان يشبه أخته كثيرا. يواجه الموت بدم بارد. وقبل إعدامه بلحظات أمسك نظارتيه قائلا : هذه هي القطعة الوحيدة التي اشتريتها من الحزب, ولا املك غيرها. ثم رماها بعيدا كمن يتخلص من حمل ثقيل. في ذلك اليوم عرفت لم أطلق عليه سرا لقب (طنبور طين) : شيء ما قفز إلى الذهن فجأة, واستقرّ في الأعماق.
لم يكن يعرف كيف قفز ذلك الوصف طنبور طين إلى رأسه, وهو يقتاد مع عدد من الرماة بثيابهم العسكرية إلى الحديقة الخلفية من القصر. وبقي ينظر إليه طوال الوقت وهو يحدّق به. صار لعبته في اللحظات الأخيرة. كان يوجد ثمة شجيرات صغيرة زرعت توا في مكان الإعدام. من الصعب التأكد من نوعها وقتذاك. كانوا خمسة عشر من الرماة يحملون كلاشنكوفات نصف أخمص لا تمنح إلا لمن هو ذي شأن في الدولة والحزب. لماذا فصلت عن الجماعة ألآني أعمل مراسلا؟ لست ادري. وبإشارة واحدة قام ثلاثة من الرماة واتخذوا وضع الجلوس أمامي. صحت من جديد : آني شنو جايبيني؟ ثم جلسوا على الركب بانتظار الأوامر ووقف الرجال الثلاثة مقيدين إلى أعمدة نصبت سريعا لهذه المهمة. وقف هو وسط أثنين من رفاقه ممن اشتركوا في المؤامرة. ثم وقف رئيس الجمهورية ونائبه خلفهم مع عدد آخر من الرفاق القياديين وضباط الجيش الكبار وقد علت قسمات وجوههم دهشة ممزوجة بخوف داخلي. قال رئيس الجمهورية بصوت عال :
_ (أبو حرب) هل تريد أن تقول شيئا أخيرا؟
- إي.. تفووو عليك!
وما أن هبطت اليد المرفوعة حتى كان صوت الاطلاقات مدويا يصم الآذان. لم يترك أية فرصة للصراخ فقد نفدت مخازن البنادق الكلاشنكوف كلها في الأجساد الثلاثة التي لم تتحرك عن أماكن وقوفها كثيرا. دخان البنادق يملأ الفضاء القريب. وبقيت أنا الآخر في الانتظار. لم يخترع ثمة احد شيئا كهذا من قبل: هو من جعل كلّ شيء ممكنا في هذه البلاد. الحزب وصاحبنا العبقري ذاك طنبور طين. قال النسيان أفضل آلة في كل العصور لمحو الذكريات المؤلمة. لولا النسيان لانفجر الإنسان هكذا تقول الحكمة القديمة: ربما سأنفجر في وقت قريب لأني من الصعب أن أنسى الآن كلّ الذكريات تحضر في شريط واحد. ابتعدوا عني مسافة مناسبة تقيكم قذارات ما اختزن إذا. وحدهم العباقرة والحمقى ممن يجيدون استخدام حالة الانتحار لدرء بلادات ما يعيشون وما يعرفون.. كلاهما انتحرا بالطريقة نفسها : وضعا ماسورة بندقية صيد في الفم. أولئك لم يمارسوا حالة الدريع مثلي. لا شيء إلا ضغطة واحدة على الزناد. وحده ذاك الذي استل سيفه واضعا قبضته على صخرة ثم ارتمى على نصله كان أكثر معرفة مني.. أما ذاك الذي وضع البندقية في فمه وأطلق النار ببرود كامل كان يدرك جيدا ماذا يعني العالم؟ كان يجلس بالقرب من الموقد الساكن الذي احتوى على بقايا رماد قديم. أبو حرب. رأيته. أخيرا. لم اهتم لهبوط اليد وإطلاق النار. شيء لا يهمني.
ــــــــــــــــــــــ
(*) الدريع : المندفع.



#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (لم يعد الصمت ممكنا) إجابات سريعة في اليسار العراقي الجبان
- بخفة الورقة او أقل
- سعال ديكي
- سعادة الله
- الماركسية الجديدة في المواجهة
- المثقفون والازمات الكبرى
- (القبيس)
- تفيس أبو خنه
- فساء ابن آوى
- تعليب اوثان يهوه
- كردوالة كاظم الاحمدي
- لوردات زمان ولوردات الآن
- تلال القادم/ رواية فانتازيا/ الفصل الثامنوالأخير:
- تلال القادم/ رواية فانتازيا/ الفصل السابع:الخروج
- مبولة محمود درويش
- فوبيا هب بياض
- تلال القادم/ رواية فانتازيا/ الفصل السادس:بغا ويوسف
- تلال القادم/رواية فانتازيا/ الفصل الخامس: احافيرهووووو
- تشظي الدكتاتورية، تطبيقات الشرق الاوسط الجديد
- تلال القادم/رواية فانتازيا الفصل الرابع


المزيد.....




- الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
- ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي ...
- حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
- مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” .. ...
- مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا ...
- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - (الدريع)(*)